|
التكفير يقتحم المشهد الثقافي
سعيد مضيه
الحوار المتمدن-العدد: 3624 - 2012 / 1 / 31 - 18:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
اليسار وقضايا الفكر والثقافة ـ 3 التكفير يقتحم المشهد الثقافي أعلت الفلسفة العربية ـ الإسلامية من شأن العقل وتأكيد قدرته على اكتساب المعرفة، لكن على درجات . فالمعرفة البشرية دوما نسبية . أبرز فلاسفة المرحلة في العصر جدل النسبي والمطلق، واثقين من قدرة العقل على حل المشاكل التي تواجهه. اهتم أبو نصر الفارابي (المعلم الثاني بعد أرسطو) بعقد الصلات بين الدين والفلسفة والعلم؛ وامتاز الفارابي بتوجهاته المنهجية من خلال تطبيقها العملي لدائرة عريضة من الموضوعات، مثل الشعر والفن والفيزياء والرياضيات، الفلك وعلم الجبر، الموسيقى، الطب والأخلاق. وأكبر مثال على ذلك عمله " كتاب الموسيقى الكبير". وفي تعامله مع مفهوم الحقيقة أكد الفارابي أنه لا يمكن في البداية إدراك الحقيقة دائما بكل أعماقها، ولذلك يجب صونها من الابتذال والتسطيح . نرى في أسلوب الفارابي لجوؤه في بعض الأحيان إلى الرمزية، خاصةً لأنه عاش في فترة سادت ظروف التعصب الديني والتحولات السياسية المفاجئة، تتغير النعمة إلى نقمة. اعتبره ابن خلكان أكبر فلاسفة العرب على الإطلاق، وكان هذا قبل ظهور ابن رشد. واعتبره ماسينيون فيلسوفا بأعماله، بمعنى أن الفارابي ترك لنا مذهبا محدد المعالم سواء في الطبيعيات او الإلهيات أو الأخلاق أو السياسية. تميز الأسلوب الفلسفي والعلمي للفارابي بالعقلانية والثقة بأن العقل البشري قادر على حل ليس مشاكل الوعي فحسب بل قضايا الأخلاق والسياسة. ومثله ابن سينا اتهم بالكفر لأنه رفع مكانة العقل. بحث في العلاقة بين فلسفة الطبيعة والعلوم الأخرى كالإلهيات والرياضيات بفروعها الأربعة ( حساب ، هندسة ، فلك ، موسيقى). ناقش مركب الجوهر والصورة في الماهية ؛ كما بحث في العلاقة السببية (العلية). تعرض لنقد شديد من قبل ابن رشد، في معرض نقده لفكر الغزالي. قال أن سوء فهم ابن سينا لأرسطو أثر على الغزالي، إذ استند إليه في اتهام الفلسفة بالإلحاد، دون الرجوع إلى كتب أرسطو نفسه. كما أن ابن سينا اعتمد المنهج الجدلي ولم يرق إلى المنهج البرهاني القائم على العقل . والأمر نفسه ينطبق على الفارابي. اعتبر ابن سينا الغائية علة الوجود. فكل شيء يمضي لغاية، اما وجود الشرور ومظاهر النقص فلا ينهض دليلا على نقض الغائية والخيرية في المقاصد الإلهية. النظرة الغائية متغلغلة في أبحاث ابن سينا إلى أقصى صورها ، فلكل صنف غاية بالنسبة لارتباطه ببقية الموجودات . ولهذا يلاحظ الدارسون لفكر ابن سينا اهتمامه بالكيف على حساب الكم وبتصنيف الموجودات لا بقياسها. اعتمد ابن رشد الذي تأثر بأفكار ابن سينا، المنهج النقدي وميز بين فلسفة ابن سينا وفلسفة أرسطو. حل التناقض الظاهري في فلسفة أرسطو بين الجوهر والصورة ، فاعتبر الجوهر هو المعبر عن المادة ، بينما الصورة تتبدل وتتغير. انتقد آراء ابن سينا في الإلهيات ومجالات الطبيعة وكذلك في كثير من تفريعات الطبيعة. رأى أن ابن سينا قد أذعن لمقدمة الجويني