|
اللحظة الثورية وربيع التغيير
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3597 - 2012 / 1 / 4 - 20:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يشهد العالم العربي تغييرات كبيرة ويمرّ بمرحلة انتقالية، سواء في البلدان التي شهدت احتجاجات وتظاهرات وصراعات مختلفة أدّت إلى الإطاحة بالأنظمة أو في البلدان التي ظلّت بمعزل عنها، لكنها لن تكون بعيدة عن تأثيراتها حتى وإنْ أتت بعد حين، لأن عملية التغيير والانتقال الديمقراطي جزء من قانون طبيعي للتطور التاريخي وصلت مفاعيله اليوم إلى البلدان العربية، بعد أن مرّت موجته الأولى في أوروبا الغربية في السبعينات، واجتاحت الموجة الثانية أوروبا الشرقية في أواخر الثمانينات، وفي فترة متزامنة ومتعاقبة وصلت الموجة إلى أمريكا اللاتينية، وها هي الموجة الثالثة للتغيير تصل إلى البلدان العربية .
شهدت أوروبا الغربية الموجة الأولى للتغيير والانتقال الديمقراطي بعد الحرب العالمية الثانية، للبلدان التي ظلّت مستعصية مثل البرتغال، إلى أن أطيح بالدكتاتور سالازار وسارت البلاد نحو الديمقراطية في العام 1974-،1975 وإسبانيا التي حكمها الدكتاتور فرانكو نحو أربعة عقود من الزمان، وعند وفاته توجّهت البلاد لتهيئة مستلزمات الانتقال الديمقراطي بإعداد دستور ديمقراطي في العام 1978 وإجراء انتخابات، واليونان التي حكمها الجنرالات، حتى شهدت تغييراً قاد إلى الديمقراطية في أواسط السبعينات وأواخرها .
أما البلدان العربية، فعلى الرغم مما يمور في داخلها، فقد بدت صورتها خارجياً وكأنها استعصاءٌ أو استثناءٌ من عملية الانتقال الديمقراطي، وإذا بالحراك الشعبي الذي بدأ من تونس يزحف سريعاً وينتقل إلى مصر ومنها إلى العديد من البلدان العربية . ولعل المتمعّن في أوضاع بلادنا العربية، سيدرك أن هناك تراكماً تدريجياً لم يظهر تغييره النوعي إلاّ حين نضجت اللحظة الثورية، ولم يكن الأمر إذاً صدفة أو إشارة غامضة جاءت من الخارج، وإن بدا مفاجأة، لاسيما إيقاعها السريع، لكنها في واقع الأمر كانت تعبيراً عن رغبة ملحّة لتصحيح علاقة غير سويّة بين الحاكم والمحكوم تلك التي وصلت إلى طريق مسدود بتعاظم العسف وشحّ الحريات واستشراء الفساد، فحانت لحظة الانفجار حين اندلعت الثورات العربية الواحدة تلو الأخرى .
لعل الحراك الشعبي والرغبة في التغيير كان تراكماً طويل الأمد شمل ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي ونقابي ومهني، حيث كان يتمظهر ثم يخبو، حتى يكاد يقترب من الانطفاء، بسبب عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، لكنه لا ينقطع، وظلّ مستمراً ومتواصلاً على الرغم من الصعود والنزول، إلى أن جاء موعد اللحظة الثورية المثيرة للدهشة حد المفاجأة، يوم أحرق البوعزيزي نفسه في تلك المدينة النائية “سيدي بو زيد” فانتقلت الشرارة وسرت مثل النار في الهشيم، وكما يقول ماوتسي تونغ: “يكفي شرارة واحدة لكي يشتعل السهل كلّه” .
حصلت اللحظة الثورية حين نضجت وتفاعلت واتّحدت العوامل الموضوعية، والعوامل الذاتية، لاسيما عندما انتقل الخوف من المحكومين، إلى الحكّام، فلم يعد هناك ما يخيف الشعب بعد أن عملت آلة الإذلال والكبت والقتل ما عملته، بالشعب الأعزل، وعندها لم يعد الموت مرعباً، في حين أصبح، هذا الموت، يخيف الحاكم الذي أخذ بالتراجع خطوة بعد أخرى، وتصريحاً بعد تلميح، وإجراءً بعد آخر .
