|
قراءة عراقية في نظرية إرنست رينان حول الأمة والقومية
علاء اللامي
الحوار المتمدن-العدد: 3595 - 2012 / 1 / 2 - 20:56
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قبل أن نلج تفاصيل السردية الأوروبية الكلاسيكية لمفهوم "الأمة" و"القومية" لا بد لنا من الوقوف عند معاني بعض المفردات الأساسية لغةً ومعنىً في العربية، وأيضا، عند خلط خطير ولدته الترجمة الحديثة لهذين المصطلحين /الموضوعتين، لا لأننا نتبنى السردية أو الأدبيات الأوروبية الغربية السائدة سيادة الغرب وهيمنته التعسفية الراهنة في جميع المجالات، بل لنوضح بعض الصوى المفهومية المهمة ذات المساس بالموضوع.
يعيد أغلب الباحثين العرب كلمة "أمة" لغة،ً إلى "الأم"، والدلالة العرقية والدموية واضحة وقوية، خصوصا وأنّ بعض الثقافات الشرقية والبدائية في آسيا وأفريقيا تعيد تنسيب الإنسان إلى الأم وليس إلى الأب، وهو راسب من المرحلة المترياركية "مجتمعات الأمومة". أما كلمة قومية، فهي من المستحدَثات، وكانت تعني قديما "القوامة"، (فلان لا قوميةَ له على ماله أي لا قوامة/ لسان العرب). واضح أن الكلمة قادمة من "القوم" وهم جماعة البشر المرتبطين بروابط معينة كاللبث "البقاء" في مكان واحد. ولا تشترط العربية فيهم العلاقة الدموية أو السلالية. غير أن ابن منظور يشرحها بمعنى قريب من المعنى السلالي بقوله (وقَوْمُ كل رجل: شِيعته وعشيرته). في ما بعد أصبحت كلمة "قوم" تعني (القومية قبل أن تكتمل وتنسجم مكوناتها) والبعض يميز بين القومية أي الأمة مكتملة التكون وبين القوم أي الجماعة البدائية التي لم تتطور بعد إلى مستوى الأمة والقومية.
أما كلمة "وطني" فتترجم إلى "قومي" في جميع القواميس الأجنبية والوسيطة المستعملة، وكمقابل لـ(ناسيوناليست nationaliste) الفرنسية المشتقة من (ناسيون nation) أي أمة أو قومية، ولها مرادف آخر هو "باتريوتك" نسبة إلى (باتري patrie) أي وطن، ومنه وطني أي الشخص المحب لوطنه، كصفة له وليس كانتماء تصنيفي مجتمعي (patriotique) ولكن هذه الكلمة محدودة الدلالات وتستعمل استعمالات غير سياسية وغير علمية بل كصفة بلاغية. أما كلمة (patriotard) فتعني "الوطنجي" أي المبالغ بنزعته الوطنية، والكلمة تفيد السخرية والتهكم. وعلى هذا، فإن دلالات الكلمات من قبيل وطني وقومي وقوم وأمة وقومية لا تخلو من الاضطراب والخلط.
هذه الكلمات في السردية القومية السائدة حاليا، والمفهوم التي تستبطنه، والقادم غالبا وجزئيا من الأساس العرقي والرسي، فلنقارن "رسّ" العربية القديمة التي تعني "نسب الشخص وأصله لتقادم عهده" كما يقول ابن منظور بـ(race) الفرنسية والانكليزية والتي لها ذات المعنى تماما، تُنْتَزَع من سياقاتها في السردية الأوروبية الغربية بعد عصر النهضة لتستعمل بذات الكثافة المحمولية والدلالية في جغرافيات أخرى مختلفة نوعيا إلى هذه الدرجة أو تلك.
غير أن دعاة الخصوص العربية، أو العراقية، أو الشرقية، يبالغون كثيرا في رفضهم للنظريات القومية الأوروبية جملة وتفصيلا واختراعهم لبدائل محلية لها، وهم بهذا يقفزون على ما هو مشترك نوعيا بين الحضارات البشرية وعلى تقارُب التجارب الحضارية من بعضها، وعلى ما يخلفه الاندماج العالمي العميق الذي بدأ منذ عصر النهضة الأوروبية، ثم تصاعد بعد حروب استعمار العالم، وأخيرا فإن مبالغات دعاة الخصوصية والرافضين بالجملة للنظريات القومية الغربية يغفلون عن حقيقة أنّ العالم العربي لا يبعد حتى جغرافيا عن أوروبا الغربية كثيرا بل إن المسافة بينهما لا تتجاوز 14 كيلومترا كما هي الحال في مضيق جبل طارق، ويهملون حقيقة تداخل العالمين العربي والأوروبي تداخلا جوهريا لا طارئا وسطحيا قبل وبعد الحروب الصليبية. إن حصة فيلسوف عربي مسلم كابن رشد في أوروبا عصر الأنوار مثلا هي حصة تأسيسية وقائدة وليست مجرد قطعة ديكور شرقية كبعض الباحثين العرب "المستشرقين" والذين صاروا جزء من السردية الغربية الأورومركزية في وقتنا الحاضر.
