كاظم حبيب
(Kadhim Habib)
الحوار المتمدن-العدد: 1063 - 2004 / 12 / 30 - 13:25
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
(9 كانون الأول/ديسمبر)
ما الموقع الذي يحتله العراق في قائمة الفساد في العالم؟
ومن نأتمنه على اقتصادنا ومجتمعنا ومستقبلنا؟•
مفهوم الفساد عالمياً
صدر حديثاً التقرير الخاص بالفساد في العالم عن منظمة "الشفافية العالمية" تضمن معلومات مثيرة عن درجة انتشار الفساد في 146 دولة جرى البحث والتحري واستطلاع الرأي فيها. وإذ احتلت فنلندا الموقع الأول في الدول النظيفة 9,7 نقطة من مجموع 10 نقاط, حصلت الولايات المتحدة على 7,5 نقطة واستقرت في الموقع العشرين, في حين احتل العراق موقعاً متخلفا يتراوح بين 129 – 133, إذ حصل على 2,1 نقطة فقط. ويبدو أنه من بين 60 دولة انتشر الفساد فيها بعمق شديد وأصبح الظاهرة السائدة فيها .. ولكن ماذا يعني مفهوم الفساد في المؤسسات العلمية الدولية والمتخصصة بشئون مكافحته دولياً؟
يقصد بالفساد تلك المجموعة من الممارسات التي تتنافي مع مصالح المجتمع وتسيء إلى مبدأ المساواة بين الأفراد, إضافة إلى إساءة استعمال الموقع الإداري الذي يشغله الإنسان, سواء أكان موظفاُ أم مستخدما في أجهزة الدولة التشريعية أم التنفيذية أم القضائية, أم كان يعمل في القطاع الاقتصادي أم الاجتماعي الخاص أو الحكومي, أم كان نائباً أو ممثلاً أو مندوباً سياسيا. ويدخل في هذا المفهوم السعي إلى تحقيق منفعة شخصية أو منفعة شخص آخر, أو إلحاق الضرر بآخر, سواء بتأثير من آخرين أم بمبادرة خاصة منه. كما يتضمن إخفاء معلومات عن الدولة أو كشف أسرار معينة تلحق أضراراً بالدولة والمجتمع أو تحقق منفعة للشخص المعني بسبب موقعه السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو الإعلامي...الخ. ويدخل ضمن هذا المفهوم ممارسة المحسوبية والمنسوبية واستغلال الموقع أو المركز الذي يشغله الفرد ويتسلم رشاوى أو بقوم بتقديم رشاوى ...الخ.
حدد التاسع من كانون الأول/ديسمبر من كل عام يوماً عالمياً للكفاح ضد الفساد. ويفترض أن يستثمر الشعب هذا اليوم, وكل يوم, لشن حملة شعبية وطنية واسعة لمحاربة الفساد في العراق, إذ أننا ندرك اليوم وأكثر من أي وقت مضى مدى تأثير الفساد على الشعب وتطور المجتمع واقتصاده الوطني. لا شك في أن الفساد في العالم له أسبابه على الصعيدين الدولي والمحلي, وهو عملية متبادلة الفعل والتأثير, وينتقل بين بلدان العالم دون جواز سفر, فهو الوباء القاتل بعينه الذي لا بد من القضاء عليه قبل أن يصبح ظاهرة سائدة يسرق قدرات وطاقات المجتمع ويحرمه من التقدم والنماء ويعيق مستقبله المشرق, وخاصة في بلد مثل العراق يمتلك ثروة خامية كبيرة, هما النفط والغاز الطبيعي بكميات هائلة يسيل له لعاب الكثير من الاحتكارات العالمية الكبرى المتعددة الجنسية والكثير من الدول الراعية لتلك الاحتكارات ومصالحها في العالم, إضافة إلى مواد أولية أخرى مثل الفوسفات والكبريت. هذه الدراسة مخصصة للإشارة إلى واقع الفساد المالي والإداري في العراق وبمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد.
********
الفساد المالي والإداري في العراق
يعتبر الفساد الإداري في هذه المنطقة التي تشكل عراق اليوم ظاهرة قديمة متجددة. فقد عرفته العهود العراقية القديمة وكذلك في ظل الدولة الإسلامية الأموية والدولة العباسية. وأصبح ظاهرة عامة وشاملةً في ظل الدولة العثمانية الجائرة. وكان أغلب حكام العراق القدامى عندما ينتزعون السلطة من الحكام الذين سبقوهم يتحدثون عن الفساد وغياب العدالة في ظل الحكام السابقين, وأنهم سيسعون إلى محاربة ذلك ونشر العدالة في البلاد. وكان سلاطين الدولة العثمانية هم الأكثر فساداً والأوفر حظاً في جمع الأموال والأكثر رفاهية, والجندرمة هم الأكثر شراسة والأقل حظاً بين جميع المرتشين في تلك الدولة الثيوقراطية الإقطاعية والأكثر بؤساً في عيشهم. وفي ظل الدولة العثمانية عانى سكان الولايات الثلاث, بغداد والبصرة والموصل, الأمرين من جراء الفساد الذي عم البلاد وسبى العباد وشمل الجميع وما ارتبط به من جور وتخلف شديدين.
لا يمكن لأي باحث علمي أن يستثني أي فترة من حياة المجتمع العراقي من وجود الفساد ومن تأثيره السلبي على حياة الناس. والاختلاف الوحيد يبرز في مدى شمولية وعمومية هذه الظاهرة ومدى الأضرار التي تلحقها بالمجتمع,
انتقلت هذه الظاهرة السلبية إلى الدولة العراقية الملكية الجديدة ورافقت سلطة الاحتلال البريطاني والحكومات الملكية المتعاقبة. وكان تعبير الواشر (50 فلس), الذي كان يدفع للشرطي (الملقب أبو إسماعيل) لقاء معاملة معينة, هو التعبير الساخر عن وجود الرشوة والفساد في الدولة العراقية الملكية, وخاصة في مجلس ووزارة الإعمار أو في مجال النفط الخام أو في الجمارك وفي المحاكم والتجارة, ولكن بشكل خاص في مجال سلب أراضي الفلاحين وبشاعة استغلالهم والتغطية على كبار الإقطاعيين من جانب الدولة. وقد تعرضت هذه الظاهرة إلى النقد الشديد من مثقفي المجتمع والقوى السياسية الديمقراطية والناس البسطاء, حتى وصل الفساد الإداري والمالي إلى تلك الدرجة من العمق بحيث تصدت له الفنانة عفيفة اسكندر بالنقد الشديد في أغنية جميلة قدمتها من صوت أمريكا في عام 1952 حين سافرت مع الفنان الراحل عزيز علي إلى الولايات المتحدة على حساب النقطة الرابعة ضمن مشروع الرئيس الأمريكي ترومان حينذاك, وهي تتساءل في كلماتها بجدية عالية: من أين لكَ هذا؟ فتجيب بنفسها في الحوار: هذا من فضل ربي! وترد يكل بسخرية قائلة: قابل الله نزله ألكَ بالزنبيل! كما غنى المطرب عزيز علي أغنية "بستان" التي توجهت بالنقد الشديد إلى "أبو ناجي", أي إلى الإنكليز, وإلى السفارة البريطانية ونشاطها في العراق.
