سامى لبيب
الحوار المتمدن-العدد: 3612 - 2012 / 1 / 19 - 14:22
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
- تاريخ وثقافة مزيفة وإزدواجية فمن أين يأتى التقدم .
تعرضت فى المقال السابق لجذر من جذور تخلفنا متمثلاً فى هيمنة ثقافة ومنهجية العبودية على عقولنا ونفوسنا لتتشبع وتشيع نهج الخضوع والخنوع والإنبطاح لأى قوى قاهرة مهيمنة لنجنى فى النهاية إنسحاق الإنسان أمام الطغاة والمستبدين وتأقلمه مع هذه الوضعية .
نتناول فى هذا البحث جذر آخر يؤسس لمنهجية التخلف يكون جذره فى تعاطينا مع التاريخ .. التاريخ ليس صور وسرد أحداث قديمة مكتوبة على ورق أصفر بل هو خلاصة تجربة وخبرة الإنسان فى الحياة .. التاريخ لا يجب إختزاله فى مجرد أحداث ومشاهد قديمة للأجداد ندرسها بصورة تلقينية كما تعلمنا فى المدارس لتكون كفائتنا فيمن يستطيع أن يجمع ويحتفظ فى ذاكرته بعدد وافر من المعلومات , التاريخ هو تلمس فكر وتجارب وخبرات وسلوك الإنسان فى مواجهة الحياة ليؤسس عليها مداميك تطوره .
الإنسان حيوان ذو تاريخ يستفيد من تاريخه ويختزن تجاربه فى الذاكرة ليستدعيها ويسقطها على مشهد حياتى مشابه فلا يكرر نفس الفعل الأول إلا إذا كان ملائماً معه ومن هنا يتميز الإنسان ككائن واعى راق قادر على التطور عن الفأر الذى يقع فى المصيدة ليأتى فى لحظة لاحقة ويسقط فيها ولن ينجو أبناءه وأحفاده من الوقوع فى نفس المصيدة .. ومن هنا نجد الإنسان ككيان راقى ومتطور يستفيد من تاريخه فلا يقع فى نفس المصيدة مرة ثانية .. ولكن للأسف هناك من يقع دائماً كونه لم يقرأ التاريخ أو قرأه كنص تلقينى ومشاهد وصور لم ينقب فيها .
نحن شعوب لا تقرأ تاريخها وذلك إما جهلاً أو عدم إكتراث لنؤسس أول حجر فى بنية التخلف بعدم تواجد ذاكرة ووعى مختزن يستمد من مشاهد الماضى ليبنى عليه .. ومن لا يقرأ التاريخ فعليه أن يعيد مشاهده من البداية , فعدم إستيعابه سيحول الانسان من ادراك الخبرات القديمة ليضطر إلى خوض التجربة من جديد ليقع ويتعثر ويتعلم .
بالتأكيد ليست كل الشعوب لديها وعي وثقافة كاملة بتاريخها ولكن ينتقل لها مفردات وعصارة التاريخ من خلال النخب الثقافية والفنية التى تمتصه لتخرجه رحيقاً تتعاطاه الشعوب .. فهل يوجد هذا الأمر فى شعوبنا ونخبها وما شكل هذه النخب ؟!
تعاطينا مع التاريخ لا يقف فقط عند مرحلة عدم الإستفادة من الخطأ والعثرات التى نقع فيها بل الإشكالية تكمن فى عدم تقييم التاريخ تقييماً موضوعياً والقدرة على تحليله ونقده وفقا لظرفه الموضوعى دون إفراط أو تفريط .. فمن خلال تقييمنا الموضوعى للتاريخ سنستمد آلية النقد والمصداقية والشفافية والتحليل لتسقط على كافة تعاملاتنا الحياتية .
لا تكتفى الأمور فى التعاطى مع التاريخ عند حد الشلل فى التقييم الموضوعى بل تدخل فيه الأمزجة والغايات والرؤي المُسبقة لتغلفه فيتم تزيف وتشويه المفاهيم والوعى لتشدنا إلى الأسفل .. فالمعايير قد إختلت وتم تحديد مسارها عنوة خارج سياقها لذا تكون رؤيتنا للمشهد مزيفة لننال حظ لا بأس به من الغيبوبة وضياع البوصلة مع إزدواجية سنحسد عليها .
