نبيل عبد الأمير الربيعي
كاتب. وباحث
(Nabeel Abd Al- Ameer Alrubaiy)
الحوار المتمدن-العدد: 3626 - 2012 / 2 / 2 - 21:12
المحور:
سيرة ذاتية
كامل الجادرجي شخصية فذة من الشخصيات الوطنية التي كانت في مقدمة النضال الوطني الحر,سار مع الشعب في مسيرتهِ ,أسهم في الحركة الوطنية ما يقارب النصف قرن وشارك في جميع المواقف الوطنية المشرفة من مكافحة الاستعمار ومناهضة عملائه.
رحل الجادرجي في الأول من شباط عام 1968 , وبرحيلهُ فقد العراق رجلاً عاش في غمرة النضال الوطني , وقاد قطاعاً هاماً من الحركة الوطنية العراقية لعشرات السنين وحتى لحظة وفاته , وشارك في إدارة دفة العمل الشعبي حتى حققت ذلك العمل ثورة 14 تموز1958 , وظل في موضعهِ في إدارة الدفة عشر سنوات بعد الثورة.
ولد الراحل كامل الجادرجي في بغداد في الرابع من نيسان عام1897 , حيث أكمل الدراسة الابتدائية والثانوية وتخرج من كلية الحقوق , وبدأ مشاركتهُ الحياة العامة مع اندلاع ثورة العشرين ونفي مع والدهِ المرحوم رفعة الجادرجي خارج العراق, وبعد عودتهِ انظم إلى المعترك السياسي والجانب المعارض للحكم الملكي , ومع بداية الحركة اليسارية في العراق بصدور جريدة الأهالي عام1932 , انظم الجادرجي إلى الجماعة اليسارية الجديدة بعد أن ترك العمل في حزب الأخاء الوطني برئاسة ياسين الهاشمي, برز في قيادة جماعة الأهالي وعمل على توجيه جريدتها(الأهالي) لتكون أداة التعبير التقدمي في العراق , وأسس الحزب الوطني الديمقراطي عام 1946 , ولم يتخلَ عن المشاركة في العمل السياسي حتى لحظة وفاته في الساعة السادسة والنصف من مساء الأول من شباط عام1968.
عمل في الجانب الوظيفي وتقلد مركز سكرتير متصرف بغداد ومعاون لوزير المالية عام1926 ثم عضواً في مجلس النواب عام1927.
كانَ سياسياً جريئاً في الكفاح والاندفاع في العمل وتحملهُ التضحية في سبيل الصالح العام , ومؤمناً بأن الديمقراطية هي السبيل الوحيد للوصول إلى حل مشاكل المجتمع, منها المطالبة بإقامة حياة دستورية تضمن للمواطنين حرياتهم, كحرية التعبير وحرية التنظيم السياسي وحرية التصويت في الانتخابات , كي يكون الحكم ممثلاً بإرادة الشعب بصورة صحيحة ,كان يرى الجادرجي أن مفتاح مشاكل العراق هو البدء بتطبيق الديمقراطية , كما كانت برأي الكثير من الوطنيين العراقيين.