وهنا اختلت موازين القوى لصالح المحكومين، في حين ظلّ الحاكم يبحث عن ملاذ، فقد وجده زين العابدين بن علي في الرحيل، وفي حالة محمد حسني مبارك كان بالتنازل بعد تطمينات من الجيش، الذي كان الخطوة الانتقالية للسلطة في البلدين، بينما في حالة القذافي فقد لاذ بالفرار، لكنه لم يتمكن من النجاة واضطرّ علي عبدالله صالح إلى التوقيع على المبادرة الخليجية بعد مماطلة دامت نحو ثمانية أشهر، في حين ظل بشار الأسد متمسكاً بالسلطة، مثلما ظلّت التظاهرات الشعبية مستمرة من دون انقطاع منذ 15 مارس/آذار من العام الماضي (2011)، ودخلت الأزمة السورية مرحلة جديدة وخطيرة حين بدأ مسلسل العقوبات من جانب جامعة الدول العربية، الأمر الذي سيساعد في تدويل المسألة السورية، لاسيما إذا عُرضت على مجلس الأمن الدولي .
لعل أهم المشتركات للثورات العربية تتلخص بالمطالبة بالحريات والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد المالي والإداري المستشريين، لاسيما تماهي السلطة مع المال . وكانت تقارير التنمية البشرية لسنوات قد شخّصت الحال بهدر الحريات والنقص الفادح في المعرفة والافتئات على حقوق الأقليات وعدم مساواة المرأة بالرجل، وتلك القضايا شكّلت المشهد الذي يكاد يكون مشتركاً للوضع العربي، وإن كان هناك بعض الخصوصيات، فمثلاً إن وضعية المرأة وحقوقها كانت مكفولة في تونس قانونياً وهي تختلف عن العديد من البلدان العربية منذ عهد الرئيس بورقيبة بعد الاستقلال في العام 1956 .
وإذا عاشت تونس في كنف الحزب الواحد وكذلك سوريا حيث “ الحزب القائد” أما ليبيا فإن تشكيلات “اللجان الثورية” لا يمكن إدراجها تحت أي مسمّى سوى “الحزب الواحد” مع تحريم الحزبية “من تحزّب خان”، فإن مصر كانت قد وجدت في فكرة التعددية الشكلية طريقاً للحكم، في حين كانت اليمن تعيش توازناً إلى حد ما بين حزب السلطة “المؤتمر الشعبي” والمعارضة السياسية الممثلة “بأحزاب اللقاء الوطني”، لاسيما في العقد الأخير .
لم يكن في البلدان العربية عشية الاحتجاجات الشعبية ما يشير أو حتى يوحي في بعضها على الأقل، أن الذي حدث سيحدث، في حين كان العالم يراكم خبرات وتجارب على هذا الصعيد، إلى أن حصل التراكم التدريجي ذروته، فانفجر الوضع في بعض البلدان وتأخر في أخرى، وحتى البلدان التي لم يتحقق فيها التغيير ثورياً فلم تكن بمنأى عن استحقاقاته .
وبغضّ النظر عن نتائج الحراك الشعبي العربي وتداخلاته الإقليمية والدولية أحياناً، فإنه بلا أدنى شك غيّر الصورة النمطية السائدة عن العرب، تلك التي كانت أقرب إلى السكون، وإذا بالعديد من البلدان العربية تمرّ بحركة غير مشهودة، حيث تنزل الجماهير إلى الشوارع والساحات تريد تغيير مستقبلها وصناعة مصيرها، وعلى الرغم من حرمانها واستلابها فقد رفعت شعارات سلمية وذات طبيعة مدنية، وبغلبة للشبابية والوسطية والاعتدالية والمطالبة بالحريات والكرامة الانسانية ومحاربة الفساد، ومثّلت هذه السمات مشتركاً لجميع الحركات الاحتجاجية الشعبية، وإنْ كان لكل بلد خصوصيته وتطور مطالبه وشعاراته، لكنها في بداية الأمر رفعت هذه الشعارات ذات الصفة المطلبية تلك التي لم يجر التعامل معها بصورة إيجابية، فزاد الأمر تعقيداً، حتى غدت مطالب من قبيل تغيير الأنظمة، كحد أدنى، لا يمكن القبول بأقل منها .
لقد دلّ الحراك الشعبي على أصالة حركة التغيير، التي لم تكن سوى نتاج تفاعل سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي داخلي ونضالات طويلة ومعقّدة لقوى وحركات سياسية وفكرية، على مدى عقود من الزمان، ناهيكم عن عوامل موضوعية وأخرى ذاتية، مع وجود أوضاع دولية مشجعة، خصوصاً الموجة الداعمة لقضايا حقوق الانسان والحريات على المستوى العالمي، تلك التي ازداد رصيدها منذ انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات، وحتى وإن تم توظيفها لأغراض سياسية، إلاّ أنها موضوعياً خلقت أجواء مناسبة دولياً للتغيير والانتقال الديمقراطي، بغض النظر عن ازدواجية المعايير وانتقائية السياسات .