المفكر الأشعري ( الحنبلي) القائلة أن العالم بكل ما فيه جائز أن يكون ما يقابل ما هو عليه . كما انتقد دفاع ابن سينا عن صوفية الأشعرية ( فكر ابي الحسن الأشعري من أتباع أحمد ابن حنبل ، مع قليل من التعصب ، وانقلب على المعتزلة في القرن الثالث الهجري) . وقال الأشاعرة ومنهم الغزالي أن علاقة السببية غير ضرورية فلا نجد علاقة بين النار والاحتراق. وأنكروا العلاقة بين الأسباب والمسببات . رأى ابن رشد أن العلم الطبيعي هو نفسه الذي ينظر في مبادئه، فالمادة والصورة مثلا بنظر العلم الطبيعي مبدآن لوجود متغير. كتب ابن رشد "تهافت التهافت " يرد فيه على كتاب " تهافت الفلاسفة " للغزالي؛ وكتب " تلخيص ما بعد الطبيعة لأرسطو" و " تلخيص السماع الطبيعي لأرسطو"، حيث يفيض بأبحاث في السببية ، وحيث يشكل دراسة العلل محور أبحاثه. وقد رأى وجود أربع علل للموجودات متنقلا إلى غاية العالم وسمائه وأرضه. نادى بثبات الخصائص للشيء الواحد وأكد على الطبيعة الخاصة لكل عنصر متوصلا إلى نفي الاتفاق العرضي والجواز والإمكان. فالحكمة في نظره هي معرفة الأسباب التي تقوم على منطق الفعل. ولدى إقامة الدليل على فكرة العناية الإلهية أو الأسباب الغائيةـ العناية بالإنسان وخلق جميع الموجودات من أجله ـ تماثل ابن رشد مع المعتزلة لدى دراسة أصل العدل الذي يعد احد أصولهم الخمسة. فمعرفة الله، في نظر ابن رشد، تعني التعمق في معرفة مخلوقاته . وانبرى الفيلسوف الرازي للسلفية الأشعرية . كافح ضد الاتجاه الطاغي الذي راح يدفع الحياة الاجتماعية المادية والفكرية باتجاه التدهور . فقبل مولده انتصر الاتجاه اللاعقلاني في الفكر العربي ـ الإسلامي. عاش أبو بكر محمد بن زكريا الرازي خلال الفترة 854-932 م، وهو طبيب وكيميائي، مثل نموذجا للعالم الفيلسوف الذي وضع فلسفته على أساس من تجاربه العلمية في الطب والكيمياء بالأخص. برع في تحليل الأمراض الخاصة وظل كتابه في الجدري والحصبة يطبع في الغرب حتى أواسط القرن الثامن عشر...ولا يعرف عنه إلا ما نقله عنه المعجبون بعلمه ممن جاءوا بعده ( البيروني والشاعر الفارسي ناصر خسرو وابن حزم وابن الهيثم وآخرون ليس من الممكن حصرهم " ( مروه ـ النزعات جزء2، طبعة خامسة ص545) . يبدو أن مكانته العلمية والمهنية وضعته تحت حماية اهلته للتفكير بجسارة والتعبير عن معتقده بغير توجس. بجرأة العلماء المتمكنين راح يجلد فقهاء السلفية بحدة ويدافع عن العقل بجرأة وصراحة: " الباري عز اسمه ، إنما أعطانا العقل وحبانا به لنستعمله ونبْلغ به من المنافع العاجلة والآجلة غاية ما في جوهر مثلنا نيله وبلوغه، وبه أدركنا الأمور الغامضة البعيدة منا ، الخفية المستورة عنا.. . وبه وصلنا إلى معرفة الباري عز وجل ،الذي هو أعظم ما استدركنا . وإذا كان هذا هو مقداره ، أي العقل ، فحقيقة علينا أن لا نحطه عن رتبته ، وننزله عن درجته ، ولا نجعله، وهو الإمام، مأموما، وهو الحاكم، محكوما، ولا ، وهو الزمام، مزموما،... ولا المتبوع تابعا." هاجم أبو بكر بقسوة السلفيين ووصفهم ب" لحى التيوس يتصدرون المجالس يمزقون حناجرهم بالأكاذيب والخرافات ، وحدثنا