|
تمظهرات الخطاب الاستشراقي، في إطار نزعة القوة، والفوقية، والسلطة.
هديل عبد الرزاق أحمد
الحوار المتمدن-العدد: 3625 - 2012 / 2 / 1 - 19:02
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
مدخل إذ يأتي الخطاب الاستشراقي في إطار القوة، والفوقية، والسلطة، هل يمكن أن تتغير رؤية الغرب الاستشراقية للشرق، إذا تحققت تغيّرات جذرية في بنية الغرب وفي علاقة القوة، والسلطة القائمة بينه وبين الشرق؟ من هذا التساؤل المعرفي، انطلقت رحلتنا البحثية في محاولة للبحث في أُطر، وجوانب هذا التساؤل، ثم محاولة الإجابة عنه، أو تقديم مقترح للإجابة في ظل الأسس، والتمثلات، والمقولات التي بني عليها الخطاب الاستشراقي. وليس بالضرورة أن يكون جواباً شافياً أو مقنعاً للجميع، وإنما يكفي أن نثير الأسئلة ونناقشها وفق المعطيات والمفترضات الموجودة. ونرى من الضروري في البدء أن ننوه إلى أننا سنعتمد في ورقتنا البحثية -بشكل رئيس- على مقولات إدوارد سعيد ورؤاه في مجال الاستشراق بشكل عام، ولاسيّما كتابه الذي يحمل عنوانه اسم هذا المجال، مع عدم إغفال، أو ترك التوسع إلى المصادر الأخرى، الباحثة في هذا الميدان، لإثراء رؤى البحث وتطلعاته العلمية والمنهجية. علماً بأننا سنعتمد في كتاب الاستشراق على ترجمة د. محمد عناني، لوضوحها، واختلافها عن ترجمة كمال أبو ديب التي يلفها الغموض، فضلاً عن التوعر، والتصرف المصطلحي. ولعلّ الضرورة التوضيحية هي التي تقودنا إلى البدء -برحلتنا البحثية هذه- بالوقوف أولاً في هذه المحطة، لكي نلج من خلالها إلى كنه البحث وتشعباته المنهجية التي تخص مسألة نزعة القوة والسلطة والفوقية، التي قام عليها معظم الخطاب الاستشراقي، بوصفها أحد أهم عناصر تكونه وتبلوره في الصورة التي بدا عليها طيلة مراحل تشكله. ونحتاج هنا إلى أن نذكّر بأنه لا يجوز للباحثين في ميدان الاستشراق أن يقتصروا جهدهم البحثي في التركيز فقط على أن الاستشراق ظاهرة سياسية- استعمارية فحسب، لم تكن ترى في الشرق إلاّ ما تتوق إليه بوصفه مستعمرة يخضع لتطلعاتها ويخدم مصالحها في الهيمنة، والتوسع على أكبر قدر ممكن من بقاعه، بل يجب التعامل مع الاستشراق (بوصفه ظاهرة علمية أو ثقافية) من مختلف جوانبها، بعيداً عن الرؤية الأحادية الجانب التي تجعل من الاستشراق ميداناً ينحصر ضمن الرؤية الاستعمارية فقط. لذا فإن الخطاب الاستشراقي، أو عمل المستشرق، أو الباحث في أمور الشرق بشكل عام، قد لا يكون عمله مندرجاً بشكل دائم في مجال خدمة الأغراض الاستعمارية، إذ يجب علينا الابتعاد عن التعميم لكي لا نقع في التباسات لا داعي لها. إذ ليس منطقياً أن نحكم على التوجهات الاستشراقية بأن أغراضها تصب في جانب واحد هو الغرض الاستعماري، فهناك أغراض أخرى يجب أن لا نبخسها حقها في الذكر، كالأغراض العلمية، والموضوعية، والتبشيرية، وغير ذلك، وإن كانت الشواهد التي تشهد للاستشراق العلمي بالموضوعية وحسن