|
عام ثوري وأزمنة صعبة قادمة
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3594 - 2012 / 1 / 1 - 17:02
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
من غير المحتمل أنه مر على العالم العربي، منذ استقلال بلدانه بعد الحرب العالمية الثانية، عام أكثر أهمية وخصوبة من عام 2011 المنقضي. والأكيد أنه لم تقتحم الفضاء العام وتُسمِع أصواتها فيه كتلٌ بشرية أكبر من تلك التي رأيناها في ميادين تونس ومصر وليبيا واليمن والبحرين وسورية. وإذا اعتمدنا هذا هو معيارا للتمييز، فإن عام 2011 هو الأهم في تاريخ العرب الحديث. تتشكل خصوصية الثورات العربية من تقاطع ثلاثة عمليات أو أربعة. تدخل كتل بشرية كبيرة، تسمي نفسها "الشعب"، في مجالات عام كانت مغلقة دونها خلال عقود؛ وتوجيه اعتراضها وغضبها ضد "النظام"، أي نمط ممارسة السلطة والنخب التي تديره؛ واستناد الثورات إلى القيم الإنسانية العامة، الحرية والكرامة والعدالة والتضامن، وليس إلى أية إيديولوجيات محددة. ويتصل بهذه الملامح الثلاث الطابع السلمي للاحتجاجات، مقابل مواجهتها في كل الحالات بالعنف من قبل الأنظمة. وبهذه الخصوصية، تشكل الثورات تجسيدا مبدئيا لقطيعة محتملة مع بعض مستمرات مديدة في تاريخنا: السلطة، العنف، العقيدة، بما يسبغ أهمية حاسمة على هذا العام الفذ. لكن لا ينبغي الحكم في هذا الشِأن استنادا إلى النتائج المباشرة. إذ قلما تمخضت ثورات كبيرة في التاريخ عن ثمرات سريعة أو طابقت نتائجها الوعي الذاتي للثائرين. ومن غير المتوقع أن تثمر الثورات العربية نظما جديدا للسياسة والدولة في وقت قريب. غاية ما يؤمل أن يحصل هو التخلص من الأوضاع الشاذة التي عاشها العالم العربي منذ ستينات القرن العشرين، وقد تميزت بشيئين: باستبداد متطرف ودموي وحقود، جعل العالم العربي منطقة نكبة دائمة للحريات والثقافة والكرامة الإنسانية في العالم، ثم بكذب شامل وفي كل شيء. ولم تحل هذه الأوضاع الشاذة دون أن معالجة أو حل أية مشكلة عامة في هذه العقود، بل ولم تتح أصلا تكوين فكرة قريبة من الصواب من المشكلات التي يتعين معالجتها وحلها. الكذب مرتبط بصورة وثيقة بالاستبداد، وبفرض تصور واحد عن الحقيقة. وفي كل مثال معروف عن فرض تصور واحد عن الحقيقة، جرى عمليا إعدام مفهوم الحقيقة. الحقيقة الواحدة هي الكذب الكثير. فإذا من المحتمل أن تطوي الثورات صفحة الأوضاع الشاذة في بعض بلداننا، فربما تكون خطوة نحو تضييق الفجوة بيننا وبين العالم، وخطوة نحو المطابقة مع معايير عالمية، تكاد البلدان العربية تكون الوحيدة التي لا تزال بعيدة عنها. هذا رغم أنه من المرجح، بل من المحقق حتى الآن، أن البلدان التي شهدت ثورات، تسجل حضورا وتأثيرا غير مسبوقين للإسلاميين. لكن نميل إلى أن هاتين العمليتين ستحصلان معا، وقد نتذكر أن الفترات الأكثر ليبرالية في تاريخنا الحديث عرفت حضورا "طبيعيا"، وإن ليس خاليا من التوترات، للإسلام والإسلاميين في الحياة العامة، وأنه في كل مرة استبعد هؤلاء جرى ذلك في سياق استبعاد عام، شملهم مع غيرهم. وأن الفترات "الليبرالية" هي مراحل الانعزالية العربية الأدنى عن العالم. أما على المدى القريب، فيبدو أن البلدان التي شهدت أو تشهد ثورات ستعاني من أوضاع غير مستقرة لأزمنة متفاوتة، إلى حين تبلور مؤسسات جديدة وإجماعات جديدة. الواقع أن الشيء الذي يبدو أقوى مميزات الثورات العربية، حضور "الشعب" في المجال العام، هو ذاته ما يرجح أوضاعا سياسية غير مستقرة فيها. في أكثر بلداننا، مع استثناء نسبي لتونس، وبدرجة أقل لمصر، الدولة بالغة الضعف، مؤسسة ومعنى. ولطالما كانت مؤسساتها (الأصح التكلم على أجهزة) مبنية على تقييد مشاركة الشعب في الحياة العامة. اليوم هناك حضور شعبي فائض، دون وجود أطر مؤسسية وقانونية وقيمية ملائمة لاستيعابه، على نحو نلحظ مظاهره في مصر بخاصة. هنا تمت إزاحة مبارك، لكن مع بقاء العتاد الجهازي الموروث، وإحلال المجلس