ولم يخل العهد الجمهوري الأول من هذه الظاهرة إلا أشهراً معدودة حيث عاد إلى الحياة اليومية ثانية ولعب دوراً كبيراً في تعقيد مشكلات الناس. أما في العهدين "البعثي والقومي" البغيضين (1963-1968) فكان الفساد الإداري مكشوفاً إلى الحد الذي فاق التصور وبرز بشكل صارخ في مختلف مجالات الحياة الاقتصادية وفي العلاقة بين المواطن والموظف, ولكن بشكل خاص بين قمة الدولة وكبار موظفيها وبين كبار المقاولين وكبار التجار وأصحاب العقارات والإقطاعيين .. الخ. وكان النفط الخام وبناء المساجد في تلك الفترة بعض أبرز مجالات الاغتناء على حساب خزينة الدولة. فمن كان يقوم ببناء جامع في مكان ما من العراق مثلاً, امتلك الحق في الحصول على إعفاءات جمركية وضريبية كبيرة ومستمرة, بحيث كان يستورد كميات من السلع تكفي لبناء عمارات له باسم الاستيراد للجامع المسكين! وبرزت في حينها مجموعة صغيرة من العائلات القريبة من النظام حصلت على قصب السبق في نهب الدولة والمجتمع عن هذا الطريق وطرق أخرى كثيرة لا مجال لذكرها هنا, كما أن الدراسة ليست في مجال التعرض بالإشارة إلى تلك العائلات بالاسم, إذ أن الناس العراقيين يعرفونهم جيداً. وعندما أقدمت النخبة الاقتصادية المروجة "للوحدة القومية" العاجلة على تأميم مشاريع القطاع الخاص في تموز/يوليو 1964, استثنت مشروعاً في الموصل مماثلاً لبقية المشاريع المؤممة, ولكنه يعود لواحدة من تلك العائلات القريبة من النظام. وقد كتبت أكثر من مقال عن موضوع التأميمات نشرت في حينها في مجلات الطريق اللبنانية والطليعة اللبنانية والثقافة الجديدة العراقية.
الفساد في العهد الصدّامي
وفي فترة البعث الجديدة, التي بدأت في عام 1968 واستمرت حتى عام 2003, برز الفساد المالي على عدة مستويات مهمة جداً, منها:
المستوى الأول: القيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي
كان رأس النظام الفعلي صدام حسين ينفرد بممارسة نهج تزويد أعضاء القيادة القومية وبعض المرتبطين بهم والعاملين معهم مبالغ طائلة جداً تصل إلى حدود المليارات. وكانت هذه الأموال تسجل في حسابات خاصة خارج البلاد. وكان أكبر الحرامية في هذا الصدد الدكتاتور صدام حسين ذاته الذي صادر حصة كولبنكيان التي بلغت 5 % من عوائد النفط الخام السنوية بعد صدور قرار تأميم شركات النفط الخام في العراق. وهذه المجموعة البعثية القيادية حققت أموالاً طائلة من خلال ثلاثة مجالات معروفة, وهي:
أ. تجارة الأسلحة والعتاد مع الشركات الأجنبية سواء أكان مع الدول الرأسمالية أم الاشتراكية, إذ كلاه المعسكرين كان مستعداً لدفع العمولة (القومسيون) لهؤلاء الأشخاص وبسخاء كبير جداً, إذ أن العقود التي كانت تبرم عبرهم كانت سخية إلى حدود غير معقولة, وكان الهدف من وراء ذلك سياسياً ومالياً بطبيعة الحال. واتخذت هذه المسألة بعداً جديداً حين بدأ النظام يسعى للحصول على أسلحة الدمار الشامل, سواء أكان باقتنائها أم بإنتاجها بعد الحصول على تقنياتها الأساسية. وقد صرف لهذا الغرض وفي فترة قصيرة جداً أكثر من 50 مليار دولار أمريكي , راحت نسبة مهمة منه كرشوة باسم العمولة من أجل الحصول على تلك التقنيات.
ب. مقاولات إقامة المشاريع الاقتصادية والبنايات العامة ومقرات القيادتين القومية والقطرية والسجون والمعتقلات والقلاع العسكرية والشوارع, إضافة إلى مشاريع الري والبزل وحقول الدواجن التي كانت تنظم بطرق خاصة أو شراء المكائن والمعدات الزراعية ...الخ.
ج. استيرادات العراق الكبيرة من السلع الاستهلاكية والكمالية والسيارات وغيرها. ولعبت المؤسسة العامة للسيارات ومؤسسات أخرى دوراً بارزاً في هذه الصدد. ويفترض أن نشير هنا إلى أن استيرادات العراق السنوية تراوحت بعد تأميم النفط الخام بين 8-11 مليار $, وارتفع في عام 1981 مثلاً إلى أكثر من 16 مليار $.
وكان النظام يخصص موارد استثنائية تدفع للقيادة القومية لممارسة نشاطها على النطاق العربي. وكانت هذه القيادة تستخدم هذه الأموال للأغراض التالية, مع وجود قناعة تامة بحصول اغتناء شخصي من خلال تلك الأموال, رغم الدخل السنوي العالي جداً الذي كان قد خصص لكل منهم على حساب الشعب:
• دعم الجهود التي كانت تبذل لخلق أو تعزيز مواقع تنظيمات حزب البعث -جناح عفلق- في الدول العربية وعلى الصعيد الخارجي وتأمين احتياجاتها المالية لنشاطاتها المختلفة.
