|
الربيع العربي وردّ الاعتبار إلى السياسة
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3611 - 2012 / 1 / 18 - 17:06
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لعل ما شهده العالم العربي من تغييرات ومن مخاضات لا تزال مستمرة ومتفاعلة سيترك تأثيراته في المرحلة الانتقالية التي يمرّ بها وما بعدها، والثورات دائماً تظهر أنبل القضايا وأجملها وفي الوقت نفسه أحقرها وأقبحها، حيث تصعد من القاع إلى السطح جميع المتناقضات والتحديات والمكبوتات، والعالم العربي ليس استثناءً، وحصل الأمر في الثورة الفرنسية والثورة الروسية والثورة الإيرانية وغيرها .
إن عملية التغيير موضوعياً ودون إسقاط رغبات الكبح أو الانفلات، ستطرح الكثير من القضايا التي ستتصدر الواجهة مثل مسألة الأقليات والتنوّع الثقافي، لاسيما الديني والطائفي والإثني، فمثلاً برزت المسألة الدينية في مصر (مشكلة الأقباط) وفي سوريا بدأت تململات (المشكلة الكردية) تظهر، مثلما تردد البعد الطائفي والمذهبي كجزء من صراع مستتر (السنّة والعلويون بشكل خاص والدروز) وكذلك الانقسام الديني (مشكلة استهداف المسيحيين)، وارتفع رصيد الحديث عن المشكلة العشائرية وكذلك المناطقية، في ليبيا وكذلك في اليمن، ولاسيما مشكلة الجنوب ومشكلة الحوثيين وبعض القضايا والمشاكل القبلية الأخرى أيضاً، وفي البحرين كانت المشكلة الطائفية هي الطاغية (الشيعة والسنّة) .
وستبرز قضية المرأة وحقوقها، خصوصاً أن هناك صراعاً بين الإسلام السياسي والعلمانيين، وبين المحافظين والليبراليين، وبين التراثي والتغريبي، وهكذا، وأعتقد أن موضوع الشريعة الإسلامية سيكون مادة صراع بين الاسلاميين أنفسهم هذه المرّة، فهناك قراءات متباينة للاسلام وتطبيقاته، بين إسلاميين معتدلين وآخرين متطرفين، بين إسلام منفتح تركي وإسلام منغلق، وإسلام معتدل وآخر متطرف، وإسلام متسامح وآخر متعصب وإسلام مسالم وآخر ارهابي، كما هي منظمات القاعدة، وذلك حين يتم استخدام الدين وتوظيفه لأغراض سياسية .
وقد كانت وثيقة الازهر الشريف التي أعلنها د . أحمد الطيب شيخ الأزهر بالتعاون مع نخبة من المثقفين المصريين من اتجاهات مختلفة تعبيراً تطمينياً عن شعور بالحاجة إلى تأكيد الوسطية والدولة الوطنية الدستورية الديمقراطية الحديثة، في “إطار استراتيجية توافقية” أساسها مبادئ الحرية والعدل والمساواة .
ولعل مثل هذا الأمر سيطرح على شكل أسئلة أخرى أبعد من علاقة الدين بالدولة، بل بشكل الدولة، خصوصاً في إطار التنوّع الثقافي ولوجود قوميات وأديان: هل الدولة الديمقراطية المنشودة ستكون دولة بسيطة أم مركبة؟، أي، دولة مركزية أو دولة لا مركزية وحتى فيدرالية، بتوزيع الصلاحيات بين السلطات الاتحادية وبين السلطات المحلية .
ولا شك في أن هناك تشوشاً والتباساً بين مفهوم الفيدرالية وغيره من المفاهيم التي قد تصل إلى الانفصال أو التقسيم بشكل مباشر أو غير مباشر، وبين مفهوم الفيدرالية الإداري والقانوني، الأمر الذي يحتاج إلى فضّ الاشتباك وتأصيل المفاهيم وتوضيح ذلك بما لا يؤدي إلى الإساءة للنظام الفيدرالي وهو نظام متطور، وبما يعزز من المسار الديمقراطي بحيث لا يؤدي إلى تفتيت الكيانات القائمة بدعوى رفض المركزية، حيث ينصرف الذهن إلى التجربة العراقية التي هي أقرب للكانتونات والدوقيات والمناطقيات منها إلى قواعد الفيدرالية المعتمدة دولياً ودستورياً .
لقد أعاد الحراك الشعبي العالم العربي إلى السياسة التي جرى تحريرها والتعامل معها بعيداً عن عقد الماضي، لاسيما بحصرها على نخبة أو مجموعة، في ظل حكومات شمولية وانظمة عسكرية، وكان الملايين من الناس في الساحات والشوارع أقرب بالدعوة إلى عقد اجتماعي جديد بين الحاكم والمحكوم، وعلى أسس مختلفة، بحيث يستطيع المحكوم أن يستبدل الحاكم وعلى نحو دوري وبرضا الناس الذين يمكن أن يسهموا بتحديد ملامح مستقبلهم .
كما أعاد الحراك الشعبي إلى السياسة بريقها ووهجها، وفي الوقت نفسه كشف عن خطل السياسات التقليدية في الحكم وفي المعارضة، خصوصاً بانكسار حاجز الخوف الذي انتقل من المحكومين إلى الحاكم في تغيير موازين القوى، وانكشاف الكثير من الخفايا والخبايا في أروقة الدول الاستبدادية .