النية قليلة جداً كما نظن. إلا أن الحقيقة التي يجب أن لا تُنسى هي أن بعض هؤلاء المستشرقين قدموا قراءات نقدية للتراث العربي تفصح عن طول باعهم فيما قدموا، منهم بروكلمان، وميللر، وبلاثيوس، ومن اليهود فالزر، وباول كراوس، وغيرهم، فجهود هؤلاء لا يمكن التغاضي عن قيمتها. ولكن لمّا كان موضوع بحثنا يتطلب منّا الخوض في إطار منهجي محدد، يتمحور في نزعة القوة والسلطة والفوقية في الخطاب الاستشراقي، لذا فإن هذا التحديد يجعلنا مضطرين إلى أن نركز بؤرتنا البحثية في هذا الجانب، وما يخدم توجهات عنوانة البحث وموضوعها، ويغني الغرض المبتغى من وراء إنشائه. أولاً: الاستشراق، مصطلحاً، ومفهوماً، وتأسيساً معرفياً. مما لا شك فيه أن (المصطلح) يعدّ مفتاحاً للعلم الذي يراد البحث فيه، فمن خلاله يلج الباحث إلى كنهه، ويتعرف على حقائقه المعرفية. وبغض النظر عن الإشكاليات الكبيرة التي يعاني منها المصطلح في عالمنا العربي، وبغض النظر عن أزماته المعروفة، فإن المصطلح الذي نحن بصدد البحث فيه تتعدد تعريفاته بتعدد (الأمور) التي يعنيها، والتي يرى إدوارد سعيد أنها (أمور) يعتمد بعضها على بعض، وتبدو مترابطة . فالمستشرق هو "كل من يعمل بالتدريس أو الكتابة أو إجراء البحوث في موضوعات خاصة بالشرق، سواء كان ذلك في مجال الأنثروبولوجيا... أو علم الاجتماع، أو التاريخ، أو فقه اللغة، وسواء كان ذلك يتصل بجوانب الشرق العامة أو الخاصة، والاستشراق إذن وصف لهذا العمل" . ويؤكد سعيد أن من معاني الاستشراق هو (الإيحاء بالاستعلاء) الذي كان يتسم به المديرون الأجانب في عهد الاستعمار الأوربي في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وفضلاً عن ذلك فهو أسلوب تفكير قوامه التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب، وهو أيضاً التحدث عن الشرق، ووصفه، واعتماد آراء معينة عنه، وتدريسه للطلاب، والسيطرة عليه، وباختصار فإن الاستشراق هو أسلوب غربي للهيمنة على الشرق وإعادة بنائه، والتسلط عليه . وهكذا نجد أن مصطلح الاستشراق ومفهومه لا يخرج عن محور القوة الغربية ومشاريعها الاستعمارية التوسعية، والهيمنة التي تريد أن تفرضها على الآخر الشرقي، علماً بأن هذه الهيمنة تتخذ أبعاداً كثيرة، إذ تتسع لتشمل كل شيء، من ثروات مادية، وأفكار، وثقافات، وتراث، ومعرفة، وما إلى ذلك، بوصف الشرق مستعمرة خاضعة بكل ما فيها من أطر لهذا (الغربي) المتسيد، صاحب القوة، والنفوذ، والمعرفة. فواقع الاستشراق من حيث منظوره التاريخي هو كما وصفه إدوارد سعيد، بأنه أسلوب غربي للسيطرة على الشرق وامتلاك السيادة عليه، لذا فهو "بقدر ما كان علماً للإدماج والإدراج، وهي الفضيلة التي أتاحت تأسيس الشرق ثم إدخاله إلى أوربا، كان الاستشراق حركة علمية لها في عالم السياسة التجريبية نظيرٌ هو مراكمة الشرق وحيازته استعمارياً من قبل أوربا. لهذا لم يكن الشرق محاور أوربا، بل "آخَر" ـها الصامت" .
