|
حريم في الرؤوس
سوسن بشير
الحوار المتمدن-العدد: 1070 - 2005 / 1 / 6 - 10:44
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
تنصحنا فاطمة المرنيسي نحن القراء، باقتناء و قراءة الطبعة العربية الأولى لكتابها "نساء على أجنحة الحلم"، ترجمة فاطمة الزهراء ازريول. فاطمة الأولى كاتبة وباحثة ذائعة الصيت، ينصب اهتمامها على وضع المرأة في الواقع والتراث، حصلت مؤخراً على جائزة ايراسموس الهولندية، التي تُمنح في هولندا منذ عام 1958 على اسم عالم هولندي من عصر النهضة، وهذا الكتاب يمثل سيرة ذاتية روائية لها، وهو أفضل مدخل لفكرها في رأي، ويتيح لنا في ذات الوقت الوصول بسلاسة إلى مفهوم نعاني منه حتى اليوم، زالت حدوده المكانية لكنه يحتل رؤوسنا، وهو مفهوم" الحريم". فاطمة الثانية ناقدة أدبية وباحثة قديرة و مترجمة، تهتم بموضوع المرأة. والنصيحة لها ما يبررها إضافة لقيمة كل من المؤلفة والمترجمة، حيث توجد طبعات أخرى مزورة لهذا الكتاب، تحوي ترجمة رديئة، بدون إذن المرنيسي.لكن هذه الدعوة تتكرر مع كتب أخرى للمرنيسي نالت نفس المصير، ثم تحققت ترجمتها الجادة مع ازريول.إذا نحن في هذا الكتاب بين فاطمتين اعتادتا العمل معاً لصالح القارئ. ومع ما كتبته فاطمة الأولى في 900 ساعة عمل، وترجمته فاطمة الثانية ترجمة أمينة تؤدي المعنى بلا تشويه، كما تشهد المؤلفة، نحلق مع نساء هذا الكتاب على أجنحة أحلامهن. يبدأ الكتاب بمقاربة مدهشة بين النساء والنصارى، حيث يشترك الاثنان في الاحتجاجات على الحدود، ومن ثم اختراقها، وحدود النساء كانت ما تمنعه الفقيهة عليهن صغيرات في الكُتاب، ويسرن عليها كبيرات في درب الحياة.واختراق الحدود قد يمثل سيرة النساء القابعات في الحريم، ويبدأ باستماعهن لإذاعة القاهرة في غياب الرجال، الذين يعتقدون أن مفتاح الدولاب الضخم حيث يختفي الراديو، في جيوبهم فقط.وقد تتطرف النسوة مع الموسيقى وترقصن على أغنية أسمهان"أهوى".وحينما تشي فاطمة الصغيرة وابن عمها سمير بسر الموسيقى عن دون قصد للوالد، الذي سألهم يوماً،ما الذي فعلوه في يومهم، يكون جزاؤها النعت بالخيانة من أمها وباقي النسوة.وتحاول أم فاطمة أن تفهم عقلها الصغير أن هناك أشياء حقيقية علينا ألا تعلن عنها إذا سُئلن، لأن هذا يتضمن أذى لا داعي له، وكيف أن الكلمة يجب أن تدور في الفم سبع مرات، قبل أن يُنطق بها.وهنا تنقلنا المرنيسي إلى شهرزاد وسحر الكلمات، الذي أنقذ حياتها من يد السياف، بينما قُضي على حيوات غيرها. سافرت شهرزاد بشهريار عبر الكلمة ومنها عرف المثل والعبرة، وأدرك أن قتل العذارى سجن يقيده في رغبة الانتقام.هذا ما نُصحت به فاطمة من أمه، عليها أن تقضي حياتها تتقن لعبة الكلمات، ما يجب أن يقال وفي أي وقت تحديداً، ليجعل عجلة الحياة تسير.الاختيار السيئ للكلمات قد يكلف المرأة زواجها، وتصبح مطلقة أو مهجورة في بيوت الأقارب.ومن هنا كانت الحاجة الأساسية لمكان "الحريم" في البيت، وفصله عن الرجال، وهذا ما أكده أبو فاطمة في حديثه عن غرف الحريم، ووجود هذا المكان الذي يسمح للمطلقات والأرامل والمهجورات باللجوء إليه، في بيوت أسرهن وأقاربهن حينما يضيق السبيل.وهذا كان مصير العمة حبيبة التي تركها زوجها لزوجة ثانية، فكانت تركتها زربية عرسها وإزار أبيض، حملتهما لمنزل أخيها لتسكن غرفة ضيقة وخالية من الأثاث الذي احتفظ به زوجها. لم تشفع حكايات العمة لدى زوجها، لكن هذه الحكايات كانت تحمل فاطمة الصغيرة وابن عمها سمير وأطفال الدار، على كلمات و تحلق بهم في السماء وتبحر بهم عبر البحار.