|
التحولات في الشارع العربي.. هي ستنحج في استعادة الذات والقطع مع الديمقراطية الكولونيالية؟
نصار إبراهيم
الحوار المتمدن-العدد: 3618 - 2012 / 1 / 25 - 19:28
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
من تونس كانت الشرارة التي أشعلت المجتمعات العربية، وفي مصر تجذرت الثورة، لحظة فارقة في تاريخ الشعوب العربية المعاصر، لقد فاجأ الشعب التونسي والمصري الجميع بسرعة ودينامية الثورة التي اكتسحت في أسابيع أنظمة حكم كانت تعتقد أنها خالدة، بل ومشغولة بترتيب احتفالات التوريث لأبنائها من بعدها. لقد فاجأت تونس ومصر العالم من أقصاه إلى أقصاه، ما جرى في هذين البلدين فاق كل التوقعات، لقد كانت أيام هزت العالم، زلزال عصف بكل تقارير وقراءات ومخططات أهم الوكالات الاستخبارية في العالم، من السي.آي. ايه، مرورا بالموساد الإسرائيلي، وصولا للمخابرات البريطانية والألمانية والفرنسية، وقبل كل ذلك أجهزة مخابرات أنظمة الحكم المخلوعة ذاتها بكل الهالة الإرهابية التي أحاطت نفسها بها على مدار عقود. ثورة تونس وثورة مصر خلطتا الأوراق، وغيرتا معادلات الواقع والمستقبل. عملية التغيير التي بدأتها تلك الثورات بكل أبعادها السياسية، الاجتماعية، الثقافية، الجيوسياسية لا تزال في ذروتها، كما أن هزاتها وتداعياتها الارتدادية تواصل انتشارها فتوقظ شعوب الأمة العربية من ليلها الطويل، فيما تهتز عروش الأنظمة الحاكمة من المحيط إلى الخليج؛ ليبيا، اليمن، البحرين، العراق.. إننا أمام يقظة جماعية هائلة، أمام الملايين التي تعيد اكتشاف ذاتها، تستعيد الثقة بنفسها، وتكتشف قوتها التي أسقطت في أقل من ثلاثة أسابيع أعتى أنظمة ومنظومات الرعب والقمع البوليسي والفساد، الأمر الذي زعزع أشد الأنظمة العربية الدكتاتورية البوليسية الحاكمة ثقة بذاتها، فراحت تترنح وتتخبط برعب، فسقطت أقنعة القوة المفتعلة، فإذا بها تنتقل من موقف التهديد والوعيد إلى موقف الاستجداء لمنحها الفرصة لترميم وإصلاح ما أفسدته طيلة عقود حكمها البائس. في سياق الحديث عن المفاجأة والصدمة التي أحدثتها ثورة تونس ومصر يجب التمييز بين مستويين من المفاجأة، الأول الذي يعني عدم توقع لحظة انفجار الثورة بالضبط، والنوع الثاني الذي يعني المفاجأة بسبب حدوث الثورة من حيث المبدأ، النوع الأول معقول ومقبول ، فلا أحد كان بمقدوره التأكيد أن الشهيد بوعزيزي سيقدم على إشعال نفسه يوم 17 كانون أول 2010 وبعدها ستشتعل النار في السهل التونسي، وبذات القدر لم يكن أحد يتوقع أن يوم 25 يناير 2011 سيكون يوم بدء الثورة في مصر، أو أن الشعب الليبي سيبدأ ثورته في 17 فبراير، هذا صحيح ومنطقي، وليس في هذا مشكلة، المشكلة عند أولئك الذين صعقتهم المفاجأة من قيام تلك الثورات من حيث المبدأ، الأمر الذي يؤشر إلى قصور معرفي وتحليلي استراتيجي فاضح تجاه قراءة الواقع العربي، وقراءة حركة تناقضاته الداخلية والخارجية المتراكمة والمتفاقمة، عجز وقصور ترسخ على مدار عقود انطلاقا من القناعة بأن حالة الاستنقاع والركود في المجتمعات والشعوب العربية هي من طبيعة الأشياء، وأن العقل العربي وبالتالي المجتمعات العربية هي خارج سياقات التاريخ والاجتماع، وأن ما بنته أنظمة القمع العربية الحاكمة من منظومات إخضاع وقهر أصبحت من نوع الظواهر الطبيعية، الأمر الذي أسقط أي توقع حول قدرة الشعب التونسي أو المصري على سبيل المثال في المبادرة إلى تحرك شعبي شامل بمنتهى القوة والإصرار والتنظيم والوضوح، وإسقاط أعتى الدكتاتوريات وأعتى الأنظمة البوليسية في غضون أسابيع. هذا النوع من المفاجآت هو نتاج القناعة المهيمنة في دوائر الاستخبارات الغربية والشرقية والداخلية، التي بنت تحليلاتها وتوقعاتها على بديهة أن سقف حركة الشعوب العربية محدود بسقف ما تتيحه أنظمة الحكم التي تمسك بزمام الأمور بكل قوة وجبروت، ولهذا لم يكن هناك داع للقلق أو الخوف، وبالتالي فإن أقصى ما ذهب إليه حلفاء تلك الأنظمة هو مطالبتها بنوع من التغيير الشكلي بما يحفظ استمرار الهيمنة والتبعية من جانب، ويمتص ردود الفعل الشعبية بيسر وسهولة من جانب آخر، وفي ذات الوقت مداعبة النزعة النرجسية عند الدول الغربية التي تقوم بحروبها وغزواتها كما هي علاقاتها ومساعداتها الاقتصادية والأمنية باسم الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، في هذا السياق يمكن فهم بعض الضغوط والمطالبات التي كانت تصدر بين وقت لآخر حول الإصلاح، الديمقراطية، حقوق الإنسان، لقد