ثانياً: القوة والفوقية والسلطة في الخطاب الاستشراقي. يعزز ما سبق ذكره، ارتباط النظرة الاستعلائية، والفوقية، وفرض السلطة والهيمنة الغربية، بتعريف الاستشراق. وهذا بالطبع نابع من أسس الخطاب الاستشراقي نفسه. وقد أكد إدوارد سعيد في كتابه (الاستشراق) هذه الحقيقة، معبراً عن مديات تعميق الخطاب الاستشراقي لمسألة أو فكرة التمييز بين الفوقية الغربية والدونية الشرقية، وإخضاع الاستشراق للإمبريالية، والوضعية المنطقية، والطوباوية، والتاريخانية، والداروينية والعرقية، والفرويدية، والماركسية، وغير ذلك. وهذه الأمور كما هو معلوم تصب جميعها في بوتقة واحدة، هي إحساس الغربي بتمركز (القوة، والفوقية، والسلطة) لديه، والتي كشف عنها خطابه الاستشراقي، الذي أفصح بدوره عن نظرته الدونية للآخر (الشرقي). ويلاحظ أن الخطاب الاستشراقي أقام فرضياته (التعميمية) عن الشرق متكئاً على مقولات وفرضيات علمية، منها نظرية دارون التطورية عن البقاء والانتخاب الطبيعي، ونظرية الأعراق البشرية لرينان -وهي الأهم فيما يخص ميدان بحثنا- وغير ذلك من مقولات تخص مجالات علمية متعددة منها، الأنثروبولوجيا، وعلوم اللغة، والتاريخ، وغير ذلك. فمسألة تقسيم العالم إلى فئات جماعية بحسب اللغات والأجناس والأنماط والعقليات والألوان يكمن خلفها تعارض بين جانبين، الأول ما ينتمي لـ (الذات)، والثاني ما ينتمي لـ (الآخر)، ويطغى الأول دائماً على الأخير، إلى درجة تحويل ما ينتمي للآخر إلى مسألة يقتصر التحكم فيها على ما ينتمي للذات، بحسب ما يؤكد ذلك إدوارد سعيد . وفي البدء لابدّ أن نوضح أن مسألة أو فكرة التنميط العرقي هي ليست نتاج الاستعمار الحديث وحده، بل تعود إلى العصور الإغريقية واليونانية وظلت مستمرة وتتجدد دائماً، فتجددت في أوربا القرون الوسطى والحديثة، حين ربطت سواد البشرة بمفهوم ديني –نسل حام بن نوح- وعدّتهم مخلوقات استحقوا غضب الله، ثم عدت أيضاً كل من هو لا ينتمي إلى الدين المسيحي معارضاً لها، ومختلفاً عرقياً، وثقافياً، وإثنياً عنها، ومع التوسع الاستعماري الأوربي، وبناء الأمم قويت تلك الأفكار وتوسعت وأعيدت صياغتها ، "فمثلاً صورة المسلمين في القرنين الثاني عشر والثالث عشر على أنهم برابرة منحطون تعسفيون مشوشون تبدو مشابهة للصور الاستشراقية التي يحددها سعيد في كتابه الاستشراق" . فليس يخفى إذن أن (نظرية العرق) مبنية على التعالي والفوقية، وهي الميزان (العلمي) الذي وضعه الغرب لدراسة الشعوب غير الأوربية، إذ اعتبر الاستشراق وفقاً لهذه النظرية أسلوباً للتفكير، يرتكز على التمييز (الثقافي) و(التاريخي) و(العرقي) بين الشعوب. فأدى هذا المفهوم إلى أن يتقبل العديد من الكتّاب والفلاسفة والسياسيين وحتى الاقتصاديين ورجال الحكم والإدارة أيام الاستعمار، فكرة التمييز بين (الشرق) و(الغرب) كنقطة انطلاق لإقامة نظرياتهم وكتاباتهم الاجتماعية ودراساتهم المختلفة عن الشعوب الشرقية وأفكارها ومصائرها. وبعبارة أخرى