على هذا، وانطلاقا منه، ستكون قراءتنا لأهم نص تأسيسي في نظريات القومية ونقصد البحث الشهير والأقدم "ما هي الأمة؟" لإرنست رينان، ستكون محكومة بهاجسين الأول هو تفادي السقوط في أوهام السردية الغربية القومية ذات الأساس العرقي والثاني هو التخلص من سلبيات نظريات دعاة الخصوصية المحلية المبالغ بها وبطابعها الرغبوي.
يعتبر نص رينان "ما هي الأمة؟" نصا أساسيا وتأسيسيا في السردية القومية الأوروبية، كان ألقاه كمحاضرة في جامعة السوربون في 11 آذار / مارس سنة 1882. وقد يكون مفيدا أنْ نسجل أنّ رينان نال شهادة الدكتوراه عن أطروحته "ابن رشد والرشدية" ونشرها ككتاب في عام 1852 وكان يعتبر مرجعا أساسيا عن هذا الفيلسوف العربي المسلم التنويري رغم أن رينان ذاته، وهذا أمر يثير العجب فعلا، كان قد اقترب كثيرا من الأفكار العنصرية المخلوطة بتمجيد النسخة الغربية من التمييز بين العقول في كتابه "مستقبل العلم" والذي يعتبره مترجم النص الذي بين أيدينا إلى العربية حسن الشامي (بمثابة "مانيفست" فكري للدفاع عن العلم والعقل وتصنيف للأعراق والأقوام تبعا لدرجة اقترابها من الصورة المثالية والنموذجية للعقلانية الإغريقية). إنّ رينان هو أول من أوجد ذلك التقابل أو التمييز العنصري بين ما كان يسميه (عقلية الشعوب السامية النازعة إلى البلاغة والقدرية والخرافات والى التصورات الساذجة عن الإيمان الديني) وبين (عقلية ومزايا الشعوب الآرية والهندوأوروبية النازعة إلى إعمال العقل والى الأساطير والتراجيديات) وجهات النظر هذه أصبحت في ما بعد المداميك الأولى للفكر الأورومركزي العنصري المعاصر.
يبدأ رينان محاضرته بداية عنصرية بحتة، فالتاريخ الإنساني يبدأ عنده (منذ نهاية الإمبراطورية الرومانية، أو بالأحرى منذ انشطار إمبراطورية شارلمان تبدو أوروبا منقسمة إلى أمم). أما ما قبل ذلك التاريخ، خارج أوروبا، فهو عنده مجرد تاريخ "للقطعان" فهو يقول (لم تكن مصر والصين وكلدة "الإمبراطورية الكلدانية" القديمة أمما بأي درجة كانت. لقد كانت بمثابة قطعان يقودها ابن الشمس وابن السماء). هذا الكلام الفاقع في عنصريته لا يعني خلو أفكار رينان من الصواب في بعض محاور الموضوع، فهو، رغم ذلك كله، لا يعطي للعرق أو السلالة الدموية أهمية أولى في تشكل الأمة كما يفعل النازيون والفاشيون، حين يقول (وفي أيامنا هذه، يرتكب خطأ أكثر فداحة، يجري الخلط بين العرق والأمة، كما تنسب إلى مجموعات إناسية (إثنوغرافية) أو بالأحرى لغوية، صفة سيادة مشابهة للسيادة التي تتمتع بها الشعوب القائمة فعليا) بل هو يهدٌّ الأساس العنصري للأمة ولكن جزئيا ومؤقتا وهو في الوقت نفسه يفصل بوضوح بين المجموعات اللغوية "إثنوغرافية" لا سيادة لها وبين شعوب مكتملة التكون لها سيادة فعلية. إنه يعترف بأن " الأمة" شيء جديد على التاريخ، واختراع آري أوروبي أبيض أنجزته شعوب القارة القديمة بعد انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة.
