|
(وصية) بليخانوف الأخيرة، أم آخر اختراعات -التكنولوجيا القذرة- لليبرالية الروسية؟
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 3586 - 2011 / 12 / 24 - 21:16
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
توطئة لقد كتبت ونشرت هذا المقال قبل عقد أو كثر بقليل من السنين. وأعيد نشره هنا للفائدة بعد أن شاهدت عن طريق الصدفة إعادة نشر ما يسمى بوصية بليخانوف. كما أن من الضروري الإشارة هنا إلى أن هذه "الوصية" ليست الأولى والأخيرة من نوعها. بعبارة أخرى أنها ليست المرة الأولى التي تكتب فيها رسائل ووصايا وتلصق اسم بليخانوف. فقد ظهرت في عام 1892 رسالة بتوقيع بليخانوف، يتهم فيها حركة "حرية الشعب" بتلفيق كراس تحت عنون (اعترافات مناضل ثوري قديم)، الذي جرى فيه تشويه سمعة الثوريين الروس في بريطانيا واتهامهم بالعمالة للمخابرات البريطانية. والرسالتان، القديمة منها (الكراس) والحديثة (الوصية) نموذج للزيف والتزوير.
***
لم أكن أتوقع الوقوف أمام مهمة "الدفاع" عن بليخانوف بالصيغة التي أتناولها الآن. والمسالة هنا ليست شخصية فقط، بل وتعود للمكانة التي احتلها بليخانوف تاريخيا وفكريا وروحيا وسياسيا في تاريخ الحركة الديمقراطية والثورية الروسية والعالمية. فقد شاءت المصادفة أن يكون بليخانوف موضوع أول بحث فلسفي كتبته في بداية حياتي العلمية. بل وترجمت اغلب كتاباته (عن الروسية) لحاجاتي الشخصية، وبالأخص المتعلق منها بفلسفة التاريخ والفكر السياسي الاشتراكي، إضافة إلى بحوثه عن دور الفرد في التاريخ. ولهذا لم تثر "وصيته" عندما قرأتها للمرة الأولى، كما هو الحال عند كل أولئك الذين لهم علاقة بالفكر الفلسفي بشكل عام وبشخصية بليخانوف بشكل خاص، غير اليقين التام بكونها منحولة. والقضية هنا ليست فقط في أنها لا تشبه في شيء وصية الأحياء، كما أنها لا تشبه في شيء وصية الأموات، بل وفي عبارتها الركيكة وتشفيها "الليبرالي" وتناقضاتها الهائلة في التعبير عن قضية غاية في البساطة، ألا وهي صياغة "منظومة" من الشتائم، التي تستجيب للوعي السياسي المبتذل في روسيا الحالية عن لينين والبلشفية وتاريخ الدولة السوفيتية. والهاء اليسار الروسي بالجدل عن "وصية" عثر عليها "أستاذ للفيزياء النظرية والرياضية يعمل في جامعة بتسوانا". وهو عثور ونشور ليس أكثر جدية وإثارة من أن يطالعنا بعد فترة وجيزة "أستاذ" آخر "في الهندسة الجينية" و"فيزياء الصحافة المرئية" يعمل في جمهورية مثلث برمودا عن "أفكار أخيرة" للينين وضعها في "وصية" للأجيال اللاحقة عما اقترفه هو نفسه من جرائم بحق الإنسانية وبحق الحركة الثورية والماركسية وما شابه ذلك! ليس هدف هذه المقدمة تنزيه الشخصيات عن كل الاحتمالات المميزة للبشر من صعود وهبوط وفرح وحزن وانتصار وهزيمة. ولكن للإشارة إلى أن نشر "وصايا" لها قيمة واثر سياسي ومعنوي كبير بالنسبة للشخصية المعنية والاتجاهات والحركات المتأثرة بها، يفترض كحد أدنى الإلمام بتاريخ الشخص المعني وخصوصية فكره والمرحلة التي عمل فيها وتاريخ البلد والثقافة الذي شكل مصدر صيرورته العلمية والعملية، إضافة إلى ضرورة الإحاطة بأغلب دقائق النظرية الفلسفية التي تمثلها وعمل من اجلها مع مؤيديه ومعارضيه في الميدان النظري والسياسي. وهي أمور تفتقدها بصورة شبه مطلقة "الوصية" وناشرها (في الأصل الروسي) ومترجمها إلى العربية