لقد كان الحراك الشعبي في الغالب الأعم داخلياً بامتياز وهو نتاج تراكم طويل الأمد فقد ظل غياب مشروع نهضوي للتجدد الحضاري لأكثر من قرنين من الزمان ثغرة كبيرة عانى منها المجتمع العربي، على صعيد علاقته مع بعضه بعضاً وتنميته وأساليب الحكم المتبعة واستقلاله الاقتصادي وبالطبع على صعيد لحاقه بالعالم لا تقليداً وإنما للتجدد والتواصل .
فمنذ عصر النهضة هناك مطالب أساسية ظلّت هدفاً مشتركاً للنضال العربي، وهذه المطالب يمكن أن تشكل اليوم، ولاسيما بعد الثورات والانتفاضات الشعبية، مشتركاً أساسياً ومحورياً للعقد الاجتماعي المنشود، وعبر عقود من الزمان كانت مطالب الإصلاح والتغيير وسيادة القانون والدولة الدستورية واختيار الحكام واستبدالهم والمساواة والعدالة، أساس حركة فكرية إصلاحية من جمال الدين الأفغاني إلى محمد عبده وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وحسين النائيني وعبد الرحمن الكواكبي ورشيد رضا وشبلي شميّل وفرح انطون وصولاً إلى سلامة موسى وعلي عبد الرزاق وغيرهم، وهؤلاء يجتمعون وكل من موقعه ومن مدرسته الفكرية، على أهداف ومطالب أساسية، أو يشتركون في بحث معطياتها الرئيسة، حتى وإن اختلفوا في طريقة تناولها، وهو ما تبنته حركات سياسية واجتماعية لاحقاً، لاسيما في مرحلة ما قبل وبعد الاستقلال .
أول هذه المطالب والأركان للعقد الاجتماعي العربي الجديد هو: الوحدة والاتحاد في مواجهة التجزئة بكل أشكالها وصورها، لاسيما تلك التي تكرّست في اتفاقية سايكس بيكو العام 1916 وما تبعها . والديمقراطية في مواجهة الاستبداد بكل ألوانه وصوره، خصوصاً أن الدولة العربية ما بعد الاستقلال اتجهت في الغالب إلى التسلط والتفرّد في الحكم وممارسة القمع ضد شعوبها، وزاد الأمر عسكرة الدولة والمجتمع، لاسيما بعد انقلابات عسكرية، خصوصاً في مصر وسوريا والعراق، وفي الغالب كانت الحجة هي الصراع العربي “الإسرائيلي” وتحرير فلسطين، ولكن بعد ستة عقود ونيّف من الزمان لم يتم استعادة الأرض ولم يتم تحرير الانسان وتعطّلت التنمية وقوّضت التجارب الجنينية نحو الديمقراطية، وتم تبديد الأموال على السلاح دون طائل ودون حاجة حقيقية .
ومن أركان العقد الاجتماعي العربي التنمية المستقلة في مواجهة التخلّف والنمو المشوّه والتبعية . والعدالة الاجتماعية في مواجهة الاستغلال بجميع أشكاله وصوره، فقد كان التوزيع غير العادل للثروة سمة مشتركة لأنظمة الحكم العربية وكابحاً أمام التنمية الانسانية الشاملة، والاستقلال الوطني في مواجهة الهيمنة الأجنبية الاقليمية والدولية، والتجدد الحضاري في مواجهة التقليد والتغريب .
أما المآزق والتحديات التي تواجه إنجاز مشروع استشرافي مستقبلي للوطن العربي فهي تكمن في التوجه لتكوين الكتلة التاريخية: بالتواصل والتفاعل واعتماد آليات سلمية مناسبة، ولا بد من التوافق السياسي والجمع بين النضال الوطني والنضال الاجتماعي والجمع بين التحرير والتنمية، لاسيما عند بحث معوّقات التنمية، كما يتطلب الجمع بين الحداثة والأصالة، وبين التراث والمعاصرة، أي بين التواصل مع المشترك الانساني والحضارة الكونية .
ولعل الوصول إلى ذلك يستدعي إدارة حوار معمق ومسؤول بين القوى والتيارات المختلفة، لاسيما في ظل تنازع شرعيتين، الأولى متآكلة وبعضها أطيح بها، والثانية لم تولد بعد أو لم تكتمل، خصوصاً باستمرار التحديات التي تهدد الوحدة الوطنية والانقسام والحروب الأهلية والهيمنة الخارجية .
* باحث ومفكر عربي
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تعويم الدستور العراقي
-
إشكاليات ما بعد الربيع العربي
-
الشيخوخة
-
اللحظة الثورية وربيع التغيير
-
الإسلاميون والعلمانيون
-
ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
-
الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
-
ليبيا من الثورة إلى الدولة
-
اليونيسكو والثقافة بالمقلوب
-
بانتظار بايدن
-
الفدرالية العراقية والكثبان المتحرّكة
-
الدرس التونسي: القطيعة والتواصل
-
ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق!!
-
جدل دستوري عراقي وغواية الانقلاب العسكري
-
بغداد واشنطن: انتبهوا الوقت ينفد!
-
صناعة الدستور
-
الأردوغانية: زواج كاثوليكي بين الإسلام والعلمانية
-
إسرائيل- والمياه
-
مشكلة المياه العربية
-
سمفونية الرحيل- عبد الرحمن النعيمي الرجل الذي مشى بوجه الريح
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|