• دعم جهود القيادة القومية في تدبير المؤامرات والاغتيالات في الدول الأخرى. وقد كشف عن الكثير عن هذه النشاطات في عدد من الدول, ومنها: موريتانيا والصومال وسوريا ولبنان واليمن أو في الدول المغاربية. وفي ضوء هذا النشاط حقق حزب البعث بناء تنظيمات حزبية وحلقات أمنية له في تلك البلدان, وبشكل خاص في القوات المسلحة وفي مجالي المثقفين والصحفيين.
• دعم نشاط جهاز الأمن القومي المنتشر في الدول العربية وعلى صعيد الدول الأجنبية التي كانت القيادة القومية تبدي اهتماماً خاصاً للعمل فيها وبأمل الحصول على المعلومات المفيدة لها عبرها, أو لكسب وشراء الجواسيس العرب وغير العرب لصالح النظام العراقي.
• شراء ذمم السياسيين والصحفيين وبعض القوى الاجتماعية والعاملين في المنظمات غير الحكومية وتمويل الحملات الانتخابية لبعض العناصر أو حتى الأحزاب السياسية العربية وغير العربية. وما تزال هدايا رأس النظام المالية المقتطعة من خزينة الدولة لبناء دور جمهرة كبيرة من الصحفيين والكتاب الأردنيين أو منح سيارات المرسيدس لهم ولعدد غير قليل من السياسيين والصحفيين في الأردن ومصر وفي غيرها شاهد على ذلك, وهي معروفة لمثقفي تلك البلدان. وفي حينها شكا الصديق الراحل الدكتور فؤاد مرسي من هذه الظاهرة قبل وفاته بفترة قصيرة جداً, عندما زرته في شقته في حي العجوزة بالقاهرة, مشيراً إلى مصاعب إدانة سياسات وجرائم النظام العراقي في أوساط سياسية وصحفية واسعة في مصر, ومنهم من يعمل في حزب التجمع الوطني!
• تنظيم الجماعات العراقية المهاجرة في منظمات المغتربين المرتبطين بالسفارات العراقية من جهة, وبالتنظيم القومي البعثي والأمن القومي من جهة أخرى. ولهم صلة أخرى بالأمن العراقي المختص بشئون الخارج. وكانت شركات الخطوط الجوية العراقية مراكز أساسية للتجسس واستقبال المعلومات أو إيصال البريد السري من وإلى العراق.
• دعم دور الطباعة والنشر العربية لإصدار الكتب وتمويل الكتُّاب الذين يبدون استعداداً للعمل مع حزب البعث العربي الاشتراكي على الصعيد القومي أو على الصعيد القطري العراقي. وما يزال "السفر المُعيب" للكاتب المصري "التقدمي" جداً, الدكتور أمير إسكندر, الموسوم "صدام حسين مناضلاً ومفكراً وإنساناً" الذي صدر بعدة طبعات ممتازة وبعدة لغات عن دار هاشيت/فرنسا في عام 1980, لطخة عار في جبين هذا الكاتب. وكل المعايير التي سطرها الكاتب جزافاً كانت لا تنطبق على هذا الدكتاتور المتوحش. وكان سخاء الدكتاتور مع الكاتب كبيراً جداً على حساب أموال وقوت الشعب العراقي.
وإذا كان العراق يدفع كل تلك المبالغ نقداً من عوائد النفط الخام وبالعملة النادرة مقتطعة من خزينة الدولة, فأن الفترة التي بدأت مع الحصار الاقتصادي, أي بعد عام 1995, أجبر على دفع كوبونات للحصول على العمولة (القومسيون) من بيع النفط العراقي في إطار قرار "النفط, مقابل الغذاء" أو خارجه, إذ منح النفط ذاته في غالب الأحيان كهدية لهذه الدولة أو تلك الشركة الخاصة أو الحكومية..الخ أو لهذا الشخص أو ذاك. وهي الطريقة التي قامت جريدة المدى العراقية بفضح البعض من أسماء تلك المجموعات القابضة من النساء والرجال, كما وردت في قوائم موجودة لدى وزارة النفط العراقية, ويتبين الآن بأن أكثر من 50 دولة في العالم, وفيها الكثير من الأحزاب والشخصيات المعروفة, كانت تقبض من النظام العراقي على طريقة الكوبونات, كما أن البعض كان يقبض الهدايا ذهباً من المصوغات التي جمعها النظام العراقي من الشعب العراقي لتصرف على الحرب فأصبحت من نصيب ساجدة خير الله طلفاح, زوجة صدام حسين, أو ضيوف صدام حسين من المرتزقة العرب وغير العرب. ويتوجب على الحكومة العراقية القادمة, وبعد أن تستقر الأوضاع الأمنية ويتم انتخاب المجلس الوطني الجديد والحكومة الجديدة, أن تقوم بمقاضاة تلك الدول والأحزاب والأشخاص أمام المحاكم الدولية, ما لم يدفعونها مباشرة, لاستعادة الأموال المنهوبة بهذه الطرق غير المشروعة, في فترة كان الشعب العراقي يئن تحت وطأة الجوع والحرمان ويحصد الموت الأطفال الصغار والمرضى وكبار السن والحوامل يومياً.
المستوى الثاني: أجهزة الدولة وشركات المقاولة والنشاط التجاري في البلاد
كان الفساد في هذا المستوى واسعاً جداً بدأ مع بدء تدفق عوائد تصدير النفط الخام بمبالغ طائلة بعد نجاح عملية التأميم في عام 1972. وكانت قيادة النظام تجد نفسها بين فترة وأخرى مجبرة على تقديم البعض من هؤلاء الفاسدين وظيفياً إلى المحاكم عندما تكون الروائح النتنة قد انتشرت في البلاد ولم يعد ممكناً السكوت عنها. وكان أكثر مواقع النهب وسيادة الفساد المالي تبرز في العلاقة بين أجهزة الدولة وشركات المقاولة الأجنبية والمحلية وفي مختلف القطاعات الاقتصادية دون استثناء. وكان النهب يتم عبر طرق كثيرة منها مثلاً الموافقة على أسعار عالية جداً لإقامة مشاريع إنتاجية أو مدارس أو بنايات حكومية أو قلاع عسكرية في كردستان العراق أو تبليط شوارع للأغراض العسكرية أو غيرها, بحيث كان الربح المتحقق لتلك الجهات يشكل نهباً هائلاً لخزينة الدولة. فالمدرسة التي كانت تكلفة إقامتها لا تزيد عن مليون دولار أمريكي مثلاً, كانت الشركة المقاولة تحصل على أربعة أو خمسة ملايين دولار أمريكي, عندها ليس مهماً أن تدفع ربع مليون دولار أمريكي أو أكثر للمسئولين عن فتح العطاءات وتحديد من تقع عليه المناقصة. أما المشاريع الصناعية المتوسطة والكبيرة, فكان النهب فيها لا يوصف حقاً. وكان الموظفون المرتشون يحصلون على نسبة قومسيون عالية جداً, ولكن الخسائر التي كانوا يلحقونها بالاقتصاد الوطني تعادل مئات المرات ما كانوا يتقاضونه من عمولة مسيئة للشرف والضمير. وما زال البعض من عائلات موظفي وزارة الصناعة في فترة حكم صدام حسين يسحبون من المصارف الأوروبية ما وضع في حساباتهم من عمولة كانت محرمة في ضوء القوانين العراقية.
