|
أبدية الشريعة (1-7)
راندا شوقى الحمامصى
الحوار المتمدن-العدد: 3596 - 2012 / 1 / 3 - 22:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"قل ان دليله نفسه ثم ظهوره، ومن يعجز عن عرفانهما جعل الدليل له آياته وهذا من فضله على العالمين وأودع في كل نفس ما يعرف به آثار الله ومن دون ذلك لن يتم حجته على عباده ان أنتم في أمره من المتفكرين انه لا يظلم نفساً، ولا يأمر العباد فوق طاقتهم وانه لهو الرحمن الرحيم". (بهاءالله - لوح أشرف)
ليس أبلغ من أدلة رسل الله ولا أتم من حجتهم. فبمجرد إعلانهم دعوتهم يضعون العالم في موضع الاختبار والامتحان أمام ميزان الله الدقيق الذي لا يخطئ. فحتى البسطاء ذوي العقول الساذجة لهم مثاقيلهم في هذا الميزان، لأن الله تعالى قد "أودع في كل نفس ما يعرف به آثار الله" ولذلك، فحتى الساذج البسيط مسئول أمام الله بالقدر الذي يفهم وبالقدر الذي يعمل. لقد وضع الله تعالى ميزاناً واحداً جاء مع كل رسول يجدر بأهل العالم أن يركزوا أنظارهم عليه. ومع أن هذا الميزان الإلهي دقيق كل الدقة، فانه أيضاً بسيط كل البساطة... ان الله تعالى يقول بلسان كل رسول أن ميزانه لأهل الأرض هو هذا: أن دعوة الحق تعلو وتنفذ، وأما دعوة الباطل فتزهق وتنعدم، مهما اشتدت الاعتراضات في وجه الأولى، أو تكاتفت قوات الأرض مع الثانية. قال تعالى في التوراة - تثنية 18 "وان قلت في قلبك كيف تعرف كلام الذي لم يتكلم به الرب، فما تكلم به النبي باسم الرب ولم يحدث ولم يصر فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب، بل بطغيان تكلم به النبي فلا تخف منه"(*). وجاء في الإنجيل - بطرس الثانية 1 - "لأنه لم تأت نبوة قط بمشيئة إنسان، بل تكلم أناس الله القديسين مسوقين من الروح القدس" وقال تعالى في سورة الرعد 14 "له دعوة الحق والذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو ببالغه، وما دعاء الكافرين إلا في ضلال". بل انه تعالى قضى برحمته أن لا يسمح لشخص أن يتقوّل عليه بعض الأقاويل، فكيف إذا افترى على الله دعوة كاملة "ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين، ثم لقطعنا منه الوتين، فما منكم من احد عنه حاجزين" (سورة الحاقة 46). فانظر كيف وفى الله بوعده كاملاً، فقد قضى بكلمته العليا على "ثوداس ويهوذا الجليلي" اللذين ادعيا الرسالة في أيام السيد المسيح - إنجيل اعمال الرسل 5 - وقضى على مسيلمة الكذّاب وغيره ممن ادعوا الرسالة ايام سيدنا محمد عليه السلام. ومما لا شك فيه أن الدين هو غاية الله العليا لتنظيم شئون العالم، ولقد نظمها فعلا في مراحلها المتتابعة. ولا شك ايضا في ان العقيدة الدينية هي أعز ما عند الفرد والأمم في هذه الحياة الدنيا مهما شاب اعتقادهم من شوائب الأوهام والأعمال التي لا تليق بالدين. فعندما يظهر إشراق جديد، ويطلع نور رسالة جديدة يتردد الناس طويلا قبل الإقبال، ويشفقون طويلاً على ما عندهم، والحال ان الدعوة الجديدة لا تقصد إطلاقاً المساس بجوهر العقيدة وإنما تقصد تنقيتها من الشوائب التي لصقت بها بمرور الزمن ! وقد يكون الناس معذورين في ترددهم حتى يطمئنوا على الأقل، فما هي المسائل التي يثيرونها في وجه الرسالة؟ وطبيعي أن يكون موضوع الشريعة وخلودها أولى المسائل التي تثيرها الأمم عند ظهور دعوة جديدة بشريعة جديدة فيها أحكام وقوانين ونظم جديدة. أما اذا ظهر مئات المصلحين في ظل الشريعة القائمة فلن يثير ظهورهم سوى اهتمام محدود قد يتحول في بعض الحالات الى نزاع طائفي حول العقيدة وتفسير الكتاب، الا انه لا يخرج عن ظل الشريعة القائمة بين أهلها بأي حال كما حدث بين أهل الأديان. ولكن عندما تتناول الدعوة الجديدة تعديل أحكام الشريعة القائمة، فإن المسألة تخرج بأجمعها عن الدائرة المحدودة، ويرجع الناس الى كتاب الله يحاجون به صاحب هذه الدعوة الجديدة، ويتمسكون بظاهر النصوص المباركة ويعلنون أن شريعتهم أبدية لا يمكن أن يطرأ تعديل على حكم من أحكامها بأي حال، لأنها صالحة لكل زمان. فقد قال في التوراة - ملاخي 4 - "اذكروا شريعة موسى عبدي التي أمرته