|
مشهدان من مسرحية عروبية ساقطة
كمال غبريال
كاتب سياسي وروائي
(Kamal Ghobrial)
الحوار المتمدن-العدد: 1063 - 2004 / 12 / 30 - 13:22
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
كثيرة في شرقنا العامر هي الظواهر المحيرة، تدفع بالمرء إلى التأمل، عله يجد تفسيراَ، ولا نقول تبريراً، لما قد تعتبره شعوب أخرى من قبيل مشاهد الملهاة الساخرة، أو ضرب من تجسيد اللامعقول، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، شهدت مصر المحروسة أخيراً مشهدين جديدين من مسرحية "نضال الأشاوس" متعددة الفصول، والتي تعرض بنجاح جماهيري باهر، منذ نكبة يوليو 1952، وقد جرت المسرحية على سنة المسرحيات الأوروبية الخالدة، والتي تعرض لسنوات طويلة، تتغير خلالها شخوص الممثلين، مع تأدية ذات الأدوار وذات النص، والقياس مع الفارق طبعاً، فالمسرحيات الأوروبية تزيد من متعة المشاهدين، وترتقي بذائقتهم الأدبية والفنية، في حين أوصلتنا مسرحيتنا الواقعية إلى ما نحن فيه من حضيض حضاري، بكل ما تتسع له الكلمة من آفاق!! المشهد الأول: المنظر الأول: الحكومة المصرية تفرج عن جاسوس إسرائيلي، بعد أن قضى نصف مدة عقوبته في السجن، وتستبقيه حتى تفرج إسرائيل عن ستة طلبة مصريين معتقلين لديها. المنظر الثاني: تنطلق حناجر الأشاوس بالإدانة والتنديد، واتهام الحكومة بأنها قد أجرت صفقة (يا للهول) مع إسرائيل، تنبري الأقلام المناضلة، والحناجر العظيمة الشريفة، تندد بالاستسلام والانبطاح والعمالة والخيانة، وسائر مفردات قاموس عروبي نضالي تراثي موروث، يجلجل في الفضائيات التي أتاحتها لنا تكنولوجيا الإفرنج الكفرة، عليهم وعلى من يشايعهم اللعنة!! المشهد الثاني: المنظر الأول: الحكومة المصرية تفعل اتفاقية الكويز – التي نامت عليها طويلاً – والتي تفتح السوق الأمريكية أمام المنتجات المصرية التي يدخل في تكوينها من 5-11 % منتجات إسرائيلية. المنظر الثاني: مظاهرات وتنديدات واحتجاجات واستنكارات، أيضاً أبطالها ذات الأشاوس والصناديد، أحباب ناصر وصدام، والمجاهد الشيخ أسامة بن لادن، الرابض كالأسد في أحد كهوف أفغانستان، يصدر لنا تعليماته وتوجيهاته المباركة، للتعجيل بدخولنا الجنة بأسرع مما نتصور، والكفيلة بوقوعه في يوم بات قريباً في يد المارينز (عليهم اللعنة)، ليقوموا بفحص أسنانه، وحلق شعر رأسه وذقنه المباركة. يشترك المشهدان السابقان في أن خيراً كثيراً يصيبنا مقابل خير قليل للعدو المفترض، ومع ذلك فنحن غاضبون وناقمون، ونستشعر كما لو كنا قد أصبنا بخسارة فادحة. بلغة الأرقام كان مكسبنا في الحالة الأولى 1:6، أي 86%، مقابل 14% للعدو، وفي الحالة الثانية مكسبنا أكثر من 89%، مقابل أقل من 11% للعدو الذي نصر على تصوره. وبلغة كرة القدم، كسب فريقنا المباراة بنتيجة 6/1، ومع ذلك في المدرجات عناصر تحرض الجماهير على الشغب، تدفعها لقذف الأحجار في الملعب، ولصب اللعنات والشتائم على المدرب وعلى مجلس الإدارة، فالأهداف الستة