المستوى الثالث: العمل مع المنظمات الدولية
برز هذا النوع من الفساد المالي والإداري في العمل مع المنظمات الدولية وخاصة تلك الهيئات المسؤولة عن تنفيذ قرار النفط مقابل الغذاء. وخلال الفترة الأخيرة بدأ سيل من الكتابات المسؤولة تتحدث عن أسباب بروز هذه الظاهرة ومحاولة فضح السبل التي كانت تجري من خلالها سرقة لقمة عيش الشعب العراقي التي كانت شحيحة أصلاً. وكان المتورطون في هذه العمليات ثلاثة أطراف كما يبدو:
أ) الجماعات العاملة في أجهزة المنظمة الدولية والمسؤولة مباشرة عن تنفيذ البرنامج في مستويات مختلفة, وبعض هؤلاء من "أخوتنا" العرب, ومنهم جمهرة من المصريين واللبنانيين؛
ب) الدول والشركات الأجنبية التي كانت تشارك في تزويد العراق بالمواد الغذائية والسلع المسموح لها بدخول العراق؛
ج) جهاز الحكم العراقي المخصص للعمل مع تلك الجماعة الدولية, وعلى رأسها مجموعة من كبار المسئولين في الدولة الصدّامية, ومن أفراد العائلة أو القريبين منها ومن بعض الوزراء أو أبناء الوزراء.
ويفترض أن تخضع كل هذه القضايا للتحقيق الدقيق والمسؤول, لكي تنتهي التكهنات والتقديرات الشخصية بشأنها, علماً بان السيد وزير النفط العراقي السابق, الدكتور إبراهيم محمد بحر العلوم أشار, في مقابلة له مع قناة الفيحاء بتاريخ 22/10/2004, قد أشار إلى أن الأمم المتحدة قد تسلمت أكثر من بليون دولار أمريكي لقاء تنفيذها قرار "النفط مقابل الغذاء".
المستوى الرابع: صغار الموظفين والمستخدمين
لم يكن في مقدور الناس البسطاء دفع الرشوة إلى صغار الموظفين إذ كانت قواعد الحزب وجهاز الأمن تطارده في الفترة الأولى من حكم البعث فقط. ولكن بعد أن بدأ الفساد الإداري والمالي يبرزان بشكل صارخ على مستوى القيادة, وبعد أن ظهر المزيد من التساهل في هذا الأمر, وفي سنوات الحرب العراقية-الإيرانية وما بعدها, حيث أفلت زمام الأمور من يد "القائد الضرورة!", خاصة وأن المجتمع برمته أدرك بأن صدام حسين وقيادته هم حرامي بغداد الأكبر, لم يعد هناك من لا يدفع رشوة لتمشية معاملة أو من لا يتسلم رشوة لإنجاز معاملة إلا ما ندر. ويمكن ملاحظة بروز هذه الظاهرة على مستوى أجهزة الدولة الصغيرة, الأمن والشرطة وقواعد الحزب منذ أن بدأت عملية تهجير العائلات العراقية العربية والكردية الفيلية إلى خارج البلاد بدعوى التبعية لإيران أو عمليات التهجير القسري للكرد والتركمان من كركوك وغيرها من المدن الكردستانية, إذ بدأت عملية سرقة أموالهم المنقولة, كالمصوغات الذهبية والفضية والنقود وما هو موجود في بيوت تلك العائلات مباشرة, في حين كانت الدولة تصادر الأموال المنقولة وغير المنقولة المتبقية رسمياً. وأصبحت ظاهرة الفساد المالي والارتشاء سائدة مع منتصف الثمانينات وتفاقمت بشكل رهيب في العقد الأخير من القرن العشرين حتى سقوط النظام. فلم يعد في مقدور أي مخلوق الحصول على أي ورقة رسمية أو تمشية معاملة بيع أو شراء ما لم يدفع صاحب المعاملة أو البائع وكذلك المشتري الرشوة المطلوبة إلى الموظف المسؤول. كانت هذه الظاهرة سائدة في أجهزة الشرطة والنجدة وفي المحاكم ودوائر التسجيل العقاري كعمليات بيع وشراء الدور, أو التسجيل في الجامعات أو البعثات والزمالات الدراسة أو حتى الحصول على الشهادات, أو إصدار جواز سفر أو عبور الحدود, أو تهريب السلع و إدخال المخدرات والمتاجرة بها ...الخ. إن هذه الرشوة التي كانت تستلم لا يذهب كلها إلى الموظفين الصغار بل كانت الحصة العظمى منها تذهب إلى مسئوليهم الكبار, ولهم في هذا تقاليد لا يمكن الخروج عليها, وإلا تعرض للسجن والتعذيب والإقصاء أو حتى القتل. وهذا ما كان يقوم به عدي صدام حسين مع العاملين معه ممن كان يحاول الحصول على رشوة أو مكسب خاص به دون أن يشركه أو يعلمه بالعملية قبل ذاك.
