|
محنة العقل في التوحيد / جزء 1
غالب محسن
الحوار المتمدن-العدد: 3599 - 2012 / 1 / 6 - 23:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 29
البكاء ألوان
حامَ الحَمام يا سلام يا سلام يَقطِّرُ هَلَعاً ، وسطَ الزِحام في بلدِ القِماماتِ ، والمَقاماتِ والخيام طارَدَتهُ سحاباتُ الغُبارِ والدُخان بين الراياتِ والمآذنِ والحُطام وأبتهالات الصيام أصواتُ طبولٍ ، للبهجةِ المنزوعةِ من كلِّ بيتٍ ووِئام مواويلٌ ونحيبٌ للحجرِ ، والرُخام وعيونُ الأيتام تدور وتدور بين الطمى وصكوك الغفران تحفرُ وشماً في التُراب ، والأيام والدعاء يا سلام على الكلام تعالي يا حماماتي ، تعالي للمائدةِ ، وللزوار الكرام رؤوسٌ تترنحُ من النشوة والهيام تنادي يا إِمام يا إِمام أعطِنا الخُبزَ و الموت الزؤام
كان ياما كان ، كان الدين حكمة الزمان
قديماً * ، عندما كان الدين في المهد ، كثيرون هم من أنتقدوه وفي مقدمتهم فلاسفة العقل والطبيعة والوجود وغيرهم من المفكرين . لكن لم يكن بينهم أحد ، تقريباً ، من أولئك الفلاسفة والمفكرين الذين تركوا أعظم الأثر في الفكر الأنساني ، أقصد حكماء آسيا وفلاسفة الأغريق بل هم كانوا أقرب لروح التعاليم الدينية في بدايات ظهورها قبل أن تلتحق هذه الأخيرة بالسياسة ، فأفسدتها .
وليس غريباً أن نَظَرَ الجمهور ، وما زالوا ، الى بعضِ أولئك الحكماء وكأنهم أصحاب رسالات سماوية " وأن لم يدّعوا " فكان طبيعياً أن أتباعهم قاموا بمحاولات تحويل تعاليمهم وحِكَمِهِم الى أديان حتى أنهم حققوا نجاحات ملموسة في جعل تلك الأفكار " الأخلاقية في مقدماتها " الى مسلمات " مقدسة " ونقلها من رفوف الأرض الى كنوز السماء .
هكذا صار لاو تسي رسول الآباء الصينيين وتحولت تعاليمه الى طقوس دينية وصار تلامذته ومريده سدنة وكهنة معابد أنتشرت في كل مكان . أما كتابه الطاو ( الطريق ) فقد أصبح قرآناً لهم . وهكذا كان مصير ثلاثة من كبار معاصريه ، المعلم كونفوشيوس ، النبي زرادشت، والأمير المستنير سيدهارتا ( بوذا ).
في الفلسفة الأغريقية الكلاسيكية ممثلة بأعظم رموزها سقراط وتلميذه أفلاطون ثم ألمع تلامذة الأخير أرسطو لم يكن الدين عندهم موضوعاً مفضلاً في النقد ولم يمنعهم ، الأرباب ، من " الزهو الفكري " بل العكس . فليس من الصعب تلمس نوع من الأحترام والأمتنان لهم وأن كانت تتم في بعض الأحيان بصيغة المفرد مثل العقل ، الفكرة ، الجوهر والأرادة . و لم تكن أفكارهم وحِكَمِهِم تخلو من أفكار غيبية هي في الواقع تمجيد للآلهة وأقراراً بها . أن فيلسوفاً مادياً مثل أبيقور حاول أن يفهم ويفسر الظواهر الطبيعية بقوانينها لكنه لم ينكر وجود الآلهة بل رفض ربط الأساطير بها . بعبارات أخرى لم يجد هؤلاء الفلاسفة في الدين عوائق تمنع أبحارهم الفكري ، فتعدد الآلهة كان على العكس برهاناً على التسامح الفكري وفضاءاً آخراً للحرية الذي أنتهى منذ أن جاء العبرانيون بالديانة التوحيدية وتبعتهم المسيحية ثم أحكم الأسلام الأرثوذوكسي متاريسها .
الحكمة للسماء
هل كان ذلك ، يا ترى ، مجرد مصادفة ؟ سؤال جدير بالتأمل ، لكنني لا أرى في ذلك مجرد مصادفة ، فالحكمة ليست كذلك رغم أن الصدفة قد تختصر الطريق للمعرفة . تلك الأفكار ، الأنسانية العميقة ، التي ما زلنا نتذكرها ، نحترمها ، ونتعلمها في المعاهد والجامعات ، لا يمكن أن تكون مجرد مصادفة أن أصحابها قد " أحبوا آلهتهم " ولم يتذكروا " مساوئ " الدين . وأذا كان الله قد خلق الأنسان على شاكلته بما فيها حكمته فأن الأنسان في المجتمع القديم قد خلق هو الآخر ألهه على شاكلته ، بسيطاً ، يزعل ويغضب حيناً ويفرح ويمرح حيناً آخراً ، يعاًقب ثم يعفو ، يحب ويكره تماماً مثل خالقه .
