|
ماخ بلغة آينشتاين
هشام غصيب
الحوار المتمدن-العدد: 3603 - 2012 / 1 / 10 - 09:06
المحور:
الطب , والعلوم
لعل أكثر فيزيائي تأثر أينشتاين بعمله في صوغ نظريتي النسبية الخاصة والنسبية العامة هو إرنست ماخ (وهو ماخ ذاته الذي جعله لينين موضوعاً لنقده المادي في كتابه المعروف “المادية والنقدية التجريبية”). وبصورة خاصة، فقد تأثر آينشتاين بنقد ماخ للتصور النيوتوني للقوى القصورية وبالاقتراح الذي وضعه بصدد مصدر هذه القوى (مبدأ ماخ)، وهو ما عرضناه وشرحناه في المقالة السابقة. وقد نبه مبدأ ماخ هذا آينشتاين إلى النقاط الآتية التي ساعدته لاحقاً في صوغ نظرية النسبية العامة: (1) نبه ماخ آينشتاين إلى إمكانية إزالة التمييز بين مراجع الإسناد القصورية ومراجع الإسناد المتسارعة. (2) أشار ماخ إلى ضرورة إعادة النظر في نظرية نيوتن في الجاذبية إذا شئنا أن نزيل هذا التمييز. (3) أشار ماخ إلى إمكانية تفسير القوى القصورة بدلالة التفاعل الجاذبي، ومن ثم إلى إمكانية اعتبار القوى القصورية وقوة الجاذبية تفاعلاً واحداً موحداً يتغير شكلاً من مرجع إسناد إلى آخر وليس جوهراً، تماماً كما هو الحال مع التفاعل الكهرمغناطيسي. (4) أوحى ماخ بأن هناك مجالاً جاذبيا كونيا يخضع إليه كل جسم في الكون ويتغير شكلا حسب مرجع الإسناد الذي ننظر ونقيس منه. وقد تبنى أينشتاين هذه الأطروحات الماخية، ولكن بعد أن أعاد صوغها على أساس تصوره المجالي للوجود المادي. ذلك أن فلسفة آينشتاين الطبيعية كانت ترتكز إلى فكرة أسبقية المجال على الجسيم وتعتبر الأول الحقيقة الباطنية الجوهرية للوجود المادي، في حين أن وضعية ماخ كانت تدفعه إلى فكرة أسبقية الجسيم على المجال وإلى اعتبار الكون حشداً من الجسيْمات المتفاعلة معاً لحظيا. ومن هذا المنظور، فقد ظل ماخ ملتزماً بالتصور النيوتوني للمادة والكون، في حين أن آينشتاين ابتعد عن هذا التصور لصالح التصور المجالي، الذي بدأ يتبلّر على يدي الفيزيائي الإنجليزي مايكل فرادي، واتخذ شكلاً رياضيا محكماً على يدي الفيزيائي الإسكتلندي جيمس كلارك ماكسويل، الذي وضع منظومة المعادلات الرياضية التي تحكم المجال الكهرمغناطيسي، وتعزّز وتعمم واحتل مركزاً محوريا في الفيزياء واعتبر أساساً للمادة على يدي ألبرت آينشتاين. وبصورة خاصة، ففي حين اعتبر أصحاب التصور الجسيْمي للمادة التفاعل الجاذبي والكهرمغناطيسي لحظياً، فقد اعتبره أصحاب التصور المجالي فعلاً ماديا طاقيا ينتقل في المكان بسرعة معينة. فوفق التصور المجالي، فإن الجسيمات لا تتفاعل معاً لحظيا عن بعد، وإنما تتفاعل موضعيا مع المجالات التي تولدها، تلك المجالات التي تنتقل في المكان بسرعة معينة، اكتشف ماكسويل وآينشتاين أنها تساوي سرعة الضوء في الفراغ. إذاً، قام آينشتاين بترجمة النقاط التي استقاها من مبدأ ماخ إلى لغة التصور المجالي للمادة والكون، فوضع نصب عينيه المهمات الآتية التي شكلت مرشداً لعمله العلمي بين عامي 1905، 1915: وضع آينشتاين نصب عينيه بناء نظرية مجالية للجاذبية تأخذ بعين الاعتبار محدودية سرعة انتقال التفاعل الجاذبي في المكان، وتبين تفصيليا تغير شدة المجال الجاذبي في المكان والزمان، وذلك على غرار ما سبق