بالطبع لا يجوز محاكمة التاريخ فهو ماضى إنسانى ملك زمانه وظرفه الموضوعى فى النهاية فأحداثه وشخوصه ولت وإنقضت ولكن يجب أن نقيمه ونمارس عليه منهجية واحدة فى قراءته لتكون الشفافية والرؤية الفاحصة المحايدة هى النهج الذى نتبعه فى تعاملاتنا لينعكس بالضرورة مشكلاً منهجية سلوكية وتقييمية فى التعاطى مع الواقع تكون متزنة متوازنة .
* إزدواجية لا تخلو من زيف
عندما نتناول الغزو العربى الإسلامى على سبيل المثال سنجد تعاطينا الفاسد فى قراءة التاريخ .. فنحن إما لا نقرأه ولا نعلم عنه شيئا ً أو إنتقل إلينا من النخب المثقفة المؤدلجة مبتسرا ً بغلاف من الزيف والمزاجية فى تقديمه ليتشوه الوعى ويترسخ فيه ان الفساد والقبح يمكن أن يكون صلاحاً وجمالاً فقد إختلت البوصلة .!
نحن عندما نقيم أى غزو إستعمارى لبلادنا على مر التاريخ فمن المؤكد أننا نستنكره وندينه ونستقبحه كونه صاحب أطماع توسعية مارس معها الهمجية والقسوة وإغتصاب الحقوق ولنا كل الحق فى أن نعتبره همجى وذو أطماع وهيمنة ولكننا فى ذات الوقت لا نعتبر الغزو الإسلامى لمصر والشام والعراق والمغرب إستعماراً بل فتحا ً مبينا ً نشيد به ولا نتورع من إقامة إحتفالية له فى ذكراه , بل نطلق أسماء الغزاة على شوارعنا ومياديننا ومدارسنا مانحين إياهم أكاليل المجد والفخار .. فلماذا لا نقيم نفس هذه الإحتفالية للغزوات الإستعمارية السابقة أو للغزو الامريكى للعراق فعلى الأقل هو يرحل .!!
نحن نمتلك هذه الإزدواجية الغريبة التى تجعلنا نقبل حدث وتاريخ بشع هنا ونرفض حدث بشع هناك فلا نُقيم التاريخ برؤية ومسطرة واحدة , لذا من لا يقرأ التاريخ ويقيمه تقييماً صحيحاً فقد سمات التجربة ووقع فى معايير مغايرة لتتشوه الصورة فى النهاية منتجة حالة من التشوه الفكرى تمنح حالة متخلفة بالضرورة فقد إنقلبت الصورة وإختلت المعايير وتشوهت منهجية البحث .. لنجد أنفسنا أمام منهج تفكير فاسد عشوائى إزدواجي النزعة ضل بوصلته ليفقد التاريخ معناه ويخرج الإنسان من الباب الملكى للحضارة لتتولد قدرة غريبة على تجرع ذل الحكام ولعق نعالهم طالما هم على نفس هويتنا الدينية .!
المقدس هو إشكالية ثقافتنا البائسة فنحن نطوع وعينا وإدراكنا وفق نهج المقدس فلا نتجاوزه ولا يقف تقديسنا للمقدس عند حد النصوص بل من فرط انبطاحنا أمامه قدسنا شخوص واحداث وتاريخ !!.. فالغزو العربى الإسلامى لبلادنا أخذ مسحة من المقدس فمر بتجربته الدامية وأصبح مقبولاً بدلاً من أن يُدان كما ندين الغزو الرومانى والتتارى والإنجليزى والفرنسي والأمريكى الذي إستعمر بلادناً قديما وحديثاً قنمجده ونستطيبه ونمجد الغزاة من أمثال عمرو بن العاص ومعاوية وخالد بن الوليد وتلك القافلة من الغزاة الأوائل ولا مانع أن نطلق أسمائهم على أبنائنا ومدارسنا ومعاهدنا وشوارعنا .!
