أخبار الشرق - 9 أيلول 2002
في جوهانسبورغ، ومتابعة لما
طرحناه الأسبوع الماضي، تمخّض الجبل عن الفأر الذي لا يصنع خيبة الأمل القصوي فحسب،
بل يبدو واعداً بالأسوأ: التهام آخر ما تبقى في بيوت الفقراء من "مونة" متواضعة ضدّ
غائلة الجوع!
وهكذا لن يطول الأمر قبل أن تشتعل الحرائق، من جديد .. من
جديد، في اقتصادات الفقر هنا وهناك وحيثما قلبت العولمة ظهر المجنّ لحاجات الحدّ
الأدنى، وعالجت الداء بما هو أسوأ من السمّ الزعاف. في غضون ذلك لم يتوقف، ولن
يتوقف، العزف المديد على نغمة انتصار اقتصاد السوق، والتنظير المديد لعبقرية النظام
الرأسمالي.
وقبل أشهر معدودات سألت صحيفة "لوموند" الفرنسية رئيس
البنك الدولي، جيمس ولفنسون، عن نيّة المصرف الكوني العملاق في القيام بمبادرة ما
لمساعدة الاقتصاد التركي الآخذ في الإنهيار، فضحك الرجل وردّ قائلاً "لنبدأ بالقول
إننا أرسلنا لهم كمال درويش (أحد مديري البنك الدولي السابقين، والذي أصبح وزيراً
للاقتصاد التركي)، والأمر يعود إليه الآن". ورغم ضحكته تلك، لم يكن ولفنسون يمزح
على الأرجح.
لكنه تناسي، عامداً، أنّ سياسات كمال درويش - وهي في نهاية
المطاف سياسات المؤسسة التي عاش في كنفها طويلاً - هي بعض السبب في حال الانهيار
المتفاقمة التي شهدتها وتشهدها تركيا. كذلك قذف ولفنسون بالكرة إلى ملعب صندوق
النقد الدولي، "الشقيقة" الثانية، لأنّ مشكلات تركيا الاقتصادية تنتمي إلى عالم
الماكرو - اقتصاد، الأمر الذي لا يعتبره البنك الدولي في صلب
اختصاصاته.
أمّا في الأرجنتين، حيث الشقّ الثاني من سؤال "لوموند"،
فإنّ الرجل كان أكثر وضوحاً وأقلّ تأتأة "لسنا رجال مطافئ"! حسناً، وماذا عن
المؤسسات الرأسمالية التي تحقّق أرباحاً طائلة وتلجأ في الآن ذاته إلى تسريح عشرات
الآلاف من العمّال، ليس في تركيا أو الأرجنتين بل في فرنسا وبريطانيا وألمانيا؟
الصحيفة لم تطرح هذا السؤال، ربما لأنه من نوع الأسئلة التي لا تثير الإجابات عليها
سوى المزيد والمزيد من الأسئلة.
هذه، في عبارة أخرى، بعض أسئلة
النظام الرأسمالي في مطالع القرن الواحد والعشرين. أسئلة شائكة، عابرة للقارّات
والأمم والاقتصادات، وذات وطأة ثقيلة ومغزى أثقل. ومعارك رأس المال المعاصر ضدّ
المؤسسة أو قوى الإنتاج أو علاقات الإنتاج لم تعد تجري في معمعان الصراعات الطبقية
الكلاسيكية، كما كانت عليه الحال في الماضي، بل هي اليوم تُخاض في قاعات البورصة،
أو المحاكم، أو البرلمانات، أو اجتماعات مجالس إدارة الشركات العملاقة أو الجمعيات
العمومية لأصحاب الأسهم. في قاعات كهذه يتقرر مصير العقد الاجتماعي، ليس على ضوء
التعاقد بين المنتج والمستهلك أو العمل وقيمة العمل، بل على أساس قاعدة ذهبية
واحدة، ليست جديدة تماماً في الواقع: التخفيف ما أمكن من النفقات، بقصد تحقيق أقصى
زيادات ممكنة في الأرباح، وتحسين حظوظ المؤسسة في المنافسة والاحتكار والتواجد
الكوني القوي المُعَوْلَم.