وناشرها في مجلة (اليسار) المصرية. (وهو أمر يجد تعبيره ليس فقط في اختيار "المترجم" للنص وتقديمه بنصف ورقة من "المباهاة" الفارغة المميزة لأنصاف الصحفيين الذين لا همّ لهم غير الإثارة الرخيصة، بل وفي الصياغة الركيكة للعبارة وسوء الفهم للمعاني الواردة في "الوصية" نفسها، والأخطاء المضحكة التي تدل على جهل بأحداث التاريخ الروسي وعدم دراية بأعمّ جوانبه. واكتفي هنا بالقليل منها. ف"المترجم" يدمج في كلمة واحدة اسم "القيصر الروسي" الجيديمتري، ويعتقد بأنه اسم علم له. أما في الواقع فان الكلمة تتكون من مقطعين معناها ديمتري الكذاب، مثلما نقول (مسيلمة الكذاب). فهو شخصية شهيرة في التاريخ الروسي، كما هو شهير مسيلمة الكذاب في التاريخ العربي الإسلامي. ومع انه يورد تعليق، استقاه فيما يبدو من مصدر لا يعرف قراءته بدقة، يوحي بالمعنى الذي أشرت إليه قبل قليل، فانه يعربه مع ذلك بكلمات (لقب بلص توشينا)، وهو يقصد بذلك (أطلقوا عليه لقب حرامي توشينا) (وهي منطقة كانت تقع سابقا في ضواحي موسكو، بينما ضمت حاليا إلى العاصمة موسكو في الطريق إلى مطارها الدولي - شيريميتوفو- 2)، مثلما تقول (حرامي بغداد). ويورد كلمة "سموتا" كما لو أنها اسم لمرحلة في تاريخ روسيا، بينما المقصود بالنص هو معنى الفتنة، كما نقول الفتنة الكبرى (بعد مقتل عثمان بن عفان)، ويترجم اسم الحركة السياسية الروسية الشهيرة (نارودنيا فوليا) بعبارة "الإرادة الشعبية"، بينما هي "حرية الشعب"، ولا يستفيد من الأعمال العديدة جدا، التي عرّبت بصورة دقيقة أسماء الحركات والأحزاب السياسية والشخصيات. وكل ما أوردته هو غيض من فيض. وهي أمور تكشف عن العجلة والسطحية، وتصب في نفس مستنقع هذه "الوثائق" الرخيصة.)
أما مجلة (النهج) فأثبتت أن حذرها يقارب الحدس، حين قالت إنها "إذ تنشر هذه الوثيقة لا تستطيع أن تؤكد أو تنفي مصداقية مرجعيتها"، أي أنها تشك بصحتها، وهو ما دفع بهيئة التحرير لكتابة رسالة لي تسعى للتأكد من مدى صحتها. وبهذا المعنى فان هذا المقال الصغير هو رد على سؤال. ذلك يعني انه ليس من مهمة هذا المقال "رد الاعتبار" لبليخانوف، وليس للجدل مع ما ورد فيها، لأنها "وصية" بلا توقيع صاحبها ولا تأكيد محلّف ولا ختم حقوقي! لهذا لم أناقش ما ورد فيها بمقولات ومعايير البحث المنطقي والفلسفي والتاريخي. إذ لا شيء فيها يرتقي حتى إلى ما يمكن العثور عليه من "حماقات" في كتابات بليخانوف الحقيقية. ومن ثم فان الغاية النهاية من وراء المقال هي كشف ما أسميته بتكنولوجيا الدعاية القذرة لليبرالية الروسية المعاصرة في صراعها مع اليسار الروسي. أشير إلى هذا الجانب لسبب فكري وعملي في نفس الوقت. فمن الناحية الفكرية يفترض الحال بالنسبة لليسار العربي المعاصر الاهتمام بالقضايا الجدية التي تعترض تكامله اليوم في حركة اجتماعية سياسية قومية فاعلة على النطاق الوطني والإقليمي والعربي والإسلامي والعالمي. أي الاهتمام بالقضايا النابعة من إشكالاته الفعلية الكبرى ومواجهتها برؤية علمية وعملية تتلاءم مع إمكانياته الواقعية على النطاق الوطني والعربي والعالمي. ومن ثم فان ترجمة "الوثائق المهمة" ينبغي أن يقع على اختيار الوثائق المهمة فعلا، لا على تلك التي ينشرها "أساتذة الفيزياء الرياضية" وأمثالهم. فلو كانت وصية بليخانوف في الفيزياء والرياضيات لكان نشرها ضروريا (في مجلة الفيزياء