كانت نوعا من توجيهات الأستاذ لتلاميذه بهدف التهذيب وليس التغيير، بهدف استمرار النظام وليس دفاعا عن خيارات الشعوب الحقيقية والأصيلة وحقوقها الطبيعية في العدالة الاجتماعية والحرية وفك التبعية مع الدول الاستعمارية المعاصرة. من هنا بالضبط جاء هول المفاجأة والذهول وحالة الارتباك التي اتسمت بها ردود الفعل في العواصم الغربية، إنها تلهث الآن بكل قوتها في محاولة مستميتة لفهم ما يجري وهي ترى استراتيجياتها ورهاناتها الكبرى وترتيباتها على مدار عقود تتهاوى تحت وقع حركة الشارع العربي المندفع بكل عنفوانه وقوته مسلحا بعزيمة هائلة ووعي في منتهى الوضوح حول أهداف الثورة الاجتماعية والسياسية. في المقدمات: يخطئ في بديهيات التاريخ وحركة الأمم والشعوب من يقرأ ما جرى في تونس ومصر، أو ما يجري في اليمن ، البحرين، ليبيا، والعراق... وكأنه مجرد أحداث مقطوعة الجذور عن حركة التناقضات بتجلياتها وتفاعلاتها الداخلية والخارجية، وعن سياقاتها التاريخية، السياسية، الاجتماعية، الاقتصادية، والثقافية الكبرى التي تفعل وتتفاعل في أعماق المجتمعات العربية. ويخطئ في العمق أيضا من يرى أن ما جرى ويجري في العالم العربي وكأنه مجرد أحداث تتحرك في غفلة من التاريخ والجغرافيا، أو بسبب خطأ فني في تعامل الأنظمة المستبدة مع الأزمات التي تواجهها، أو بسبب إخفاق في التوقع، وبالتالي كان بالإمكان تلافيه ووقف تداعياته وارتداداته ومنع انتشاره وحماية ما تبقى من أنظمة الاستبداد والتبعية عبر تقديم بعض النصائح لها، أو إجبارها من قبل حلفائها في واشنطن وأوروبا على القيام ببعض التغييرات المسرحية باسم الإصلاح ومنح بعض الحريات في محاولات هي أقرب للانفعال ورد الفعل اليائس منها إلى العقلانية والمرونة الخلاقة لاستيعاب وقراءة ما يجري بصورة عميقة وجدية لاستخلاص الدروس الناتجة عن هذا الإخفاق الكبير الذي وجدت الأنظمة والدول الاستعمارية الغربية نفسها أمامه وجها لوجه. هذا النوع من المقاربات وردود الفعل يعكس فقرا مروعا في الوعي، كما يعكس نوعا من البلادة الإستراتيجية الذي تحاول إعادة مارد الشعب أو الشارع أو الجماهير العربية الثائرة إلى قمقم الخضوع والسيطرة بعد أن حطمته لألف قطعة. وبكلمة، يعبر التعامل مع ثورة الشعوب العربية انطلاقا من هذه المقاربات عن حالة من الإخفاق والفشل على أكثر من صعيد، دون التقليل من خطورة التدخلات الخارجية التي ستحاول التأثير في صيرورة التغيير بهدف احتوائه وإعادة توجيهه بما يخدم استمرار سياسات الهيمنة والسيطرة وتأبيد التبعية. إذن، فهم سياقات وأبعاد ما يجري بعمق يستدعي بالضرورة القطع مع المقاربات الميكانيكية اللحظية، الأمر الذي يعني تأصيل النقاش انطلاقا من رؤية ما يجري كثورات اجتماعية هي نتاج طبيعي ومنطقي للأزمات البنيوية التي وصلت إليها الحالة في المجتمعات العربية. تلك الأزمات البنيوية لم تتشكل صدفة، إنها تتحرك وفق المنطق الصارم الذي يحكم حركة التناقضات الاجتماعية، الاقتصادية، النفسية، وتجلياتها السياسية وسياقها التاريخي المحدد. لقد نضجت شروط الثورة عبر مخاض اجتماعي وتاريخي في منتهى التعقيد إلى أن وصلت في هذه اللحظة التاريخية إلى فقدان الأنظمة الحاكمة القدرة على الاستمرار في الحكم وفق الشروط السابقة بسبب تآكل وسائل سيطرتها سواء القمعية أو الاقتصادية أو الأيديولوجية، إلى جانب إخفاقها السياسي والاجتماعي المروع، هذا هو الشرط الأول للثورة. أما الشرط الثاني فهو وصول الجماهير أو الشعب إلى اللحظة التي لا يعود معها قادرا على الاستمرار في العيش ضمن الظروف القائمة مع الاستعداد للمبادرة إلى الفعل والنزول للشارع وأخذ زمام المبادرة بين يديه. معادلة الثورة هذه تتشكل عبر مسارات وكيمياء تاريخية متعرجة ومعقدة، تتداخل وتتفاعل فيها مجموعة واسعة من العوامل والدوافع الداخلية والخارجية، الموضوعية والذاتية، إنها تتشكل وتنضج في كثير من الأحيان بعيدا في أعماق المجتمع في إطار عملية تراكمية متواصلة تسير بدأب نحو لحظة الانفجار. دور الشباب وسياقات الثورة: أحد السمات الأساسية التي تتميز بها ثورة الشارع العربي الراهنة هو الدور المركزي والقيادي الذي احتله القطاع الشبابي فيها، هذا الدور يتعرض الآن لمحاولات حرفه وتشويهه من خلال تصويره وكأنه مجرد تمرد مقطوع الجذور عن المسائل السياسية والاجتماعية الكبرى، بمعنى أن حركة هؤلاء الشباب هي مجرد حركة عفوية تقف حدودها عند بعض الحريات الفردية إلى جانب وصف هذه الثورة الشاملة