ومنذ بعض الوقت انتهت، ولكن لم
تنتهِ عملياً، المعركة القانونية بين وزارة العدل الأمريكية (ومن ورائها أكثر من
عشرين ولاية، وعشرات شركات الكومبيوتر الصغيرة والكبيرة) من جهة، والملياردير
الأمريكي الشاب بيل غيتس وشركته العملاقة من جهة ثانية. لم تنته المعركة لأنها
بالكاد بدأت، ولهذا فإن التوقّف عند أبعادها الكونية العابرة للمحيط يقتضي التريّث
بعض الوقت حتى ينجلي المشهد عن عناصر كافية على أرض الواقع: في السوق، في ظلّ
قوانين العرض والطلب دون سواها.
ذلك لا يلغي شرعية التذكير بأنّ
هذه المعركة سوف تشكّل بصمة الأيام العسيرة القادمة من أزمنة الرأسمالية الكونية،
وأزمنة العولمة (الوحشية الهوجاء مثل تلك الرحيمة المتمدنة)، وأزمنة إغلاق قرن
وافتتاح آخر لا كما حلم الفرقاء الكبار الذين صنعوا منعرجات القرن. يكفي التذكير
هنا أن ثمة الكثير من المغزى الطارئ في أن تهبّ الرأسمالية ضد واحد من خيرة أبنائها
البرَرة، وضد واحدة من كبريات معجزاتها لكي نقتبس أسبوعية "إيكونوميست" العليمة
بأسرار الآلة الرأسمالية. ذلك لا يلغي، أيضاً، شرعية وضع هذه المعركة القانونية في
قلب واحد من سياقات التنظير الفلسفي لنهاية التاريخ المتعدد الأقطاب، وولادة
الإنسان الرأسمالي الظافر بوصفه "وريث التواريخ" و"خاتم البشر أجمعين". سياسة ما
بعد التاريخ هي اقتصاد مبطّن، كما اكتشف فرنسيس فوكوياما، و"جميع المسائل السياسية
تدور حول مسائل اقتصادية، بما في ذلك المشكلات الأمنية ذاتها التي تنبثق من صلب
المجتمعات المدنية الرخوة، شرقاً وغرباً". لا يغرنّكم هذا الاقتصاد، يقول فوكوياما،
لأنه يضرب بجذوره عميقاً في الحياة الاجتماعية، ولا يمكن فهمه على نحو منفصل عن
مسائل تنظيم - أو سوء تنظيم - المجتمعات الحديثة لنفسها.
هاهنا الحلبة الحقيقية للصراع، واليد العليا في صناعة المجتمع الاقتصادي
هي يد الثقافة الاجتماعية (أو الاجتماع الثقافي) التي يمكن أن تطلق أو تكبّل
الأيادي الأخري مهما بلغ جبروتها العملي أو الحسابي أو التقني. وأن يركب المواطن
الكوني عباب محيط المعلومات الكونية أمر يشكّل ثقافة اجتماعية واجتماعاً ثقافياً في
الأساس. وأن يشتغل الفتى - المعجزة بيل غيتس على احتكار وسيلة الإبحار
هذه أمر يعني احتكار
الاجتماع الثقافي أولاً، قبل احتكار الاجتماع الاقتصادي والاستثماري والتكنولوجي
والعلمي. وليس بغير دلالة خاصة، بصدد هذا المبدأ بالذات، أن الفيلسوف الفرنسي
الروسي الأصل ألكسندر كوجيف، كبير مفسّري هيغل في القرن العشرين وأستاذ فوكوياما،
بلغ خلاصة مبكرة مفادها أن الفيلسوف الألماني كان على حقّ في القول بنهاية التاريخ.