بالطبع!). أما أن تكون الوثيقة قد وقعت بين يدي شخص "لا يحق له تسليمها كلها إلا حالما تسيطر السلطة الديمقراطية القادمة في روسيا" حسبما تقول "الوصية"، فانه أكثر غرابة من "وثائق" "الغيبة الكبرى". فللأخيرة معناها الخاص في تقاليد الباطنية والرؤية الفلسفية المتعلقة بعلاقة الظاهر والباطن، والمخفي والمستور، والتفسير والتأويل، والأئمة والدعاة، والإمامة وولاية الفقيه! بيننا نقف هنا أمام نزوة صبيانية المظهر سياسية المحتوى تهدف إلى "إعلان توبة" بمظهر "وصية" كاذبة لا مبرر لها غير نزوع الليبرالية الروسية المعاصرة لتشويه حقيقة الفكرة الاشتراكية عبر إعلان تبرؤ الشخصيات التاريخية والفكرية الكبرى في روسيا منها. بعبارة أخرى فإن "أفكار بليخانوف الأخيرة" ما هي في الواقع سوى آخر ابتكارات الليبرالية الروسية المعاصرة في تشويه الفكرة الاشتراكية عبر بناء صرح من "الوصايا" الهادفة إلى نقل الصراع الفكري والسياسي إلى داخل اليسار الروسي المثقل بانشقاقاته والصعوبات الجمة التي يواجهها. فعندما نتأمل "الوصية" للمرة الأولى لنعرف من هو كاتبها ولمن يكتبها، فإنها تطالعنا برجل يقول انه "جيورجي بليخانوف" "المذنب المباشر في أضخم الأحداث مأساوية في الوطن"! غير أن ذنبه "ليس كبيرا كما يعتقد البعض". وان الشيء الجوهري الذي يريد قوله، هو "رفضه للنضال إلى جانب البلاشفة". ومن ثم فان وصيته "هي من اجل توضيح ذلك". ولكن ما دام البلاشفة في السلطة، يطالب لاقط "الوصية" بعدم نشرها! وللتأكيد على أن هذه الأمور ليست غريبة إلى الحد الذي يمكن أن يتصوره إنسان في نهاية القرن العشرين، فان "الوصية" ترسم لنا شخصية بليخانوف وطباعه الشخصية على لسانه لتعلن للملأ: "أنا (بليخانوف) صعب المراس والمزاج ومتناقض". وهي صفات "أخذتها عن أمي وأبى. إذ ورثت من الأم الحس المرهف بالعدل وحب الثقافة والطبيعة وفضيلة التواضع، ومن الأب الصلابة وقوة الإرادة والاستعداد على العمل والشعور بالكرامة الشخصية والمسئولية والواجب وكذلك صفات العزيمة والشكيمة". إضافة لذلك "أنا ديالكتيكي صلب"! لهذا وهبت "كل حياتي الواعية، وهي أربعون سنة على التوالي لخدمة العمل الثوري". والقضية هنا ليست في أن الشكيمة والاستعداد للتضحية وقوة المراس والإرادة والكرامة الشخصية وما إلى ذلك من الصفات الحميدة تبدو مضحكة على خلفية العبارة، التي يفتتح بها هذا "الديالكتيكي الصلب" تجريم نفسه، وهو الذي وهب كل حياته من اجل روسيا، بل وفي توسله الأجيال القادمة ألا تدينه وحده، لان "لينين كان يستخدم أفكاره بشكل ذكي من اجل تأكيد صحة استنتاجاته الخاطئة وتصرفاته السيئة". وانه إذا كان هناك من خطأ مطلق في حياته فهو لينين فقط! فهو "خطيئتي الكبرى، أو خطئي الذي لا يغتفر"! وهنا كما يقال مربط الفرس! بصيغة أخرى إن مهمة "الوصية" هي الكشف عن الخطيئة التاريخية التي تجسدت في لينين. وبما انه إنسان، لذا كان من الضروري رسم صورته "الحقيقية". فهو بالخلاف عن بليخانوف "نصف ديالكتيكي"، وبما انه "تلميذ بليخانوف" لذا كان ينبغي تصوير هذا الجانب. فهو تلميذ لا يتصف بالنجابة، إذ "لم يتعلم منه سوى أن يكون خصما له". وهو طبع للينين وليس حتى صفة مكتسبة. فكل "ما ليس على هواه لا يستحق الوجود"، "انه مغامر وعجول"، "استبدادي، صلب، حذر، ومرن في أساليبه وتكتيكه". وبما أن لينين شخصية تاريخية لا يمكن التفريط بها