فلان عن فلان بالزور والبهتان! " التكفير رديف الطغيان تولّى المتوكّل الخلافة عام 232 هجرية (847م)، واستغل الإقطاعيون والأمراء ممن أزيحوا عن مواقعهم في عهد المأمون، وممثلوهم في القطاع الفكري، نقاط الضعف في شخصية الخليفة الجديد، ومنها إسرافه في الملذات والشراب، وشرعوا يضغطون عليه لتوجيه سياسة الدولة باتجاه مصالحهم وتفكيرهم، وحملوه على إلغاء ما أحدثه المأمون وخاصة فيما يتعلق بعلم الكلام المعتزليّ وخلق القرآن وارتباطهما بمذهب الدولة. استجاب لهم الخليفة، وأطلق أيدي الأشاعرة كي يشنوا حملة ضارية ضد أنصار المذهب المعتزلي وفكره، لدرجة أن الجيل التالي لم يعرف عن هذا المذهب إلا ما كتب وقيل ضده من تجنيات. تزامنت الإطاحة بالمعتزلة مع صعود نفوذ الأتراك في الحكم. وهؤلاء أداروا الحياة الفكرية والثقافية بالأحكام العرفية فجنوا على الحياة الروحية والإبداع بشكل عام. افتقد الشعر الرعاية واخذ يملأ فراغه فن الأرابيسك ورواية الحكايات التي توظف الجان والأساطير في حل الحبكات الروائية. استتب الأمر للجمود، ليس بسبب الفقه الأشعري فقط ؛ إنما في ظل تردي الأوضاع الاجتماعية واختلال الأمن والنظام ، وتصاعد طغيان الحكم الفردي. أمر المتوكل "بترك النظر والمباحثة في السجال، وترك ما كان عليه الناس في أيام المأمون والمعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد، أي التسليم بالقضاء والقدر، وأمر شيوخ المتحدثين بإظهار السنة والجماعة. ينطوي المرسوم على وعي طبقي بالمصالح ليس في المشاكل المعرفية والسياسية فقط، بل وحتى على المستوى الفقهي؛ حيث يجب على الملك أن يلزم الجميع بالظاهر من الشريعة ، ويمنع الجميع من تأويلها وتسفيه بعضهم بعضا. غدا الفقه في هذه المرحلة الجديدة اداة ترويع لثني الرقاب وإخضاع النفوس، ذلك أنه كفر الخصوم واحتكر الحقيقة. منذ أن اختطف معاوية الأموي الدين وأوله طبقا لمقتضيات الحكم، لم يحدث أن كفر خصومه او كفره خصومه. حتى عندما أقدم الخليفة يزيد بن عبد الملك على تمزيق القرآن لم تصدر صيحة تكفير!! وتعايش الأئمة الأربعة وتركوا لنا مذاهبهم دون ان يكفر احد احداً. بل إن الفقيه ابو حنيفة النعمان رفض الاستجابة لطلب الخليفة أبي جعفر المنصور ، وهو ما اشتهر به من قسوة وبطش، باستصدار فتوى تحل سفك دم خصمه النفس الزكية . وله في رده على ادعاء الخليفة قولة مشهورة . سأل الخليفة ما قولك في من أعطاني دمه عهدا بالطاعة ؟ ورد الفقيه أعطاك ما لايجوز له ، أفان أباحت فتاة عرضها أيجوز لها ذلك؟ اما الأشعريون فقد ادخلوا التكفير في خطابهم وأحكامهم. الفكر الأشعري نتاج مرحلة تاريخية اتسمت بالانحطاط. بدأ أبو الحسن الأشعري في القرن الثالث الهجري حياته معتزليا ثم انقلب على فكره المعتزلي وأخذ يصوغ إيديولوجية جديدة لقوى المحافظة انطوت على تغليب النقل على العقل وتحتكر الحقيقة . أنكرت الأشعرية علاقات السببية، كما أنكرت وظيفة الدين ومقاصد الشريعة في تأمين مصالح العباد. نفى أبو الحسن الأشعري عن الدين وظيفة إسعاد البشر وترشيدهم إلى ما فيه خيرهم في الدنيا وأوَّله سبيلا لمعرفة الله، فأسند إلى