إن هذه الديمقراطية لم تكن لدى الراحل مجرد هدف يسعى لتحقيقه بل كانت لديه أيضاُ أسلوباً للعمل يلتزم بالعقلانية , فقد كان رمزاً للمدرسة السياسية , ولهُ الدور في بثّ المفاهيم التقدمية في السياسة والاجتماع والاقتصاد في العراق ,كما لهُ الدور في بلورة الأحداث التي أدت إلى الانتفاضات الوطنية,منها وثبة كانون عام1948 المناهضة للاستعمار والعهد الملكي ومعاهدة بورتسموث , فقد كان جريئاً لمقاومة الحكم الملكي , كما دعا إلى التحرر والإصلاح وجمع الأطراف الوطنية لتحقيق اللقاء والتعاون من أجل إنجاز أهداف وطنية معينة, فأحبطت معاهدة بورتسموث وقامت انتفاضة عام1952 ضد الطغيان الملكي وانتفاضة عام1956 ضد العدوان الثلاثي على الشقيقة مصر , مما سبب اندفاعهُ السياسي إلى زجهُ في السجن , ثم قامت الجبهة الوطنية لمقاومة حلف بغداد ونظام الحكم المستند إليه , فانبثقت ثورة 14 تموز 1958 , والراحل في السجن , لكنهُ كانَ على اتصال بإعداد الخطوات للثورة , ويذكر الراحل محمد حديد في كلمة التأبين:" لقد كان الفقيد الجادرجي سباقاً إلى اتخاذ أول خطوة على الصعيد الرسمي في محاولة الفقيد الجادرجي معالجة مشكلة احتكارات النفط المتمثلة في امتيازات الشركات الأجنبية التي أبرمت في عهد لم يكن العراق يملك زمام أمره , وذلك قدم خلال توليه وزارة الاقتصاد والمواصلات عام1937 مذكرة رسمية إلى مجلس الوزراء حول ما كانت تتضمنهُ امتيازات النفط من الغبن والإجحاف" .
أما نضرتهُ حول القضية الكردية ,كان كامل الجادرجي يدعوا إلى التآخي بين العرب والأكراد وكافة الأقليات القومية ودفاعاً عنها, ودعوتهُ إلى حل المشكلة الكردية عن طريق المفاوضات وإيجاد الحلول السلمية العادلة لها , بعد أ تفجرت الأوضاع في كردستان العراق عام1962.
كما يوضح الراحل الجادرجي حول مفهوم الاشتراكية الديمقراطية في خطابهُ عام 1950 في المؤتمر العام الرابع للحزب الديمقراطي:" إن الاشتراكية الديمقراطية تهدف أول ما تهدف إلى تحقيق مجتمع ديمقراطي , فيه الضمانات الكافية لجميع الأفراد على السواء , لإنماء مواهبهم وتسخيرها لخدمة المجتمع , على قاعدة التعاون وضمان الحريات العامة وحرية الفرد, كما ترمي إلى الحد من عبث فئات معينة بالحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للمجتمع, ما يجعل العمل الاشتراكي في سبيل وقف هذا العبث ضرورة لا مناص منها في جميع المجتمعات الرأسمالية المتقدمة منها والمتأخرة", هذا يعني اعتبار الإصلاح الاشتراكي الاقتصادي والاجتماعي جزءاً لا يتجزأ , وامتداداً طبيعياً للديمقراطية السياسية , وهذه النظرية تخول من يعتنقها أن يكون مرناً في تطبيق كل ما من شأنه تحقيق الديمقراطية وتطوير المجتمع, والنظرية الاشتراكية العلمية الحقيقية تفرض التمسك بقواعد كل عمل ناجح في أي مجال كقيام الدولة بالمشاريع الصناعية التي تتصل بالخدمات العامة والتي يكون انحصارها ذا فائدة للصالح العام وتوجيه التشبث الفردي ورأس المال الوطني لإنعاش الحركة الاقتصادية والصناعية بوجه عام.
لقد ناضل الجادرجي منذ الثلاثينات من القرن الماضي و وبقيت صفحتهُ ناصعة من صفحات تأريخنا الوطني , فقد دفع الراحل الثمن من حريتهِ الشخصية افتداء لحرية شعبه , في أحلك فترات القمع التي مر بها الشعب , عاش الراحل بسبب أفكاره وسياستهُ ومن جراء إصراره وثباته عليه الشيء الكثير طيلة أربعين عاماً التي قضاها عاملاً في الحقل الوطني , كما يعاني الأحرار عادة, فقد كسب الكثير من القيم والموازين العالية في حساب الرجال الأفذاذ و ظل ذكراه عطراً زكياً.
