وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 3591 - 2011 / 12 / 29 - 11:23
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لم توصف ديانة التوراة عبر كل أسفار الكتاب باليهودية , مثلما لم يوصف أتباعها باليهود . و في الحقيقة لم يكن لها اسم معين و اليهود في الأصل هم حصرا بقية سبي يهوذا الذين عادوا إلى أورشليم أواخر القرن السادس ( ق . م ) , بالإضافة إلى جماعات إثنية أخرى ساقها الفرس معهم و شكلوا القاعدة السكانية للمقاطعة الصغيرة التي أنشاها الفرس على مساحة ضئيلة من أراضي مملكة يهوذا البائدة. و دعوها بمقاطعة ( يهود ) اشتقاقا من الاسم القديم للمملكة التي تضم مدينة أورشليم و مساحة صغيرة حولها حيث قام الكهنة بتدوين أسفار التوراة بين أواخر القرن السادس و أوائل القرن الثاني قبل الميلاد و هي الفترة التي تمت خلالها الصياغة التدريجية للمعتقد التوراتي و الشريعة التوراتية . كما شهدت هذه الفترة تشكل الاثنية اليهودية التي عبرت عن نفسها في تمرد أورشليم على الحكم السلوقي حوالي عام 170 ق . م . و قد دعيت مقاطعة ( يهود ) باسم ( اليهودية ) خلال الفترة الهلينية مقارنة ب ( الهيلينية ) عقيدة سكان مقاطعة هيلاس فالمصطلحان بدءا اسمين جغرافيين قبل ان يشيرا إلى نسقين عقائديين . و قد استخدم محرروا أسفار التوراة كلمة إسرائيلي أو إسرائيليين أو عبراني أو عبرانيين في سردهم للأخبار السابقة على السبي الآشوري لمملكة إسرائيل – السامرة و السبي البابلي لمملكة يهوذا . و رغم ان تعبير بني إسرائيل قد دل في سفر التكوين على أبناء يعقوب و سلالتهم , إلا ان هذا التعبير عبر بقية الأسفار يحمل مضمونا لاهوتيا بالدرجة الأولى , و هو يشير إلى شعب يهوه المختار . أما صفة يهود و يهودي فلم تستعمل إلا في مواضع قليلة من الكتاب للدلالة على جماعة أو شخص من منطقة يهوذا . ففي سفر الملوك الثاني 16 / 6 , استخدم المحرر تعبير يهود في إشارته إلى جماعة أهل يهوذا , ثم تكرر هذا الاستخدام ثمان مرات في سفر ارميا , و مرة واحدة في سفر دانيال , و لكن محرر سفري عزرا و نحميا قد وجد نفسه حرا تماما في إطلاق الصفة على سكان مقاطعة ( يهود ) . و لكن ابتداءا من القرن الثاني الميلادي الذي شهد صياغة الديانة اليهودية التلمودية على يد لاهوتيين عرفوا باسم الربانيين ( و مفردها ربان و رابي أي معلم ) في مجمع جامينة أو جبنة ابتدأت الديانة التوراتية تتخذ اسم اليهودية , و صار ابتاعها يدعون يهودا . و قد وضع هذه المجمع قانونية أسفار العهد القديم كما اعتبر المسيحيين هراطقة و هذا يعني فصلهم من مجامعهم .يقول الكاتب اليهودي نادر ساسون خضر ( ان اليهودية كمصطلح لا يشير إلى النسق الديني للعبرانيين قبل تدوين العهد القديم أثناء الهجرة الأولى في بابل 587 ق . م و استمر التدوين حتى القرن الثاني ق . م . لذا قد يكون من الأفضل الحديث عن ( عبادة إسرائيل ) في المرحلة التي تسبق بناء الهيكل و تأسيس المملكة الموحدة عام 1020 ق . م و عن ( العبادة القربانية المركزية ) بعد تأسيس الهيكل و حتى هدمه عام 70 م و اليهودية بشكل عام لما بعد ذلك . يكتب الباحث فراس السواح في كتابه ( تاريخ أورشليم ) ( إننا لا نستطيع تلمس أي اثر للمعتقد التوراتي خلال الفترة المفترضة لتوطن العبرانيين في المناطق الهضبية الفلسطينية ( 1200 – 1000 ) ق . م و خلال الفترة المقترحة للمملكة الموحدة و القران العاشر ق. م فالنصوص الكتابية مفقودة تماما , و كذلك الشواهد الأثرية . فهل يعقل ان شعبا كثير العدد قد حل في الهضاب مدة قرنين من الزمان و بنى لنفسه مملكة