عمليا، يقسم رينان شعوب أوروبا إلى "أمم" و"لا أمم"، وبين أوطان "ولا أوطان". ومن بين كل الكيانات الجغراجتماعية التي سادت وبادت أو ظلت قائمة كالصين والهند ومصر وبلاد الرافدين وفارس لا يعترف رينان إلا بالإمبراطورية الرومانية بوصفها (الأقرب من غيرها لأن تكون وطنا) وبالتالي أمة في طور التكون نتيجة الانصهار الاجتماعي المتحقق بين المجموعات البشرية المختلفة. أما الدولة العثمانية فلا ينطبق عليها هذا التعريف فهو يقول (في تركيا بقي التركي، السلافي، اليوناني، الأرميني، العربي، السوري، الكردي، متميزين اليوم عن بعضهم البعض كما في اليوم الأول للسيطرة). إلى ذلك يطرح رينان أسئلة مهمة ولكنه يتركها معلقة ومن ذلك (كيف تكون سويسرا أمة وهي تشمل ثلاث لغات وديانتين وثلاثة أو أربعة أعراق بينما لا تكون توسكانة، مثلا، أمة وهي المتجانسة؟ لماذا تكون النمسا دولة وليست أمة؟) إن السؤال الخاص بالنمسا يهدم النظرية الساذجة التي تُعَرِّف الأمة بوصفها الدولة، والدولة بوصفها الأمة. إنّ القول بأن الأمة هي مجموع الناس المتجمعين في دولة أصبحت هي المعبر عن تجمعهم يسمح بالقول إن هناك أمة في قطر تسمى الأمة القطرية بسبب وجود دولة بهذا الاسم، والأمر نفسه يمكن أنْ يقال بصدد الكويت والفجيرة ... الخ!
ولكنّ هذا الكلام لا ينفي وجود الدولة القومية حيث تتطابق الدولة مع الأمة وهذه حالة من حالات وليست القاعدة، فحتى في الموسوعات العلمية المفتوحة والموجهة للعامة وليس للمتخصصين يمكن أن نقرأ ما يعصف بهذه الفكرة الساذجة، نقرأ إذاً في الموسوعة الحرة (الدولة القومية هي دولة وأمة في آن واحد. وتتميز بمميزات الدولة، بمعنى مساحة ترابية محدودة، وسيادة، وهوية وطنية التي تمثل شعور الانتماء والثقافة المشتركة.
توجد حالتان لتكوين دولة قومية: أن الدولة تشكل أمة يتم إدماج الشعور القومي فيها فيما بعد. مثال: فرنسا. أو مجموعة أفراد يعترفون بانتمائهم إلى نفس أمة ويعبرون عن رغبتهم في العيش ضمن دولة موحدة. مثال: الولايات المتحدة الأمريكية. لكن توجد أمم ليست لها دولة مثال الأمة الكردية. كما أن هناك دولا لا تحمل خاصيات الأمة أو الدولة القومية، كما هو الحال بالنسبة لبلجيكا ولبعض دول إفريقيا). نأمل أن نكون قد أوضحنا هنا ثنائية "الدولة /الأمة" التي طرحها أحد قراء "العالم" والذي عقب على مقالتنا السابقة متبنيا تلك الفكرة الساذجة التي تقول إن "كل دولة هي أمة" بما يعني ويؤدي إلى الاعتراف بوجود الأمة القطرية والأمة الكويتية والأمة الفُجيرية... إلخ.
#علاء_اللامي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
قضية الهاشمي: ضرب عرب العراق ببعضهم !
-
الأمة العراقية: جذور المصطلح وانبعاثه اللاعلمي
-
العراق يدخل جهنَّم سياسيّة باكراً: هل من رائحة أميركيّة؟
-
المالكي في واشنطن : ل-ترقيع السماء العراقية-!
-
أشباح جورج بوش تختفي من -عين الأسد-!
-
إعادة الاعتبار العلمي لمصطلح -الثورة-
-
قانون جديد لاجتثاث البعث وتقليص المحكمة التي أعدمت صدام
-
أوان الورد في كركوك.. نصرت مردان يوثق للصحافة والقصة العراقي
...
-
مؤتمر يساريّي أميركا في العراق: ممنوع ذكر الاحتلال
-
كركوك وخيارات المستقبل: مقترحات للحوار/ج4 والأخير
-
صراعات الحكم من الشمال إلى الجنوب : بين آل البارزاني وبين ال
...
-
بانتظار زيارة جوزف بايدن ..خرائط تقسيم العراق جاهزة
-
الانقلاب البعثي في العراق: شيء لا يشبه شيئا !
-
الاستفتاء على كركوك بين الشرعية الدستورية والاستحالة العملية
...
-
الاتفاقية الأمنية : حساب السلب والإيجاب
-
العراق: ساسة العرب السُنة يقيمون للشيعة إقليمهم!
-
الدستور في قضية كركوك: هل كان عوناً أم فرعونا؟ /ج2
-
مع قتل القذافي ..العراقيّون يستعيدون إعدام صدّام
-
لتكن كركوك أنموذجا لعراق المستقبل والمواطنة الحقة !/ج1
-
الشهرستاني يدافع عن صفقة -غاز البصرة -شِل- معترفا ضمنا بعيوب
...
المزيد.....
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|