|
مذكرات مثقف عراقي في سنوات الحصار/الجزء الاول
جواد كاظم غلوم
الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 16:44
المحور:
سيرة ذاتية
مذكرات مثقف عراقي في سنوات الحصار/ الجزء الاول 1) لا يخفى على أبناء الشعب العراقي الكرام ما فعل الحصار الاقتصادي من ويلات وعوز وفاقة وتضييق لم يسبق له مثيل خلال فترة التسعينات من القرن المنصرم والسنوات الاولى من القرن الواحد والعشرين وما اصطلح عليه بالالفية الثالثة ولااظن شعبا على مرّ التاريخ ذاق مرارة العيش كما ذاقها شعبنا الصابر المكلوم وكأننا مررنا بسنوات مديدة من المجاعة والقحط، لكنني سأتحدث عن شريحة مهمة في المجتمع وهم المثقفون والادباء عموما وما عانوه من ضيم وأسى خلال تلك الفترة العصيبة مثلهم مثل بقية الشرائح الاجتماعية في بلدي العزيز. بدءا لابد من التنويه ان بعض مثقفينا الذين واكبوا العمل في الصحافة والاعلام –اضطرارا- خلال فترة الحصار هم ايضا اكتووا بناره الحارقة وحتى الذين عملوا-راغبين مطيعين- لسعتهم جمرات العوز والحاجة وتحمّلوا الكثير من النزق والاستخفاف من لدن الزمر الحاكمة المسؤولة وقتذاك ولكن ما العمل ؟ طالما ان المثقف لايتقن سوى الكتابة ، مهنته الدائمة ولايعرف حرفة اخرى يعيل بها اسرته وكأني به يردد قول الشاعر: اذا لم يكن غير الاسنّة مركبا........ فما حيلة المضطرّ الاّ ركوبها ولكن يبقى هناك عدد من المثقفين انجروا وراء اهوائهم حبا بالمال والجاه والمنصب ممن ارتضوا الطاعة العمياء لاولياء نعمتهم وظلوا عبيدا لاسيادهم وعملوا مخبرين ضد زملائهم الادباء بدوافع شتى كالخوف من السلطة ونيل رضاها والطمع في نيل مراتب عليا والحصول على نصيب من الفتات المتبقي من موائد الساسة الكبار أسوق هذه المقدمة بعد ان عركتني رحى الفاقة والحاجة المريرة فقمت ببيع بعضٍ من آثاثي ونفائسي واكملت جواز سفري مقررا السفر الى عمّان بحثا عن مخرج يحفظ لي كرامتي وكرامة اسرتي حيث كانت المملكة الاردنية هي المعبر الوحيد الذي ينفذ بجلدنا خارج الوطن وما ان وطأت رجلاي ارض عمان والتي زرتها مرارا في الثمانينيات حتى رحت ابحث عن ملجأ رخيص يأويني فاخترت فندقا وسط البلد مستقرا لي ، في اليوم الثاني تطلّعت في الصحف اليومية فاذا بي ارى اعلانا صادرا من احدى سفارات دول الخليج العربي ويشير الاعلان الى طلب موجِّهين(مفتشين في المدارس الثانوية) ولما كانت لي خدمة طويلة في التعليم الثانوي وحاصل على شهادة البكالوريوس في اللغة العربية ؛ سارعت الى السفارة وقدّمت اوراقي المستوفية لشروط التقديم وتم تحديد يوم الاختبار وانتظرت النتيجة اياما قليلة فاذا بي احصل على المرتبة الثانية امام اربعين مرشحا فهللت فرحا ورقصت في سرّي وحمدت الله على هذه الخطوات المباركة .. بعد يومين جاءني هاتف من السفارة للمراجعة فسعدت ايما سعادة وكدت احلّق في الفضاء لأنهم سيعطون