النصوص وظيفة الكشف عن المطلق، الأمر الذي لا تنهض به إلا النخب المتميزة. وسمت الأشعرية بالإلحاد والزندقة كل بحث فلسفي أو مناظرة. لم يعرف هذا في عهد الأئمة الأربعة ؛ كما لم يكفر العلماء والفلاسفة العقلانيون في حياتهم ، باستثناء الرازي ، الذي ادار حربا كلامية شديدة ضدهم. بات التكفير، لأول مرة في تاريخ الفقه الإسلامي، الأداة الفكرية للرد على الخصوم. شطر الأشعريون الدين إلى دين عامة ودين سمو وتكامل حتى بلوغ إدراك الذات الإلهية، الذي اعتبروه الإسلام الحقيقي.. بدأت محنة العقلانية، بل محنة الفكر بشكل عام ، وبدأت الرحلة باتجاه "فكر السلف الصالح"، تلك الرحلة التي تاهت وضلت الدرب في متاهة الاستبداد السياسي وإخضاع الرقاب للحكم المطلق. سخر الدين إيديولوجيا للطبقة المهيمنة والحكام الطغاة. وما إن مضى على العباسيين عهد حتى استقرت في الممارسة والوعي شرعية الإجماع على مفهومي "الغلبة" و"الشوكة" ووجوب الطاعة لهما. ومنذ خلافة المتوكل ، حين انتشر الفكر الأشعري، اتجهت التطورات نحو تفكك مركزية الحكم. "تعددت الوسائط بين الحكم والمجتمع ، وتعددت نماذج السلطة الوسيطة من الأمراء والقادة العسكريين وأصحاب الإقطاعات المستقلة في مختلف أقاليم الامبراطورية ، وما رافق ذلك أو نتج عنه من تفاقم عوامل الضعف في القوى المنتجة الريفية. كان من شأن ذلك كله ان يدفع إلى السطح مظاهر الخلل والاهتزاز في البنية العامة للنظام الاجتماعي كلما اشتد الصراع بوجهه الطبقي والفئوي ( بين الفئات العليا) التي ازدادت تشرذما في دويلات وتتناحر بشكل دموي في أغلب الأحوال" (مروة269). باتت السلطة السياسة ضرورة طبيعية، يتحتم الخضوع لها وجوبا. فلا بد من الخضوع والطاعة للسلطان وسياساته غير المعقولة والمتنوعة والمتضادة ، بل وعدم نقده أو الخروج عليه ، حتى لو كان فاسقا. هذا المنهج الفاسق هيمن على مرحلة ظلامية مديدة من التاريخ العربي-الإسلامي. في هذه المرحلة تجلت مناهضة الايديولوجيا المهيمنة النظرة الصوفية، التي ظهرت كفلسفة في بادئ الأمر تحمل في طياتها رفض إيديولوجية بني العباس المستندة إلى نسبهم للرسول، حيث الكرامة يستحقها كل من نذر نفسه للحقيقة النورانية، سواء من العرب او غير العرب. قامت نظرية التصوف على رفض نظرية الحكم الرسمية، واستنكار النظام الاجتماعي القائم على الحرمان والقهر، حيث الانفصال تام ومطلق بين الحكم والجماهير الشعبية . ثم انطوت العهود الظلامية ، فإذا بالصوفية تسلس انقيادها للحكم وتنشغل في الآخرة بدل الدنيا ، لتتدهور بعد ذلك إلى التمسح بالأولياء والتوسل للشجر والكهوف والقبور وينابيع الماء طلبا للشفاء من مرض او إغاثة من ضيق. انتهت الصوفية إلى "الحضيض الجرمي" الذي قال به صاحبهم السهروردي المقتول. في عصر عاصف بالهجوم على العقلانية جاء الغزالي (أبو حامد محمد بن محمد توفي 505 هـ 1111 م) ، فأنكر قيمة العقل وأحكامه. سفه الغزالي العلماء والمبدعين ممن أضاءوا حلكة العصور الوسطى بأنوار بحوثهم في الطبيعة والحياة، وحكم على كل ذلك بالتهافت كما أورد في كتابه "تهافت الفلسفة" . رد عليه ابن رشد (توفي عام 595 