المستوى الخامس: الجريمة المنظمة
في مثل هذه الأجواء الفاسدة والأوضاع المعيشية والمالية المزرية للغالبية العظمى من المجتمع وخاصة لذوي الدخل المحدود, توسعت وتنوعت تشكيلات جماعات الجريمة المنظمة في العراق وأصبح لها باعاً طويلاً في عمليات نهب الناس ومنشآت الدولة دون استثناء, وأصبح ابتزاز السكان للحصول على الأموال, سواء أكان عبر التهديد أم السطو على البيوت الناس وسرقة السيارات, ظاهرة واسعة الانتشار عاشها الشعب العراقي قبل سقوط النظام. ولم تكن هذه العمليات تجري دون وجود قوى مساعدة لهم في أجهزة الدولة, أي في شرطة النجدة وأجهزة الأمن أو في المحاكم. لقد عرف العراق في فترة حكم البعث وخاصة في العقدين والنصف الأخيرة قبل سقوطه اتساعاً هائلاً وشاملاً في مجال الفساد المالي والإداري, ومن حق الإنسان أن يتساءل عن الأسباب الكامنة وراء بروز مثل هذه الظاهرة.
العوالم الكامنة وراء سيادة الفساد الإداري والمالي
يتطلب منّا الإجابة عن السؤال التالي من أجل توفير المفهم المشترك في سبل مكافحة الفساد: ما هي العوامل والأجواء السياسية التي أنتجت وعمقت ووسعت من قاعدة الفساد المالي والإداري في العراق وحولته إلى ظاهرة سائدة تهدد المجتمع وتعرقل مسيرته الوطنية وتطوره المستقل؟ يمكن تلخيص الإجابة عن هذا السؤال بالملاحظات التالية:
• غياب كامل للديمقراطية والدستور والحياة الدستورية, وتغييب القوانين التي اتسمت بروح ديمقراطية وأُقرت تحت ضغط الحركة السياسية الديمقراطية ونضال الجماهير الواسعة في سنوات كثيرة منصرمة, وسيادة الدكتاتورية والإرهاب والقمع في البلاد والمركزية الشديدة, شكل القاعدة الأساسية والمحفز المباشر لنمو وتطور الفساد المالي والإداري. إلا أن هذا لا يعني بأن الدولة الديمقراطية لا تعرف الفساد الإداري, بل أن الفارق يبرز في وجود إمكانية معينة في الدولة الديمقراطية للكشف عن ممارسي الفساد وتقديمهم للقضاء الذي يفترض أن يكون مستقلاً. وفي ظل الاحتلال يتخذ الفساد المالي والإداري صيغاً جديدة وأبعاداً أخرى.
• خلقت الحروب التي خاضها النظام العراقي الشروط والأرضية الصالحة لنمو هذه الظاهرة واتساع قاعدة المتعاملين بها. ومنذ بدء الحرب العراقية – الإيرانية لوحظ بروز مجموعة من تجار الحروب أو من يطلق عليهم بالقطط السمان التي اغتنت من خلال تجارة السلاح والاستيراد على حساب خزينة الدولة والمجتمع وساهمت في ممارسة انتشار التعامل بالرشوة وإفساد الموظفين.
• ولعبت التقاليد والعادات التي ورثها المجتمع والأفراد من النظم السابقة والأسلاف, سواء أكان ذلك عبر التعامل اليومي أو الموروث الاجتماعي والحكايات الشعبية ,. الخ, دورها في قبول هذه الظاهرة والتعايش معها.
• لعبت سيادة الاستبداد الفردي وغياب الأجواء السياسية الديمقراطية واحتكار الصحافة من قبل النظام ومنع وجود الأحزاب السياسية المعارضة وملاحقتها وعدم استقلال القضاء دوراً أساسياً في انتشار الفساد المالي والإداري ونهب قطاع الدولة والتفريط بأموال الشعب بصيغ مختلفة, والعجز عن كشف وفضح ومحاسبة الفاعلينً.
• طبيعة علاقات الإنتاج السائدة في المجتمع ومدى وجود البطالة والتشرد والعوز العام في البلاد والشحة في السلع والخدمات أو العمل .. الخ.
• وساهم تفاقم التمايز بين الغني والفقر في المجتمع واتساع الفجوة القائمة بينهما والظروف التي عاش في ظلها الفقراء والفئات الكادحة, وخاصة ذوي الدخل المحدود والمهمشين من الناس من جهة, وجشع الأغنياء ورغبتهم في زيادة ثرواتهم من جهة أخرى, بدور ملموس في هذا الصدد.
• مارس الحكم سياسة فاشية وعنصرية مقيتة اعتمدت العنف والإرهاب في التعامل مع الشعب, ومارست أجهزته أساليب الابتزاز والنهب, وتورط النظام من القمة إلى القاعدة, وكذا الحزب الحاكم بالفساد الإداري والمالي. ومن تتبع المجازر التي مارسها النظام في كردستان العراق وفي حملات الأنفال, يستطيع تأكيد حقيقة أن القوى الموجهة التي شاركت في تلك العمليات قامت بنهب أموال ومصوغات النساء الذهبية ليس ممن قتل في تلك العمليات ودفن في مقابر جماعية فحسب, بل وتم نهب المواطنات والمواطنين الكرد الذين أرسلوا إلى المعتقلات والسجون والمنافي في نقرة السلمان أو مناطق أخرى من العراق. وعند التحري عن المدفونين في المقابر الجماعية التي عثر عليها في كردستان العراق لوحظ بأن الضحايا من النساء اللواتي قتلن وأطفالهن كن لا يرتدين الحلي الذهبية, علماً بأن النساء الكرديات, شأنهن شأن بقية نساء العالم الشرقي, يرتدين الذهب حتى في فترة عملهن في البيت. وهذا يعني باختصار أن الجلادين قد انتزعوا منهن حليهن عنوة وقبل دفنهن وهن أحياء.
• رغم الادعاء بالتشدد في فرض القوانين التي تحكم نشاط الشركات الأجنبية في البلاد, فأن النظام الدكتاتوري, منذ أن بدأ بتنفيذ ما أطلق عليه بالتنمية الانفجارية, بدأت عملية النهب والتفريط الواسعين بأموال الدولة, إذ أطلق الحكم أيدي الشركات الأجنبية والمقاولين الأجانب والعرب والعراقيين في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي في التعامل غير المراقب مع أجهزة الدولة العراقية, ثم برزت الظاهرة مرة أخرى في العقد الأخير من القرن العشرين في التعامل مع الجهات المسؤولة عن تنفيذ قرار "النفط مقابل الغذاء" مما تسبب في انتشار واسع النطاق للفساد الإداري والمالي وسرقة موارد مالية تقدر بالمليارات.
• التخلف الفكري والسياسي والوعي الاقتصادي والاجتماعي, وبكلمة واحدة, أي تخلف المستوى الحضاري الذي يعيش فيه المجتمع, قد ساعد وما يزال يساعد دون أدنى ريب في تفاقم هذه الظاهرة وانتشارها الواسع على صعيد العراق كله.