أن فعله ماكسويل بصدد التفاعل الكهرمغناطيسي. ذلك أن ماكسويل استطاع أن يصوغ قوانين التفاعل الكهرمغناطيسي التي كانت معروفة لديه، وأن يكمل هذه القوانين جماليا ومنطقيا بإضافة مفهومات وعلاقات جديدة إليها، بدلالة التغيرات المكانية والزمانية في المجال الكهرمغناطيسي. وشكلت منظومة المعادلات التي توصل إليها ماكسويل نصراً كبيراً للفيزياء النظرية، وأساساً مكينا للتطورات اللاحقة في هذا الحقل. وقد تركز طموح آينشتاين في عقده الذهبي (1905 – 1915) على صوغ منظومة معادلات مجالية تصف المجال الجاذبي على غرار منظومة ماكسويل المذكورة. ففي ضوء نقد ماخ المذكور لنظرية نيوتن في الجاذبية، وفي ضوء صعود التصور المجالي للوجود المادي، أدرك آينشتاين قصور هذه النظرية من حيث إنها تفترض تفاعلات لحظية عن بعد، ومن حيث إنها تدعم بصورة مباشرة فكرة المكان المطلق، ومن حيث إنها تتناقض مع مبدأ النسبية الخاصة ومبدأ النسبية العامة الذي كان آينشتاين يتلمس الخطى صوبه. ومن جهة أخرى، فقد وضع آينشتاين نصب عينيه تفسير القوى القصورية جاذبيا، أي بوصفها جزءاً لا يتجزأ من المجال الجاذبي الذي كان يسعى إلى اكتشاف معادلاته المجالية. ومن جهة ثالثة، فقد سعى إلى التخلص كليا من فكرة المكان المطلق بصوغ قوانين الطبيعة جميعاً بصورة تضمن ثبات بناها الداخلية بالنسبة إلى أي مرجع إسناد وأي نظام للإحداثيات. بل إنه وجد مفتاح نظريته المجالية في الجاذبية في هذه المهمة بالذات، أي في ما أسماه مبدأ النسبية العامة. ومن جهة رابعة، فقد نبه ماخ آينشتاين إلى كونية الجاذبية، أي إلى ضرورة أن تكون أي نظرية مجالية شاملة في الجاذبية نظرية في نشوء الكون وتطوره وبنائه الداخلي.
#هشام_غصيب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار فلسفي
-
كيف نلغي الجاذبية
-
هل يمكن أن يتوقف الزمن؟
-
انحناء الضوء بفعل الجاذبية
-
هندسة إقليدس
-
الهندسة اللاإقليدية
-
لغز عطارد بين نيوتن وآينشتاين
-
كون آينشتاين
-
لماذا لا تنفجر الشمس ولا تنهار؟
-
هندسة غاوس
-
جاذبية نيوتن
-
العقل من أجل الثورة
-
من نسبية غاليليو إلى نسبية آينشتاين
-
الزمكان المنحني
-
جولة في الزمكان
-
حياة المادة في الزمكان
-
جدل الوجود والعدم في الفيزياء
-
الثورة الدائمة في الوطن العربي
-
الجمعية الفلكية الأردنية
-
كيف ركب آينشتاين نظرية النسبية ؟
المزيد.....
-
كل ما تريد معرفته عن الالتهاب الرئوي عند كبار السن.. الأعراض
...
-
الأعراض الأولى لسرطان القصبة الهوائية والوقاية منه
-
أطعمة ومشروبات تجنبها عند تناول المضادات الحيوية
-
الضغوط تتزايد على عمالقة التكنولوجيا.. ماذا يعني قانون الأسو
...
-
الحكومة الأميركية تطلب من القضاء إجبار غوغل على بيع -كروم-
-
” سجل الآن من هنا “.. التسجيل في مسابقة الشبه الطبي في الجزا
...
-
مخدر الاغتصاب GHB .. مراحل تأثيره السلبى على الجسم وكيف يحدث
...
-
وكالة الفضاء الأوروبية تمول شركات صناعات الفضاء الخاصة بملاي
...
-
نوع من الفطر قد يبطئ نمو الورم السرطاني ويطيل العمر
-
للمرة الأولى.. اصطفاف مجرتين بشكل مثالي يساعد على رؤية الكون
...
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|