الناجحين عقود العمل ولما وصلت الى السفارة راح القنصل المختص يوزع مظروفا لكل واحد فائز يتضمن عقد العمل مع شيك بمبلغ مناسب وبطاقة طائرة ذهابا فقط وبعض الكتب الموجهة الى دائرة الاسكان لضمان السكن المناسب واوراق اخرى فيها امتيازات للمتعاقد وفعلا استلم الناجحون مظاريفهم سعداء فرحين يهنيء بعضهم البعض وانتظرت دوري أملا باستلام المظروف الخاص بي نادوا عليّ بعد حين لمقابلة القنصل المسؤول ، دخلت عليه فاذا به يعتذر مني كثيرا ويواسي خيبتي وسوء حظي العاثر وابلغني بعدم الموافقة لظروف لايستطيع البوح بها ، وقبل ان اقع ارضا لصدمتي من هذا القرار المؤلم حقا استعنت بالله وامسكت اعصابي مكرها بشكل لم اعهده بنفسي مسبقا . 2) اتصل بي أحد أصدقائي الشعراء العراقيين وأكّد على ضرورة حضوري الى مقهى السنترال حالا لأمر هام جدا؛ هذا الصديق كنت كلفته مسبقا بالسعي لأيجاد عمل مناسب لي وأظنه قد لبّى ما طلبته منه ، وصلت إليه على وجه السرعة وكان ينتظرني على أحرّ من الجمر وما أن وصلت اليه حتى أخذني الى مقر احدى الصحف اليومية التي تصدر في عمّان وقدّمني الى السيد رئيس التحرير فرحّب بي ايما ترحاب واطلعني على طبيعة عملي الذي سأزاوله في الجريدة ؛ بدءا من تحرير بعض المقالات الادبية غير الهامة والبعيدة عن مسارها السياسي ومتابعة الاخبار الادبية عربيا وعالميا والتعليق عليها بتقارير شبه يومية اضافة لمهام التصحيح و قراءة النصوص وإعادة صياغة العبارات فيما لو شابها الضعف وركاكة الاسلوب ، وبعد مساومات واخذ وردّ تم تحديد راتبي الشهري بمئة وثلاثين دينارا اردنيا ثم امرني بمزاولة العمل فورا بعد انتهاء المقابلة ثمّ واصلت عملي في اليوم الثاني بحماس منقطع النظير ورغم عناء العمل وزيادة ساعاته لكنني لم اشعر بالتذمر لسبب بسيط انه ضمن اهتماماتي ويتوافق مع توجهي وهكذا استمررت بالدوام عدة ايام وكنت اعود الى الفندق الذي اقيم فيه جسدا منهكا عركهُ التعب والارهاق لأني كنت اعمل طوال الاسبوع قرابة العشر ساعات او اكثر يوميا عدا يوم واحد الذي كان استراحة في نصفه الاول اذ كنت اقضي جزءا منه في ترتيب اشيائي والاتصال بالاسرة في بغداد وارسال بعض الاحتياجات بيد المعارف من السواق او المسافرين كلما امكن ذلك واقضي بعض الوقت في مقهى السنترال حيث التقي ببعض اصدقائي العاملين هنا وهناك...الا ان المفاجاة التي هزتني حقا هي مطالبة الصديق الذي عثر لي على عمل في الصحيفة بأتعابه جراء نجاحه في توفير مصدر الرزق لي ، وظننت اول وهلة ان الامر لايعدو كونه دعابة يتندر بها عليّ الاّ ان الحاحه الشديد امام بعض اصدقائنا في المقهى تبين ان صديقي كان جادا وبعد نقاش طويل اتعب اعصابي بسبب الذهول الذي اصابني وصحوتي من الصدمة قررالمجتمعون اعطاءه مبلغ خمسين دينارا باعتباره قومسيونا والغريب في هذا الشأن ان الجميع ممن ضم مجلسنا اعتبرالامر