الفساد المالي والإداري ما بعد سقوط النظام
لم ينته الفساد الإداري والمالي بعد سقوط نظام المستبد بأمره صدام حسين. إذ أن الحديث يجري اليوم عن انتشار الفساد بشكل واسع في جميع أجهزة الدولة دون استثناء, وأنه يشمل المجتمع بأسره, كما يجري الحديث الموثق عن ممارسة متفاقمة للمحسوبية والمنسوبية والحزبية الضيقة في كل ذلك. والحديث عن هذا الموضوع, كما بينا ليس جديداً, إلا أن الجديد في الأمر هو أن الشعب, لم يعد قادراً على تحمل هذا الحجم الهائل من الفساد وتعميم المحسوبية والمنسوبية, وكأنهما من الأمور الطبيعية وفي مختلف المجالات. وتتحمل الفئات الكادحة, وهي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع, العبر الأكبر من عواقب هذا الفساد, إذ بدأ يساهم بقصم ظهر المجتمع وعرقلة مسيرته نحو الحرية ويسرق فرص تحقيق التراكم الرأسمالي الضروري والنمو الاقتصادي ووضع الموارد المالية في خدمة إعادة إعمار البلاد والتنمية, كما يعرقل ضمان بناء الديمقراطية والخلاص من الاحتلال, ويفسح في المجال أمام الإرهابيين العمل بحرية كبيرة, سواء أكان ذلك من خلال ولوج الحدود العراقية أم في شراء ذمم بعض الناس لتأمين المعلومات الضرورية لعملياتهم الإجرامية المختلفة...الخ. ويمكن لكل مخلص في العراق أن يتيقن من ذلك من خلال مراقبة الحدود العراقية السورية والعراقية الإيرانية والعراقية الأردنية حيث تدفع الرشوة إلى عدد كبير من موظفي هذه المراكز الحدودية وللطرفين العراقي والآخر. وليس في مقدور أية حكومة على وجه الأرض أن تقطع دابر الفساد في البلاد أو تجعله محدوداً وضيقاً جداً ما لم تسع إلى محاربة العوامل التي تسببت في بروزه على مستوى الدولة والمجتمع والقوى والأحزاب السياسية والأفراد. وظاهرة الفساد لا تتغذى على الفعل الداخلي فحسب, بل تلعب العوامل الخارجية, وخاصة الدول الغنية وشركاتها العملاقة القادرة على إفساد الأفراد والمؤسسات بدفع الرشوة لأسباب كثيرة, دورها الملموس في هذا الصدد. فالعوامل الداخلية والخارجية, التي تعيد إنتاج نفسها, بسبب عدم مكافحتها واستمرار الأرضية المسببة لنشوئها, تشترك معاً في إعادة إنتاج الفساد المالي والإداري ونشرهما على مستوى المجتمع كله. وظاهرة الفساد عندما تنتشر في بلد ما تحول حياة المجتمع إلى جحيم لا يطاق وخاصة بالنسبة للفئات الكادحة والفقيرة وذات الأجر أو الراتب المحدود, إذ يتعذر فيها على الإنسان السوي العيش في ظلها, خاصة وأنها تسيء أولاً وقبل كل شيء إلى كرامة الإنسان.
من هي القوى التي تمارس الفساد الإداري والمالي في العراق حالياً؟
ولكن من هي القوى التي تشارك في مواصلة الفساد المالي والإداري في المجتمع العراقي بعد سقوط النظام الدكتاتوري وفي ظل الاحتلال والقوات الأجنبية والحكومة المؤقتة؟
تشير كثرة من الدلائل إلى أن ظاهرة الفساد الإداري والمالي والمحسوبية والمنسوبية متواصلة في العراق رغم سقوط النظام والدولة معاً, لكن الذي لم يسقط هو الآتي:
• استمرار وجود فقر حقيقي في أوساط اجتماعية واسعة لم تتغير أحوالها المعيشية قيد أنملة, إضافة إلى وجود عدد كبير من صغار ومتوسطي الموظفين والمستخدمين الذين لا تكفي رواتبهم تغطية حاجاتهم المعيشية فيعمدون إلى هذه الأساليب المحرمة والمشوهة.
• وجود انفلات سياسي واقتصادي واجتماعي وأمني وفقدان المعايير الأخلاقية والقيم الاجتماعية الرفيعة يسمح بوقوع الفساد الإداري والمالي في المجتمع, إضافة إلى غياب الرقابة الشعبية والحكومية والقضائية على دوائر الدولة والموظفين والمحاسبة الجدية للتجاوزات.
• وجود شركات ومؤسسات أجنبية تمارس النهب والسرقة وتمنح جزءاً منها إلى موظفين ومستخدمين بمستويات مختلفة لتامين سير نشاطها وإنجاز سريع لمعاملاتها أو حتى تسهيل مهمة نهب ثروات البلاد. والكثير من الدلائل الموثقة تشير إلى أن الشركات الأمريكية العملاقة تمارس ذلك في العراق وعلى نطاق واسع ودون وجل.
• وجود عناصر من أتباع النظام السابق من جهة, وعناصر انتهازية غير قليلة في صفوف الأحزاب والقوى الوطنية التي تسلمت مناصب في أجهزة الدولة من جهة أخرى, تمارس الفساد الإداري والمالي على نطاق مكشوف نسبياً, يؤدي إلى خلق شعور لدى الآخرين بأن الأوضاع السياسية لم تتغير كثيراً في البلاد بل تم استبدال جماعة حزبية واحدة هي قوى البعث بجماعات كثيرة من أحزاب أخرى مماثلة من حيث السلوكية الأخلاقية, رغم الادعاء بغير ذلك.
• من المعروف للجميع أن الموظف أو الإنسان الفاسد إدارياً ومالياً يكون سهل الاقتناص والابتزاز من قبل من يريد الاستفادة منه لصالحه, سواْ أكانت شركات محلية أم أجنبية أم أجهزة أمنية أم قوى متطرفة إرهابية, وبالتالي فهو معرض لخيانة مصالح الوطن والمجتمع قبل غيره من الناس وإلحاق شتى الأضرار بمصالح الشعب. ومثل هؤلاء الناس يعملون في أجهزة الدولة والشركات العاملة في العراق.