فأن الخطاب الاستشراقي قام على التمايز العرقي والعقلي والثقافي بين الشرق والغرب، وهذه العرقية كانت من أهم موضوعات الاستشراق ومدخلاً سهلاً للاستعمار واستغلال الشعوب. وباسم التمايز العرقي، وتفوق الغرب عرقياً على الشرق، أعلن الغرب وصايته على الشرق وقام باستغلاله. فأيديولوجية التفوق العرقي تقوم على مفهوم طبقي أساسه أن تفوق الأعراق البيضاء معناه أن يبقى السود إلى الأبد عبيداً لهم ويخضعون إلى الاستعمار والسلطة الغربية ورجلها الأبيض. فبياض البشرة يمثل فكرة أو قناعاً أو أسلوباً للوجود، وهو ما يؤهل الغربي إلى مكانة وجودية أرفع من سائر البشر ويمنحه تسلطاً على قسم كبير من سكان العالم. وهذه الفكرة هي وليدة الفكر القائم على تقسيم العالم إلى فئات جماعية بحسب اللغات والأجناس والأنماط والعقليات والألوان . إن فكر الرجل الأبيض مساوٍ لفكر المستشرق، فكلاهما يسعى إلى استبعاد الملون الشرقي، وأن يظل مجرد موضوع يدرسه الأبيض الغربي، وإذا كان في موقع السلطة –مثل كرومر- رأى عدم السماح للشرقي بالحصول على استقلاله أو حكم نفسه يوماً، لأن الشرقيين حسب رأي كرومر يجهلون الحكم الذاتي، فالأفضل لهم أن يظلوا هكذا ففيه صالحهم . لذا نقول إنّ نظريات الغرب وخطاباتهم الاستشراقية كانت قائمة في الأصل على النزعة الفوقية الاستعلائية، والنظرة الدونية للشرق، وإحساس الغربي أنه إنسان من الدرجة الأولى، وإعلان فكرة أن الرجل الشرقي، هو شرقي في المقام الأول وإنسان في المقام الثاني، وهذا التنميط الجذري كان يتلقى دعمه الطبيعي من العلوم أو ضروب الخطاب التي تتعقب الأصول والجذور البشرية. ويؤكد سعيد إن هذه الطروحات العنصرية كانت تهدف وبلا استثناء تقريباً إلى رفع أوربا، أو جنس أوربي ما، إلى موقع السيادة على الأقسام غير الأوربية. فمنهج البحث الاستشراقي كان يُرجع كل مثال حديث للسلوك من جانب (الشرقي) إلى ما يعتبر الأصل الذي ينتهي إليه . ويؤكد سعيد على احتقار المستشرقين –مثل سميث، وبل، ولورنس، وغيرهم- للشرق، إذ كانوا يرون أن القضية الرئيسة تنحصر في الحفاظ على سيطرة الرجل الأبيض على الشرق والإسلام. لذا نشأت من هذا جدلية جديدة، إذ لم يعد المطلوب من المستشرق فهم الشرق فقط، بل دفعه إلى أداء دور ما لصالح الغرب . وهذا تأكيد واضح جداً على سيطرة الأبيض الغربي على الشرق باعتباره من بُناته، ومن بُناة التاريخ المعاصر. وترتبط (المعرفة) بعمق مع عمليات (السلطة)، والنظرة الفوقية، ومبدأ القوة الغربية، فالمعرفة حول الشرق من حيث إنتاجها ونشرها هي شيء أيديولوجي ملازم للسلطة الاستعمارية، وهو ما يتضح لدينا في خطاب بلفور الذي يورده إدوارد سعيد في كتابه، إذ يذكّر بلفور المجلس بسؤال روبرتسون له "بأي حق تتخذون مظاهر الاستعلاء والتفوق إزاء الشعوب التي اخترتم أن تسموها شرقية؟" ويقول بلفور مجيباً إنه لا يتخذ موقف التفوق، لكن لكونه في موقع السيادة إزاء أجناس عظيمة مثل سكان مصر وبلدان الشرق، وبسبب