هذه الحكايات زرعت في قلب وعقل فاطمة رغبة القص ليلاً. النصارى المحتلون في المغرب قسموا حدوداً بينهما في عرباوة، مغرب فرنسي وآخر أسباني.وكان مدخل دار أهل فاطمة يشبه حدود عرباوة، يحتاج اجتيازه إلى إذن وتصاريح.النساء داخل حريم البيت كن يحلمن باجتياز مدخل الدار، والتجول في الأزقة، وأشهر حكايات العمة حبيبة كانت "المرأة ذات الأجنحة"، تطير من الدار حين ترغب، فقد كان التحليق بأجنحة الحلم، الطريق الأمثل لتجاوز الحدود. لذا كان من الصعب على فاطمة أثناء زيارة جدتها الياسمين، فهم انبساط الأرض الخضراء بلا حدود في ضيعة الجدة، ومرور الحيوانات بحرية عبرها.علمتها الياسمين ألا تقبل أبداً بالتمييز، فهذا ما كانت تمارسه الياسمين نفسها، في عدم قبولها للتمييز بينها وبين "لللا طهور"الزوجة الأولى لجدها التازي، والبالغة الثراء.ولقد تسببت الياسمين في خصومتين خلال شهر واحد بين زوجات الجد، منهما ما استنفرت به الضيعة بكاملها، حين أطلقت على إوزتها اسم "طهور"، فتسببت في الغضب العارم لللا طهور التي نقلت الشكوى لزوجها، ما جعله يغادر كل مكان حلت به الياسمين طيلة سنة كاملة عقاباً لها، مع أن الياسمين كانت محببة لديه لأنها كانت تضحكه بأطوارها الغريبة، فأحياناً تتسلق الأشجار وتبقى معلقة لساعات، وأحياناً تأخذ معها زوجة أخرى ليتناولان الشاي فوق الأغصان. وللياسمين قصة أخرى مع الأسماء، فقد أطلقت على طاووس الضيعة اسم الملك فاروق، ملك مصر، وكانت تكرهه لأنه يهدد زوجته الأميرة فريدة بالطلاق، ولقد طلقها بالفعل بعد ذلك، وكان الجميع يعلم أن جريرة الأميرة كانت بنات ثلاث أنجبتهن بلا ذكر.كانت الياسمين لا تقبل أن توضع في مكانة أدنى من لللا طهور، بسبب ثراء الأخيرة، لأن الياسمين كانت ترى الحقيقة وتصرح بها:"أياً كان غناها، فإنها هي الأخرى محاصرة في حريم، مثلي تماماً". يتقاطع النصارى الغربيون ونساء المغرب في نقطة جديدة، من خلال حكايات شامة بنت العم، التي كانت تحكيها تمثلها في الحريم أمام فاطمة وسمير، فخلفاء العرب المسلمين اعتقدوا أنهم يعرفون قواعد لعبة الحكم والسلطنة، واستكانوا في خلافتهم واستهانوا، وحينما أصبحوا ملوك الدنيا تفرغوا لجمع النساء، زوجات وجاريات وغيرهن، وانهمكوا في محاصرة النساء في الحريم، واعتقدوا أن القوة والسلطة في حكم المرأة، وهنا فرض النصارى المسيحيون أصول اللعبة الجديدة، التي تقوم على القوة والأسلحة المتطورة، لا على حبس النساء في الحريم، وانقضوا على العرب المسلمين في سباتهم على أبواب حريمهم. وفي واقع الأمر تطرح علينا المرنيسي في هذه الصورة المضحكة المبكية، بمفرداتها الشعبية كما تم استخدامها، الخاصة بالمسلمين والنصارى، حقيقة التاريخ الذي يعيد نفسه أبداً للمنطقة العربية بأكملها منذ قرون، وآخره ما نحياه اليوم من ردة حضارية خاصة بوضع المرأة، وعودتها إلى قفص الحريم، مجبورة أو مضللة، وعودة المفردات التي كانت تطلق يوماً للتمييز في الذاكرة الشعبية بين أهل البلاد والفرنجة، في مقولتي المسلمين والنصارى، لكنها عودة باطلة يوضحها ما يحدث في مصر الآن، في بداية الألفية الثالثة، من تمييز بين المسلمين والنصارى من نسيج الشعب الواحد للأسف، هذا التمييز القادم إلينا بقوة عبر من تأثروا بإسلام الخليج الوهابي، منهم من عمل هناك لسنوات طويلة، فعاد بقيم المجتمع الذي طُعم فيه وعاشر أهله، ومنهم من دُفع علينا لأسباب خارجية عدة، أعتقد أن لا علاقة لها بالله ورسوله.