بأنها ثورة " الفيسبوك والتويتر"، وكأن هذه المنتديات الاجتماعية وغيرها هي السبب في الثورة ولولاها لما حدثت، هذه المحاولات تستهدف تشويه وتسطيح هذا الفعل الشعبي الإبداعي الشامل وفصله عن سياقاته وأبعاده العميقة. المقاربة الصحيحة والعميقة لدور الشباب العربي في هذه الثورة المستمرة يجب رؤيته في سياق القراءة الشاملة للدوافع والأهداف والسياقات التاريخية والاجتماعية لهذه الثورة، لقد بادر الشباب للحركة كتعبير عن الأزمات البنيوية المتراكمة في المجتمعات العربية، فملايين الشباب العربي لا يتحركون بعيدا عن واقعهم الاجتماعي وهموم شعوبهم الاجتماعية والسياسية، لقد برهن هؤلاء الشباب عن وعي عميق لذاتهم وانتمائهم القومي وهويتهم الحضارية والثقافية، كما عبروا عن وعي عميق لتاريخهم وكامتداد لكل ما هو جميل في هذه الأمة، لكل هذا كانت حركتهم جزءا عضويا من حركة الشارع بكل قطاعاته الاجتماعية، الرجال والنساء، العمال والفلاحين، الموظفين، المسلمين والمسيحيين، أيضا الطلاب والأكاديميين ورجال القانون، القوى السياسية والنخب الإعلامية والمثقفين. ولذا فإن ما يميز ثورات الشعوب العربية هو شموليتها ووضوح أهدافها وأيضا عدم قدرة أي قوى سياسية الادعاء بأنها هي التي تقود الثورة، من هنا أصالة ودور الشباب في عملية التغيير التي تؤسس في هذه الأيام لربيع الشعوب العربية القادم. بهذا المعنى يجب رؤية دور الشباب في عملية التغيير، ذلك الدور الذي يرتبط برفض هؤلاء الشباب لعملية تهميشهم وتشويه وعيهم عبر إغراقهم في الثقافة الاستهلاكية وتغريبهم عن واقعهم الاجتماعي وتشكيكهم بذاتهم وهويتهم وكرامتهم وانتمائهم القومي الذي حطمته الأنظمة الدكتاتورية عندما تعاملت مع الشعوب العربية بعقلية القطيع. وفي هذا السياق يأتي دور المنتديات الاجتماعية، إنها ليست صانعة الثورة بل هي وسيلة وأداة تم استخدامها بفعالية وحيوية في التواصل بين ملايين الشباب، إنها بصورة ما لعبت دور المنظِم، كما شكلت المساحة والفضاء لتعميق الحوار وبلورة الوعي وتشكيل الرأي العام، لقد استخدمت للتعويض عن احتكار وسائل الإعلام من قبل النظم الحاكمة وتخطي وسائل القمع. تحاول بعض القوى الداخلية والخارجية حصر الثورة في مصر وفي المجتمعات العربية في تمرد القطاع الشبابي، وكأنهم نبت شيطاني ليس لهم علاقة بماضي وواقع شعوبهم، يرافق هذا التصوير الهجوم المنظم على قوى المعارضة والقوى السياسية الكلاسيكية سواء كانت يسارية أو قومية أو دينية، وأيضا مهاجمة النخب الثقافية والإعلامية، هنا يمكن قول الكثير وتوجيه النقد العميق إلى تجربة وأداء تلك القوى والنخب الممتدة على مدار العقود الماضية، غير أن هذا شيء وإلغاء دورها بالكامل شيء آخر، فإذا كان النقد مطلوبا وضروريا لوعي الأدوار وتجديد الطاقات والبرامج واستراتيجيات العمل، فإن محاولة شطب التاريخ هو التفاف على الثورة بهدف حرفها عن سياقاتها وأهدافها ومطالبها الاجتماعية والسياسية. هذه المحاولات والمقاربات تعكس في العمق نظرة استشراقية في قراءة ثورة الشعوب العربية وفي القلب منها الشباب، وذلك بهدف الحط من أصالة هذه الثورة بأهدافها ودوافعها وصولا إلى إعادتها إلى سبب خارجي وتحديدا الفيسبوك! فلولا نعمة الغرب لما استيقظ الشباب ولما استيقظت الشعوب العربية. صحيح أن الشباب العربي في مصر وتونس وفي بقية المجتمعات العربية هم وقود الثورة ووجهها المتألق، وصحيح أيضا أن الأغلبية الساحقة في الشارع العربي الثائر ليس لها انتماء حزبي بالمعنى الضيق للكلمة، وصحيح أيضا أنه لا يجوز السماح باختطاف الثورة وتجييرها لحزب أو تيار سياسي محدد، غير أن محاولات بعض الدوائر تصوير هذا الشباب الثائر وكأنه لا يستند إلى تاريخ ومسارات طويلة من المقاومة والممانعة، هي محاولات تعكس الرغبة في فصل هذا الشباب عن هويته وأسئلته الأصيلة، محاولات تحاول الهبوط بالثورة إلى مجرد حركة هلامية فارغة من أي مضمون أو محتوى. الثورة التي يعيشها الشارع العربي وفي القلب منها الشباب، هي امتداد خلاق لمقاومات وتضحيات هائلة قدمتها الشعوب العربية على مدار عقود، إنها ثورة تحمل راية مئات الآلاف من الشهداء الذين قضوا في معتقلات الأنظمة العربية منذ بداية القرن الماضي وحتى اليوم، إنها وريثة كل المقاومات العربية التي ناضلت وقاتلت في كثير من المراحل في ظل ظروف يائسة، قاتلت على المستوى الداخلي كما جابهت قوى الاستعمار والهيمنة وأعطت نهرا من الدماء. عملية التراكم تلك هي التي حافظت على ذلك الوعي المتوهج الذي تجلى في ميدان التحرير وفي شوارع تونس، وبنغازي وتعز والمنامة...