عدم القدرة على تجاوز المقدس والتعاطى معه بعقلية متفتحة جعل التصلب والتحجر هو نصيبنا فى الحياة فلا تسأل لماذا نحن متخلفون فنحن نفتخر بجلادينا ومغتصبينا لأنهم يحملون نفس هويتنا .!
عدم التقييم الموضوعى والمصداقية والشفافية فى التعاطى مع التاريخ يجعل بنية التخلف قائمة وقادرة على إنتاج نفسها فنستقبل أى منهج أوحاكم مُستبد طالما يتلحف بالمقدس و يستثمر الراية والهوية لنستعذب الطغاة دوماً ويخرج علينا من يروج لهم ويحثنا عن عدم الخروج عن طاعة الحاكم .
عندما يُحتفل ويُحتفى شعب بمستعمريه ويمجد سيرتهم فلن يكون صعباً عليه أن يحتفى بطغاته ولا تكون مشاهد الإحتفالات الصاخبة بعيد ميلاد صدام حسين والقائد الفاتح معمر القذافى وجمال عبد الناصر بمشاهد غريبة وشاذة صعبة التفسير فنحن تجرعنا بنشوة تاريخ المستعمرين والطغاة الأوائل وإعتبرناهم أبطالا فماذا نتوقع بعد هذا الإعداد فى مركز تدريب الخضوع والإنبطاح أن نفعل , فلم يعد هناك مصداقية أو وعى .
قد يقول قائل مازال يعيش فى بانوراما المقدس أن الغزو الإسلامى لبلادنا كان يحمل رسالة نبيلة فى نشر الدين الإسلامى الذى ننعم به لنسأله هنا عن منطقية وقبول أن يتم نشر فكرة ومعتقد عن طريق الغزو والحرب .. فإذا كنا بصدد رسالة أو قضية فكرية تريد الحضور والإنتشار فما معنى غزو البلاد وشن الحروب وقتل البشر كى يؤمنوا !!.. فالإيمان فكرة تريد القبول بحرية وبدون قهر وإلا فقدت مصداقيتها ومعناها لتتحول من فكرة إلى مصالح وغايات تتلحف بالمقدس .
لن تجد فى مقولة أن هذا العصر كانت سماته إنتشار الأفكار قسراً وقهراً لها منطقية وتبريراً مقبولاً لأن التاريخ لا يمنح هذا الإدعاء أى مصداقية , فسنجد فلسفات وأديان ونحل إنتشرت منذ قديم الأزل دون أن يحمل أتباعها سيوفاً ودروعاً وإذا كان هناك من فعل فلا يجب أن تتكأ رسالة إلهية على هذا النهج المفعم بالقهر .
إذا كنا لا نقبل بفكرة نشر الأديان والمعتقدات تحت أسنة الرماح ونرى قبحها فى واقعنا المعاصر فبالضرورة يمكن إسقاط هذا الأمر قديماً فنحن أمام فكرة إيمانية تطلب قناعة الإنسان بحرية دون قهر سواء حديثاً أو قديما ً .
الإدعاء الذى يتستر الغزو الإسلامى وراء عباءة نشر الدين غير صحيحة ومزيفة فلا الغزاة يعنيهم قضية نشر الإسلام بل هى يافطة فقط للغزو والنهب كما رفع الأمريكان يافطة مقاومة الإرهاب عند غزوهم للعراق لتخفى مصالح إستراتيجية محددة .. من خلال بحثنا هذا الذى سننقب فى كتب التراث والتاريخ ستبدد هذه الفكرة المغلوطة ونكشف أن الغزو كان إستعماريا ناهباً بإمتياز .