خطوة كوجيف التالية كانت درساً في أخلاق المهنة إذا صحّ القول، لأنه قرّر بدوره أن
الفلاسفة من أمثاله ينبغي أن يُحالوا إلى التقاعد أو يغيّروا المهنة، فانقلب إلى
بيروقراطي اقتصادي في إحدى مكاتب السوق الأوروبية المشتركة!
وفي الصفحات الأولى من كتابه الثاني "الثقة: الفضائل الاجتماعية وخلق
الرخاء"، أعلن فوكوياما أن الهدوء الذي أعقب انهيار الشيوعية كان مريباً وخادعاً
لأنه أخفى ما سينفجر من ضجيج وعجيج حول آفاق تطوّر الإنسانية (التي اختتمت
تاريخها!) ومعضلات إنسانها الأخير في تقاسم اقتصاد ما بعد التاريخ. ولقد سكت عن
الأشباح القومية والإثنية التي استيقظت في وجدان ذلك الإنسان ومن حوله، وأشعلت
الحرائق هنا وهناك، فانشغل الاقتصاد بلملمة الأشلاء ودفن الأموات بدل رعاية
الأحياء. سكت فوكوياما لأن الفلسفة المنقلبة إلى - أو القادمة من - البيروقراطية
يحقّ لها ما لا يحقّ لغيرها، ولها أن تصمّ الآذان وتؤجّل القرارات وترجئ إرسال
عربات المطافئ لوقف انتشار اللهيب على الأقل.
اليوم يقول رئيس البنك الدولي:
لسنا رجال مطافئ! ذلك لأنه، مثل فوكوياما في الواقع، ملزَم بالسكوت عن الصخب غير
الخادع في معارك الرأسمالية هنا وهناك (ضدّ عمّالها، أو ضدّ أرباب عملها، في مدن
الداخل أو في مدينة مثل جوهانسبورغ) لأنه عاجز عن التمييز بين تاريخ انتهى هناك،
وتاريخ آخر يبتدئ هنا في غمرة شروط مذهلة من تطاحن الآباء والأبناء داخل العائلة
الرأسمالية الواحدة، ويقضي أولّ ما يقضي على مفاهيم "الثقة" و"التعاضد" و"التكامل
الحضاري" بين أنظمة الرأسمال الرائدة.
نعم .. معركة وزارة العدل
الأمريكية ضد بيل غيتس لم تكن حول، ولن تنحصر في، احتكار قوارب الإبحار في عباب
المعلومات (ثمّ في بحار الثقافات والحضارات والفلسفات)، بل أيضاً حول إغلاق جميع
الورشات الصانعة لتلك القوارب، لصالح الورشة الوحيدة العملاقة التي تحمل لافتة
ميكروسوفت. وأمثال ولفنسون وفوكوياما ملزمون بالسكوت لأن معركة بيل غيتس تقوّض
مفهوم التعاضد الاجتماعي بوصفه حجر الأساس في المعمار النظري لعالم ما بعد جدار
برلين، حيث أغلق التاريخ ملفّاته، وتقاعد غير مأسوف عليه.
الأوّل ليس عربة مطافئ، والثاني ليس مؤسسة خيرية، والعالم ليس فردوس
الله على الأرض في نهاية المطاف. وأن تلجأ الشركات الكبرى إلى تسريح العمال أو
الدخول في تنافس احتكاري شرس ودموي أمر لا علاقة له برجال المطافئ أو بفاعلي الخير،
فكيف بأخلاقيات التعاضد الاجتماعي!