بهذه السهولة، لذا تأخذ الوصية "بالتنازل" جزئيا للإقرار بان لينين "بلا شك شخصية بارزة وعظيمة والكتابة عنه أمر صعب". وهو تقييم يفقد بريقه على خلفية تحديد ماهية التعدد في شخصيته. انه "متعدد الأوجه مثله مثل الحرباء يغير لونه وقت الحاجة". ونفس الشيء عن "ذكائه وحيويته ونشاطه وعدم تعجرفه"، إذ تقابلها "أنانية بلا حدود"! وإضافة لذلك انه "عديم الأخلاق وقاسي القلب ويفتقد للمبادئ ومغامر بطبيعته"! بل انه يتميز "بشذوذ وفردية مفرطة تخضع كل شيء لاعتبارات السياسة. فهو مستعد للقضاء على نصف عدد الروس من اجل بلوغ أهدافه السياسية". وهو "خطيب بارع ومجادل مفحم، يخرس خصومه"، وبالقدر ذاته "يتملق الجمهور". وهو "ممثل الراديكالية، التي لا تعرف الاعتدال". من هنا معارضته لكل "القيم التي لا تتفق مع هواه". فهو ينظر بعين النقد والازدراء للقيم الإنسانية الكبرى مثل الليبرالية والديمقراطية، إذ يعتبر الأولى فكرة قذرة والثانية مجرد نفاق. مما لا شك فيه وجود هذه "الصفات" في شخصية لينين. بمعنى أننا نستطيع العثور فيه على المغامرة والاستبداد والصلابة والقسوة والمرونة والحذر والاستعداد للتضحية بشيء مقابل شيء وما شابه ذلك. لان رجل السياسة لا يخلو من هذه الصفات. غير أن هذه الصفات المجردة تمتلئ بمعان تاريخية على قدر الأعمال وغاياتها النهائية. ومما لا شك فيه أيضا أن لينين حاول، شأنه شأن كل عظماء الرجال في التاريخ، إخضاع كل شيء لخدمة الأهداف النهائية. وهي فكرة جوهرية بالنسبة له. فقد كان صراعه ضد من اسماهم بالتحريفيين والانتهازيين، مريرا على مدار عقود من الزمن، وذلك حول ما إذا كان الهدف النهائي جوهريا بالنسبة للحركة الثورية أم لا؟ وكانت مواقفه جلية وواضحة. إذ اعتبر إزالة الهدف النهائي وتحويل الصراع إلى نضال من اجل أهداف جزئية مجرد سير في طريق مجهول. وهي قضية مازال يدور حولها الجدل، أو بصورة أدق هي إحدى القضايا التي كانت وما تزال تقلق الوعي السياسي والفلسفي، وتتعلق بماهية الإصلاح والثورة. وإذا كان لينين يؤيد الثورة، فانه لم يكن ينكر الإصلاح. ويمكن قول الشيء نفسه عن اغلب مواقفه تجاه القضايا الكبرى التي تناولها. والتجربة التاريخية للبلشفية التي بلور لينين معالمها الأساسية الكبرى كانت تصب في هذا الاتجاه. لقد طبع لينين تاريخ القرن العشرين بسماته الشخصية المتمثلة بالنضال الفعلي باسم المبادئ المتسامية، وليس بالسمات التي تدفعها الصحافة المأجورة و"وصايا" الليبرالية الروسية على لسان الأموات من رجال الحركة الاشتراكية الديمقراطية الروسية. وشأن كل نضال تاريخي كبير لم يخل تاريخ لينين من الأخطاء الفادحة والنواقص المرعبة أحيانا. وهي أخطاء ونواقص كثيرا ما تلازم كل فعل كبير وتحول جذري في النظام الاجتماعي الاقتصادي والسياسي. لقد كان لينين صورة نموذجية للحركة اليسارية والثورية بشكل خاص، في إحدى مراحلها التاريخية. وجسّد صيغتها العملية الفاعلة والمتحركة والقادرة على التغير السريع مع مجرى الأحداث وإخضاعها فعلا للأهداف المعلنة. واستطاع أن يقود إحدى الثورات، التي واجهت أعنف هجوم تعرضت له في التاريخ المعاصر حركة إنسانية من حيث قواها المحركة وغاياتها. وحركت في العالم المعاصر موجة غيرت وجه التاريخ. بل أن التاريخ المعاصر هو استمرار لها، حتى بعد انهيار المعسكر الاشتراكي. وليست "الوصية" المنسوبة إلى بليخانوف