|
ديناميتان للثورة السورية: المستقبل في الحاضر
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3615 - 2012 / 1 / 22 - 17:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لم يعد هناك أدنى شك في أن النظام السوري سائر نحو السقوط، وأن الأمور تتجه بثبات إلى نقطة الانكسار التي يبدأ عندها بالانهيار النهائي. واضح أكثر وأكثر أنه يفقد ثقته بالجيش النظامي، ويعجز بصورة مطردة عن التحكم بديناميات تفتته، وأن ضربا من توازن القوى يتحقق لعناصر "الجيش الحر" في مواجهة قوى النظام العسكرية والأمنية و"الشبيحة" في بعض مناطق البلد (حول دمشق، وفي معظم محافظة إدلب، وفي مناطق من حمص وحلب). في الوقت نفسه يتسارع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلد، ويعجز النظام عن التحكم بسعر صرف الليرة السورية التي فقدت منذ بداية الثورة أكثر من خمسين بالمئة من قيمتها أمام الدولار الأميركي، وأكثر هذا الانحدار تحقق في الأسابيع الأخيرة. وبينما تشهد البلاد موجة تضخمية هي الأعلى منذ عام 1986، لا يبدو واردا أن تثابر إيران وعراق المالكي على مساعدته على رشوة الطبقة الوسطى المدينية السورية عبر إمدادات بالمال والوقود (تقنين الكهرباء في دمشق تمييزي بصورة واضحة: الأحياء "الراقية" تنقطع الكهرباء فيها لوقت أقل، وفي أوقات أقل ضررا). وبصورة مطردة ينقلب تململ المتململين من هذه الطبقة ضد النظام (بعد أن كان حتى وقت قريب موجها أكثر ضد الثورة)، بقدر ما يظهر يقينا أنه لن يستطيع التحكم بالأمور واستعادة السيطرة على البلاد. في الوقت ذاته تتفاعل دينامية أخرى في الإطار السوري. فقد قادت عشرة أشهر ونيف من العنف المنفلت إلى تصلب واسع النطاق في المجتمع وفي النفوس. انقطع أي رباط لقطاعات تتسع من السوريين مع النظام، وتجذرت مواقفهم منه لتبلغ حد العداوة المطلقة. مؤشرات ذلك تتكاثر. أظهرها ما تسجله الهتافات والشعارات المكتوبة من اعتبار النظام قوة احتلال (كفرنبل المحتلة، حمص المحتلة، حاس المحتلة...)، وقواه القمعية "كتائب الأسد"، والمناداة بإعدام رأسه ولعن روح مؤسسه، ورفع علم الاستقلال حصرا في الشهور الأخيرة، بعد أن كان العلم الحالي أكثر ظهورا في بداية الثورة، وظل حاضرا حتى أواخر الصيف الماضي. فكريا وأخلاقيا ونفسيا، انفصل أكثرية السوريين عن النظام، واستقلوا في وعيهم لذاتهم وفي نظرتهم إلى العالم. هذا غير مسبوق في تاريخ سورية منذ استقلالها. تجاوز الأمر كسر "جدار الخوف" والخروج من "مملكة الصمت"، وتحطيم أسطورة النظام المخابراتي الذي لا يقهر، إلى شعور قطاعات واسعة وتتسع من السوريين بالتفوق على النظام والاحتقار العميق له ولرجاله. انتهى السحر. ولقد كان النظام مصدر عون عظيم في ذلك حين لم يكتف بوضع نفسه نسقيا ضد تطلع محكوميه إلى الحرية والكرامة، بل جعل من نفسه رمزا لذلهم وعبوديتهم في مشاهد باتت معروفة للسوريين وللعالم (تأليه بشار وأخيه، الدوس على الثائرين المقيدين ثأرا من هتافهم للحرية، الهتاف العلني تمجيدا للشبيحة والتشبيح: شبيحة للأبد/ كرمى لعيونك يا أسد!). إن نظاما بلغ هذه الدرجة من الإسفاف والسفاهة لجدير بسقوط سريع. أبرز ملمحين لأجواء القطيعة والتجذر هما الظهور المتزايد لتعبيرات دينية إسلامية، ترسي القطعية مع النظام على أساس أكثر إطلاقا وصلابة؛ ثم لجوء متسع إلى مواجهة النظام وقواه بالعنف، دون أن يقتصر ذلك على عناصر الجيش الجر المنشقين عن الجيش النظامي، وإنما يتعداه إلى مدنيين في عدد من مناطق البلاد. من وجهة نظر حقوقية، تبدو هذه تطورات مؤسفة، لكن من وجهة نظر بنيوية التديين أساس لا منافس واقعيا له للاستقلال الفكري، والعنف معادله الأقصى، المظهر الأبرز للتفوق على النظام في ساحته نفسها. لكن لهذا ثمنه. فبينما يثير التديين المتنامي لبعض أقدم بؤر الثورة مخاوف بخصوص أوضاع سورية ما بعد الثورة، وبخاصة إحلال هيمنة طائفية محل هيمنة طائفية، فإن عنفا يمارسه مدنيون مستميتون يتسبب في ممارسات فوضوية، وعمليات انتقام أو "عدالة مباشرة" دون إجراءات عادلة، ودون جوهر العدالة أيضا . ويسهم في هذين التطورين الأخيرين الانقطاع العريق بين النخب السياسية والثقافية والجمهور العام في البلد. فـ"مادة الثورة"، إن صح التعبير، هم عموم السكان في بيئات محلية