كبرى بعد ذلك دامت قرنا تقريبا و ضمت إليها معظم المناطق الفلسطينية لم يترك لنا اثر واحدة يدل على ثقافته الدينية ) . يقول الباحث G – Van Seter بعد دراسته لعصر الآباء ( ان قصص الآباء لم تكن في أصلها مرويات شفوية بل هي قصص مكتوبة و مصاغة لأول مرة خلال فترة السبي البابلي و ما بعده . و إنها في خطوطها العامة و ما تتضمنه من تفاصيل و عادات و أسماء أعلام و علاقات اجتماعية تعكس الأوضاع السائدة في عصر تدوينها أي حوالي منتصف الألف الأول قبل الميلاد ( 500 ق . م ) . يكتب العالم الاثاري الإسرائيلي زائيف هيرتزوغ و هو الأستاذ في جامعة تل أبيب في مقالة نشرتها صحيفة هاارتس بتاريخ 28 / 11 / 1999 م و هو ابن المدرسة التوراتية قائلا : ( نحن لم نعثر على شيء يتفق و الرواية التوراتية , ان قصص الآباء في سفر التكوين هي مجرد أساطير , و نحن لم نهبط إلى مصر و لم نخرج منها . و لم ندخل إلى فلسطين بحملة عسكرية . و أصعب الأمور ان المملكة الموحدة لداود و سليمان , كانت في أفضل الأحوال مملكة قبلية صغيرة . ان القلق سينتاب كل من سيضطر إلى التعايش مع فكرة ان يهوه اله إسرائيل كان لديه زوجة ( هي الآلهة الكنعانية الكبرى عشيرة ) و ان إسرائيل لم تتبنى عقيدة التوحيد على جبل سيناء و إنما في أواخر عهد ملوك يهوذا . إنني أدرك باعتباري واحدا من أبناء الشعب اليهودي , و تلميذا للمدرسة التوراتية مدى الإحباط الناجم عن الهوة بين آمالنا في إثبات تاريخية التوراة و بين الحقائق التي تتكشف على ارض الواقع ) . يكتب الباحث البريطاني فيليب ديفزPhilip Davies ( ان ما يقوله علم الآثار بخصوص الجماعات التي شكلت إسرائيل التاريخية , هو أنها جماعات فلسطينية محلية , و ان ثقافتها التي تعكس مخلفاتها المادية هي ثقافة فلسطينية لا يمكن تمييزها عن ثقافة بقية المناطق الفلسطينية , رغم احتفاظ تلك الجماعات بهامش من الخصوصية فيما يتعلق بأنماط حياتها الاقتصادية . و انه لمن المؤكد ان هؤلاء الناس لم ينحدروا من سلف واحد جاء من منطقة ما من بلاد الرافدين ) . ان الكنيسة المسيحية التي شاءت بعد قرون من حياة يسوع ان تتبنى التوراة العبرانية كنص مقدس , قد نفخت الروح في أسفار الكتاب البالية التي تعتبر بقية متحجرة من عالم قديم زال إلى الأبد . و دفعت بها في نسق الحضارة الغربية الصاعدة . و هذا ما قاد إلى إحداث تغييرات عميقة في كيفية إدراك الغرب لنفسه و تحديده لهويته في مقابل الحضارات الأخرى .يكفي هنا الإشارة إلى اثر فكرة ( شعب الله المختار ) التوراتية على نظرة الغرب لدوره في العالم كشعب مختار يحمل رسالة عالمية ظاهرها تحضير البرابرة و باطنها التسلط و نهب ثروات شعوب العالم . ان الاعتراف بأننا جاهلون لكثير مما حدث في الماضي , هو الذي يحمينا من سطوة الايدولوجيا و من أمان اليقين , و يبقينا في حيرة العلم .
وليد يوسف عطو
1 حزيران 2006
المصادر : -
1-تاريخ أورشليم و البحث عن مملكة اليهود / فراس السواح إصدار دار علاء الدين للنشر و التوزيع و الترجمة سورية – دمشق الطبعة الثالثة 2003 .
2-مجلة ميزوبوتاميا ( بلاد النهرين ) لصاحبها سليم مطر العدد 8 و 9 نيسان 2006 , مقال بعنوان ( يهود العراق ) بقلم نادر ساسون خضر / لندن .
3-مخطوطات البحر الميت ( قصة الاكتشاف ) , تأليف أسامة العيسة الطبعة الأولى 2003 إصدار دار قدمس للنشر و التوزيع ( ش . م . م ) بيروت – لبنان .
4- من الأناجيل إلى الإنجيل , تأليف الأب إتيان شربنتييه, إصدار دار المشرق / بيروت , الطبعة الأولى 1991 م ص 59 .
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