ألا تبدو حرب ميكروسوفت وكأنها
تهدّم أقانيم التعاضد الاجتماعي واحدة تلو الأخرى، منهجياً، على نحو شرس كاسح شامل،
لا يبقي ولا يذر؟ وهل يتوفّر مغفّل واحد يوافق على أن هذا النوع من التنافس المشروع
هو بعض رأس المال الاجتماعي الذي تملكه الدولة الرأسمالية، ويتوجّب عليها أن تُحْسن
توظيفه على أساس مبدأ الثقة بين المنتج والمستهلك وبين السوق والسلعة؟ وأين المغفل
العالمثالثي الذي سوف يوافق بعدئذ على الأطروحة المضادة التي يشتقها فوكوياما لدول
العالم الثالث، تلك التي لا تملك الكثير من "رأس المال الاجتماعي"، أو هي تسيء
توظيف ما تملك لصالح طغيان ولاءات أخرى أدنى مستوى (المؤسسة البيروقراطية، العائلة،
الدين، الطائفة، الدولة)؟
هنا سوف نضطر إلى الخروج من
حدود الدولة الرأسمالية الواحدة، وكذلك من تحالفات الدول الرأسمالية شرقاً وغرباً،
لكي ندخل في انقسام العالم بأسره إلى ميكروسوفت في قطب أول، وكلّ ما عدا ميكروسوفت
في قطب ثان! هل سقطت، بالتالي، نظرية فوكوياما حول ائتلاف مسالم بين مجموعتين
متقابلتين من الدول الصانعة للرخاء، المالكة لهذا القدر أو ذاك من الثقة والتعاضد
الاجتماعي (المجموعة الأمريكية - الألمانية - اليابانية التي تتسم مجتمعاتها
المدنية بقدرة عالية على إقامة علاقة توسط صحية بين العائلة والدولة وبين المؤسسة
والسوق، والمجموعة الصينية - الفرنسية - الإيطالية التي تخضع مجتمعاتها المدنية
لهيمنة العائلة القوية أو الدولة القوية في منتصف المسافة بين الانسان والاقتصاد)؟
وكيف سيكون توصيف الحال إذا كانت رقائق ميكروسوفت سوف تهيمن تماماً على التكنولوجيا
القاعدية القادمة لهاتين المجموعتين، بل ولكلّ المجموعات أينما وكيفما
تشكّلت؟
جانب آخر من طرافة وضع معركة بيل غيتس في سياقات فوكويامية
هو أن شروط الاقتتال الراهنة تبدو أشبه بشروط انتحار ذاتي لعشرات المفاهيم الظافرة
التي أعلنها فوكوياما صارخاً بأعلى الصوت. لقد شرح للعالم أن "مفهوم الثقة يشمل
المطمح المنبثق في إطار جماعة بشرية تتصف بالسلوك المشرّف المنتظم المتعاون،
المرتكز على أعراف مشتركة تجمع أبناء الجماعة وتصنع تلاحمهم وتآزرهم، ويمكن أن تمتد
على نطاق عريض يبدأ من قيم العدل الإلهي ويمرّ بالقيم العلمانية وشرائع السلوك".
وطمأننا، بشيء من التبسيط البعيد عن الفلسفة هذه المرّة، أن "الثقة بين السلعة
والسوق أشبه بالثقة التي نمنحها للطبيب حين نسلمه أجسادنا دون ارتياب، وليس لدينا
من ضامن سوى معرفتنا أنه أدّى قَسَم أبقراط".
حقاً! وماذا عن تسريح عشرات
الآلاف من العمّال، لا لشيء إلا لأنّ الشركات التي يعملون فيها تريد أن تربح،
وتربح، وتربح؟ وماذا عن استقالة البنك الدولي من أدوار - وواجبات! - إطفاء حرائق
الكون؟ وماذا عن تباشير الصراع القادم بين سوق الأمريكتَين المشتركة والسوق
الأوروبية المشتركة؟ وماذا - أخيراً فقط! - عن أقدار فقراء العالم، شرقاً وجنوباً،
كما تمخّضت عنها سجالات جوهانسبورغ العقيمة السقيمة؟
__________
* كاتب سوري -
باريس