لن يتحمل هذا البحث تناول تاريخ الغزوات الإسلامية العديدة لذا سنقتصر بحثنا على الغزو الإسلامى لمصر لنتلمس من خلال الاحداث والمشاهد مقاصد الغزاة العرب .. كما لا يعنينا فى هذا البحث حجم الإضطهاد والتعسف الذى مارسه الغزاة العرب على شعب مصر من إضطهاد دينى يصل إلى حد الإذلال والمهانة والتمييز الفج , كما لن يعنينا بعض الروايات المنثورة عن حسن معاملة أقباط مصر و ترحيبهم بالغزو الإسلامى كمخلص لهم من الإضطهاد الرومانى , أو بعض القصص الأخرى المتوارية عن نضالهم ضد الغزو فكل هذه الأمور تكون واردة بالطبع سواء إضطهاد أو قبول أو مقاومة , فلن يخرج الغزو الإسلامى عن أى قوى عسكرية فى ذلك العصر من إذلالها لسكان البلاد الأصليين وفرض الجزية والضرائب عليهم وسبى النساء , ولكن مضمون البحث أن نضع الغزو الإسلامى فى سياقه التاريخى والموضوعى والتقييمى ونزع الغلالة التى تغلفه والتى تمنحه أكاليل وفخار فهو لا يزيد ولا ينقص عن أى غزو وإحتلال فى مراميه التوسعية الناهبة لخيرات الشعوب .
* غزاة بلا مصحف .
قبل التطرق لمشاهد وتاريخ الغزو الإسلامى سنجد أنفسنا أمام إشكالية وملابسات تطرح نفسها من خلال مشهد تاريخى محدد سيُبدد فكرة نشر الدين الإسلامى بين الشعوب , فالغزو الإسلامى لمصر كان فى عهد عمر بن الخطاب وبقيادة عمرو بن العاص ولم يكن حينئذ فى يد الغزاة نسخة من المصحف حتى يقدموها لشعب مصر كبيان لرسالة جديدة تطلب الإيمان والقبول , فقد تم تجميع المصحف لاحقاً فى عهد عثمان بن عفان .!!
مقولة أن الغزوات الإسلامية كانت لنشر الدين الإسلامى ليس لها ما يمنطقها , فمن أساسيات الدعوة أن يتم تقديم المصحف لكى تتطلع عليه شعوب هذه البلاد مصحوباً بمتطوعين من الدعاة للتبشير بالدين الجديد قبل الغزو لتكون القوة العسكرية هنا مُبررة بدعم المؤمنين الجدد من بطش الحكام الوثنيين ... ولكن هل هذا حدث ؟!!.. هل تم تسريب حفنة من المصاحف والدعاة قبل الغزو الإسلامى لتنخرط شرائح من الشعب المصرى فى الإيمان بالإسلام وتنتشر بؤر المؤمنين مما يستدعى حمايتهم وتقديم الدعم لهم وتشجيع الغير مؤمنين على إعتناق الدين الجديد ؟!! .. بالطبع لم يحدث لأنه ببساطة شديدة لم يكن هناك مصحف فى يد الغزاة ولم يكن هناك دعاة بل جنود يحملون سيوفاً ودروعاً تأمل فى الغنائم والسبى وقادة يأملون فى الجزية والخراج لتظهر الملامح الحقيقية لهذا الغزو بدون رتوش فهو إستعمارى توسعى ناهب بدون أى هالات تستره .
* أهداف الغزو - البعد الإسترتيجى والسلب والنهب
لو حاولنا أن نفتش فى صفحات التاريخ للبحث عن ملابسات الغزو الإسلامى لمصر سنجد أن الهدف من الغزو ينحصر فى محورين واضحين للعيان تغيب فيه قصة نشر الدين الإسلامى للشعب المصرى فهو يبقى مبرراً فقط للغزو لا يزيد عن ذلك وحتى من يعتنق فهو يرغب فى الإنعتاق من الجزية والتعسف .
المحور الأول ذو بعد إستراتيجى فمصر تعتبر مركز وقلب العالم القديم ومازالت حتى الآن لها نفس هذه الأهمية الإسترتيجية وغزوها سيتيح للمسلمين التمدد شرقاً وغرباً بإخضاع مدن الشام الشمالية وبلاد المغرب مما يعنى إختراق الإمبراطورية الرومانية التى كانت تسيطر على مصروالشام والمغرب وتشكيل ما يشبه فكى كماشة لتقويضها وتحجيمها ومن ثَم الأمل فى إختراق أوربا مستقبلاً ... كما أدرك الغزاة أن ضم مصر إلى دولة الإسلام سينعش إقتصاد المسلمين وينال فى الوقت نفسه من البيزنطيين الرومان بحرمانهم من مصدر رئيسى لتوريد القمح حيث كانت مصر المصدر الرئيسى لتمويلها .