وأكّد الحراك الشعبي أن عملية التغيير لا يمكن صنعها في الخارج أو زرعها في بيئة غير مناسبة وفي أجواء غير صحية، وإلاّ فإن الثورات ستذبل وتدريجياً ستموت وقد تتحول إلى ضدها، فكل تربة لها كيمياء خاصة، وإن كان هناك مشتركات، وعلاقة جدلية بين الداخل والخارج . ولا يمكن أن تنجح ثورة في العالم من دون وجود مثل هذه الجدلية على مرّ التاريخ، وإن اختلفت موازين القوى، خصوصاً ونحن نتحدث في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين .
وقد لعب الإعلام وشبكات الاتصال والمواصلات والثورة العلمية والتكنولوجية والطفرة الرقمية “ الديجيتل” دوراً كبيراً في ربط البلدان العربية بالعالم، وكذلك بدول الجوار التي بدت مؤثرة، كما أنه رفع من درجة وعي المجتمعات ودفعها إلى التفاعل، لكي تلعب دوراً في عملية التغيير ورسم صورة المستقبل .
ودلّ الحراك على دور الشباب وحيويته، حيث كان يمثل العقل المدبّر والساعد المنفّذ، وحتى وإن بدا الحراك عفوياً، وقد كان كذلك، إلاّ أنه لم يكن بمعزل عن تراكمات طويلة الأمد، ساهم المجتمع المدني على ضعفه ومشكلاته في تهيئة المستلزمات الأولى لها أو الدعوة إليها، وكذلك القوى والفاعليات السياسية والفكرية، كما كشف الحراك عن النزعة الوسطية الاعتدالية الجامعة، وهي التي ظهرت لدى جميع التحركات الشعبية، حتى وإن اتّخذ بعضها طابعاً عنفياً، إلاّ أنه ظل محدوداً بشكل عام، ولم يلجأ إليه إلاّ بعد عنف مضاد أو دفاعاً عن النفس، وإن تطوّر الأمر لاحقاً، لاسيما بالتدخل الخارجي، وظهور بعض المجموعات المسلّحة .
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الإسلاميون والعلمانيون
-
ماذا بعد الربيع: العرب والجوار والعالم؟
-
الانسحاب الأميركي من العراق.. من الأقوى؟
-
ليبيا من الثورة إلى الدولة
-
اليونيسكو والثقافة بالمقلوب
-
بانتظار بايدن
-
الفدرالية العراقية والكثبان المتحرّكة
-
الدرس التونسي: القطيعة والتواصل
-
ما بعد الانسحاب الأمريكي من العراق!!
-
جدل دستوري عراقي وغواية الانقلاب العسكري
-
بغداد واشنطن: انتبهوا الوقت ينفد!
-
صناعة الدستور
-
الأردوغانية: زواج كاثوليكي بين الإسلام والعلمانية
-
إسرائيل- والمياه
-
مشكلة المياه العربية
-
سمفونية الرحيل- عبد الرحمن النعيمي الرجل الذي مشى بوجه الريح
-
الحق في الماء
-
سورية :هل لا يزال طريق التسوية التاريخية سالكاً!؟
-
العقدة اليمنية وما السبيل لحلها؟
-
في رحيل عبد الرحمن النعيمي
المزيد.....
-
ماذا يعني إصدار مذكرات توقيف من الجنائية الدولية بحق نتانياه
...
-
هولندا: سنعتقل نتنياهو وغالانت
-
مصدر: مرتزقة فرنسيون أطلقوا النار على المدنيين في مدينة سيلي
...
-
مكتب نتنياهو يعلق على مذكرتي اعتقاله وغالانت
-
متى يكون الصداع علامة على مشكلة صحية خطيرة؟
-
الأسباب الأكثر شيوعا لعقم الرجال
-
-القسام- تعلن الإجهاز على 15 جنديا إسرائيليا في بيت لاهيا من
...
-
كأس -بيلي جين كينغ- للتنس: سيدات إيطاليا يحرزن اللقب
-
شاهد.. متهم يحطم جدار غرفة التحقيق ويحاول الهرب من الشرطة
-
-أصبح من التاريخ-.. مغردون يتفاعلون مع مقتل مؤرخ إسرائيلي بج
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|