الإحاطة المعرفية بحضارة وتاريخ هذه الشعوب. ويعلّق سعيد بأن السيادة ترتبط في تفكير بلفور بالمعرفة، لا بالقوة العسكرية أو الاقتصادية بالدرجة الأولى، فامتلاك المعرفة عن شيء تعني ضرورة السيطرة وفرض السلطة عليه، أما مسائل (التفوق الغربي) و(الدونية الشرقية) فهو لا ينكرها بل يعدها من المسلّمات . فمبدأ القوة والسيادة والسلطة ارتبط بالمعرفة، بل نبع منها بتعبير آخر أصح. إذ يؤكد سعيد "أن عالم أبناء الشرق قد أصبح مفهوماً، أو يمكن فهمه، واكتسب هويته، لا نتيجة لجهود أبنائه بل نتيجة سلسلة كاملة من الجهود القائمة على العلم والمعرفة، والتي بذلها الغرب لتحديد صورة الشرق... أي إنه لما كانت المعرفة بالشرق قد تولدت عن القوة، فإنها تؤدي من زاوية معينة إلى خلق الشرق، والشرقي، وعالمه" . ويتحدث سعيد عن ما يورده كرومر في الفصل الرابع والثلاثين من كتابه مصر الحديثة إذ يؤكد أن "الافتقار إلى الدقة، وهي الصفة التي يسهل انحطاطها فتتحول إلى الكذب... الخصيصة الرئيسة للعقل الشرقي. فالأوربي يحكم الاستدلال الدقيق، وذكره للحقائق لا يشوبه أي غموض، فهو منطقي بالفطرة، حتى ولو لم يكن درس المنطق، وهو بطبيعته شكاك ويطلب البرهان قبل أن يقبل صدق أي قول... أما عقل الشرقي فـ... يفتقر إلى أي تناسق، والاستدلال لديه أبعد ما يكون عن الإتقان، وعلى الرغم من أن العرب القدماء ارتقوا درجات عالية من العلوم الجدلية، فإن أحفادهم يفتقرون إلى ملكة المنطق افتقاراً فريداً... حاول أن تحصل من أي مصري عادي على بيان واضح للحقائق، وسوف تجد أن شرحه سوف يكون مطولاً... ويفتقر إلى الوضوح. ومن المحتمل أن يناقض نفسه عدة مرات قبل أن ينتهي من كلامه" . ويؤكد سعيد في تعليقه أن كرومر لا يحاول أن يخفي أن الشرقيين كانوا يمثلون له دائماً المادة الإنسانية الوحيدة التي كان يحكمها في المستعمرات البريطانية، مؤكداً أن كرومر لا يشك مطلقاً في أن أية معرفة بالشرقي سوف تؤكد آراءه وتنتهي بإدانة الشرقي . لذا نجد أنه من أجل ذلك الهدف الاستعماري دُرس الشرق سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وأيديولوجياً وعلمياً بل وخيالياً كذلك، ومن أجل تلك الرسالة الاستعمارية أصبح الاستشراق يحتل مكانة هامة بين مختلف مجالات العلم والمعرفة لدى الاستعمار وميول الغرب الاستغلالية. مادام الشرق قد صوره المستشرقون بصورة متخيلة، ليظل الغرب متميزاً عنه، ومتفوقاً عليه. وبشكل عام يندرج عمل سعيد ضمن اتجاه ما بعد البنيوية، الذي يؤمن أنصاره بوجود علاقة وثيقة لا يمكن تجاهلها بين عنصري (الخطاب) و(القوة)، إذ تختزل هذه النظريات القوى السياسية والاقتصادية والسيطرة الاجتماعية الأيديولوجية في جوانب مرتبطة بالدلالة ، إذ ربط سعيد نظرية الخطاب بالصراعات الاجتماعية والسياسية والفعلية، مبيناً في كتابه (الاستشراق) كيف أن الصورة الغربية عن الشرق – تلك الصورة التي صاغتها أجيال من المستشرقين – قامت بإنتاج (أساطير) عن كسل