العسكري محل الرئيس الشائخ. والظاهر أن هذا لن يستقيم. الوضع المصري مفتوح على إعادة المباركية على أرضية إسلامية، أو على انفتاح ديمقراطي قلق تفرضه مقاومات المصريين المستمرة. ولا تختلف سورية عن غيرها من الدول العربية في أن خير ما فيها وخير ما في السوريين يتواجه مع الأسوأ في البلد وفي السوريين. لكنها ظهرت في عام 2011 بلدا عميقا مركبا، عرف العالم، وعرف السوريون قبل غيرهم، مئات المواقع الناشطة فيه، وما لا يحصى من الأشخاص الذين لا يشبهون بعضهم، ولا يقبلون الاختزال إلى نموذج محدد. ولعل سورية تنفرد بين الدول العربية في أن الثائرين السوريين، في حمص بخاصة، جعلوا من الثورة فنا جميلا. وهذا خارق بالنظر إلى أن احتفالاتهم الثورية، المسائية دوما، معرضة للخطر في كل حين، وليس أحد منهم بمنأى عن الاعتقال والقتل. ولعل وحشية النظام حيال حمص تعود، بين أسباب أخرى، إلى هذا المزيج النادر بين الثورة والاحتفال الذي تأثرت به وحاكته مدن سورية أخرى. حين تكون الثورة فنا، فإنها تجتذب جميع الناس، ما يجعلها نشاطا محببا، ويسبغ عليها طابعا شعبيا وديمقراطيا. هذا خلافا لما يكون الحال حين تكون الثورة حربا. تنفرد سورية أيضا بالعنف الهائل الذي ووجه به الثائرون من شعبها، وبعدم وجود أي مؤشر على احتمال توقفه في أي مدى قريب. لا يقتصر الأمر على وقوع نحو6000 شهيد حتى اليوم، يتعداه إلى مضي النظام في تحطيم أسس الحياة الوطنية، المادية منها والسياسية والمعنوية. والمدهش في الأمر أن النظام لم يفكر للحظة واحدة في تجريب مسلك آخر غير قتل محكوميه، بحيث لم يمر يوم منذ بداية الثورة دون قتل العشرات. هذا يكفل له دخول التاريخ، من باب الدم. اجتماع الثورة كفن مع العنف، ويحصل له أن يمارس من طرف الثورة أيضا، هو ما يشكل خصوصية الثورة السورية، وما يحدد مستقبل سورية. فإذا دان الفوز للفنان على المحارب كان مستقبل سورية أكرم وأرحم. لكن فرص ذلك تتضاءل. ماذا يحتمل أن يأتي عام 2012 لسورية والعالم العربي؟ ربما بآلام ومتاعب إضافية على المدى القصير. لكن ولجنا زمن التغيير والعواصف، ولن نخرج منه قريبا.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفاشية السورية وحربها ضد العامة!
-
محاولة لشرح القضية السورية للمنصفين
-
حوار في شان الطغيان والأخلاق
-
عن حال مؤسسات الحكم البعثي بين عهدين أسديين
-
العصيان المدني أو الإضراب الوطني العام
-
وطنيّتان: من الوطنية الممانعة إلى الوطنية الاجتماعية
-
الطغيان والأخلاق في -سورية الأسد-
-
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
-
نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
-
في شأن سورية وإسلامييها والمستقبل
-
الثورة السورية تنظر في نفسها
-
من الشخصي إلى العالم الواسع: حوار في شأن الثورة السورية
-
ملامح طور جديد للثورة السورية...
-
في أصول انقسامات المعارضة السورية وخصوماتها
-
المبادرة العربية والمعارضة السورية
-
-قنطرة-...
-
جوانب من سيرة المجتمع المفخخ
-
حوار في شؤون الثورة السورية
-
حوار في شان السجن والثورة والمثقفين
-
الثورة السورية بوصفها كثورة وطنية
المزيد.....
-
-عيد الدني-.. فيروز تبلغ عامها الـ90
-
خبيرة في لغة الجسد تكشف حقيقة علاقة ترامب وماسك
-
الكوفية الفلسطينية: حكاية رمز، وتاريخ شعب
-
71 قتيلا -موالين لإيران- بقصف على تدمر السورية نُسب لإسرائيل
...
-
20 ألف كيلومتر بالدراجة يقطعها الألماني إفريتس من أجل المناخ
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونيتسك والقضاء على
...
-
الكرملين يعلق على تصريح البنتاغون حول تبادل الضربات النووية
...
-
روسيا.. اكتشاف جينات في فول الصويا يتم تنشيطها لتقليل خسائر
...
-
هيئة بريطانية: حادث على بعد 74 ميلا جنوب غربي عدن
-
عشرات القتلى والجرحى بينهم أطفال في قصف إسرائيلي على قطاع غز
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|