عندما نقول أن الغزو العربى لمصر لم يكن معنيا بنشر الدين إلا كراية تبرر الغزو أو قل إستخدام هذه الراية لتحقيق عملية إبتزاز ونهب لخيرات مصر فلنا ما نؤكده من المشاهد الذى اتحفنا بها الإختراق العربى لمصر فالأمور واضحة الغاية والهدف وهو الحصول على خيرات مصر فلم تختلف عن نفس نهج الغزوات الأولى فى الصدر الأول من السلب والغنائم والسبى لتتسع الدائرة فقط من نهب قافلة أو قبيلة إلى نهب شعب .
حرص الغزاة على فرض الجزية على المصريين وإرسالها إلى دار الخلافة فى الحجاز سيجعلنا هنا نسأل فى البداية عن معنى فرض الجزية فنحن أمام غزاة دخلوا عنوة لبلد آمن فكيف يفرضون عليها الجزية فإذا كانت الحرب فى الإسلام تعنى الدفاع وليس الإعتداء كما يروجون فإن فرض الجزية تحق عند هزيمة المعتدى فى حرب دفاعية للمسلمين فحينئذ يتم إلزام المُعتدى بدفع الجزية جزاء على عدوانه على المسلمين , أى هى بمثابة غرامة حربية كما يحدث فى عصرنا الراهن حيث تُطلب تعويضات من العراق لصالح الكويت على ما أصابها من خسائر فى إجتياح جيوش صدام لها .. هذا إذا أرادوا أن يجعلوا نهج القتال هو للدفاع ولكن المشهد ليس فيه أى دفاع فهو غزو وإحتلال لتتبدد كل الشعارات .
ثم هل لنا أن نسأل مرة أخرى عن معنى إرسال الجزية إلى دار الخلافة وما مدى إستحقاقها لها , فالجزية يمكن تفهمها أنها ضرائب مستحقة نظير الدفاع وتسيير أمور البلاد , فما دخل دولة الخلافة وهل طلب المصريين الدفاع عنهم , هذا يثبت أن الغزو الإسلامى لن يخرج عن كونه قوى إستعمارية حرصت على الإبتزاز والنهب ولكن كما ذكرنا أنه يستوى مع أى قوى إستعمارية أخرى فى ذلك العصر , ليبقى ما يعنينا فى أن نخلص المشهد من إزدواجية التقييم ونزع الرومانسية الزائفة عنه .
يذكر الطبرى أنه عندما حان عام الرمادة طلب عمر بن الخطاب مضاعفة كميات القمح المرسلة للمدينة من خراج مصر أضعافا وقال: "أخرب الله مصر في عمار المدينة وصلاحها، فعالجه عمرو وهو بالقلزم، فكان سعر المدينة كسعر مصر!!(هوامش الفتح العربي لمصر نقلا عن كتاب تاريخ الطبرى)
ينشر لنا المقريزى مكتوب من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص : " من عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص ..سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو. أما بعد: فإني قد عجبت من كثرة كتبي إليك في إبطائك بالخراج وكتابك إلى بثنيات الطرق وقد علمت أني لست أرضى منك إلا بالحق البين ولم أقدّمك إلى مصر أجعلها لك طعمة ولا لقومك ولكني وجهتك لما رجوت من توفيرك الخراج وحسن سياستك فإذا أتاك كتابي هذا فاحمل الخراج فإنما هو فيء المسلمين وعندي من قد تعلم قوم محصورون والسلام"!.
فكتب إليه عمرو بن العاص: "بسم اللّه الرحمن الرحيم لعمر بن الخطاب من عمرو بن العاص سلام عليك فإني أحمد إليك اللّه الذي لا إله إلا هو أما بعد: فقد أتاني كتاب أمير المؤمنين يستبطئني في الخراج ويزعم أني أحيد عن الحق وأنكث عن الطريق وإني والله ما أرغب عن صالح ما تعلم ولكن أهل الأرض استنظروني إلى أن تدرك غلتهم فنظرت للمسلمين فكان الرفق بهم خيرًا من أن نخرق بهم فيصيروا إلى بيع ما لا غنى بهم عنه والسلام."