سوى الصدى المتخوف من ذكراها. من هنا تشديد "الوصية" على أن "انقلاب أكتوبر ووجود لينين هو مجرد مصادفة"، و"أن ضرورة لينين كانت عند حدود شباط 1917. وأما بعدها فليس هناك من حاجة طبيعية وتاريخية به وله"! وانه "لولا أخطاء الحكومة المؤقتة لشطب التاريخ لينين، ولما استدعاه على مسرح أحداثه السياسية". وهي استنتاجات لا يمكن توقعها من "ديالكتيكي صلب" يدرك معنى "نصف الديالكتيك" عند الآخرين. حقا كانت مواقف بليخانوف من الثورة مترددة. فهو لم يؤيد ثورة أكتوبر، ولكنه لم يكن عدوا لها. لقد استند إلى تقاليد الاشتراكية الديمقراطية المعتدلة. ولكنه كان يدرك جيدا رغم كبر سنه ووهن الهيجان الثوري فيه، بان الأحداث التاريخية الجسام لا يمكنها أن تكون مجرد صدفة. ثم انه كان يدرك جيدا معنى وقيمة وقدر الفرد في التاريخ. وهي المادة الفلسفية التي كان شديد الولع بها. أما الحكم القائل، بأنه "لولا أخطاء الحكومة المؤقتة لشطب التاريخ لينين، ولما استدعاه على مسرح أحداثه السياسية"، فانه يبدو اقرب إلى حكم الأطفال والعجائز. والقضية هنا ليست في أن التاريخ والعلم لا يحبان ولا يقبلان التعامل بكلمة "لولا"، هذه الصيغة التي يمكن أن يحشوها المرء بما يريد. وفي واقع الأمر، "لولا لينين" لما كتبت هذه "الوصية"، ولما اضطررنا للكتابة حولها. وفي نفس الوقت بهذه ال"لولا" يمكن لفظيا ووهميا قلب العالم رأسا على عقب وإعادة وضعه كما نشاء، ما دام ذلك لا يكلفنا أكثر من اختيار الكلمات التي نريدها. إن سذاجة هذه "الأحكام الرصينة" الموجهة "للرأي العام" المبتذل تصب في تيار الإثارة التي حاولت الليبرالية بعد انحلال الاتحاد السوفيتي وما تزال إزالة أي اثر للينين في التاريخ والواقع والذاكرة. ولا تكف عن استعمال كل ما يمكن استعماله، بما في ذلك "التأسيس" لضرورة إزالة قبره، من منطلقات "إنسانية" و"نصرانية أرثوذكسية" بل وماركسية أيضا، على اعتبار أن الإبقاء على جثمانه المنط هو تخليد للأصنام. وهو كلام حق يراد به باطل. إذ ليست "روحانية" الليبرالية الروسية المعاصرة سوى صنمية شاملة. إلا أنها تستغل كل ما يمكن استغلاله من اجل أهدافها الخاصة. وفي الواقع ليس الاتهام الذي تطلقه الليبرالية على لسان بليخانوف ضد لينين بدعوى انه سّخر كل شي من اجل خدمة أهدافه السياسية، وانه على استعداد للتضحية بنصف عدد الروس من اجلها، سوى الحافز المبطن والسياسة العملية لليبرالية الروسية المعاصرة نفسها. ويتجسد ذلك في محاولاتها تنصيب نفسها بديلا مطلقا له، أي التشديد على كونه فردا عابرا وظاهرة آنية، بينما هي مثل إنساني، وخالد تاريخيا. من هنا "ضرورته لما قبل عام 1917" وعدم ضرورته لما بعد ذلك. فما بعد شباط 1917 كان ينبغي للتاريخ أن يسير وفق مذاق "الليبرالية" المعاصرة. وبما أن ليبرالية ما قبل أكتوبر لم تنجح حينذاك، لذا أصبح التاريخ السالف بقعة ينبغي غسلها. وهو سلوك يعكس أولا وقبل كل شيء خوف الليبرالية من "شبح الشيوعية" الذي لا يمكن عزله في روسيا عن شخصية لينين. من هنا محاولاتها تأويل التاريخ بالطريقة التي تبرر جرائمها المعاصرة تجاه روسيا مقارنة بما تسميه بالجرائم التي اقترفها النظام الشيوعي في المرحلة السوفيتية. أما في الواقع، فإنها لم تكن أكثر من جرائم يهودية يجري طمسها من جانب اليهودية المعاصرة المتجلببة بلباس الليبرالية. وهي مفارقة يجري استبدالها في العبارة الواردة في الوصية عن انه "إذا كان التاريخ قد عرف الكثير من العظماء والمجرمين، فمن هو لينين يا ترى"؟ والإجابة أسخف من السؤال:"انه روبيسبير القرن العشرين. ولكنه بالخلاف عنه قطع رؤوس الملايين". هكذا باختصار يجري اختزال الثورتين الفرنسية والروسية! وإذا كان الجدل والخلاف حول شخصية لينين أمرا طبيعيا، بفعل أثره الهائل في التاريخ العالمي، فان القضية الأكثر إثارة بالنسبة لليبرالية الروسية المعاصرة تكمن في كيفية القضاء على البلشفية، رغم أن هذه الليبرالية نفسها هي النسخة الممسوخة لها. وهي مفارقة تكمن جذورها في افتقاد الليبرالية الروسية لتاريخ قومي خاص بها. من هنا محاولتها صنع التاريخ عبر إلغائه. وبما أن البلشفية صنعت تاريخ موطنها على طوال القرن العشرين، ودفعت بروسيا إلى الأمام باعتبارها قوة عالمية بمعايير العقائد الكونية والأيديولوجية السياسية والنموذج الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، الذي اقلق بحدة تراث البرجوازية العالمية، فقد أصبح الهدف تشويهها عمدا بوصفها أيديولوجيا "للمسحوقين" في كل شيء. وهو اتهام لم يكن ليقلق البلشفية أو الفكرة الاشتراكية والإنسانية بشكل عام. وذلك لحساسية العدالة ووجدانها الصادق في التعامل مع الخلل الاجتماعي المميز للنظام الطبقي. وهو إحساس تجلى بصورة عنيفة أثناء ثورة أكتوبر وبعدها. وهو إحساس ترتعب الطفيلية الليبرالية الروسية المعاصرة منه. أنها تتخوف حد الهلع من "الثورات الدموية". من هنا محاولاتها جعل البلشفية "أيديولوجيا البروليتاريا الرثة"، وتصويرها على "أنها أيديولوجيا البروليتاريا الجائعة المتوحشة"، كما تقول "الوصية". وهي دليل "على بروليتاريا متخلفة وفقر وجهل". وان "بذور الفوضوية اللينينية نمت من واقع عدم نضج الطبقات الاجتماعية (البرجوازية والبروليتاريا)، وجهل الجماهير والفقر والإجهاد المادي والمعنوي للشعب بسبب الحرب، وانقسام الحركة الاشتراكية الديمقراطية الأوربية والروسية وخمول الحكومة المؤقتة ولاعقلانيتها"! فالبلشفية "تضحي بكل شأ بما في ذلك الضمير والأخلاق ومصالح الوطن من اجل نجاح تكتيكها". لهذا حولت "الحرب الإمبريالية إلى حرب أهلية". وبغض النظر عن التشويه التاريخي لحقيقة الفكرة اللينينية التي حاولت تحويل حراب الاقتتال بين الشعوب صوب مسببي الحروب أنفسهم، فان اللينينية لم تدع إلى الحرب الأهلية، بل إلى القضاء عليها من خلال إزالة الأسباب الفعلية لسياسة الاستيلاء على أراضي الغير تحت شعارات قومية ووطنية كاذبة. إذ لم تكن الحرب العالمية الأولى من حيث مقدماتها وغاياتها سوى حرب الإمبراطوريات الاستعمارية من اجل اقتسام مناطق وبلدان جديدة واستعباد شعوب. ولنا في معاهدة "سايكس بيكو" مثال ناطق يعفي عن الكلام. وبالتالي، فان الوقوف ضدها لم يكن "شعار الانهزاميين"، كما تقول "الوصية". وإلا لجعل ذلك من بليخانوف داعيا وداعما للحرب الإمبريالية الأولى. وحتى في حال افتراض تأييده لذلك، فان ذلك سيكون من أخطائه السياسية، التي تجعل من لينين والبلشفية في هذا المضار أيديولوجية إنسانية حقيقة بالمعنى السليم للكلمة. على أية حال، ليس الاتهام الموجه للفكرة اللينينية سوى الحصيلة المتراكمة في الدعاية الأيديولوجية التي ميزت نشاط الليبرالية الروسية المعاصرة في حربها ضد الأفكار الاشتراكية بشكل عام والبلشفية بشكل خاص. وفي أعماقه