الشرقيين، وخداعهم، ونزعتهم اللاعقلية. فالغربي لم ينظر إلى الشرق كما هو كائن بل كما أراده هو –الغربي- سواء كان مستعمراً، أو دبلوماسياً، أو رجل سياسة بشكل عام، أو مستشرقاً، إذ يؤكد سعيد في أكثر من موضع أن الغرب قد أنشأ مفهوم الشرق بعيداً عن معطيات الواقع والتاريخ. وفي الواقع لايمكن الفصل بين (الخطاب الاستشراقي) و(ميدان الفكر السياسي الدولي) فالعلاقة بينهما متينة، وتواصلية، تفصح عن بعض سماتها كتابات وأبحاث عديدة، منها (فصول في مبادئ القانون الدولي) لجون ويستليك الصادر عام 1899 والذي خلاصته لا تعدو التصريح "بأن العالم ينقسم إلى مناطق متحضرة، وأخرى متخلفة.. يلزم الغرب أن يعزلها أو يحتلها" فهذه النظرة لا يمكن عزلها عن التفسير العنصري والفوقي الذي قام بطرحه رينان، مصنفاً الجنس البشري إلى (آري) و(سامي). فضلاً عن ذلك فإنها تفصح لنا عن تحول (الاستشراق) من مرحلة الدراسة الأكاديمية التي تركز على معرفة الشرق واكتشافه، إلى مرحلة الاستعانة به كأداة في الواقع العملي، ليصبح تعبيراً رمزياً عن ثنائية كبرى -كما يقول سعيد- هي سيطرة الوعي والمعرفة والعلوم الغربية على أقصى أقاصي الشرق وأدق خصوصياته . وإذا ما حاولنا أن نسلط بؤرة البحث على السؤال الذي بنينا على أساسه ورقتنا البحثية، لنحاول اقتراح إجابة أو إجابات له، وهو (هل يمكن أن تتغير رؤية الغرب الاستشراقية للشرق، إذا تحققت تغيرات جذرية في بنية الغرب وفي علاقة القوة، والسلطة القائمة بينه وبين الشرق؟) سنجد أن إدوارد سعيد غير متفائل من ذلك. فهو يؤكد في أكثر من مرة أن رؤية الغرب الاستشراقية للشرق تحمل سمات التلخيص، ولغة التعميم الفضفاضة، والتزييف، وجمود الرؤية الشمولية وثباتها، فضلاً عن الإيحاء بالفوقية والاستعلائية والقوة والتسلط. وهو بعد مرور ربع قرن على صدور كتابه (الاستشراق) يؤكد استمرارية جمود وثبات نظرة الغرب إلى الشرق، وعدم تحسنها، ولاسيّما نظرة الأمريكان إلى الشرق الأوسط والإسلام، التي تتسم بالمواقف المتشددة والمتعنتة، التي ازدادت وتعاظمت فيها سطوة التعميمات المهينة والاكليشيهات المزهوة بالانتصار، وهيمنت سلطة فظة تعامل من يخالفونها في الرأي أو الهوية بمزيد من الازدراء والاختزال المخل، ويضرب لذلك مثلاً الحرب الأخيرة على العراق، إذ يؤكد "أننا اليوم بلا شك إزاء كارثة من كوارث التاريخ الفكرية: فـ... دراسة الشعوب الأخرى... لتوسيع آفاق المعرفة... يختلف اختلافاً جوهرياً عن السعي لامتلاك المعرفة... لتأكيد الذات وطلباً للذة الهيمنة. وما الحرب التي شهدناها سوى مؤامرة إمبريالية جديدة... وأسباب هذه الحرب محض أيديولوجية إذ ترتبط بنزعة الهيمنة على العالم والرغبة في إحكام السيطرة الأمنية وتعويض النقص في الموارد الطبيعية... مؤدى القول إن هذه الحرب ما كانت لتقع لولا ذلك المفهوم المنسوج في دأب وإتقان ومفاده أن هذه الشعوب البعيدة "هناك" ليست مثلنا "نحن" ولا تستسيغ قيمنا "نحن"، وكلها مزاعم تشكل