منتشرة في مواقع شتى من البلد، والصلة بينهم وبني النخب الثقافية والسياسية ضعيفة بحكم ضآلة حجم النخب (متولد هو نفسه عن استتباع قطاعات منها وضرب قطاعات أخرى)، والطابع اللامركزي الشديد للثورة السورية أو كونها ثورة متعددة البؤر (يحول دون تلاقي "مادة الثورة و"صورتها" المحتملة)، وتعمد النظام اغتيال أو اعتقال القيادات الميدانية الأبرز في بؤر الثورة النشطة. على أن محصلة تفاعل هاتين الديناميتين (تسارع تآكل النظام، والتجذر النفسي والاجتماعي للثورة)، تحافظ على طابع الثورة المركب، اجتماعيا وفكريا. ويسهم ترسخ الميل العام إلى الاقتناع بان النظام ساقط لا محالة توسع القاعدة الاجتماعية للثورة، بل ويتيح قيام علاقة نقدية بعض الشيء بين مكوناتها. تثير ممارسات يقوم بها ثائرون مسلحون محليون اعتراضا علنيا من ناشطين سياسيين وحقوقيين، ومن مثقفين، وتبرز في الوقت نفسه مبادرات وتشكيلات سياسية وفكرية متنوعة، شبابية في الغالب، تحيل إلى غنى سورية المكبوت، وتظهر معنى جديدا للسياسة والعمل العام، لا يغاير النزوع المستجد إلى العنف والتديين، بل ويقطع كذلك مع معهود المعارضة التقليدية، ثقيلة الفهم وبطيئة الحركة. ولعل أكثر ما يعول عليه اليوم هو أن من شأن التيقن من السقوط القريب للنظام أن يدفع إلى حلبة العمل العام قوى جديدة، بما يعاكس الميل المطرد إلى القطيعة والعنف. هذا حيوي لسورية المستقل. فما قد يكون جيدا للثورة من حيث الصلابة والتجذر، ليس جيدا لسورية ما بعد الثورة التي ستلزمها المصالحة والاعتدال. لذلك فإن المصلحة العامة تقتضي السقوط الأسرع للنظام، قبل أن يتشكل تطبع الثورة الجاري في طبع لا يغلب. وبينما لا يزال النظام بلا شك قادرا على إيقاع الأذى الرهيب ببيئات الثورة، وبالبلد ككل، فقد استنفد كليا ميزته التفاضلية الجوهرية في مواجهة الثورة وفي الحكم، أي العنف السائل وبلا ضوابط. لقد أمعن في استخدامه، وخاض المواجهة مع الثورة منذ البداية بمنطق المعركة الفاصلة والأخيرة. وهو في سبيله إلى خسارة هذه المعركة من كل بد. ولن يسعف التهديد بالضرب "بيد من حديد" من لم يضرب أبدا بيد من حرير، على ما قالت تعليقات ساخرة على آخر خطاب للسيد بشار الأسد، والسيد وزير داخليته قبله. هذا إلا إذا كان السادة يفكرون باستخدام الطائرات الحربية في قصف المدن والبلدات التي يسكنها عامة عبيدهم الثائرين. وحتى إذا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المثقفون والثورة في سورية
-
-حكي قرايا-: تدخل عسكري دولي!
-
مكونات الثورة السورية وسياستها
-
عام ثوري وأزمنة صعبة قادمة
-
الفاشية السورية وحربها ضد العامة!
-
محاولة لشرح القضية السورية للمنصفين
-
حوار في شان الطغيان والأخلاق
-
عن حال مؤسسات الحكم البعثي بين عهدين أسديين
-
العصيان المدني أو الإضراب الوطني العام
-
وطنيّتان: من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الاجتماعية
-
الطغيان والأخلاق في -سورية الأسد-
-
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
-
نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
-
في شأن سورية وإسلامييها والمستقبل
-
الثورة السورية تنظر في نفسها
-
من الشخصي إلى العالم الواسع: حوار في شأن الثورة السورية
-
ملامح طور جديد للثورة السورية...
-
في أصول انقسامات المعارضة السورية وخصوماتها
-
المبادرة العربية والمعارضة السورية
-
-قنطرة-...
المزيد.....
-
وقف إطلاق النار في لبنان.. اتهامات متبادلة بخرق الاتفاق وقلق
...
-
جملة -نور من نور- في تأبين نصرالله تثير جدلا في لبنان
-
فرقاطة روسية تطلق صواريخ -تسيركون- فرط الصوتية في الأبيض الم
...
-
رئيسة جورجيا تدعو إلى إجراء انتخابات برلمانية جديدة
-
وزير خارجية مصر يزور السودان لأول مرة منذ بدء الأزمة.. ماذا
...
-
الجيش الإسرائيلي يعلن تدمير بنى تحتية لحزب الله في منطقة جبل
...
-
برلماني سوري: لا يوجد مسلحون من العراق دخلوا الأراضي السورية
...
-
الكرملين: بوتين يؤكد لأردوغان ضرورة وقف عدوان الإرهابيين في
...
-
الجيش السوري يعلن تدمير مقر عمليات لـ-هيئة تحرير الشام- وعشر
...
-
سيناتور روسي : العقوبات الأمريكية الجديدة على بلادنا -فقاعة
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|