وفي جميع المدن والساحات العربية. ثورة الشعوب العربية في هذه الأيام هي الامتداد الخلاق للمقاومات العربية في مصر منذ عصر النهضة مرورا بالمرحلة الناصرية، إنها الامتداد لمقاومة الشيوعيين والعلمانيين والإسلاميين والقوميين على امتداد الوطن العربي، إنها الامتداد الطبيعي لمقاومة الشعب الفلسطيني الذي يخوض نضاله منذ عقود لا يكل ولا يمل في ظل تآمر الأنظمة العربية عليه، وهي أيضا وريثة المقاومة اللبنانية والعراقية، إنها حاملة راية المناضلين من كل الأطياف من المحيط إلى الخليج، هي الوريث الشرعي لحركات وشهداء الاستقلال والمقاومة الاجتماعية والنقابية والمطلبية ومقاومة مؤسسات المجتمع المدني والنقابات. وكل ذلك مدعوم بإرث ثقافي أصيل حملته نخب ثقافية وأدباء وأكاديميين وقانونيين وفنانين بقيت تقاوم حتى آخر لحظة ومنها من أعطى عمره بانتظار اللحظة الراهنة. لكل هذا احتفلت الشعوب العربية بانتصار الثورة في تونس والثورة في مصر باعتبارها ثورتها، لقد رقصت وبكت الشعوب فرحا وهي ترى مصر تعود إليها وهي تعود إلى مصر، لقد تمنى كل عربي أن يكون في ميدان التحرير ليقوم بدوره، ذلك لأن مصر تسكن في أعماقنا، ولأن ثلاثمائة مليون عربي يعرفون بأن الأمة العربية قد أهينت لأنه جرى تغييب مصر، لقد غابت الأم فشعر العرب باليتم وأخذوا يقاومون وينتظرون، ولم تخذل مصر ذاتها فعادت بهية كما كانت، فاستيقظ الأمل وعادت عجلة التاريخ إلى مسارها الطبيعي. سقوط الشرعيات الطارئة: في هذا السياق التاريخي والسياسي يأتي أحد تجليات أزمة النظام العربي الذي شكل أحد عوامل الثورة ألا وهو سقوط الشرعيات الطارئة للأنظمة الاستبدادية العربية: - سقوط الشرعيات التي بنيت بالاستناد إلى الدور الذي حددته قوى الاستعمار والهيمنة لعدد من أنظمة الحكم العربية، وخاصة بعد تقسيم المشرق العربي وفق اتفاقية سايكس – بيكو بين فرنسا وبريطانيا عام 1916، تلك "الشرعيات" التي استمرت تحت حماية القوى الاستعمارية. - تآكل الشرعيات التي ترتبت على حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية وإنهاء الاستعمار المباشر، حيث عادت الدول الاستعمارية والتفت على الاستقلال الذي كان في كثير من الأحيان شكليا، الأمر الذي أبقى الأزمة قائمة، فبقيت الشعوب العربية تابعة وخاضعة للسيطرة والنهب الاستعماري، الأمر الذي أفقد أنظمة الحكم العربية شرعيتها الشعبية الحقيقية. يؤكد هذه الحقيقة أستاذ تاريخ الشرق الأوسط في جامعة تورونتو، كندا د. يانس هانسن بقوله: الخبراء والسياسيون الغربيون يزعمون أنّ المصريين، مثل جميع العرب، ليس عندهم تقليد ديمقراطي، وبحاجة إلى رجل كبير يحكمهم. فكرة أنّ العرب غير صالحين لتقرير مصيرهم بأنفسهم تعود إلى أصول نظام الدولة العربي بعد الحرب العالمية الأولى. في ذلك الوقت، صُرف النظر عن الطموحات العربية بالاستقلال في أعقاب انهيار الإمبراطورية العثمانية، من جانب الإمبرياليين البريطانيين والفرنسيين، وتخلى الرئيس الأميركي ودرو ويلسون عن هذه الطموحات على نحو رخيص (جريدة الأخبار اللبنانية، العدد ١٣٤١ الخميس ١٧ شباط ٢٠١١). - تآكل الشرعيات التي استندت إلى الانقلابات التي قام بها الضباط الأحرار كما في مصر وليبيا... حيث تراجعت تلك الشرعيات تحت وطأة الإخفاقات والفشل المتراكم سواء على صعيد مواجهة المتطلبات الاقتصادية والاجتماعية والحريات والديمقراطية أو على صعيد حماية مصالح الشعوب في مواجهة التحديات الخارجية، وأكبر نموذج لذلك فشلها في مواجهة المشروع الصهيوني الذي احتل قلب العالم العربي. - سقوط شرعية الانتخابات المزيفة " ديمقراطية أل 99.9%"، بعد أن استنفذت شرعيات التبعية المباشرة ، وشرعية حركات الاستقلال من الاستعمار، والانقلابات العسكرية وظيفتها جرى استبدالها بشرعية تقوم على تنظيم انتخابات شكلية لتأمين الغطاء الشعبي وفق نصوص دساتير الدول العربية، ولهذا كانت الأنظمة الحاكمة تنظم بين وقت وآخر انتخابات أو استفتاءات شاملة لتأكيد شرعيتها الشعبية والدستورية، وفي ذات السياق كانت تسمح بنشوء بعض المعارضات الملتزمة بسياسات وسقف النظام الحاكم، أما المعارضة الجذرية فجرى تحييدها بالحديد والنار والاغتيال والتدمير الشامل من خلال أجهزة القمع التي أنشأتها تلك الأنظمة بدعم وتدريب من الدول الاستعمارية الغربية. في ساق هذه الدينامية تبلورت ونشأت ثقافة الهزيمة والتسليم بالأمر الواقع