وتستمر فاطمة المرنيسي في حملنا على أجنحة الحلم مع نساء أسرتها، بمساعدة المترجمة فاطمة أزرويل، فنصل لطامو التي جاءت على فرسها لضيعة الياسمين في أحد أيام عام 1926 مستغيثة، تطلب العون بعد أن فقدت الزوج والولد إثر انهزام عبد الكريم الخطابي بعد تحالف الفرنسيين والأسبان عليه.فرّ أهل طامو وتمت مطاردتهم في المنطقة الأسبانية، وطامو نفسها جاءت الضيعة مرتدية زي المقاتلين تأمل ألا يردها الجد خائبة، فعقد الجد عليها الزواج مباشرة ليبرر وجودها في الضيعة، وكان عقداً صورياً، ثم زودها بشاحنتين معونة، عادت بأحدهما بعد أيام تحمل عليها جثث أبيها وزوجها وطفليها ولد وبنت.فقدت طامو النطق لشهور، ثم استقرت كزوجة للجد وتمتعت بحب الياسمين وزوجات أخريات.أضافت طامو الكثير بشخصيتها الحيوية وروحها المحاربة، فأحبتها الجدة وكونت معها تضامناً نسوياً، وكانت أول بادرة لهذا التضامن الذي تزامن مع بناء دار لطامو كطابق علوي في بيت الياسمين، أن زرعتا معاً شجرة موز محبة ليايا الزوجة السوداء، لتشعر أنها في بلادها.
تعكس هذه العلاقات بين زوجات الرجل الواحد في رأي نوعاً من الوعي النسوي الخاص بهذا الزمن في أماكن متفرقة من العالم ال، بمعنىفهؤلاء نسوة كانت أعلى طموحاتهن البقاء والمساواة في عدالة إجتماعية داخل بيت واحد، يتعاملن مع الرجل كونه امتدادا للأب لا كزوج وشريك حياة، ومن ثم يمكن أن يتخذ شكل التعامل اليومي بينهن طابعاً أخوياً، وتكون مسألة الشعور بالغيرة واردة لكنها كغيرة الأخوات من بعضهن، أما كون الرجل ضجيع المرأة فهذا لا يعني سوى أن المرأة تشارك جسد ضجيعها مع أخريات مع القناعة الكاملة بأنها لا تمتلك جسدها، فهي جزء من حريم.في حقيقة الأمر يظهر مفهوم الحريم كوجه ثان لعملة تقلبها على وجهها الآخر فتجد نوعاً من النسوة لا يمتلكن أجسادهن أيضا، بمعنى فقدان قيمة الجسد، هن العاهرات.
تشرح لنا المرنيسي كلمة الحريم التي تعود إلى لفظة "حرام" التي تتضاد مع" حلال"، والحريم هو المكان ومن فيه، المحرم على غير صاحبه، فقد يكون قصراً أو خيمة لا يهم، من فيه قد يكون زوجة أو زوجات الرجل، والأطفال والقريبات، مكان محمي له قانونه الخاص الذي سُن لمن فيه، لا يمكن لرجل أن يدخله دون إذن صاحبه أي الرجل المسيطر على الأمور، ليس لمن فيه القرار بمن يدخله أو لا.إذا جوهر الأمر في "الحريم" هو الملكية والقوانين التي تخضع إليها، حيث يمكن أن تؤدى طقوسها بدون حوائط، ومن هنا يأتي الحريم اللامرئي، هذا الحريم الموجود في الرؤوس، حتى مع انهداد حيطانه، وتستمر فصول الكتاب لتدعيم الفكرة وتقريبها للقارئ مع توثيق شهادة المرنيسي على حياة نساء عائلتها. لكن ما يعنينا هنا ارتداد رجال ونساء على السواء عن ما حققته البشرية من تقدم خلال القرن الفائت على مستوى الوعي الإنساني بالجسد والذات، خاصة على صعيد المرأة، و تهليلهم لعودة الحريم مرة أخرى، وتحقيقه في الرؤوس ربما تمهيداً لإرجاعه كاملاً في المكان أيضاً، مما يدفعنا للتساؤل...هل تركنا الحريم أبداً؟
#سوسن_بشير (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باشلار و سبعة وستون عاماً على ميلاد النار
-
طريق الحوار المتمدن نحو التمدن
-
فيلسوف المرآة
-
يحدث في بلادنا : يوم عالمي للفلسفة بلا فلسفة
-
ماريت تقول : مصر تقتل نفسها
-
جيفارا ....مقهى ومطعم
-
فرقت السلطات السعودية بين علي الدميني وأبيه....فهل لا تفرق ب
...
-
بَدَد الشيوعية العربية بين أثر مفتوح و تأويل ُمفرط
-
قدرألذوات العربية المتفردة وشعوبها بين التجميد و الإذابة:فرج
...
المزيد.....
-
لثاني مرة خلال 4 سنوات.. مصر تغلظ العقوبات على سرقة الكهرباء
...
-
خلافات تعصف بمحادثات -كوب 29-.. مسودة غامضة وفجوات تمويلية ت
...
-
# اسأل - اطرحوا أسئلتكم على -المستقبل الان-
-
بيستوريوس يمهد الطريق أمام شولتس للترشح لفترة ثانية
-
لندن.. صمت إزاء صواريخ ستورم شادو
-
واشنطن تعرب عن قلقها إزاء إطلاق روسيا صاروخا فرط صوتي ضد أوك
...
-
البنتاغون: واشنطن لم تغير نهجها إزاء نشر الأسلحة النووية بعد
...
-
ماذا نعرف عن الصاروخ الروسي الجديد -أوريشنيك-؟
-
الجزائر: توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال
-
المغرب: الحكومة تعلن تفعيل قانون العقوبات البديلة في غضون 5
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|