|
ناكروا النعمة .... وبدري الذي حكى اخيرا
عبدالله الحمصي
الحوار المتمدن-العدد: 1062 - 2004 / 12 / 29 - 07:08
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
المكان: ساحة في مدينة عراقية. الزمان: اوائل هذا العام الذي يحتضر. يقف جندي امريكي بسلاحه في مواجهة مجموعة غاضبة من العراقيين تصرخ مطالبة الامريكيين بالرحيل. الجندي الامريكي يصرخ غاضبا بعصبية واضحة وبشكل مقنع جدا:
“We are here to give you your fucking freedom.” (الترجمة الاكثر تهذيبا: "نحن هنا لنمنحكم حريتكم اللعينة".)
وضحكت قليلا في البداية عندما رأيت المشهد في نشرة الاخبار ..... بعدها بثوان قهقهت عاليا دون شعور مني .... بعدها تملكتني موجات ضحك متتالية غلابة... لم يقاطعها سوى استفسار زوجتي التي اتت مهرولة من الطابق السفلي لترى وجهي مغطى بالدموع. لا اذكر انني تعرضت لمثل هذه الهجمة منذ ان شاهدت دريد لحام في شريط فيديو لاحد مسرحياته يعلق على رفض احد المسؤولين المخابراتيين شراء ولد من اولاده متعللا بانشغاله بالقضية النضالية:
"اي خود هالولد يلعب بقضيتك" (ليس هناك من ترجمة مهذبة لتعليق دريد ولحركات يديه وكتفيه الدمشقية التي ترافق عادة التعبير الاصلي).
وقتها ايضا ضحكت الى ان اختفت خاصرتاي فقد كان لي خاصرتان في ذلك الزمان. اشد مايضحك هو ذلك الذي يحمل مستويات عديدة وتداعيات لامورلاعلاقة مباشرة بينها.... فجأة تتوضح الصورة وتختزل كل شيء .. يحصل الانفجار الحتمي محطما الحواجز بين التاريخي واليومي وبين المجرد والمحسوس ... بين النظام والفوضى... بين الكوميديا والتراجيديا .... بين الضحك والبكاء.
حين كنا طلابا في دمشق وحلب كان احدنا يقدم الحلوى او الفواكه الى صديق زائر لنا في البيت قائلين: "خود ... تزهرم" ثم قد نرفقها بـ: "احسن مانكبُّون" (اي افضل من ان نرمي بها الى القمامة). كان القصد بالطبع هو نزع سلاح الموقف وتجنيب الضيف القريب الى القلب الشعور بان وجوده استدعى احتفاءا مفاجئا ثقيلا. وكانت صديقة لي سويدية تقيم في ستوكهولم تقول حين يشكرها احد على لطفها: "نعم ... انا لطيفة الى درجة مثيرة للقرف".
لكن التعليق الصراخي للجندي الامريكي في مواجهة "التهديد" الذي تعرض له من الجماعة العراقية كان شيئا آخر تماما.... ابعد مايكون عن خفة الدم. وليست المشكلة استخدامه لكلمة: "فاكينغ" فهي تستخدم في اللغة الامريكية اليومية ولم تعد نابية جدا ...ولذلك فان ترجمتها بـ "اللعين" التي لاتخدش حياء المشاهد العربي للافلام الامريكية ليست سيئة تماما مع انها تتجنب الاصل الاغتصابي للكلمة الانكليزية. هذا لايعني بالطبع ان الكلمة ليست مبتذلة وخاصة حين تستخدم في احد مشتقاتها الاخرى ...فقد قامت الدنيا ـ وقعدت بسرعة ـ بعد ان طلب وزير الدفاع الامريكي من احد المشاغبين المعارضين للحرب ان "يذهب وينكح نفسه" (وهو تعبير لايستخدمه السياسيون ـ على الملأ على الاقل ـ حتى في الولايات المتحدة الامريكية ناهيك عن ان يستخدم في بهو ملاصق لمجلس الديموقراطية المقدس).
لا ليست المشكلة التعبير بحد ذاته .... ولكنه الموقف ... عراقيون غاضبون من ذلك الذي جاء ليفرض عليهم تحريرا لم يستجدوه منه ... ممثل لقوة غاشمة استخدمت مبررات لاحتلالهم لا يقتنع بها طفل متخلف عقليا وقع اضافة الى ذلك للتو على ام رأسه ... ومبررات مضحكة بعدها "لتحريرهم" ومبررات اكثر اضحاكا بعدها "لدمقرطتهم" .... كل ذلك حصل بعد سنوات طوال من الحصار المزدوج ... اثبت فيه الجميع عشقهم الانساني المتناهي لاولئك العراقيين.
ولكن العراقي الفقير الذي يتجمهر في الساحة العراقية مدين مع ذلك بالشكر والعرفان والفهم للامريكي الذي يحتقره ويحتقر ثقافته وتاريخه وارضه ودينه ولونه ولغته وفقره ... مع انه لايعرف عن اي منها اكثر مما يعرف عن الصين او غينيا بيساو او القطب الجنوبي. ولان العراقي جدير بالاحتقار فانه غبي بالتعريف ويحتاج الى درس في سبب وجود الامريكي عريض الحنكين على ارضه..... بحاجة الى من يجبره على التقاط عظمة الديموقراطية التي تلقى اليه وتقبيلها ورفعها الى راسه في طقس اللامعقول هذا.