كان الدين وخالقه في توافق حسن بل كان " عنصر " توازن المجتمع " خصوصاً في جانبها الأخلاقي وأحد أسرار ديمومته . لقد حثّ هذا " التقدير الأيجابي " للدين ودوره الأخلاقي على أزدهار الأفكار الغيبية ( طبعاً الى جانب أسباب أخرى ليست موضوعنا هنا ) وشجّع الكثيرين على التنبؤ و أطلاق العنان لأحلامهم حتى وصلت الى السماء . فَكَثُرَ الأنبياء والمنجمون والمصلحون حتى تداخلت أفكارهم بل أخذوا يرددون ذات الأنغام رغم أختلاف الصوت في تشابه لحد مذهل . لم يكن ذلك مجرد صدفة ، فالكثير ممن عَبَرَت أفكارهم ودعواتهم حدود بلدانهم كان قد عاش ، تقريباً ، في ذات الحقبة الزمنية والمكانية ( تزامن الحضارات الشرق آسيوية ، الفارسية ، بلاد النهرين ، المصرية والكنعانية ) . بل أن حياة معظم أولئك تتشابه الى حد كبير في كيفية وصولهم للحظة التجلي ، الأكتشاف .
أن تأتي الحكمة من السماء ماهي ألا تحصيل حاصل ، فمنبع الفكرة قد جاء من رفض وأحتجاج على المجتمع الأرضي وعيوبه وعجز أمام جبروت الطبيعة ، وكان لا بد أن يأتي الخلاص من غير البشر .
مع أختلافات محتملة في البواعث والأسباب والتشكل ، يمكن أن يكون السيناريو العام ، للتنبؤعلى هذه الصيغة :
يبتدأ المتأمل بالأنعزال عن المجتمع ، بعيداً فوق جبل أو غابة أو في صحراء (موقف أخلاقي رافض لتلك الحياة) ، التفكر في عالم الطبيعة المحلي والمجتمع آنذاك (رغبة قوية لتحقيق الخير والعدالة) ، الكوارث والظواهر الطبيعية ، المذهلة ، والأمراض (تخلف العلم وجهل عام) ، حياة المجتمع وتناقضاته (حروب وصراع طبقي ومصالح) ، تتوارد الأسئلة في العقل (الرغبة في التغيير) ، السماء الصافية في النهار والنجوم المتلأ لئة في الليل تتيح للمخيلة أجوبة الخلاص (ألهام) ، ليس من الأرض (البشر) بل من السماء (الآلهة) .
وهكذا كانت تأتي العِبَر والأحكام والمعجزات . ففي الصحراء كانت الأبل والشمس والقمر والنجوم عند محمد ، بينما كانت الخراف والقطيع والمرض والشفاء عند عيسى ، والنور والظلام كان لزرادشت والخير و الشر لبوذا والعبودية زمن الفراعنة عند موسى .
وكان كل ذلك عند ماني ** .
لم يكن ماني سوى أحد هؤلاء الذين أراد أن يجمع حكمة بوذا وزرادشت وعيسى في بوتقة المانوية ، ولم يكن من الصعب عليه تعقب ذات الفكرة الأخلاقية لدى كل هؤلاء ، وأن تعددت الألسن .
لكن عندما بدأت قصة المجتمع الطبقي وصراع المصالح بالأكتمال أنحاز عنصر التوازن هذا ، الدين ، لصالح أقوى أطراف الصراع ووقع في غرام الحاكم ، ومنذ ذلك الحين فقد " عذريته " للأبد.
يتبع جزء 2 (التوحيد خطوة الى الوراء)
د . غالب محسن
--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------- * وحديثاً بالطبع لكن ليس هذا هو موضوعنا هنا ** كتب أمين معلوف " حدائق النور " وهي رواية تأريخية ، جميلة ، عن المانوية ونشأة زعيمها ماني .
#غالب_محسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 3
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 2
-
الدين ملجئ السياسة والثقاقة قبرها / جزء 1
-
صوتُ هناء ، جلجلَ في السماء / تأملات 25
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 4
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل // جزء 3
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 2
-
مقدمة في نقد تأويل التأويل / جزء 1
-
الى المؤتمر التاسع للحزب الشيوعي العراقي مع أطيب التحيات
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 2
-
عندما يكون العنف طريقاً للحق / جزء 1
-
تأملات في تقييم الحركة الأنصارية / جزء 2
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 16 / تأملات في تقييم الحر
...
-
التيار الديمقراطي بين الأمل وثقل العمل (2)
-
التيار الديمقراطي بين هَم الأمل وثقل العمل (1)
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 13 / من غير وصايا كان الع
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 12 صَخبٌ في العقول
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 11
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 10 /الأيمان في الغربة وطن
...
-
نقد الذات قبل نقد الوقائع / تأملات 9 / الأيمان في الغربة وطن
...
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|