من قبل معظم أنظمة الحكم العربية انطلاقا من أن الواقع العربي محكوم موضوعيا بموازين القوى الإقليمية والعالمية وبأن 99% من أوراق الحل للمشاكل التي يعاني منها الوطن العربي هي في يد الولايات المتحدة وإسرائيل، وعليه لا خيار أمام العرب سوى الرضوخ والقبول بما ترسمه وتقرره قوى الهيمنة الغربية. ترتب على هذه الثقافة تنازل الأنظمة الحاكمة عن الأدوار القومية للدول العربية وجعل ثروات الأمة ومصالحها نهبا للدول الخارجية. جدل السياسي والاجتماعي في الواقع العربي: ثورة الشارع العربي في أحد أهم أبعادها ومضامينها تعكس الوعي العميق للشعوب العربية لإشكالية العلاقة ما بين الدوافع السياسية والدوافع الاجتماعية للثورة، فأنظمة الحكم العربية أخفقت إخفاقا هائلا على الصعيدين السياسي والاجتماعي، الأمر الذي راكم وعلى مدار عقود حالة من القهر والغضب في أعماق الشعوب العربية وهي ترى ذاتها مهمشة سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى مكانتها ودورها الإقليمي والدولي. ساعد في تكريس هذه المعادلة الأداء السياسي الخارجي، الذي عبر عن نفسه بتحالف أنظمة الحكم مع الدول الاستعمارية الخارجية عبر قبول أنظمة الحكم العربية بلعب دور الأداة خدمة لمشاريع الهيمنة السياسية الغربية في المنطقة ونهب ثروات الشعوب العربية، وعبر هذا الاحتضان والتحالف أمنت تلك الأنظمة صمت تلك الدول عن الممارسات القمعية لتلك الأنظمة ضد شعوبها، بل وساعدتها على استباحة البلدان العربية واحتلالها، ومن أبرز الأمثلة على هذا الصعيد تواطؤ تلك الأنظمة مع الاحتلال الإسرائيلي وترك الشعب الفلسطيني وحيدا في مجابهة بطش وحروب إسرائيل المتواصلة التي كان آخرها الحرب على غزة عام 2008 ورفضها الاعتراف بالحد الأدنى من الحقوق الوطنية الفلسطينية، ثم احتلال جنوب لبنان وبيروت عام 1982 والحرب التدميرية عام 2006 وأخيرا احتلال وتدمير العراق. هذا البعد السياسي بشقيه الداخلي والخارجي تقاطع مع سياسة اجتماعية واقتصادية مدمرة تمثلت في استشراء الفساد والمحسوبية والرشوة وتغذية ثقافة الأنانية والعشائرية والطائفية وتمزيق النسيج الاجتماعي وإهدار الكرامة الفردية والقومية، وسحق مفهوم المواطنة والحرية والمجتمع المدني، ترافق ذلك مع سياسة اقتصادية تقوم على إغراق الدولة في الديون الخارجية وربطها بسياسات وشروط البنك الدولي وصندوق النقد الدولي التي سحقت القطاعات الشعبية الفقيرة والطبقة الوسطى، إلى جانب وخصخصة القطاع العام وتبديد ممتلكات وأراضي الدولة، الأمر الذي أدى إلى تحول الفقر والبطالة وخاصة في أوساط الشباب وخريجي الجامعات إلى بنية سائدة، ومع مرور الوقت تعمقت منظومات الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية حتى غدت ملازمة للمجتمعات العربية فتهاوت تحت وطأتها كل وعود الإصلاح والتغيير ومشاريع التنمية التي أطلقتها الأنظمة العربية لاحتواء الغضب الشعبي، لقد وصلت التناقضات إلى مداها الأقصى ولم يعد هناك ما يمكن فعله لتبرير الإخفاقات المتراكمة لأنظمة الحكم على كل المستويات. الإخفاق الكبير وانهيار منظومة الخداع و"تفكيك الديمقراطية الكولونيالية": من أعظم وأجمل نتائج ثورة الشارع العربي في مصر وتونس وليبيا واليمن... أنها كشفت وكنست في أيام معظم الأوهام والظواهر التي اشتغلت على تكريسها الدوائر الغربية على مدار عقود طويلة؛ لقد ظهّرت وأظهرت ثورة الشعب أفضل وأجمل ما في أعماق هذه الأمة من ثقافة وقيم، إرادة، حضارة، تنظيم، الوعي الجمعي تجاه ممتلكات وثروات الوطن، الوحدة والتكاتف الاجتماعي، وهو ما عبرت عنه بصورة تثير الاعتزاز الدروع البشرية التي شكلها شباب مصر لحماية المتحف الوطني من هجمات "بلطجية" النظام وتشكيل لجان المقاومة الشعبية لحماية الممتلكات العامة والخاصة وتنظيم السير... لقد تهاوت أمام هذا السلوك الجماعي الراقي كل الأكاذيب حول الطائفية والعنف الداخلي، سقطت الثقافة الفاسدة التي حاول النظام الترويج لها ونشرها يساعده في ذلك، وبكل الوسائل، حلفاؤه في الحكومات الغربية الذين استغلوا تفجير كنيسة الإسكندرية ليشعلوا نيران الفتنة الداخلية ويمزقوا وحدة وتماسك الشعب المصري وبأن المسيحيين في مصر وفي الشرق عامة يتعرضون للقهر والعنف، ليتبين لاحقا أن هذه الجريمة هي من فعل النظام. المظاهرات المليونية في المدن والمحافظات المصرية أسقطت بضربة واحدة هذه الأكاذيب، فالشعب بمسلميه ومسيحييه، بكل أطيافه الاجتماعية والسياسية والثقافية خرج يهتف