وعندما تولى عثمان بن عفان بعد مقتل عمر بن الخطاب ، أراد عثمان أن يكون عمرو بن العاص على الحرب وأن يكون عبد الله بن سعد على الخراج ( أى الضرائب والجزية ) فرفض عمرو قائلاً "أنا إذا كماسك البقرة بقرنيها وآخر يحلبها"!!! ( المقريزي) -- مشبهاً بذلك مصر بالبقرة الحلوب التي تدر الخيرات على العرب فلا يرضى أن يقتصر دوره على مسك القرون أى الإدارة العسكرية ولا يكون له من الحظ جانب.
المؤرخ ابن عبد الحكم يقول في كتابه فتوح مصر : "إن عمرو قال للقبط: إن من كتمني كنزا عنده (ثروته) فقدرت عليه قتلته. وسمع عمرو أن أحد أهالي الصعيد اسمه بطرس كان عنده كنز، فلما سأله أنكر ولما تبين لعمرو صحة ما سمع أمر بقتله. فبدأ القبط بإخراج (إظهار) ثرواتهم خوفا من القتل "
وفي نفس الكتاب يقول ابن عبد الحكم : "أن بعض الأقباط ذهبوا لعمرو بن العاص طالبين أن يخبرهم ما على أحدهم من الجزية فيصير لها"، فأجاب عمرو: "لو أعطيتني من الأرض إلي السقف ما أخبرتك ما عليك. إنما أنتم خزانة لنا إن كُثّر علينا كثّرنا عليكم وإن خُفف علينا خففنا عليكم "!!
ويضيف لنا عمرو محمد بن يوسف الكنديّ في كتاب "أمراء مصر" : " كتب عبد اللّه بن الحبحاب صاحب خراجها إلى هشام بن عبد الملك بأنّ أرض مصر تحتمل الزيادة فزاد على كل دينار قيراطًا فانتقصت كورة تنو ونمي وقربيط وطرابية وعامة الحوف الشرقيّ فبعث إليهم الحر بأهل الديوان فحاربوهم فقتل منهم بشر كثير وذلك أول انتقاض القبط بمصر وكان انتقاضهم في سنة سبع ومائة ورابط الحرّ بن يوسف بدمياط ثلاثة أشهر ثم انتقض أهل الصعيد وحارب القبط عمالهم في سنة إحدى وعشرين ومائة فبعث إليهم حنظلة بن صفوان أمير مصر أهل الديوان فقتلوا من القبط ناسًا كثيرًا وظفر بهم وخرج بَخْنَسْ رجل من القبط في سمنود فبعث إليه عبد الملك بن مروان: موسى بن نصير أمير مصر فقتل بخنس في كثير من أصحابه وذلك في سنة اثنين وثلاثين ومائة وخالفت القبط برشيد. فبعث إليهم مروان بن محمد الجعديّ لما دخل مصر فارًا من بني العباس بعثمان بن أبي قسعة فهزمهم وخرج القبط على يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة أمير مصر بناحية سخا ونابذوا العمال وأخرجوهم وذلك في سنة خمسين ومائة وصاروا إلى شبرا سنباط وانضم إليهم أهل اليشرود والأريسية والنجوم فأتى الخبر يزيد بن حاتم فعقد لنصر بن حبيب المهلبيّ على أهل الديوان ووجوه مصر فخرجوا إليهم فبتهم القبط وقتلوا من المسلمين"
وقال ابن عبد الحكم عن عبيد اللّه بن لهيعة: " لما فتح عمرو بن العاص مصر صولح على جميع من فيها من الرجال من القبط من راهق الحلم إلى ما فوق ذلك ليس فيهم امرأة ولا صبيّ - وعن هشام بن أبي رقية اللخميّ: أن عمرو بن العاص لما فتح مصر قال لقبط مصر: إن من كتمني كنزًا عنده فقدرت عليه قتلته وإنّ قبطيًا من أرض الصعيد يقال له: بطرس ذكر لعمرو: إن عنده كنزًا فأرسل إليه فسأله فأنكر وجحد فحبسه في السجن وعمرو يسأل عنه: هل تسمعونه يسأل عن أحد فقالوا: لا إنما سمعناه يسأل عن راهب في الطور فأرسل عمرو إلى بطرس فنزع خاتمه ثم كتب إلى ذلك الراهب: أن ابعث إليّ بما عندك وختمه بخاتمه فجاء الرسول بقُلَّة شامية مختومة بالرصاص ففتحها عمرو فوجد فيها صحيفة مكتوب فيها: ما لكمَ تحت الفسقية الكبيرة فأرسل عمرو إلى الفسقية فحبس عنها الماء ثم قلع البلاط الذي تحتها فوجد فيها اثنين وخمسين أردبًا ذهبًا مصريًا مضروبة فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد ( علق رأسه عند باب مسجد عمرو بن العاص) فأخرج القبط كنوزهم شفقًا أن يبغي على أحد منهم فيقتل كما قتل بطرس." !!