• النهج غير العقلاني الذي يبرز في محاولة إغراق دوائر الدولة بأتباع كل حزب وفق الوزارة التي تحت تصرفه والتي يمكن أن تكون قاعدة مهمة للفساد والإفساد والتخندق وحجز الوظائف لأصحاب الحظوة وكوادر وأعضاء الأحزاب في آن واحد, وإهمال فعلي لحقوق المستقلين أو غير الحزبيين, وهم الغالبية العظمى من المجتمع.
إن المعلومات المتوفرة والمنشورة في الصحافة العالمية والموثوق بها إلى حدود بعيدة تشير إلى أن المشارك الأكبر في الفساد المالي الراهن في العراق هي الشركات الأمريكية العاملة في مجالات النفط والتجارة والنقل والتموين الغذائي أو المحروقات للقوات المسلحة الأمريكية والعالمين في أجهزة الحماية وضمان الأمن, وكذلك الشركات الأمريكية العاملة في مجال إعادة إعمار العراق أو توفير رجال الأمن, سواء أكانت ممولة بالأموال الأمريكية الممنوحة للعراق أم بأموال نفط العراق ذاته, وسواء تم ذلك في إطار النفط مقابل الغذاء أم في الأطر الأخرى. إن المبالغ المغيبة تصل إلى مليارات كثيرة. وهي ليست إشاعات تستند إلى تقارير صادرة عن قوى معادية للولايات المتحدة, بل هي تقارير اللجان التي شكلها البنتاغون أو المؤسسات الأمريكية الأخرى. والمتهم الأول في هذا الصدد هي شركة هاليبرتون التي اعترفت بأن مستخدميها حصلوا على الملايين في تعاملهم مع الكويت مثلاً من أجل الحصول على عقود ثانوية في العراق. وتشير المعلومات الموثقة التي نشرها الصحفي توماس هـ. ويندل إلى أن مجموع مبالغ العقود التي حصلت عليها شركة هاليبرتون في العراق بلغت 4,8 مليار دولار أمريكي, حيث حصلت على أغلبها بدون أن تطرح في المناقصات العلنية الدولية. لهذا أدى ذلك إلى ارتفاع في مبيعاتها بنسبة 15,5 % عن العام الذي سبقه. كما أشير إلى أن لجنة الرقابة في البنتاغون كشفت النقاب عن تزوير مالي مقداره 61 مليون دولار أمريكي بسبب تسجيل أسعار المحروقات التي زودت بها القوات الأمريكية في العراق بأعلى من أسعارها في السوق الدولية بكثير. وجدير بالإشارة إلى أن ديك جيني, نائب الرئيس الأمريكي, كان رئيساً لهذه الشركة خمس سنوات قبل أن يصبح نائباً للرئيس. وكشفت الدوائر الرسمية والصحافة العالمية إلى أن دائرة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة FBIفتحت الآن تحقيقات واسعة بشأن التهم الموجهة إلى هاليبرتون وطريقة تعاملها مع العقود الممنوحة والرشاوى المدفوعة ...الخ.
إن النشاطات غير المشروعة التي تمارسها الشركات الأجنبية في العراق ترتبط بإفساد يمس:
1. شركات عربية أو أجنبية أو عراقية تأخذ عقوداً في العراق في مقابل دفع رشوة لبعض موظفي تلك الشركات, سواء بهدف حصولها على تلك العقود بغض النظر عن السعر المقدم, أم بالتعرف على شروط المناقصات مسبقاً وتجاوزاً على القانون من أجل وضع عطاءاتها في ضوء ذلك والحصول على المقاولة بصورة غير شرعية.
1. الشركات العربية التي تتعاقد على أعمال ثانوية في العراق تبذل أقصى جهودها للحصول على أقصى الأرباح وتنفيذ أسوأ الأعمال في مقابل رشوة تقدمها إلى العراقيين المسؤولين عن تسلم تلك المشاريع أو مراقبتها. وهذه السلسلة تمتد إلى مختلف المؤسسات والمنشآت والمواقع والموظفين المرتشين.
2. وزارات عراقية تتعاقد تجارياً مع شركات عراقية أو عربية أو أجنبية على بيع موجودات محلية بأسعار زهيدة جداً لا تتناسب مع القيمة الفعلية لتلك السلع, في مقابل حصول الموظفين المسؤولين على نسبة معينة من الأرباح أو عمولة معينة, كما حصل في موضوع السكراب الذي باعته وزارة التجارة دون علم وزارة الصناعة بسعر 30 دولاراً أمريكياً للطن الواحد, في حين أن سعر الطن الواحد في السوق العالمية أضعاف هذا السعر. ويمكن أن تمارس أساليب غير نزيهة أخرى عند إجراء المزايدات الحكومية على موجودات عراقية, إذ أن إمكانية التلاعب قائمة ومتنوعة للحصول على أرخص الأسعار.
3. تسجيل مبالغ خيالية باعتبارها أجوراًً مدفوعة لأعداد كبيرة من الأسماء الوهمية لعمال أو مستخدمين أو مهندسين عملوا في مشاريع معينة قامت بتنفيذها شركات أمريكية ومن أموال عراقية. فعلى سبيل المثال لا الحصر قامت الإدارة المدنية للتحالف في العراق بادعاء تعيين 74000 عامل ضمن قوات الأمن في قوائمها المالية ودفعت رواتب على أساسها, ولكن الجهة المسؤولة لم تستطع أثبات صحة تلك القوائم . وفي حالة ثانية تم دفع رواتب وفق قوائم معدة ل 8206 من رجال الأمن أيضاً, في حين لم تستطع الجهة المسؤولة أثبات تعيين أكثر من 603 شخصاً. وتشير الجهات التي تتابع واقع الفساد المالي في العراق إلى أن تقريراً سيصدر قريباً يعلن عن اختفاء 8,8 مليار دولار أمريكي من الأموال العراقية الخاصة بالشعب العراقي لا يعرف أحداً أين صارت ومن تصرف بها. وفي نهاية عام 2003 انتقدت منظمة "كريستيان للمعونة" إدارة التحالف المدنية مشيرة إلى أن هناك 4 مليارات دولار أمريكي من الأموال العراقية مفقودة ولم يعثر عليها حتى الآن .