التي أحرزناها في مرمى الخصم لا تسعدها ولا تثير اهتمامها، فكل ما يعنيها أن الخصم قد أحرز في مرمانا المصون هدفاً واحداً يتيماً. صناديد وأشاوس مصر المحروسة غير معنيين بأبنائنا الطلاب الستة الذين تتمزق عليهم قلوبنا وقلوب أهاليهم، ولا يهمهم امتحانات نصف العام التي أزف موعدها، كل ما يشغل عقولهم وقلوبهم - التي تحتاج لفحص إكلينيكي وسيكولوجي – هو إطلاق الجاسوس الإسرائيلي الذي أمضى في الحبس سنوات طويلة، يهمهم أيضاً إطلاق مروان البرغوثي، الذي يناضل بالطريقة التي اختارها من أجل قضية شعبه، في حين أن أبناءنا الستة قد تم حشرهم في قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، سواء كان هذا الحشر نتيجة سوء فهم أو مؤامرة إسرائيلية، أو نتيجة استجابتهم البريئة لنعيق غربان وبوم الصناديد المناضلة بالميكروفونات!! صناديد العروبة غير معنيين بالحالة المتردية للاقتصاد المصري، وما تتيحه الكويز لتطوير الصناعة المصرية وفتح السوق الأمريكي أمامها، وحين ينعق غراب منهم قائلاً أنه إذا كانت البطالة هي البديل للتعاون مع إسرائيل فيا أهلاً بالبطالة، لا نملك إلا أن نستسلم للقضاء الذي ألم بنا وبمثقفينا، وإذا ما أفلتنا من دوامة الأسى والدهشة، وحاولنا أن نحلل تلك الحالة الفريدة، وجدنا أنفسنا أمام احتمالين: إما أن هؤلاء الناس – والذين يخدعون البسطاء والدهماء – يعملون لصالح جهة أخرى غير الشعب المصري، ويرتزقون من مصادر أخرى لا علاقة لها بالاقتصاد المصري وما يعانيه، وإما أن نيران الكراهية المشتعلة في قلوبهم للآخر، لم تترك فيه مكاناً لحب ذواتهم وأهاليهم!! الاحتمال الأخير هو أسوأ الاحتمالات وأكثرها استعصاء على العلاج، فنيران الكراهية تحرق العقل، وتميت المشاعر، وتحول من تتمكن منه إلى وحش مسعور، لا يرتوي مهما شرب من دماء، ولا ينفك يطلب المزيد، حتى لو كانت دماء أهله وناسه!! يذكرنا هذا بالثيمة التي شاعت في الأدب، عن أمير الانتقام، وأشهرها قصة الكونت دي مونت كريستو، وتكررت كثيراً في أعمال أدبية وسينمائية، فهي تعبر عن حالة مرضية موجودة بين البشر، وتعتبر نتيجة مرضية للإحساس المبالغ فيه بالظلم، ويستوي الأمر إن كان الظلم المستشعر حقيقياً أو متوهماً، أو كان نتيجة لتشبع فكري بأيديولوجية فاشية تتأسس على الكراهية، وهي الحالة الأكثر انطباقاً على صناديدنا العروبيين!! أمير الانتقام لا يوجد في قلبه مكان ليحب أحداً أياً من كان، فلقد ملأت الكراهية كل الحيز المتاح بقلبه، إنه غير قادر حتى على أن يحب ذاته، لهذا تصوره الثيمة بأنه لا ينتهي من تدمير أعدائه حتى يكون قد دمر ذاته، لكن هذا ينطبق فقط على المنتقم الجبار، أي المنتقم القادر على تدمير أعدائه، قبل أن يهلك هو، وهذا لا ينطبق على صناديد العروبة وأبطالها، فهم بالكاد قادرون على تدمير أنفسهم، وإلحاق بعض الأذى والإزعاج لأعدائهم!! هل هي مسرحية؟ نعم، وهل هي ملهاة هزلية؟ بالتأكيد، وهل تستدعي منا الضحك أم البكاء؟ لا بأس من الضحك حتى وإن كان مشبعاً بالمرارة، لكن لابد من البكاء، على ما صار إليه حالنا، وحال من ندعوهم مثقفينا!! أعرف لن تصل كلماتي هذه إلى نيف وسبعين مليون مصري، يعانون شظف العيش، ويكابدون لمصارعة عوامل التحلل والفناء المتغلغلة في أرضهم، والممسكة بتلابيبهم، ومع ذلك إليهم أتوجه: هؤلاء الذين يطالعونكم على صفحات الجرائد الصفراء وغير الصفراء، والذين يقتحمون عليكم دياركم في شاشات التليفزيون، عبر القنوات الفضائية وغير الفضائية، هؤلاء الذين يملأون الدنيا ضجيجاً وصراخاً، هؤلاء الذين تبدو ملامحهم وكأنهم منكم ليسوا كذلك، ماداموا لا يحتفظون لكم ببقية من حب يشفقون به عليكم، ويحفزهم على السعي لما هو في صالحكم، هؤلاء مساكين تمكن منهم سرطان الكراهية، فأعمى بصرهم وبصيرتهم، وذهب بعقولهم إلى غير رجعة. يمكنكم أن تعرفوهم من صراخهم، ومن آثار الدماء على أطراف حروفهم. أنهم يضعونكم في عداء مع كل العالم، ويجعلون أبناءكم مطاردين من الجميع، كما الضباع والعقارب. لا تصدقوهم، فهم إما مأجورون أو موتورون! يمكنكم أن تديروا لهم ظهوركم. ويمكنكم أن ترفضوا أن يتقاضى أحد منهم جنيها واحداً، من حصيلة الضرائب التي تؤدونها لبناء وطنكم وتعميره.
#كمال_غبريال (هاشتاغ)
Kamal_Ghobrial#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أمريكا أمريكا . . تلك الأرض المقدسة
-
البعض يريد كليباً حياً
-
إبراهيم نافع والفاشيون العرب
-
حوار مع صديقي الملحد -2
-
الليبراليون الجدد يوقدون الشموع
-
المسألة القبطية ومنهج الرقعة الجديدة على ثوب عتيق
-
حوار مع صديقي الملحد
-
غلب حماري
-
خواطر من عرس ابنتي
-
ليس رداً على صنديد العروبة عبد الباري عطوان- العراق وفلسطين
...
-
هموم مشرقية 2 - تقييم الذات بين الحقيقة والادعاء
-
الفتاوي القرضاوية ومصير العقارب
-
!شيراك يا سادة يغوص في الوحل، فهل من مغيث؟
-
القتل أقصر طريق إلى الجنة
-
هموم مشرقية 1- البعد الزمني والقيمة المهدرة
-
إلى حضن العروبة يا عربنان - طقطوقة
-
هل حقاً كلنا مقتدى وكلنا بن لادن وكلنا صدام؟
-
الظاهرة الصدامية
-
العولمة. . سقوط وتغير المفاهيم
-
أزمة السلطة الفلسطينية
المزيد.....
-
أين بوعلام صنصال؟.. اختفاء كاتب جزائري مؤيد لإسرائيل ومعاد ل
...
-
في خطوة تثير التساؤلات.. أمين عام الناتو يزور ترامب في فلوري
...
-
ألم الظهر - قلق صامت يؤثر على حياتك اليومية
-
كاميرا مراقبة توثق لقطة درامية لأم تطلق كلبها نحو لصوص حاولو
...
-
هَنا وسرور.. مبادرة لتوثيق التراث الترفيهي في مصر
-
خبير عسكري: اعتماد الاحتلال إستراتيجية -التدمير والسحق- يسته
...
-
عاجل | نيويورك تايمز: بدء تبلور ملامح اتفاق محتمل بين إسرائي
...
-
الطريقة المثلى لتنظيف الأحذية الرياضية بـ3 مكونات منزلية
-
حزب الله يبث مشاهد استهداف قاعدة عسكرية إسرائيلية بصواريخ -ن
...
-
أفغانستان بوتين.. لماذا يريد الروس حسم الحرب هذا العام؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|