الأمر المهم الذي جعلني أتناول سفر حياة الراحل كامل الجادرجي هو ليس مجرد عمل تأريخي , بل زاداً غزيراً للمستقبل, مات الجادرجي والكثير من القضايا التي أفنى فيها عمره لم تحسم بعد, لقد ناضل وقرأ وتأملَ وسافر ودخل السجن وعرك الأحداث ,واعتزل الأحداث, وشهد المشاهد كلها في سبيل قضايا أساسية لم تحسم إلا عبر أجيال طويلة , ومن خلال تحولات اجتماعية وسياسية كبرى , وما جاءَ المناضلين إلا وقوداً مستمراً لها , فحين يدرس تراث كامل الجادرجي وحياته وفكره , لا يدرس تاريخاً ماضياً , وإنما يدرس واقعاً معاصراً ومستقبلاً ما تزال فيه من الأسئلة أكثر ما فيه من الإجابات.فقد طالب الراحل بالثورة والتغيير والاشتراكية والديمقراطية , ولكنها صعبة هذه الكلمات في التطبيق والطموح.
عندما نقرأ تأريخ هذا الوطني الغيور الذي قدم للشعب العراقي الكثير من المواقف , منها مذكرات الشجب التي قدمت في 28/11/1953, والذي شجب فيها قيام فئة معينة بإدارة شؤون الحكم , وهي بعيدة كل البعد عن تمثيل إرادة الشعب أو الاعتراف بحقوقه وإدراك مصالحهِ , سندها الاستعمار البريطاني وقواعدهُ العسكرية والأحكام العرفية , والتحرر من معاهدة1930 , ورفض مبدأ الدفاع المشترك , وإعلان حياد العراق تجاه التكتلات الدولية , وأظهر الراحل خطر بقاء الحكم الفردي في العراق , وطالب بإطلاق الحريات السياسية والنقابية , ووضع تشريع يضمن استقلال القضاء , وتأليف مجلس دولة لحماية المواطنين, وإعلان العفو العام عن المحكومين السياسيين وجلاء القوات الأجنبية.
في أوائل عام1957 تكونت جبهة الاتحاد الوطني من الحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال وحزب البعث والحزب الشيوعي العراقي وفق الميثاق الآتي:
1- تنحية نوري السعيد من الحكم.
2- الخروج من حلف بغداد وتوحيد سياسة العراق مع سياسة البلاد العربية.
3- نهاية التدخل الاستعماري بشتى أشكاله وانتهاج سياسة عربية مستقلة أساسها الحياد الإيجابي.
4- إطلاق الحريات الديمقراطية الدستورية.
5- إلغاء الإدارة العرفية وإطلاق سراح السجناء والمعتقلين والموقوفين السياسيين وإعادة المدرسين والموظفين والمستخدمين والطلاب المفصولين لأسباب سياسية .
بقى الإتحاد يعمل بجد ونشاط من أجل أهدافه المتقدمة حتى قامت ثورة 14 تموز 1958 , لكن في 21/9/1959 انسحب الراحل من الحزب وقطع علاقتهِ بالحزب وجريدة ( الأهالي) وجمد عمل الحزب , إلا أنهُ بقيت مواقفهُ السياسية والوطنية الثابتة ,فلهُ رأي في ثورة 14 تموز 1958 ملخصة كما قال عام 1960:" ليس المهم أن نسمي نحنُ العراقيين الحدث الذي وقع في صبيحة 14 تموز بما يحلو لنا تسميتهُ وبما نشاء أن ننعتهُ به من نعوت , وإنما المهم هو ما يطلقهُ التاريخ على أمثال هذا الحدث من أسماء في ضوء التطورات الاجتماعية والاقتصادية التي تمرّ بالمجتمع بعد كل حادث مهما كان دويهُ هائلاً,والتأريخ ليس لهُ مصلحة من أن يرحم الناس ومنهم أبطال التأريخ", حيث أصبح حديثهُ هذا اهتمام أساتذة التأريخ والاجتماع لتحليل أسباب ومعطيات قيام الثورة .