تزداد بشاعة النهب والهوس فى السلب إلى حد طلب الجزية عن الأموات !!!.. لنجد عمر بن عبد العزيز يكتب إلى حيان بن شريح:" أن يجعل جزية موتي القبط على أحيائهم !! - فعمر كان يرى أنّ أرض مصر فتحت عنوة وأن الجزية إنما هي على القرى فمن مات من أهل القرى كانت تلك الجزية ثابتة عليهم وإن موت من مات منهم لا يضع عنهم من الجزية شيئًا.!!
بل نجد عمر بن عبد العزيز يخطو خطا غريبا فيرسل إلى حيان بن شريح: أن تضع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة فإن الله تبارك وتعالى قال: " فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم " التوبة 5 وقال: " قاتلوا الذين لا يؤمنون باللّه ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرّم اللّه ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون " التوبة 29.!! المقريزى عن كتابه الخطط
أرى أن توصية عمر بن عبد العزيز بإستحقاق الجزية عمن يسلم ليس تعنتا وظلماً لا يوجد ما يبرره بل هو يخالف آية الجزية ولكن كانت غايته أن يبقى الأقباط على ملتهم لإستمرار دفع الجزية ولا تسأل هنا عن نشر الإسلام حتى ولو قهراً !!
ما نخلص اليه أن الغزو أو ما يقال عنه فتح مبين كان لأسباب سياسية توسعية بحتة تبغى التوسع والهيمنة والنهب لتتخفى وراء راية الإسلام الذى تم رفعها كشعار يبرر الغزو, فالغزاة كانوا مهمومون بالهيمنة وفرض الجزية وإقتسامها وتوريدها للباب العالى , ففي كتاب للخليفه الراشد عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص يتساءل فيه عن سبب إنخفاض خراج أرض مصر فيقول فيما قال " أما بعد , فإني قد فكرت في أمرك والذي أنت عليه , فإذا أرضك أرض واسعه , عريضة رفيعه , قد أعطى الله أهلها عددا وجلدا وقوه ...." ويسترسل في وصف غنى مصر وقوة أهلها الى أن يصل الي بيت القصيد فيقول لعمرو بن العاص " لست قابلا منك دون الذي كانت تؤخذ به من الخراج قبل ذلك".
يرد عمرو بن العاص موضحا سبب تناقص الخراج هو أن الملوك السابقين كانوا " أرغب في عمارة أرضهم منا مذ كان الإسلام , وذكرت أن النهر يخرج الدر , فحلبتها حلبا قطع ذلك درها" وتتوالى الرسائل كما أوردناها سابقا مبينةُ حرص الخليفة عمر بن الخطاب على الإيراد الذي يجب تحصيله دون النظر الى مايجب إنفاقه على صيانة الترع والمصارف وغيرها من الأمور الذي أدى فيما بعد الى تناقص خراج مصر في العصر الأموي.