بها في حوريب على كل إسرائيل الفرائض والأحكام" وجاء في الإنجيل - متى 24 "الأرض والسماء تزولان ولكن كلامي لا يزول" وقال تعالى في سورة المائدة 3 "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" تمسكت كل أمة بظواهر هذه النصوص المباركة وأعلنت أن شريعتها أبدية، ولكن الواقع ان الشرائع تعددت رغم إصرار كل أمة على خلود شريعتها. فاليهود مثلاً لا يزالون يعلنون الى اليوم بحكم ظاهر نص التوراة ان شريعتهم خالدة، بينما جاءت الشريعة المسيحية، وتلتها الشريعة الإسلامية. ولكي نتصور مقدار عمق هذه العقيدة في نفوس أهلها ما علينا الا أن نرجع الى التوراة فنجد فيها في أكثر من موضع أن اليهود ينتظرون عودة ايليا من السماء وظهور المسيح وظهور النبي، ويعتقدون أن هؤلاء لا بد يظهرون. وفعلا ظهر ايليا (يوحنا، أي يحيى بن زكريا) وظهر المسيح، وظهر النبي الكريم ومع ذلك أنكروهم اليهود لسبب واحد فقط وهو أنهم جاءوا بشريعة غير شريعة التوراة. ويرجع هذا الإعراض الى سبب واحد وهو فهم آيات الكتاب على غير ما وضعت له، وإلا فكيف نجد في كتب الله تعالى آيات صريحة عن رسالات جديدة تنزل من سماء مشيئة الله ورحمته: "ولكم ايها المتقون اسمى تشرق شمس البر والشفاء في أجنحتها..." - ملاخى 4 - "ان لي أمورا كثيرة ايضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون ان تحتملوا الآن، وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم الى جميع الحق" إنجيل - يوحنا - 16، وقال تعالى "يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق" - النور 25 - ومع هذه الصراحة فان العقيدة الراسخة عند كل أمة بأن شريعتها أبدية تجعلها تلجأ الى التفاسير لتثبت من أركان هذه العقيدة، فيقول أهل الإنجيل، وهو مثال على ما يقوله أهل الأديان الأخرى، بأن المراد من "روح الحق" الذي يرشد "الى جميع الحق" هو روح القدس الذي حلَّ على التلاميذ، ولم يكن أبداً معنى الآية الكريمة أن يظهر رسول جديد من عند الله. ولكن التلاميذ الذين حلَّ فيهم روح القدس هم أنفسهم يبشرون برسول جديد وحكم جديد، فقد جاء في رسالة بولس الرسول الى العبرانيين ص 10 "لأنكم تحتاجون الى الصبر حتى اذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد، لأنه بعد قليل سيأتي الآتي ولا يبطئ". وإيضاحاً لهذا، جاء أيضاً في رسالته الأولى لكورنثوس 13 "لأننا نعلم بعض العلم ونتنبأ بعض التنبؤ، ولكن متى جاء الكامل فحينئذ يبطل ما هو بعض". فأي صراحة أعظم من هذه البيانات التي تبشر بغاية الجلاء عن رسول جديد وحكم جديد ! ان دين الله، كما يوضحه "بهاءالله" في كتاب "الإيقان" هو واحد لا يتغير في جوهره، وان شريعة الله النازلة بالأحكام والقوانين والنظام كاملة في دورتها وزمانها، وان هذه الدورة الكاملة تحدد أجل الأمة الكامل "ولكل أمة أجل فاذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" - سورة الأعراف 34، وان لكل أجل كتاب "وما كان لرسول أن يأتي بآية الا بإذن الله لكل أجل كتاب. يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب" - سورة الرعد 38. هذا معنى الموعد الذي أشار إليه الإنجيل في قوله "حتى إذا صنعتم مشيئة الله تنالون الموعد"، ولما كانت شريعة الله هى الأحكام والقوانين المنظمة للعالم فانها تتعدل بإرادة الله تبعاً لحاجة العالم في مراحل تقدمه، أما الدين في جوهره فلا يعتريه تعديل، انه أزلي أبدي، وهو الأول والآخر "ان آباءنا جميعا كانوا تحت السحابة، وجميعهم اجتازوا البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم أكلوا طعاما واحدا روحيا، وجميعهم شربوا شرابا واحدا روحيا، فانهم كانوا يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح" كورنثوس الأولى ص 10 - وقال تعالى في سورة الشورى 13 "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا اليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى ان أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه" فجوهر الدين واحد، ورسل الله واحد "لا نفرق بين أحد من رسله" سورة