لب العقيدة الاستشراقية" . وهنا نقول إنه مازالت العقيدة الاستشراقية الغربية -كما يؤكد سعيد- متمسكة بأسس الهيمنة، والإحساس بالقوة والفوقية. ومازالت الرغبة الغربية تتمحور في إطار فرض السلطة والوصاية على الآخر، الذي لا يتسم بالدونية إلا بسبب اختلافه عن (الذات) الغربية في كونه (آخراً) مختلفاً عنها في العديد من القيم المختلفة. لكن إذا ما ركزنا على الشطر الثاني من التساؤل (هل يمكن أن تتغير رؤية الغرب الاستشراقية للشرق، إذا تحققت تغيرات جذرية في بنية الغرب وفي علاقة القوة، والسلطة القائمة بينه وبين الشرق؟) نقول مجيبين: نعم، ربما قد تتغير رؤية الغرب الاستشراقية في حال حدوث تغيرات (جذرية) في بنية الغرب، وربما في حال حدوث تغيرات في موازين القوى، وانتقالها وتمركزها لدى الشرق، أو بعبارة أخرى في حال انقلاب موازين القوى. فالقوة، والفوقية المعرفية، فضلاً عن العرقية، التي رأى الغرب أنه تغلب فيها على الشرقيين، هي أساس وأصل الرؤية الدونية للشرق. فإذا ما حدث وتحولت السلطة والقوة للشرق، فلا بد حينها من تغير في أسس الخطاب الاستشراقي، الذي هيمنت عليه معايير الإحساس بعدم قدرة الشرقي أو تمكنه من مغادرة مرحلته الكلاسيكية، وما أنجزه فيها، فربما إذا غادرها وأحدث تحولاً في (المعرفة) التي تقابل وتساوي كما نعلم (القوة) فقد تتغير نظرة الغرب للشرق، لاسيّما إذا ما تمكن من الإتيان بما هو جديد، فبول فاليري مثلاً يؤكد على وجوب أن لا يُخشى من التأثير الشرقي، لأن الغرب لا يجهله -فميزان القوة دوماً هو معرفة الشرقي جيداً- مؤكداً ترحيبه بالجديد الذي سيخرج من الشرقي معرباً عن شكه في حدوث ذلك، ومعتبراً شكه ضمانهم وسلاحهم الأوربي . فالإحساس بعدم تمكن الشرقي من إحداث التغيرات الجذرية الجديدة هو ما يجعل الغربي يشعر بتمركز القوة والسلطة لديه. فالتفوق الغربي في القوة والمعرفة هو ما أدى إلى إحكام سيطرته على الشرقي. لكننا يجب أن لا نغفل اليوم ما للإسلام من تأثير كبير بوصفه (القوة) التي تشكل خطراً داهماً على الغرب المسيحي، وهو ما يؤكده موقف تشيرول الصحفي الأوربي في محاضراته على الطلاب الأمريكان في جامعة شيكاغو عام 1924 موضحاً لهم أن الشرق ليس نائياً كما يمكن أن يتصوروا بل إنه يتعارض مع الغرب معارضة لا سبيل إلى تقليلها وأن الشرق والديانة المحمدية خصوصاً من أعظم القوى العالمية المسئولة عن إحداث أعمق الصدوع في العالم . فالإسلام اليوم هو ما يشكل ميزان (القوة) لدى الشرق، والذي يثير بشكل كبير المخاوف الغربية، إذ لو لم يكن الشرق والإسلام يمثلان القوة التي تشكل تحدياً للغرب وروحه، ومعرفته، وسلطته المهيمنة، لما تكبد الغرب عناء دراسته ومعرفته لإحكام السيطرة عليه وتحجيمه ومعرفة مواطن الضعف والقوة فيه للتمكن من منعه أن يشكل خطراً عليها من جديد بعد أن فرض الإسلام هيمنته الواسعة في الماضي وهو الشيء الذي لا تتمكن أوربا من نسيانه، لذا فهي تسعى جاهدة إلى عدم عودته كما كان.