إن الغزاة العرب لم يهتموا بأعمال الصيانه والتطوير والإصلاح لقصر مدة حكمهم والحرص على جباية الخراج وإرساله للخليفه الى أن جاء فى مرحلة لاحقة الطولونيين والأخشيديين وأتخذو من مصر مستقراً لهم ولأولادهم ليقوموا بالإصلاحات المطلوبه ليس حباً فى التعمير ولكن لأن الصيانة تعنى إستمرار تدفق البقرة الحلوب فى العطاء .. فيقول لنا المقريزى كيف إستلم أحمد بن طولون مصر وخراجها 800 ألف دينار وقام بالإصلاحات اللازمه فوصل الخراج الى 4 مليون و300 ألف دينار.!
أن الغزو الإسلامى لم يكن لنشر دين بل هو صاحب بعد توسعى سياسي اقتصادى لا يخفى عن الأذهان والذى تفضحه كتب التاريخ وأرى أن هذا لا يؤخذ عليه كونه شريعة المستعمرين على الدوام فى النهب والسلب والهيمنة على مدار كل العصور , فالحكم البيزنطي الروماني في مصر كان في غاية القسوه من ناحية الخراج والضرائب الرومانيه , وكان في منتهى القسوه كذلك في إضطهاد الأقباط المسيحيين حتى أن التقويم القبطي المصري يبدأ بعام الشهداء الذى جرت فيه مذابح هائلة لأقباط مصر .. لتبقى قضيتنا فى إعتبار الغزو الإسلامى بكل بشاعته فتحاً مبيناً وجهاداً عظيماً نفخر به ونقبل نعال الغزاة ولا نتورع أن نقيم إحتفالية بمناسبة غزوهم ونهبهم بل نطلق أسماء الغزاة المخضبة أياديهم بالدماء وقهر وإذلال الأجداد على أبناءنا ومعاهدنا وشوارعنا !! ,,هنا يكون خلل كبير ضاعت فيه كرامة وفقد العقل قبلها البوصلة والمصداقية ليتأسس منهجية تقبل نعال المستبدين والطغاة .
قضيتنا المطروحة لتقييم الغزو الإسلامى لمصر ليس المقصود منها نصب محاكمة له فهو تاريخ مضى وولى ولا يزيد عن أى غزو فى ذلك الزمان بل قد يكون أقل قسوة ووطأة من الإحتلال الرومانى لمصر وإن إختص الغزو الإسلامى ببشاعة تفرد بها عن أى غزو آخر فى محو هوية مصر ومسخها تماما , فلم يحدث على مدار التاريخ أن تغير لسان المصرى وثقافته وفقد جذوره كما حدث على يد الغزو العربى ولنا أن نتطرق لهذا الأثر المخرب فى بحث آخر .
عموما نحن نطلب أن يتم التعاطى مع التاريخ بمصداقية وبمنهجية شفافة قادرة على تقييم التاريخ بصورة موضوعية لأن زيفنا فى التعاطى مع التاريخ خلق لدينا منهجية إزدواجية فاسدة تتيح أن نتقبل سياط جلادينا ونقبل نعالهم طالما هم يتدثرون بالمقدس .. لقد ضلت البوصلة وتشوهت المعايير فهل نندهش لماذا نحن متخلفون , فنحن أمة بلا وعى وعندما تستدعى الوعى فتقلبه وتزيفه , حينها لا تقول لماذا نحن متخلفون فكل المعايير والمفاهيم مختلة ومشوهة .
المغفلون الخانعون المزيفون لن يصنعوا حضارة بل سينتجوا التخلف فقد ضلت بوصلتهم , فلا وعى ولا إدراك بل الزيف والإزدواجية والمذلة وتقبيل نعال الغزاة لينتقل هذا النهج للحس نعال حكامنا وملوكنا وأمراءنا فقد قبلنا نعال الغزاة بصدر رحب فهل من الصعب أن نقبل نعال بنى جلدتنا الذين يحملون نفس هويتنا و يحكموننا بالمقدس .. لقد إصبح للإذلال والنخاسة منهج يحتفى به فلا تأمل فى نهضة أمة .
دمتم بخير
- "من كل حسب طاقته لكل حسب حاجته " حلم الإنسانية القادم فى عالم متحرر من الأنانية والظلم والجشع .
#سامى_لبيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