هجرية) مفندا الفكرة الغزالية باتجاه معاكس تماما إذ جعل "العقل" أحد المقدسات في كتابه "تهافت التهافت" ، ومركزا على النقد بدل التسليم. كانت نتيجة منهج الغزالي هو الدخول في عصر هيمنة الدولة على الدين. ويمكن القول ان اختطاف الدين الذي استهله الخليفة الأموي ، معاوية قد أفضى إلى تسييس الدين وأدلجته. وهذا يعتي سلب روحه الإنسانية ، ووضعه في تناقض مع العقل في الوقت نفسه. هكذا كان الغزالي بحق هو فيلسوف عصر الظلمات و الانحطاط الثقافي، بينما منطق ابن رشد حرم من أن يتطور نظرا لغياب التربة الاجتماعية المناسبة . استخدم الأشاعرة نظام الحسبة واشتطوا في استخدام الحديث المختلق " من رأى منكم منكرا فليغيره..."، وبلغ العنف المنقول عنهم أوجه في حقبة ما بعد سقوط بغداد على يد المغول( السابع الهجري)، والتي شهدت إحراق المجلدات ومؤلفات العلماء والنوابغ، وتم تكفير معظم العلماء أمثال الرازي والخوارزمي وابن سينا والبيروني وابن رشد والتوحيدي. في ذلك الزمن أعدم الحلاج. هي حقبة شبيهة بحقبة غزو العراق من قبل القوات الأمريكية. وما إن حل القرن السابع الهجري حتى تكرست مفاهيم المُلك العضوض الطاغوتية لطاعة المنحرفين والمستبدين والجهلاء من السلاطين . بلغ الأمر بعدد من " الفقهاء" السابقين لابن تيمية أن أفتوا بأنه " إذا ما خلا الوقت من إمام عادل مستحق للإمامة فتصدى لها من هو ليس من أهلها، وقهر الناس بشوكته وجنوده بغير بيعة أو استخلاف ، انعقدت بيعته ولزمت طاعته لينتظم شمل المسلمين وتجمع كلمتهم . ولا يقدح في ذلك كونه جاهلا أو فاسقا في الأصح ". كانت الفتوى استجابة لضرورة ودلالة على تلك الظاهرة ، حيث العصر عصر تشظيات الدولة الإسلامية، وبروز ظاهرة البلطجية ، قطاع الطرق ، ممن شكلوا تحت إمرتهم جيوشا اغتصبوا بواسطتها الحكم.. في ذلك العصر صاغ الفقه مقولة " من يحكم يطاع". بانتشار أمية الحرف، حرمت الأغلبية الساحقة من الجمهور الإسلامي من الاطلاع على صحيح الدين، وتركت الفتاوى رهينة الضمائر الملوثة لفقهاء الظلام من حاشية السلطان، الذين اختلقوا ألوف الأحاديث الموضوعة، تأتي بأحكام مناقضة للنص المقدس، وذلك بقصد إلباس تصرفاتهم عباءة الدين. جاء صحيح البخاري وصحيح مسلم تحمل معالم القلعة القروسطية ومفاهيمها. يتضمن صحيح الإمام مسلم نوادر حول مبتدعي الأحاديث: بعضهم "لا يؤتمن على تمرتين"، وآخر يستحسن الفكرة فينسبها إلى الرسول، وأنشأ مئات الأحاديث على هذا المنوال. ورغم التندر ، ورغم ان البخاري اعتمد نسبة ضئيلة من جملة سبعين ألفا جمعها، إلا أن رضاعة الكبير، مشترطا في الرضاعة "الخشوع التام وكأنه يؤدي حالة تعبوية ، على أن لا يحرك الرجل يده تحت الصدر إطلاقا " قد بناها في العصر الحديث أحد رجال الإفتاء المصريين ، المتحدث باسم الأزهر ورئيس قسم الحديث فيه بناءً على ما ورد في صحيحي البخاري ومسلم. فالصحيحان من مدخلات العصر الوسيط على الفقه الإسلامي. لم يجد ابن تيمية غضاضة في تبرير اغتصاب معاوية للخلافة . دخل ابن تيمية ( أبو العباس تقي الدين أحمد بن عبد الحليم الحراني( 661- 728 هجرية / 1162-1227) ميدان