اليس الموقف نتيجة حتمية لسنين طوال من احتقار ذلك العراقي من قبل احزابه ومثقفيه وشيوخه وقادته ..... لم يتكلم احد مع ذلك العراقي الفقير ... لاقبل اشراكه في في حروب التحرير على انواعها ولا بعدها ...لا في مشاريع التقدم العملاقة وولا في مشاريع تصريف المياه الآسنة... كلهم تحدث "اليه" ... ولكن لم يتحدث "معه " احد.
ولذلك تصبح النتيجة منطقية جدا بمعنى انها نتيجة لما سبقها ..... ان يقال للغاضبين في الساحات العراقية كما يقال للغاضبين في صدورهم الذين لم يخرجوا الى الساحات العربية بعد.... بالانكليزية وبالعربية.... وبفوقية لاتصدر الا عن محب حقيقي:
سنمنحكم حريتكم العكروتة .... خذوها وادحشوها حيث تريدون ... هذه هي ديموقراطيتنا وديموقراطية اصدقائنا من الرؤوس والاذناب... فاشكرون.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
افهم ان يطالب اللبنانيون بحكومة تمثل الشعب العراقي ... فمهما كان رأينا بالديموقراطية اللبنانية فهي على الاقل شكل من اشكال الديموقراطية ... ليس جيدا ولكنه احسن الموجود.... والجماعة يعلمون شيئا عما يتفوهون به.....
بل انني افهم ـ بقدرة قادرـ ان يطالب سياسيو مصر والجزائر والمغرب والسودان واليمن وتونس وحتى ليبيا وسوريا بحكومة تمثل الشعب العراقي .... ليس لانهم يعرفون عما يتكلمون ... ولكن لان لديهم على الاقل برلمانات ومجالس تمثيل كرتونية او ورقية حتى ولو اختلف نوع الورق ولونه قليلا من بلد الى بلد.
نعم افهم، مع ان برلماناتهم جميعا ـ بما فيها البرلمان السوري بالطبع ـ تذكِّر بلعبة الضيفة والضيوف التي تلعبها الفتيات الصغيرات في كل العالم وتقلدن بها الكبار. يلبسن افضل مالديهن ثم يجلسن على ارائك وهمية محتسين شايا وهميا ... ثم يسألن بعضهن عن الصحة والاولاد والزوج ... وعما حضرن من طعام لهذا اليوم وفيما اذا كانت منازلهن بحاجة الى تنظيف .... ويهززن رؤوسهن طوال الوقت برصانه يُحسدن عليها مقتنعات باهميتهن الوهمية المؤقتة...وقد يصدرن قرارات مهمة ... مثلا عن موعد ومكان الاجتماع التالي ... ولاينسين بين الفينة والفينة ان يوبخن صغيرا من اشقائهن او ان يهددنه ان استمر في مص اصبعه او اصبع الصغير الآخر المجاور له او الجالس في حضنه.
ولكن ان يطالب وزير الخارجية السعودي، جهارا على رؤوس الاشهاد وفضائيات العالم، بحكومة "تمثل العراقيين!!!" ... اي ان يطالب بحكومة عراقية ناتجة عن انتخابات وبرلمان وديموقراطية وتحالفات بين احزاب مختلفة وحلول وسط وحوار ... الخ ... فهذا يضع عقلي في كفي ويفتح فكي الى ركبتي .... الجماعة ليس لديهم حتى برلمان كرتوني او ورقي ... ليس لديهم حتى برلمان من بسكوت او تمر!!! ـ وهي مرحلة سابقة للكرتونية كما هو معلوم ـ ... لم يصلوا بعد الى مرحلة مسرحية الضيفة والضيوف .... ليس لديهم حتى انتخابات صورية او مسيطر عليها او حتى مزورة!!! ليس لديهم حتى مجالس ادارة منتخبة لفرق كرة القدم.... مجالس شركات ومجالس بلديات معينة ومجالس سولفة... نعم .... مجلس وزراء هو في الحقيقة مجلس ادارة الشركة العريقة التي تسمى "سعود واولاده ليمتد" ...نعم ... ولكن مجالس منتخبة وحكومة ممثلة للشعب!!! اعوذ بالله.
الايستحي الرجل...الا يستحي بدري بعد ان يحكي!!! ام ان هذه هي طريقته في اقتحام كتب التاريخ.
هل يمكن ان يطلب من عائلة "القط" تبديل كنيتها من كانت كنيته "قطيط"؟
في الحقيقة: الايستحي كل هؤلاء السياسيون الرسميون من المحيط الى الخليج ـ اي اولئك الرجال الكرتونيون وتلك النساء الورقية ـ من المطالبة بان يحكم العراقيون انفسهم!!! ـــــــــــــــــــــــــ د. م. عبدالله الحمصي، هيرنوساند، السويد [email protected]
#عبدالله_الحمصي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نعم ياسيدي...لاياسيدي .... لا لثقافة شرشحة القومية والاشتراك
...
-
هدية رمضانية الى الليبراليين: ديموقراطية بلا ليبرالية ... حز
...
-
جهاد نصرة ونبيل فياض ورجولة النظام السوري
المزيد.....
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|