هو اتهام يرمي إلى جعل الحرب على الرأسمالية خيانة للوطن أو أسلوبا "للانهزاميين". وهو الأمر الذي يتجلى بوضوح في ما أسمته "الوصية" بالشعارات الطوباوية للبلشفية عن السلام والعمل والسعادة والمساواة والأخوة! أما شعارات السلام للشعوب والمصانع للعمال والأرض للفلاحين، التي صاغتها البلشفية في مجرى صراعها السياسي الملموس، فإنها لم تعد من وجهة نظر "الوصية" سوى "شعارات جذابة ولكنها مضللة وليست ماركسية على الإطلاق". ومن هنا الاستنتاج النهائي :"البلشفية ماركسية مشوهة"! من مهازل التاريخ الروسي المعاصر أن الليبرالية المسلحة باختراعاتها الماكرة لتسويق الرذيلة التي حصلت في روسيا على تسمية "التكنولوجيا القذرة"، عبر تجسيدها في بنية السلطة وعمليات السرقة الفاحشة وتزوير الانتخابات وابتذال القيم، هذه الليبرالية تنّصب نفسها حكما ينتصف للماركسية من مشوهيها! إلا أن لهذا "الدفاع" عن الماركسية أبعادا دفينة في "المنطق الليبرالي" الروسي المعاصر. وهي أبعاد لا تتسم بالعمق بقدر ما تتسم بالمكر المميز للمزورين. فعندما نتأمل "المنطق الديالكتيكي" في "الوصية"، فان تصبح الأمور جلية، أي أنها تسير في نفس "منطق الليبرالية" المنهك بابتكار أساليب محاربة البلشفية. إن الهدف المباشر وغير المباشر، القريب والبعيد هو جعل البلشفية تشويها شاملا "للماركسية". ف"الوصية" تنطلق من تعريف بسيط لطلبة المدارس الحزبية، يقول بان الماركسية "هي المادية الديالكتيكية والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية". ولكن حالما تحاول أن تشرح ماهية هذا الثالوث المدرسي البسيط، فإنها لا تتعدى الإشكاليات الواقعية التي تواجهها الليبرالية الطفيلية الروسية، وما تتخوف منه بالأخص، أي أن أفكار "الوصية" المتعلقة بالماركسية ما هي في الواقع سوى إحدى الصيغ المبطنة للدعاية البرجوازية الفجة في روسيا المعاصرة، التي تراكمت في غضون السنوات العشر الأخيرة. فهي تشدد، من جهة، على أن "دكتاتورية البروليتاريا بمفهوم ماركس لن تتحقق أبدا"، ومن جهة أخرى تقول، بأنه "لو كان ماركس حيا الآن لكان يقف ضد دكتاتورية البروليتاريا". وهي "وصية" غاية في الغرابة! أي أننا نقف من جديد أمام "لو"، التي لا يحتملها المنطق "الماركسي والديالكتيكي الصلب". وعندما تجاهر "الوصية"، بأن "المثقفين هم شرف وضمير وعقل الأمة، وليست الطبقة العاملة"، فإنها تريد أن تقدم ورقة صفراء صغيرة تداعب بها ذوق أولئك الذين أرهقتهم كثرة الدعايات والإعلانات والشعارات التي كانت تملأ شوارع وساحات المدن السوفيتية عن أن "الحزب هو عقل وشرف وضمير" الطبقة العاملة والشعب السوفيتي. أما في الواقع، فان الشعار السوفيتي هذا لم يكن رؤية فلسفية ولا جزء من نظرية سياسية بلشفية، بقدر ما كان، شأن الكثير من الشعارات السياسية الفعالة وليد ظروف تاريخية ملموسة. ولا ضرر في أن يكون الحزب شرف وضمير وعقل المجتمع، إن أراد فعلا تمثل مصالحه الجوهرية. ولا يتعارض هذا مع أن تكون الطبقة العاملة أو المثقفون هذا الكيان المتسامي والواقعي في نفس الوقت. فالشعار ليس حكرا على الطبقة العاملة، ولا تمثله هي بالضرورة، كما لا يمثله المثقفون بالضرورة. إن الضرورة الوحيدة هنا تقوم في أن من يريد قيادة المجتمع بصورة ناجحة سليمة عليه أن يكون فعلا عقل وضمير وشرف الأمة. وإذا كانت البلشفية قد رفعت هذا الشعار من خلال