الفقه الإسلامي ومضى الشطط إلى مداه فبات "صاحب العلم" ديكورا يزين به الحاكم ديوانه محاولا توظيف سمعته وصيته العلمي، مباعدا ما بين العلماء والجمهور. بات الفقيه ملحقا بديوان السلطان ضمن الحاشية التي تظهر جانب التقوى والورع في شخصية الحاكم. باستثناء الدعاية للسلطان والدعاء له ، لم يعد الفقيه يخاطب الجمهور ، وبات التدين الشعبي نهبا لخرافات المشعوذين والصوفيين الدراويش ممن ادعوا لأنفسهم الكرامات، وعزوا السطوة لصاحب السلطان. عبر فقه ابن تيمية إلى العصر الحديث وتلقفه محمد ابن عبد الوهاب وتفشت الوهابية في الفقه السلفي الحديث بواسطة المال النفطي. هذا بينما انتبذت الرشدية من قبل الجهالة الظلامية ؛ فتبناها العلم الناهض ينور الحياة في اوروبا. أتيح للرشدية أن تنهض من جديد بمضمونها العقلاني النقدي إبان عصر النهضة في أوروبا . نختزل العرض التاريخي لتطور الفقه الإسلامي بالحقائق التالية: أن الفقه ، بما هو استخلاص الأحكام من مبادئ الدين، قد مر بأطوار انفتح في حقبة على الحراك الاجتماعي واستنار بمعطيات العلم والبحث التجريبي،واتسم بالتسامح مع الرأي المخالف وهو يبحث في ما يصلح للناس؛ وفي أطوار أخرى استعصم بضيق الأفق وأطبقت عليه الظلامية والجهالة، إذ تراجع أمام سطوة التسلط الغشوم أو أجدبت لديه القرائح فاستعان بالنقل وتطفل على جهود السلف من الأشعريين . الرجوع إلى السلف ، ماضيا وحاضرا ، لا يتجاوز مرحلة ظهور الأشعرية. أقحم التكفير ميدان الفكر، تعويضا عن العجز في ميدان المنافسة ورديفا للهدر الاجتماعي. في عصور الانحطاط تحول الفقه أداة إيديولوجية تسند الظلم والجور والفسوق. غدا فقهاء الظلام شريحة من بطانة الحكام تكفر العقل والحوار والمناظرة كي تملك حرية الإفتاء بما يضفي مسحة التقوى على السلاطين . أدلجة الدين قي سياقات تاريخية وافقت نمط الحكم في العصر الوسيط ، حيث لم تعرف البشرية نظم الديمقراطية وحوار الأفكار في عصر العلم وسلطة العقل.
#سعيد_مضيه (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار وقضايا الفكر والثقافة التراث 2
-
اليسار وقضايا الفكر والثقافة
-
البعد القومي في مهام اليسار العربي ومركزه القضية الفلسطينية
-
التحول الديمقراطي.. أعطاب ذاتية
-
الحوار المتمدن في العاشرة من عمره المديد
-
مصر والثمار المرة للطغيان
-
أشباح تحوم في فضاء مصر
-
الخروج من متاهة التفاوض
-
ردع تدخلات الامبريالية أولا
-
بنية نظام الأبارتهايد الإسرائيلي وشروط تقويضه
-
غولدستون المغلوب على أمره
-
مأساة ليبيا بين آفات القذافي ونهم الاحتكارات النفطية ´- الحل
...
-
ليبيا بين الآفات النفسية والذهنية للقذافي وبين نهم الاحتكارا
...
-
الحق حين يسخره الباطل
-
الدولة الوطنية من حلم إلى كابوس
-
بعض الملاحظات على كتا ب -رؤية بديلة للاقتصاد الفلسطيني من من
...
-
الديمقراطية الأميركية معاقة بالكساح
-
أضواء العلم على تفجيرات نيويورك
-
مزيد من الأضواء على أخطر مؤامرات اليمين الأميركي ضد البشرية
-
إعادة القضية الفلسطينية إلى الأمم المتحدة
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|