لمصر، وحدة مصر، كرامة مصر وعروبة مصر، لقد توحد الشعب المصري على أهداف وطنية واجتماعية واضحة. وذات المشهد يتكرر في شوارع وميادين تونس وليبيا واليمن. وفي ذات السياق تهاوت فزاعة الإسلام السياسي، والتطرف الديني التي روج لها الإعلام الغربي، والتي كانت أحد ركائز ما يسمى الحرب على الإرهاب، وأحد ركائز ترويع المجتمعات الغربية ونشر ثقافة الخوف من المجتمعات الإسلامية باعتبارها النقيض للمجتمعات الديمقراطية، وبالتالي حشد الرأي العام في المجتمعات الغربية، الذي جرى تنميطه وسلبه العقلانية، وراء سياسات واستراتيجيات الحروب المروعة التي تشعلها الدول الغربية في المنطقة، كما شكل أحد الركائز لتبرير دعم الأنظمة الدكتاتورية التي يجري تصنيفها سياسيا بأنها معتدلة وحليفة أو صديقة للولايات المتحدة، في الوقت الذي تمارس فيه أكثر أساليب القمع وحشية وخسة ضد شعوبها، بحيث حولت الأوطان إلى مزارع نهب والشعوب إلى متسولين عند أبواب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بعد نشر الخراب والفساد ونهب ثروات المجتمع الطبيعية وخصخصة المرافق العامة. لقد أسقطت ثورة الشعوب العربية العملاقة سياسات التبعية، وفي سياق هذا السقوط تلقت سياسة الهيمنة الغربية ضربة هائلة في الرأس مباشرة. لقد أظهرت ثورة مصر جوهر البنية الاجتماعية والسياسية الحقيقية للشعب المصري، فسقطت في أيام الخرافة التي رسختها الولايات المتحدة وحلفاؤها وخاصة إسرائيل في الوعي العالمي بأن التغيير في حال سقوط نظام حسني مبارك سيكون نحو التطرف والظلامية وأن مصر ستصبح دولة إسلامية سلفية منغلقة وإرهابية على المستويين الخارجي والداخلي، دولة قمعية بالمعنى السياسي والاجتماعي. الشعب المصري عبر ثورته الرائعة صاغ رؤيته الأصيلة للتحول الديمقراطي بأبهى تجلياته الاجتماعية والسياسية حين التف حول أهداف الثورة التي جرى تكثيفها في: - إسقاط نظام القهر الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأمني؛ - الانتقال السلمي نحو نظام ديمقراطي حقيقي ممثل لكل مكونات الشعب المصري السياسية والاجتماعية؛ - الحرية والعدالة الاجتماعية على كل المستويات؛ هذه المطالب التي التف حولها ملايين المصريين كما هتف لها ملايين التونسيين والليبيين وغيرهم من ملايين العرب أسقطت المقاربات السطحية التي حاولت حجز التطور والتغيير الاجتماعي من خلال تخويف العالم من خطر التطرف الديني، لقد أظهرت هذه الثورات أن حركة الإخوان المسلمين هي حركة سياسية مثلها مثل غيرها من القوى السياسية، والأهم أن غالبية الشعوب العربية هي مع نظام ديمقراطي كامل كمبدأ ناظم من المبادئ التي أفرزتها الشرعية الثورية، وأن مصر لن تكون إلا ديمقراطية وحرة وتعددية، وبالتالي فإن أي قوة سياسية، بما في ذلك القوى الإسلامية ليس بمقدورها منذ اليوم تجاوز هذا الخط الأحمر، وعليها الالتزام وبصورة نهائية بقيم الديمقراطية. إذن، ثورة مصر كأهم حدث في سياق التحولات الجارية، بقدر ما هي تعبير أصيل عن التحول الديمقراطي سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا، فإنها في ذات الوقت وجهت ضربة إستراتيجية مفاجئة لمشاريع الهيمنة التي استهدفت إبقاء مصر دولة تابعة وخاضعة وفاقدة لكرامتها وهويتها وانتمائها وفوق كل ذلك لدورها العربي – الإقليمي- والعالمي. بهذا المعنى تعتبر ثورة الشعوب العربية في هذه المرحلة لحظة تحول تاريخي - اجتماعي فاصلة، إنها بداية عصر جديد بكل أبعاده، فالعالم العربي بعد ثورة تونس ومصر لن يكون هو ذاته ما قبلهما، إننا أمام تحولات إستراتيجية ستشمل مختلف جوانب الواقع العربي وبالتدريج ستتم إعادة صياغة معادلات هذا الواقع وفق الحقائق التي ترتبت وستترتب على هذه الثورات ارتباطا بمقدماتها، دوافعها وأهدافها. هذه التحولات العميقة ستعني سقوط إستراتيجيات وبناء إستراتيجيات جديدة، فعلى المستوى الداخلي تعتبر هذه الثورات ولأول مرة في التاريخ العربي المعاصر ثورات ديمقراطية شاملة وأصيلة وليس لها علاقة بأجندات الدول الاستعمارية، بالتأكيد ستواجه صعوبات وتحديات وتدخلات بهدف السيطرة عليها واحتوائها، لكنها في كل الأحوال لن تحيد عن هدفها الأساسي الذي قدمت من أجله التضحيات الكبرى، ذلك الهدف الذي يتكثف في تحقيق الديمقراطية القائمة على التعددية والحريات السياسية والاجتماعية وحرية التعبير واحترام حقوق الإنسان وتداول السلطة سلميا وفصل السلطات واستقلالية القضاء وبناء الدولة وفق دستور عصري، وعلى الصعيد الاجتماعي تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد والبطالة والفقر وتكريس مفهوم المواطنة والمجتمع المدني، وعلى صعيد السياسة الخارجية رفض التبعية واستعادة الكرامة الوطنية والحفاظ على الحقوق والهوية القومية واستعادة دور الشعوب العربية وحماية ثرواتها القومية والتصدي للتدخلات والإملاءات الخارجية، ومجابهة التحديات التي يشكلها الاحتلال الإسرائيلي في المنطقة. د. هانسن يؤكد على هذا التحول وهذا البعد قائلا: إنّ مستقبل عالم عربي متجدد، جامع وديموقراطي، يحدّده ملايين من المتظاهرين المناصرين للديموقراطية في مصر، الذين يحطمون النظام العنفي لما بعد الحرب الباردة، ويعيدون تعريف الثقافة السياسة للعالم الثالث. المصريون الذين يدافعون عن ميدان التحرير في القاهرة يغرسون شعوراً كبيراً بالعزة القومية في العالم العربي، من الرباط إلى بغداد، ومن اليمن الى سوريا. وعاجلاً أم آجلاً سوف يؤدي هذا الى سقوط مزيد من الأنظمة التسلطية في المنطقة...العاصفة السياسية التي اندلعت في تونس ومصر كانت سريعة ومفاجئة لدرجة يصعب إدراجها ضمن المخططات وسيناريوهات الجهود الأميركية والدولية للدمقرطة، كما حصل في أوكرانيا، لبنان أو إيران، وإذ تزداد هذه العاصفة قوّة، فإنّها تفضح زيف الادعاء بأنّ توسيع نطاق الحرية يعني بالضرورة قبول الهيمنة الغربية. في الواقع، إنّها تشي بأنّ الأنظمة الاستبدادية العربية تسند (وتستند بطريقة حيوية إلى) الديموقراطيات الليبرالية في الغرب باسم الاستقرار وثالوثه السافر: النفط، إسرائيل، والإسلاموفوبيا. خلال هذه اللحظة العظيمة للإنسانية المشتركة، يعطي ما جرى في القاهرة بعداً أكثر عالمية من مجرد رحيل مبارك. هي ليست أقل من دعوة إلى تفكيك البعد الكولونيالي للديمقراطية (مصدر سابق). لقد كشف الأداء السياسي وردود فعل الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي تجاه ثورة الشعب المصري وقبله التونسي ولاحقا ثورة الشعب الليبي عن طبيعة مواقف تلك الدول، تلك المواقف التي اتسمت بالنفاق والانتظار على أمل أن تتمكن الأنظمة الدكتاتورية العربية من وأد الثورة والقضاء عليها، ولعل التردد والحفاظ على الجسور وعدم اتخاذ موقف حاسم من المجازر التي يرتكبها القذافي في ليبيا هو مؤشر صارخ على الدوافع التي تتحكم بالممارسة السياسية للدول الغربية التي لا يهمها من كل ما يجري سوى تأمين تدفق البترول والحفاظ على مصالحها والحفاظ على أمن إسرائيل. هذه الحقيقة تؤشر إلى المحاولات المحمومة التي تبذلها الدول الكولونيالية، التي تعيش حالة من الإرباك والذهول وهي تشاهد إخفاقها الكبير في الشرق الأوسط، لضبط إيقاع عملية التغيير الجارية وترميم استراتيجياتها بالاستناد لمعطيات الواقع الجديد، بما في ذلك تقديم نفسها باعتبارها حاضنة التغيير وبأن ما يجري هو في سياق سياساتها الداعية للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وستبدي أيضا استعدادها لتقديم الدعم الاقتصادي والسياسي لتعزيز عملية الإصلاح، ستقدم تلك الدول الكولونيالية نفسها من جديد باعتبارها الأستاذ الذي يعرض خدماته لتعليم الشعوب العربية وغيرها كيف تكون الديمقراطية وحقوق الإنسان.. فعلى ما يبدو أن تلك الدول لم تتعلم درس التاريخ بعد، وبأن عليها أن تجلس الآن بكل هدوء وأن تتعلم كيف تتعلم من تجارب وإبداعات الشعوب الأخرى، فالشعوب العربية تقدم اليوم تجربتها الديمقراطية الأصيلة، وفي ذات الوقت تملك ذاكرة هائلة بشأن السياسات المروعة التي مارستها تلك الدول منذ الحرب العالمية الأولى وحتى الآن، كما اختبرت أيضا حقيقة الديمقراطية والإصلاح التي نادت بها تلك الدول بما في ذلك دعم واحتضان النظم الدكتاتورية العربية ودعمها بالمال والسلاح وتدريب أجهزة القمع العربية لمواجهة كل من يفكر بالخروج على سياسات الهيمنة الاستعمارية. في ضوء هذا الواقع فإن آفاق وأسس التغيير في الواقع العربي وتحقيق أهداف الثورة سترتبط وبصورة كبيرة بالقدرة على الاستمرار والتجذر، فالتغيير الاجتماعي ليس عملية ميكانيكية، حيث من السهل أن تبدأ الثورة الاجتماعية ولكن الأهم تأمين شروط استمرارها، وفي سياق هذه العملية تجري عملية تعميق وصقل الخبرة والتجربة والتصدي لقوى الثورة المضادة التي لن تستسلم بسهولة حيث ستحاول باستمرار الالتفاف على الثورة وركوبها للسيطرة عليها وفي النهاية اختطافها. كل هذه الأبعاد تستدعي ضرورة القطع مع المفهوم الكولونيالي للديمقراطية كوسيلة وآلية لخدمة مصالح