|
منافع المرض
ابراهيم هيبة
الحوار المتمدن-العدد: 3589 - 2011 / 12 / 27 - 10:01
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ليس هناك ما هو اشد خطرا على روح الإنسان من صحة جيدة ومستدامة. وكل شخص يتمتع بتوازن فيزيولوجي جيد هو شخص ساذج بالمعنى الميتافيزيقي للكلمة؛ صحته الجيدة تمكّنه من النجاح في الحياة العملية، لكنها بالمقابل تمنعه من الدخول في أي حوار حقيقي وعميق مع الوجود. وحده المرض ينقدنا من تفاهة الصحة؛ فطابعه الكارثي، وما يضمه من ارتجاجات وتمزقات، يخلق في العضوية بؤرا من التوتر والصراع؛ وهذا التوتر أو الصراع هو الذي يمكّننا من أن نلمس كينونتنا على نحو حقيقي. عندما يكون المرء في صحة جيدة لا يكون موجودا أو، على الأقل، لا يحس بوجوده. والتدهور الكبير للوظائف الفيزيولوجية هو الذي يمكّننا من الوعي الحاد بأعضاء جسمنا؛ فيكشف لنا عن أهميتها وهشاشتها، كما يُظهر لنا، وهنا وجه المصيبة، عدم استقلاليتها عنها. الصحة، بصراحة القول، حالة من الغفلة والبلادة؛ والمرض يسمو عليها لأنه يوقظنا من سباتنا الأونطولوجي و يدفعنا إلى إعادة النظر في ذواتنا وفي الأشياء التي تحيط بنا. كل تجربة مع المرض هي درس في الحكمة وإعادة ترتيب الوجود. و ما يمكن أن يتعلمه المرء من وجع مزمن في البطن يفوق، من حيث الدلالة الوجودية والعمق الميتافيزيقي، ما يمكن أن يتعلمه من الانغماس في كل كتب اللاهوت والفلسفة. سيوران على حق: ألاَّ يأكل المرء مثل الآخرين لهو أصعب عليه من ألاَّ يفكر مثلهم. المرض قطعة من الجحيم ويحتكر قدرا كبيرا من الآلام والعذابات؛ ولكن هذه الآلام هي من يكشف لنا بأن الصحة مجرد أكذوبة بيولوجية تنطوي على الكثير من المفاجآت السوداء، بل إن هذه الأكذوبة كثيرا ما تخفي عنا الطابع العرَضي للحياة. والنتيجة هي أننا نتوهم بأن الحياة بداهة البداهات؛ فندير بذلك ظهرنا للموت ونسقط في غفلة عن أنفسنا وعن العالم. الجسد عبئ ثقيل. إنه بنية من الألياف والأنسجة القابلة للتمزق في أية لحظة. والحق أنه مادام المرء يسكن جسدا فإنه لن ينام أبدا قرير العين. عندما تفيق في قلب الليل على إثر انقباض في القلب أو تقيح في العين أو نزيف في الأذن، لا يمكن أن تراودك إلا فكرة واحدة: المجيء إلى هذا العالم خطأ لا يغتفر والاستمرار فيه ضرب من الوضاعة. حتى الكينونة تنشطر، عندئذ، إلى نصفين: أنت في طرف والعالم في طرف آخر؛ أما مفهوم الخلاص فلا يعود يعني لك شيئا آخر سوى العودة إلى حالة السكون التي تتمتع بها الجمادات. في الواقع، لا يكون المرء جدّيا مع نفسه ومع العالم إلا عندما يكون طريح الفراش؛ فخارج المرض كل شيء مزيف؛ بل يمكنني القول بأن فلسفة المرء في الحياة ليست سوى الحصيلة التاريخية لما عرفه جسده من الأهوال والعذابات. آلامنا هي من يحدد الوجهة التي ستأخذها أفكارنا وتطلعاتنا. إنني أرى المرض يخبط خبط عشواء؛ يصيب الكبار والصغار، الأخيار والأشرار. لا وجود، على ما يبدو، لمنطق أو اعتبارات أخلاقية تحكمه، إنه يتقدم في هذه الحياة كلعنة سائبة. ومع كل هذا، قليلون هم أولئك الذين يستحقون المرض؛ فكل البشر يمرضون، ولكن كم واحد منهم يخرج بفوائد روحية من تجربته مع المرض ؟ كم واحد منهم يرى فيه شيئا آخر أكثر من كونه كارثة فيزيولوجية؟ من منهم يستثمر مرضه بتحويله من مجرد حادثة عضوية إلى فرصة للتأمل والاستبطان؟ ثمة في الحقيقة نوع من الناس من يجب عليه أن يغيّر اسمه بعد الخروج من مرض ما؛ فهو لم يعد الشخص ذاته: لقد انتشل المرض من قلبه أشياء سيئة كثيرة وكشف له عن حقائق خفية ما كان بإمكانه أن يعرفها لو بقي يراوح مكانه في عتمة الصحة. ماذا اقول، كل خسارة على مستوى الجسد هي ربح على مستوى الروح. عندما أراجع الآن كل تلك السنين التي تمتعت فيها بصحة جيدة، بالكاد أرى بأنني حصَّلت فيها شيئا جوهريا؛ لا أرى إلا القوة الحيوانية وما يلازمها من الفتور الروحي والسذاجة الميتافيزيقية؛ حتى تجربتي مع الزمن لم تكن بالكاد ترتفع عن مستوى التأرجح بين المطاعم ودور الدعارة. وليس في الأمر ما يدعو للعجب ما دمت أنتمي إلى عصر يمجِّد الصحة ويعلي من شأن الكيمياء. ما إن يحس أحدنا بأدنى ارتجاج حتى يهرع إلى أقرب صيدلية في الجوار- لا احد يستطيع أن يحتوي كمية الرعب التي تجري في عروقه. ذات مرة تسلم باسكال رسالة من أخته تعاتبه فيها على إهماله لصحته، فرد عليها بكلام يفيد بأن "الأخت العزيزة" لا تعرف شيئا عن مساوئ الصحة ومنافع المرض. باسكال فيلسوف، ولكن ما كان يمنح لملاحظاته الميتافيزيقية العمق والمصداقية هو أنه كان فيلسوفا مزدوجا— فيلسوفا مريضا. في كتاباته لم يكن باسكال يهتم بالمرض في حد ذاته، بل بالطريقة التي نستعمل بها المرض. والحق أن البشر، في علاقتهم بالمرض، ينقسمون إلى فريقين: فريق يمرض على طريقة الدواب وفريق يمرض على طريقة النبي أيوب. الفريق الأول لا يرى في المرض إلا مجموعة أعطاب. إنه حبيس التصور المادي للأشياء. أما الفريق الثاني فإنه لا يمكن أن يتمثل المرض إلا وهو مزدوج الطبيعة: عذاب و وحي، تمزق وإشراق.
#ابراهيم_هيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مصادر الصلاة
-
تمارين في الزهد
-
البعد الميتافيزيقي للأرق
-
حول الزواج
-
مائة عام من العزلة
-
عبادة الأنا
-
فينومينولوجيا الموت
-
بؤس الفلسفة
-
الإنسان المنفصل
-
تهافت الآلهة
-
الحيوان الرومانسي
-
شهوة التسلط
-
على أجنحة الموسيقى
-
الإنسان الأخير
-
فكر و وجود
-
مدح الصمت
-
سيميولوجيا الحجاب
-
الإتجاه المعاكس
-
بعيداً عن القطيع
-
السيف و اليقين
المزيد.....
-
مشهد يحبس الأنفاس.. مغامر يتسلق جدارًا صخريًا حادًا بسويسرا
...
-
وسط التصعيد الأوكراني والتحذير من الرد الروسي.. ترامب يختار
...
-
انخفاض أعدادها ينذر بالخطر.. الزرافة في قائمة الأنواع مهددة
...
-
هوكستين في تل أبيب.. هل بات وقف إطلاق النار قريبا في لبنان؟
...
-
حرس الحدود السعودي يحبط محاولة تهريب نحو طن حشيش و103 أطنان
...
-
زاخاروفا: الغرب يريد تصعيد النزاع على جثث الأوكرانيين
-
صاروخ روسي يدمر جسرا عائما للقوات الأوكرانية على محور كراسني
...
-
عشرات القتلى في قصف إسرائيلي -عنيف- على شمال غزة، ووزير الدف
...
-
الشيوخ الأمريكي يرفض بأغلبية ساحقة وقف مبيعات أسلحة لإسرائيل
...
-
غلق أشهر مطعم في مصر
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|