الهوامش
ينظر: الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي، د. محمد إبراهيم الفيومي، 9. ينظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، ترجمة: د. محمد عناني، 44. المصدر نفسه. ينظر: المصدر نفسه، 44- 46. تعقيبات على الاستشراق، إدوارد سعيد، ترجمة وتحرير: صبحي حديدي، 39. ينظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، 353- 354. ينظر: في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، آنيا لومبا، ترجمة: محمد عبد الغني غنوم، 113- 126. المصدر نفسه، 67. ينظر: المصدر نفسه، 133- 134. ينظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، 351- 354. ينظر: المصدر نفسه، 355. ينظر: المصدر نفسه،361- 363. ينظر: المصدر نفسه، 368- 369. ينظر: المصدر نفسه، 85- 86. المصدر نفسه، 97. المصدر نفسه، 94. ينظر: المصدر نفسه، 95. ينظر: النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة: جابر عصفور، 152. الاستشراق السياسي فرضياته واستنتاجاته، د. محسن جاسم الموسوي، مجلة الاستشراق، ع3، 1989، 7. ينظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، 381. الاستشراق.. الآن، تمهيد لطبعة أغسطس 2003 إحتفالاً بمرور ربع قرن على صدور الكتاب، إدوارد سعيد، ترجمة: حازم عزمي، فصول، ع64، صيف 2004، 180- 181. ينظر: الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، 387- 388. ينظر: المصدر نفسه، 390- 391.
المصادر
أولاً: الكتب.
1. الاستشراق في ميزان الفكر الإسلامي، د. محمد إبراهيم الفيومي، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية- القاهرة، 1994. 2. الاستشراق، المفاهيم الغربية للشرق، إدوارد سعيد، طبعة 1995 المزيدة، دار بنجوين العالمية. ترجمة: د. محمد عناني، رؤية للنشر والتوزيع، 2006. 3. تعقيبات على الاستشراق، إدوارد سعيد، ترجمة وتحرير: صبحي حديدي، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر- بيروت، 1996. 4. في نظرية الاستعمار وما بعد الاستعمار الأدبية، آنيا لومبا، ترجمة: محمد عبد الغني غنوم، ط1، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية- اللاذقية، 2007. 5. النظرية الأدبية المعاصرة، رامان سلدن، ترجمة: جابر عصفور، دار قباء للنشر والتوزيع- القاهرة، 1998.
ثانياً: الدوريات.
1. الاستشراق.. الآن، تمهيد لطبعة أغسطس 2003 إحتفالاً بمرور ربع قرن على صدور الكتاب، إدوارد سعيد، ترجمة: حازم عزمي، فصول، ع64، صيف 2004. 2. الاستشراق السياسي فرضياته واستنتاجاته، د. محسن جاسم الموسوي، مجلة الاستشراق، ع3، 1989.
#هديل_عبد_الرزاق_أحمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تجليات حضور الآخر في أدب ميسلون هادي القصصي
-
أضغاث ذاكرة .. قصة قصيرة
-
خلل المنهج النقدي في موازنة الآمدي ... قضية (السرقات الشعرية
...
-
مضيق الحناء.. البنية الغرائبية... دلالة جمالية للتعبير عن مس
...
-
كل الأشياء - قصة قصيرة
المزيد.....
-
الجمهوريون يحذرون.. جلسات استماع مات غيتز قد تكون أسوأ من -ج
...
-
روسيا تطلق أول صاروخ باليستي عابر للقارات على أوكرانيا منذ ب
...
-
للمرة السابعة في عام.. ثوران بركان في شبه جزيرة ريكيانيس بآي
...
-
ميقاتي: مصرّون رغم الظروف على إحياء ذكرى الاستقلال
-
الدفاع الروسية تعلن القضاء على 150 عسكريا أوكرانيا في كورسك
...
-
السيسي يوجه رسالة من مقر القيادة الاستراتجية للجيش
-
موسكو تعلن انتهاء موسم الملاحة النهرية لهذا العام
-
هنغاريا تنشر نظام دفاع جوي على الحدود مع أوكرانيا بعد قرار ب
...
-
سوريا .. علماء الآثار يكتشفون أقدم أبجدية في مقبرة قديمة (صو
...
-
إسرائيل.. إصدار لائحة اتهام ضد المتحدث باسم مكتب نتنياهو بتس
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|