ومشاريع الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية الاستعمارية على المنطقة، أي الديمقراطية الكولونيالية التي شكلت الأساس في احتضان ودعم الدول الغربية لمعظم الدكتاتوريات في العالم العربي، ولعلها ظاهرة بالغة الدلالة أن تصدح في ميدان التحرير في القاهرة وفي كل المظاهرات المليونية أغاني الخمسينات لأم كلثوم وعبد الحليم حافظ والشيخ إمام، تلك الأغاني التي تعكس الانتماء العربي والحرية والاستقلال، ولعله أيضا كثيف الدلالة أن ترفع في ميدان التحرير صورة الزعيم القومي جمال عبد الناصر، وأن يرفع الشعب الليبي علم ليبيا بعد الاستقلال من الاستعمار الإيطالي عام 1951 بدل العلم الأخضر الذي فرضه نظام القذافي عام 1969 تناغما مع كتابه الشهير " الكتاب الأخضر" إلى جانب صور الرمز الأسطوري في النضال ضد الاستعمار عمر المختار واستذكار كلماته وهو يصعد درجات منصة الإعدام: نحن شعب لا يستسلم، فإما الموت وإما النصر. منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في أوروبا والعالم: في ضوء الإخفاق الكبير لاستراتيجية الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط ، الإخفاق في فرض الديمقراطية الكولونيالية، والإخفاق في تحقيق التنمية والإخفاق في تحقيق السلام وإنهاء الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، والإخفاق في حماية حقوق الإنسان، في ضوء كل ذلك وسواه، على منظمات المجتمع المدني في أوروبا والعالم أن تعيد تقييم سياساتها وبرامجها التي كانت تندرج في كثير من الأحيان في سياق استراتيجيات الدول، إن أمامها فرصة توفرها الآن الثورة العربية لكي تتخطى تلك المؤسسات والمنظمات السقف الذي تعودت العمل تحته والانتقال بصورة واضحة نحو التقاطع مع المطالب والأهداف السياسية والاجتماعية والقومية الحقيقية التي رفعتها الشعوب الثائرة على أنظمة الحكم الدكتاتورية الحليفة للدول الكولونيالية على مدار عقود. فالديمقراطية وحقوق الإنسان تتخطى الآن وبصورة حاسمة إملاءات تلك الدول ومخططاتها ومصالحها ومشاريعها السياسية للهيمنة، حيث تقدم الشعوب العربية الآن رؤيتها وطبعتها الأصيلة للتحول الديمقراطي، كما أن سؤال التنمية يتخطى الآن إطار واشتراطات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي باتجاه تنمية أساسها أولويات ومصالح الشعوب العربية وحماية ثرواتها الطبيعية من النهب وتلبية احتياجات أوسع القطاعات الشعبية العربية وخاصة قطاع الشباب، وبناء العلاقات مع الشعوب الأخرى وفق مبدأ الاحترام والتكافؤ. في ضوء كل هذه التحولات والحقائق فإن عصرا جديدا يبدأ، مما يعني ضرورة مغادرة كل الرهانات التي أثبتت عجزها وإخفاقها في تكريس تبعية الشعوب لدول المركز الكولونيالية، كما يجب التحلي بالجرأة والعمق للقطع مع السياسة الفاشلة التي حاولت ولا تزال فرض السلام على الشعب الفلسطيني وفق الشروط الإسرائيلية، لقد انتهت اللعبة، فالشعوب العربية التي صبرت وتحملت وأهينت كثيرا لن تقبل بعد الآن العبث بحقوقها ووعيها وتاريخها وكرامتها، وبالتالي فمن يود المساعدة عليه أن يعيد بناء مقارباته وتفكيره بعيدا عن السياسات والشروط ومشاريع الهيمنة المرتبطة بأولويات وأهداف ومصالح الدول الكولونيالية.
#نصار_إبراهيم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سورية: الصراع على المستقبل
المزيد.....
-
مقتل نحو 30 شخصا بحادث -مروع- بين حافلة ركاب وشاحنة في البرا
...
-
السفارة الروسية في البرتغال: السفارة البرتغالية في كييف تضرر
...
-
النرويج تشدد الإجراءات الأمنية بعد هجوم ماغديبورغ
-
مصر.. السيسي يكشف حجم الأموال التي تحتاج الدولة في السنة إلى
...
-
رئيس الوزراء الإسباني يجدد دعوته للاعتراف بدولة فلسطين
-
-كتائب القسام- تنشر فيديو يجمع هنية والسنوار والعاروري
-
السلطات في شرق ليبيا تدعو لإخلاء المنازل القريبة من مجاري ال
...
-
علامة غير عادية لأمراض القلب والأوعية الدموية
-
دراسة جديدة تظهر قدرة الحليب الخام على نقل فيروسات الإنفلونز
...
-
هجوم أوكراني بالمسيرات يستهدف مقاطعة أوريول الروسية
المزيد.....
-
لبنان: أزمة غذاء في ظل الحرب والاستغلال الرأسمالي
/ غسان مكارم
-
إرادة الشعوب ستسقط مشروع الشرق الأوسط الجديد الصهيو- أمريكي-
...
/ محمد حسن خليل
-
المجلد العشرون - دراسات ومقالات- منشورة بين عامي 2023 و 2024
/ غازي الصوراني
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
المزيد.....
|