4. التفريط بأموال الدولة العراقية من خلال المستشارين الأمريكيين الذين عينوا في الوزارات العراقية. ويمكن للنموذج التالي أن يوضح هذه الصورة: تم تعيين الدكتورة زكية إسماعيل حقي بصفة مفتشة عامة في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية. بدأت العمل جديا لاكتشاف الفساد الإداري الذي طال معظم الوزارات العراقية, وبدأت بكل مفاصل الوزارة والمنسق الأميركي السيد روبرت كروس. وبعد التدقيق في الملفات والسندات شخصت وقوع تجاوزات مالية مارسه المنسق الأمريكي حددتها بعدة نقاط نشير إلى أهمها فيما يلي:
* قام المنسق الأمريكي بتنظيم عقد مع شركة “كيوتك تكنكال سوليوشن “ لحمايته الشخصية لقاء مبلغ “444” مليون دينار عراقي صرفت من موازنة الوزارة دون الإعلان عنها في الصحف المحلية وتم دفع المبلغ صفقة واحدة ومقدما ومن دون الرجوع إلى وزارة المالية وتم صرف المبالغ من موازنة الوزارة لعام 2004 بالرغم من أن وزارة العمل غير ملزمة بحمايته الشخصية, وهذا يعد هدراً لأموال الوزارة كما أن التعاقد بحد ذاته يعد مخالفة صريحة للقانون.
* قام المنسق بتنظيم عقد مع شركة بوكيهاف لتجهيز الوزارة بثلاث سيارات مدرعة لحمايته وبكلفة إجمالية مقدارها 769 مليون و950 ألف دينار عراقي دون الإعلان عنها في الصحف أو الرجوع إلى وزارة المالية وقد دفع قسم من قيمة العقد من ميزانية الوزارة لعام 2004.
* بسبب الكشف عن هذه التجاوزات طالب المنسق الأمريكي بتاريخ 27/5/2004 من وزير العمل والشؤون الاجتماعية السابق تقديم استقالته حالا والذي تزامن مع نقل السيادة, كما طالب المفتشة العامة السيدة زكية في الكتاب ذاته أن تقدم استقالتها حالا من منصبها على أن ترفق استقالتها مع استقالة الوزير. المفتشة العامة رفضت تقديم الاستقالة وقدمت كتاباً إلى المنسق الأمريكي تعلمه فيه بأن الأمر المرقم 57 الصادر من سلطة الائتلاف والخاص بتشكيل مكاتب المفتشين العامين فيه فقرتان هما الأولى والثانية من القسم الثاني تشيران بان يتولى المفتش العام منصبه لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد, وأنها لا تعمل تحت إدارته.
الخلاصة
أن الواقع العراقي معقد جداً وسيزداد تعقيداً ما لم يتسن للشعب العراقي إيقاف الإرهاب الجائر المسلط على رقاب الشعب أولاً, وما لم يشارك الشعب بانتخاب ممثليه إلى مجلس الشعب الوطني وتنتخب حكومة وطنية عراقية تأخذ على عاتقها, وبالتعاون مع الشعب مواجهة الفساد المستفحل حالياً والذي لا يسرق أموال الشعب بطرق كثيرة فحسب, بل ويعيق وضع حدٍ للإرهاب والتسلل وعملية إعادة الإعمار والتنمية في العراق كله.
إن العراق بحاجة ماسة إلى إصدار قوانين ووضع نظم شفافة وصارمة لمراقبة النشاط الاقتصادي والاجتماعي في العراق خاضعة للسلطة التشريعية أو القضائية, إضافة إلى تأمين رقابة شعبية مؤسسة وفق قواعد سليمة لمراقبة ومحاسبة موظفي الدولة على مختلف المستويات وكذلك مراقبة نشاط المؤسسات والشركات المحلية والأجنبية, نظم لا تعتمد العقوبة وحدها فحسب, بل تتضمن أساليب تربوية أخرى أيضاً, كما يعمل على وضع نظم مناسبة للرواتب والأجور تمنع بروز ظواهر الغش والرشوة والتلاعب بمصالح الناس وممارسة المحسوبية والمنسوبية أو نهب موارد الشعب وقطاع الدولة أو بروز ظواهر أخرى من الفساد الإداري والمالي في المجتمع. وتتطلب النزاهة في العمل منع الأحزاب والقوى السياسية من ممارسة أساليب تشكل فساداً إدارياً مثل المحسوبية والمنسوبية في التعيين أو الالتزام بتنفيذ سياسات حزب معين في وزارة معينة في حين يفترض تنفيذ سياسة الدولة التي تقرها الهيئات الدستورية على مستو الجمهورية كلها وعلى مستوى الفيدرالية الكردستانية.
إن الفساد المالي والإداري يشمل الدولة والمجتمع وقوات الاحتلال والشركات الأجنبية العاملة في العراق, إذ ليست هناك أي بقعة في العراق خالية منه. وهو ما يفترض السعي الجاد والحثيث لمكافحته. إن معالجة هذا الواقع يمكن أن تكون موضوع مقال آخر. إن الثقة بالناس جيدة ولكن الرقابة أجود.
نشر هذا المقال في مجلة الرؤية الشهرية التي تصدرها مؤسسة حمدي للطباعة والنشر. السليمانية. كردستان العراق •
الهوامش
-Transparency International Corruption Perceptions Index 2004, page 1 of 11 - Die Koalition gegen Korruption,http://www.transparency.org
ملاحظة: يقف العراق في مجال انتشار الفساد في البلاد في صف واحد مع الدولة التالية: باكستان, أنغولا, كونغو, ساحل العاج, جورجيا, إندونيسيا وطاجكستان. راجع نفس المصدر السابق.
Innenministerium NRW- Definition Korruption: http://www.im.nrw.de/inn/104.htm
Erklärung im math. Lexikon. http://www.transparency.de/-transparency International.
حبيب, كاظم د. المأساة والمهزلة في عراق اليوم. دار الكنوز الأدبية. بيروت. 2000. ص 55/56.
نفس المصدر السابق. ص 52.
Die Welt. Korrubtion bei Halliburton. 24.1.2004. Germany
Berliner Zeitung. Nr. 253. Donnerstag, 28.10.2004. Halliburton profitiert von Irak-Aufträgen. Die Wirtschaft. S. 15:
نفس المصدر السابق.
US-Korruption im Irak: www.Freace.de. 20.8.2004.
نفس المصدر السابق.
مكتب الإعلام لدى مجلس الوزراء العراقي المؤقت. بغداد. النشرة الإعلامية في 26/10/2004
#كاظم_حبيب (هاشتاغ)
Kadhim_Habib#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