عاديا وغير مثير للعجب امام مسعاه الدؤوب وفي زمن قلت فيه فرص العمل وخاصة امام الغرباء هذا اضافة الى عوز صديقي بعد ان تبين لي حاجته الشديدة الى المال لاجل توفير مبلغ ايجار الغرفة الصغيرة التي تأويه من راتبي المتواضع لاأنكر انني كنت سعيدا جدا بحصولي على عمل مناسب رغم الارهاق الشديد الذي أقاسيه يوميا وتعدد النشاطات التي امارسها في الصحيفة والتي استمرت طوال عشرة شهور تعرفت خلالها على نخبة خيّرة من الاصدقاء الكتّاب والصحفيين العاملين معي وكانوا خير صحبة. ولو قارنت نفسي بزملائي العاطلين وحتى العاملين في مهن خدمية بائسة لكنت انا في مصاف الموسرين المحظوظين بينهم اذ بتّ قادرا على ارسال مبلغ/100 دولار لعائلتي كمصاريف شهرية لتنعم بهناء العيش بينما كنتُ احرم نفسي من الكثير مما لذّ وطاب من طعام وكساء وشراب لأن ايجار سرير رخيص في فندق /نجمة واحدة كانت تكلفني ربع راتبي وما يتبقى لي من دراهم معدودات عليّ ان اغطّي بها نفقات الطعام والكساء ونفقات متفرقة اخرى الا ترون معي ان ثوب العيش –وقتذاك- مليء بالفتوق هنا وهناك ولكني أرقّعه قدر المستطاع. 3) في اواخر صيف وبداية خريف/1995 قامت زمر القذافي ولجانه الثورية بحملة شعواء لامثيل لها على الاشقاء الفلسطينيين المقيمين في الاراضي االليبية بحجة العودة الى فلسطين وطنهم الام واتخذت السلطات الليبية وقتذاك إجراءات غاية في التعسّف حيث تم طرد الآلاف منهم من سلك التعليم الاساسي والثانوي وحتى الجامعي وتم تهجير الكثير من العوائل خارج ليبيا وبقوا في المنطقة الفاصلة بين الحدود الليبية- المصرية دون ان ينتشلهم احد مما اضطروا الى العيش في مخيمات بائسة يعانون غضب الطبيعة في هجير الصحراء وبردها اللاسع وكأنّ غضب قائد الفاتح من سبتمبر لايكفيهم، وبسبب هذه الطامة الكبرى خلت المعاهد والمدارس والجامعات من الكوادر التدريسية مما اضطر المسؤولون في امانة التعليم في ليبيا الى ارسال لجان لاختيار مدرسين واساتذة من العراق للتعاقد مع هؤلاء بغية سد الفراغ الذي احدثته هجرة الكوادر الفلسطينية التي طردت من المؤسسات التعليمية حالما سمعت بوصول اللجان الى بغداد ؛ كنت انا في الاردن ، لملمت حقائبي وعدت فورا الى بلادي لاجل الحصول على عقد عمل دائم أراه افضل بكثير من عملي المتعب وغير المستقر في عمّان وفعلا وصلت الى السفارة الليبية ببغداد ورايت ما لايخطر على البال من حشود المثقفين والكوادر التدريسية والاساتذة الكبار حاملي الشهادات العليا وباعداد تفوق الخيال وكلٌ يريد ان يصل الى مقابلة اللجنة من كوّةٍ صغيرة فتحت لمقابلة المتقدمين وما اكثرهم وبدأت الجموع تتكاثر شيئا فشيئا حتى تعذر الحصول على موطيء قدم على الارض وصار من المستبعد جدا بل من المستحيل الوصول الى اللجنة ومقابلتها ولم تنفع محاولات الشرطة وحرس السفارة من تهدئة الحشود المثقفة اللاهفة للوصول الى