|
لا يموت الذئب .. ولا تفنى الغنم !
سعد هجرس
الحوار المتمدن-العدد: 1069 - 2005 / 1 / 5 - 07:46
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
"السياسة" .. كعلم وفن .. أهينت فى العالم العربى ، فى السنوات الأخيرة بصورة لم تتعرض لها فى أى مكان آخر على ظهر الأرض فى كل العصور، بحيث لم تعد هناك حاجة للبرهنة على إساءة استخدام النخب الحاكمة العربية لها ، ربما بصورة أكثر انحطاطاً حتى من الصورة التى عايشها الإمام محمد عبده، وجعلته – وهو رجل الدين الوقور – يستشيط غضباً ويخرج عن وقاره ويسب ويلعن كلمة "السياسة" وفعل "ساس" و "يسوس" وكل ما يمت لها بصلة. والسبب أنها تحولت فى بلاط الحكم العربى إلى دسائس ومؤامرات وصفقات قذرة وتصفية حسابات شخصية ومساومات لا مبدئية، حتى أصبحت فى المخيلة الشعبية مرادفة للانتهازية والانحطاط الاخلاقى ولعبة الثلاث ورقات واللعب بالبيضة والحجر. ومع تدهور السياسة واختزالها بدهاليز الحكم العربية فى فرمانات وإجراءات أمنية وتسلطية فى الداخل وتنازلات ومساومات هزيلة مع القوى الأجنبية فى الخارج، ومع مسخ شخصية الساسة وتحول "رجل الدولة" إلى بهلوان فى كثير من الأحيان ، تدهور "الخطاب السياسى " بما فى ذلك لغته ذاتها. حتى ألفاظ اللغة تعرضت للبهدلة والمسخرة وفقدت معناها الاصلى المتعارف عليه منذ قرون. خذ كلمة "السلام" – مثلاً – وانظر إلى ابتذال معناها الأصلى منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1978 حتى الآن، فعندما أصبح المواطن العربى يسمعها سرعان ما تقفز إلى ذهنه معان كثيرة ومتعددة لكن ليس من بينها معناها الاصلى الذى كان أملاً وملاذاً وبلسماً لروح أى انسان محب للحياة. والمفردات التى تعرضت لهذا المصير الأسود كثيرة ، وهناك دراسة رائعة للمفكر الأمريكى ناعوم تشومسكى تتناول العشرات من هذه المفردات التعيسة وتتتبع التشوهات التى تعرضت لها بفعل السياسة الأمريكية الامبراطورية وذيولها، بما فى ذلك كلمات "الديموقراطية" و "الأصولية" و "حقوق الانسان" و "الحرية" و "الراديكالية" و "الليبرالية" و.. حتى "إعادة الانتشار". ومن بين هذه المفردات التى تعرضت لاساءة الاستخدام مؤخراً، كلمة "الاصلاح" .. فهى قد أصبحت تتردد على كل لسان ويتشدق بها الجميع ويحتمى وراءها الكل، حتى لم يعد المواطن المسكين يعرف ما الذى ينبغى إصلاحه ، ومن الذى يجب أن يقوم بدور المصلح ، ومن الذى يجب استبعاده كى يتحقق الاصلاح المنشود! ناهيك طبعا عن تلك الخناقة العبثية بين أنصار الاصلاح من الداخل – الذى لا يأتى ابداً – وأنصار الاصلاح من الخارج – الذى يستهدف أى شئ سوى الاصلاح الحقيقى. فى ظل هذه الفوضى العارمة – بما فيها الفوضى اللغوية – نرى مثلاً الطبعة السودانية من "الاصلاح"، حيث تم توقيع اتفاق سلام بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان بعد مفاوضات ماراثونية تحت رعاية وضغط وترهيب وترغيب "ماما أمريكا". ولا أريد أن أدخل فى تفاصيل هذا الاتفاق ، ولا أريد أيضاً أن أتحدث عن أى توقعات حول مستقبله. أريد فقط أن ألفت النظر إلى أن من قام بالتوقيع على هذا الاتفاق هم أنفسهم الذين أججوا نيران الصراع بين شمال السودان وجنوبه ، وبالتالى فانهم هم المسئولون مسئولية مباشرة عن مصرع مليون ونصف مليون نسمة قضوا نحبهم فى أتون هذه الحرب الأهلية المجنونة، كما أنهم هم المسئولون عن تشريد اكثر من أربعة ملايين آخرين هاموا على وجوههم هرباً من هذا الجحيم. فكيف يمكن لـ "زعماء" يحملون فى رقابهم دماء هذه الملايين وعذاباتها أن يكونوا "الأمناء" على التطبيق النزيه لاتفاق سلام ؟! المنطق يقول ان أحد "الزعيمين" يتحمل بالضرورة مسئولية هذا الوضع الكارثى الذى حصد أرواح هذه الملايين، وفرض المجاعة على ملايين أكثر فى شمال وجنوب السودان. وبالتالى فان هذا الطرف لابد أن يستبعد من المعادلة الجديدة ، بل وان يدفع الثمن عن الجرائم التى اقترفها ، لا ان يستمر بكل براءة ، وتسند إليه مسئولية إعادة بناء الثقة بين أبناء الشعب المنكوب بزعاماته. وفى أسوأ الحالات .. يكون الزعيمان مشتركان فى تحمل المسئولية عن كارثة الحرب الأهلية ، ويجب أن يتم استبعادهما معاً من إدارة المستقبل. لكن شيئاً من ذلك لم يحدث .. فالرئيس عمر البشير الذى كان يكيل الشتائم بالأمس القريب للدكتور جون قرنق زعيم "المتمردين" ، ويتهمه بـ "الخيانة العظمى"، ويجند الشباب – بل والأطفال – للانضمام إلى القوات التى تحارب الحركة الشعبية لتحرير السودان، ويعدهم بدخول الجنة اذا "استشهدوا" فى ساحة القتال .. هو نفسه الذى يصافح قرنق ويعانقه .. وكأن شيئاً لم يكن! ولا يحتكر البشير هذه الحالة العجيبة .. بل يشاطره إياها كل الزعماء السودانيين التقليديين ، الذين يجثمون على صدر الشعب السودانى منذ الاستقلال عام 1956، وكأن هذا الشعب العربى الجميل لا يستطيع أن يعيش بدونهم، رغم أنهم – على اختلاف اتجاهاتهم – قد خذلوه وخانوا حقه فى التنمية الانسانية الشاملة والحرية والديموقراطية والمواطنة والتحديث، وفشلوا حتى فى الحفاظ على وحدة الوطن. كل هذه الزعامات التقليدية التى عاصرت كل أزمات ونكبات الشعب السودانى منذ الاستقلال حتى الآن مازالت ملتصقة بكراسيها وتتساند وظيفياً وتوزع الأدوار فيما بينها مقتسمة كعكة الحكم ومعارضته .. دون اتاحة فرصة ضئيلة للقوى الحديثة والدماء الجديدة والأفكار الجديدة التى لا معنى لأى حديث عن الاصلاح دون رفع العقبات التى تعترض سبيلها ، ودون كسر اقفال الحديد الموضوعة على افواهها وعلى حركاتها وسكناتها. ولا ينطبق هذا على السودان فقط ، وإنما يشمل كل البلاد العربية بلا استثناء ، حيث أولئك الذين يفترض أن يكنسهم تيار الاصلاح هم أنفسهم الذين يتصدرون المنتديات التى تتشدق بالاصلاح. والأسوأ .. أن هذه ليست عادة عربية حديثة ، بل إنها قديمة وجذورها راسخة للأسف الشديد. والمثل الذى نتذكره منذ ستينات القرن الماضى هو ان العالم العربى هو الذى "اخترع" نموذج اقامة اشتراكية بدون اشتراكيين ، بل فى نفس الوقت الذى يضع فيه الاشتراكيين فى غياهب السجون. كما انه هو نفس العالم الذى اخترع نموذج اقامة رأسمالية بدون رأسماليين . حيث كانت البيروقراطية العتيدة حاضرة وجاهزة دوما للقيام بالمطلوب مع تعاقب العصور وتقلب الدول، فوضعوا أقنعة الاشتراكية عند اللزوم، وسبحوا بحمد السوق الحرة وقوانين العرض والطلب ومآثر الخصخصة عندما رفعت الدولة شعار الانفتاح. وهكذا يبقى الحال على ما هو عليه .. وعلى المتضرر أن يشرب من ماء البحر!
#سعد_هجرس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حرب عالمية ضد إرهاب الطبيعة
-
إعادة انتخاب بوش أخطر من انفلاق المحيط الهندى
-
!الأعمى الإنجليزى .. والمبصرون العرب
-
الإعلام.. قاطرة الاستثمار
-
! الحكم فى نزاع -جالاوى- و -ديلى تلجراف- .. يديننا
-
مفارقة -مادونا- الأمريكية .. و-وفاء- المصرية
-
بوش وشارون .. أسوا أعداء الاستثمار فى العالم العربى
-
!درس للعرب فى الديموقراطية .. باللغة الألمانية
-
! الاقتصاد غير السياسى
-
! لكن البعض لا يحبون شرم الشيخ..
-
بيان شرم الشيخ.. الآخر
-
أبو عمار: حاصروه فى الجغرافيا .. فحاصرهم فى التاريخ
-
!الفنادق وشركات الطيران.. الرابح الوحيد في مؤتمر شرم الشيخ
-
نصــف أمـــريكا.. الآخــــر
-
شامبليون ونظريات محمود سعد وفاروق الفيشاوى
-
لماذا تخون الصحافة تقاليدها؟
-
!تكريم وزير .. تحت الكوبرى
-
العم - ســام - .. والخالة - ســـاميـة -
-
مـدافـع رمضان .. ومدافع بوش وشـارون
-
ثلاثية الأوهام فى - رأس الشيطان -
المزيد.....
-
مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
-
السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون-
...
-
مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله
...
-
اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب
...
-
محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
-
مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
-
من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
-
خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال
...
-
هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
-
قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|