أما ما يخص قانون الإصلاح الزراعي الذي أقرتهُ ثورة 14 تموز فللراحل الجادرجي رأي هو:"لولا قيام العهد الجديد بسن قانون الإصلاح الزراعي وما تضمنتهُ المبادئ لإزالة عهد الإقطاعي , كان وجوده من أهم الأسباب التي أعاقت التطور الاجتماعي والاقتصادي في العراق. فقد كان هذا القانون في حقيقة الأمر , العمود الفقري للثورة ولولاه لكان الحادث قد سجل انقلاباً وحسب", لكن المشروع أُصيب بفشل كبير أكثر من أي مشروع آخر قامت به ثورة 14 تموز , والسبب لفشل هذا المشروع حسب رأي الراحل الجادرجي " إهمال أمر الجمعيات التعاونية وانعدام الكفاءة وروح المسؤولية في الجهاز والمسؤول عنهُ, وضعف الرقابة وعدم محاسبة المقصرين , وسيطرة الأهواء والغايات عليه في جميع أدواره, وكان من أثر ذلك الفشل وتدهور الإنتاج الزراعي وازدياد الهجرة بين الفلاحين من الريف إلى المدن , وإضعاف الكفاءة الإنتاجية للأرض , وبعث خيبة الأمل واليأس في نفوس الفلاحين".
بعد هذا السفر , فقد أصبحت شخصية الراحل كامل الجادرجي مُلكاً للتأريخ , وقد قال عنها الكثير , فطوبى لرجل يموت وهو في قمة مجدهُ , إن الوطني والكاتب الحر لا يموت إلا واقفاً في ساحة العمل السياسي , مثل كلمة حرة , يتحطم ولا ينحني أمام العاصفة , في الوقت الذي ركع فيه أشباه الرجال خوفاً من المعركة , أولئك الذين دخلوا التاريخ طارئين وفي غفلة من الزمن , ولكنهم بعد حين أصبحوا في مزبلة التأريخ.
عند رحيله وفي حفل التأبين الذي شاركت فيه الشخصيات العراقية والعربية والشعراء ومنهم شاعر السجون والمعتقلات الراحل محمد صالح بحر العلوم , فقد ارتجل هذه الأبيات التي نشرت في جريدة الثورة الصادرة في6/2/1968 بعنوان "بحر العلوم يرثي فقيد الشعب":
ذهبت وتأريخك المــشرقُ.............سيبقى بواقـــــــعهُ يعلقُ
وأحسب أن خطوب الحياة...........على كل ذي شرفُ تطبقُ
وعمرُ الرجال بأعمالِهـــــا............ياسُ وطيبتُها المنطــــقُ
أبا رفعة قد يكون الرَثـــــاء...........لمثلكَ فاجعةُ تُحـــــــرَقُ
ولكن أَمثلَنا الشاعريـــــّن............ضمائرنا حرقاً تنفـــــــقُ
نُريدَ الحياة لغير الحيـــــاة...........ويصرفنا شرُهـــا الُحدقُ
أبا رفعة والكُنى صدقُــها............ رفعتكَ المُثلُ الأصـــدَقُ
مع الشعبُ في كُل أشواطـهِ...........بقيت وشــأوك لا يلحقَ
وصبرُكَ في ذاتهِ حجـــــةٌ ........... بأن الرجولات لا تلحقُ
وأنَ الحقيقيةُ في هديها...................تسود وشاؤها ليشهقُ
أتيت ورحت وكُل الثغور...............بذكرك لاهجةُ تنطقُ
هكذا بعد رحيل الوطنيين علينا أن لا نقول إن حياتهم قد انتهت , بَل علينا أن نتوقف لهذا التراث الحديث الحي , ونتساءل أنفُسُنا عن تجاربهم ومواقفهم ومعاناتهم , وأن لا يُغيبُ عن أذهاننا , وأن لا يوارى هذا التراث بالتراب مع الجَسَد الذي هو إلى فَناء.
#نبيل_عبد_الأمير_الربيعي (هاشتاغ)
Nabeel_Abd_Al-_Ameer_Alrubaiy#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