فتحة الكوّة الصغيرة فلجأوا الى غلق السفارة مؤقتا وإعادة ترتيب الاجراءات بشأن مقابلة المتقدمين ومعالجة الفوضى العارمة. وبالفعل فقد تم التنسيق مع وزارة التربية للتعاقد مع المدرّسين حصرا ونقل مكان المقابلة الى وزارة التربية واستطعت في اليوم التالي الحصول على العقد بشقّ الانفس وكم كانت سعادتي لاتوصف حين عدت الى البيت وبيدي صك الغفران الجديد بطبعته الليبية الذي سينتشلني من وحل العوز والفاقة ، ولشدة فرحتي لم افكر بكيفية الوصول الى عملي الجديد وانا خاوي الجيب وليس لديّ ما يمكن بيعه وسداد مصاريف السفر الباهضة ولشدة جزعي رميت العقد جانبا وآليت على نفسي الاّ افكر بالسفر مجددا وان ابقى في بلادي حتى لو وصل الحزن والجوع الى الزبى واقنعت نفسي ان ليبيا ليست الامل والهدف المنشود والمقصد الهانيء طالما هي ايضا كانت ترزح تحت وطأة حصار جوي ظالم ودكتاتورية قذافية فهل انا مجنون حتى استجير من الرمضاء بالنار وليذهب العقد الى الجحيم ؛لكنّ مكالمة من صديق جاءتني في اليوم التالي قلبت موازيني وأذابت كل قراراتي اذ أبلغني مكلِّمي ان السفارة تتكفّل بجميع مصاريف السفر حتى وصولك الى عملك وما عليك سوى مراجعة مكتب الخطوط الجوية الليبية في عمّان للحصول على تذكرة الطائرة الى تونس ومن ثمّ السفر برّا الى ليبيا مجانا
#جواد_كاظم_غلوم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مباراةُ عاشقةٍ خاسرة
-
مخاطر الكعكة الصفراء
-
إطلالةٌ على مدنِ الرّماد
-
ما خبّأه ابنُ طفيل في قِماطِ حيِّ بن يقظان
-
أريدكِ نافذتي...شُرْفتي المشْرَعة
-
والذي قيْدُهُ يزينُ يديهِ
-
السيمورغ
-
اللعبُ مع الصغار -هنيهةُ وأخواتها-
-
حفيدتي الكَنَدِيّة
-
كيف لي أنْ أرأبَ الصدْع
-
قصائدٌ مدفوعةُ الثمن
-
إنّما الدنيا لِمَن وهَبا
-
هناء أدور....نهنئكِ
-
أسفحُ بكاءً على فيضِ أنوثتها
-
الناسخُ والمنسوخ
-
ما لنا وما عليهم
-
مواجعُ طرَفة بن العبد قبل النزعِ الأخير
-
يشيخ وفي نفسه شيء من-نوبل-
-
أما آنَ لي أنْ ألقى قمري الضائع
-
أكادُ أختنقُ من نفثِ دخانكم
المزيد.....
-
لا تقللوا من شأنهم أبدا.. ماذا نعلم عن جنود كوريا الشمالية ف
...
-
أكبر جبل جليدي في العالم يتحرك مجددًا.. ما القصة؟
-
روسيا تعتقل شخصا بقضية اغتيال جنرالها المسؤول عن الحماية الإ
...
-
تحديد مواقعها وعدد الضحايا.. مدير المنظمة السورية للطوارئ يك
...
-
-العقيد- و100 يوم من الإبادة الجماعية!
-
محامي بدرية طلبة يعلق على مزاعم تورطها في قتل زوجها
-
زيلينسكي: ليس لدينا لا القوة ولا القدرة على استرجاع دونباس و
...
-
في اليوم العالمي للغة العربية.. ما علاقة لغة الضاد بالذكاء ا
...
-
النرويجي غير بيدرسون.. المبعوث الأممي إلى سوريا
-
الرئيس الكوري الجنوبي المعزول يتخلف عن المثول أمام القضاء
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|