البقرة 285. فاذا قال أحدهم أنا الأول والآخر فهو حق "لأنك اذا نظرت اليهم بنظر لطيف لتراهم جميعاً ساكنين في رضوان واحد، وطائرين في هواء واحد، وجالسين على بساط واحد، وناطقين بكلام واحد، وآمرين بأمر واحد" بهاءالله - إيقان. ويقول "عبدالبهاء" في كتاب المفاوضات: "ان شريعة الله تنقسم إلى قسمين، أحدهما الروحاني وهو الأصل والأساس وهو المتعلق بالفضائل الروحانية والأخلاق الرحمانية، وهذا القسم لا يلحقه تغيير ولا تبديل، بل هو قدس الأقداس، جوهر شرائع آدم ونوح وإبراهيم وموسى والمسيح ومحمد والباب وبهاءالله، وهو ثابت باق في جميع أدوار الأنبياء لا يتغير ولا يتبدل أبداً، لأنه حقيقة روحانية لا جسمانية، هو الايمان والعرفان والإيقان والعدالة والديانة والمروءة والأمانة ومحبة الله والمواساة في كل الأحوال والرحمة بالفقراء وإغاثة المظلومين والإنفاق على المساكين والأخذ بيد العاجزين والنزاهة والاستقامة والتواضع والحلم والصبر والثبات. والقسم الثاني من شريعة الله المتعلق بالعالم الجسماني مثل الصوم والصلاة والعبادات والزواج والطلاق والمحاكمات والمعاملات والقصاص عن القتل والضرب والسرقة والجروح... هذا القسم يتبدل ويتغير وينسخ عند ظهور كل رسول، لأن السياسات والمعاملات والعقوبات وسائر الأحكام لابد من تغييرها حسب مقتضيات الزمان". ومن هنا تبين أن الشريعة باقية وصالحة لدورتها وزمانها لا يستطيع بشر مهما أوتي من قوة أن يبدل حرفاً منها، حتى إذا تم ميقاتها وانحرف عنها أهلها وجاء رسول جديد أتى بشريعة جديدة تناسب العصر الذي جاء فيه والتطور الذي وصلت اليه البشرية. ولا يمكن لأحد أن يغير تلك الشريعة السابقة الا الرسول المؤيد بقوله تعالى "ما ننسخ من آية او ننسها نأت بخير منها او مثلها" – (البقرة 106). (من صفحة النور)
_________________________ (*) كانت الأمة الإسرائيلية في أوائل دورتها وبدء نشأتها تطلق لفظة (النبي) على رؤسائهم الروحانيين لما كان شائعاً اذ ذاك من تأويل الأحلام، وان الوحي والإلهام كان ينزل عليهم في الرؤيا حتى أطلقوا على النبي لفظ الرائي.
ونتابع..........
#راندا_شوقى_الحمامصى (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
البهائية روح العصر
-
الحجج الإلهية والحجب البشرية
-
نداء من الله
-
عصر ذهبي ينتظر البشرية
-
نشوء وارتقاء الإنسان
-
تطوّر الإنسان
-
نشأة وارتقاء الإنسان بين دارون والفاتيكان ورأي البهائية
-
رؤية بهائية
-
البهائية وموقفها من الفتنة والفساد
-
ليست ردة ولكن يقين إلى الامام !
-
مؤمنون يتبيَّنون المقصود وآخرون يتبعون الظاهر وخاتم النبيين
-
حوار بين زعماء الدين وأتباعهم وكتاب خاتم النبيين
-
الوصايا العشر لصنع السلام في العالم
-
الحياة فتنة وامتحان
-
ذكرى مولد مظهر إلهي(مُرسل من الحضرة الإلهية) بدين جديد-بهاءا
...
-
كيف تم تقسيم العالم بواسطة الدين ولماذا؟2-2
-
كيف تم تقسيم العالم بواسطة الدين ولماذا؟1-2
-
ومازلنا مع كتاب خاتم النبيين: الفضائل التي يتحلى بها قلب الإ
...
-
ومع خاتم النبيين و إمتيازات الكلمة الإلهية وخلاقيتها
-
وما زلنا مع كتاب خاتم النبيين والغاية الأولى لرسل الله أومهم
...
المزيد.....
-
مستوطنون يقتحمون المسجد الأقصى بحماية شرطة الاحتلال الإسرائي
...
-
أجراس كاتدرائية نوتردام بباريس ستقرع من جديد بحضور نحو 60 زع
...
-
الأوقاف الفلسطينية: الاحتلال الإسرائيلي اقتحم المسجد الأقصى
...
-
الاحتلال اقتحم الأقصى 20 مرة ومنع رفع الأذان في -الإبراهيمي-
...
-
استطلاع رأي إسرائيلي: 32% من الشباب اليهود في الخارج متعاطفو
...
-
في أولى رحلاته الدولية.. ترامب في باريس السبت للمشاركة في حف
...
-
ترامب يعلن حضوره حفل افتتاح كاتدرائية نوتردام -الرائعة والتا
...
-
فرح اولادك مع طيور الجنة.. استقبل تردد قناة طيور الجنة بيبي
...
-
استطلاع: ثلث شباب اليهود بالخارج يتعاطفون مع حماس
-
ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي على النايل سات لمتابعة الأغاني
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|