حزبها السياسي، فإنها كانت الأكثر جرأة من حيث التأكيد على جوهرية العلاقة بين السياسة والأخلاق من جهة، ووضعت نفسها على محك النقد المباشر تفاديا لكل ابتعاد أو انحراف عن العقل والشرف والضمير. وهو ما جرى فعلا في بعض مراحل السلطة السوفيتية، وفيه أيضا ينبغي البحث عن أحد أسباب انهيارها. وخلافا لقواعد المنطق "تستنبط" "الوصية"، فكرة هي بيت القصيد من وراء وضعها، ألا وهي "حتمية" الرأسمالية وضرورتها الدائمة. وتضع هذا الشعار الأيديولوجي بعبارات مبتذلة للغاية مثل "الرأسماليون أنفسهم سوف يتغيرون إلى الأفضل. والبلاشفة وحدهم الذين لا يرون ذلك"!! و"إن الرأسمالية ليست بحاجة إلى حفار قبور"، وأنها "تطورت من متوحشة إلى ليبرالية بعناصر ديمقراطية ومنها إلى ديموقراطية ومنها إلى إنسانية". ومع ذلك فان "من الممكن أن تموت الرأسمالية في المستقبل من تلقاء نفسها ببطء وبدون مرض"! هكذا وببساطة! إن الرأسمالية في تغير وتحسن، وأنها النظام الأكثر إنسانية وليس إلا البلاشفة من لا يرى ذلك. أي أن كل من لا يرى ذلك هو بلشفي، وبالتالي نصف ديالكتيكي، ومشوه للماركسية، وفي نهاية المطاف معاد للحرية والديمقراطية والإنسانية. وإذا كان الأمر كذلك فما هو معنى "التنبؤ" بإمكانية موتها البطيء؟! والأغرب من ذلك أن تموت بلا أمراض! طبعا إن الإنسان يمكن أن يموت (مع انه ميت بالضرورة) بحادث ما وهو في عز الشباب والقوة، أما أن تموت الأنظمة الاجتماعية وهي في عز قوتها وبلا أمراض، فانه منطق مستحيل ولكنه ممكن بمعايير "التكنولوجيا القذرة" لليبرالية الروسية المعاصرة. وتتجسد هذه "التكنولوجيا" بوضوح تام في ما تتضمنه "الوصية" من اسقاطات على التاريخ السوفيتي و"تنبؤاتها" عن مصيره وعن الواقع المعاصر في روسيا. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكثير من الأفكار الواردة في "الوصية" سليمة من حيث صيغتها المجردة. بمعنى أنها لا تتعارض مع الحقيقة المجردة. ثم أن الكثير من الأفكار الواردة فيها لا تتعارض مع جوهر الرؤية الماركسية من حيث مقدماتها وغاياتها الإنسانية. إلا أن البعد الداخلي أو ما يسمى أحيانا بالقراءة بين الأسطر يكشف عن أن باعثها هو مهمة أيديولوجية صرف. فهي تنبئنا بأنه، في المستقبل القريب "لابد وان تتسع أطر المبادئ الإنسانية"، أي أن تتجاوز التصورات السائدة عن الإنسان ومصالحه وحقوقه، إلى أبعاد أخرى تتعلق بكل ما هو حي وبالطبيعة". وهي فكرة نعثر عليها في البوذية والصوفية وحركة الخضر المعاصرة وعلم الحفاظ على البيئة! و"إن تطور العالم سوف يسير صوب عالم متعدد المراكز". أي كل ما يتناوله الحديث المعاصر عن تعدد الأقطاب! غير أن هذه الأفكار العامة السليمة، ليست إلا المقدمة التي ينبغي أن تصب في نفس تيار الهجوم المباشر وغير المباشر على البلشفية. لقد أدت البلشفية، حسب منطق "الوصية"، إلى إلغاء تلك الإمكانيات الإنسانية والتعددية العالمية والحفاظ على البيئة وما شابه ذلك. أي هي تنسب كل فضائع الرأسمالية "الإنسانية" إلى البلشفية! ليس ذلك فحسب، بل وان "انتصار البلشفية هو خسارة هائلة للبروليتاريا الروسية والعالمية". والسبب في ذلك هو "أن انتصارها سوف يحيل انتصار البروليتاريا إلى هباء"، كما "أن انتصارها هو خسارة لروسيا". أما الرابح الوحيد فهو "الاشتراكية الدولية الديمقراطية". (التي حاربها لينين). والمقصود بذلك هو أنها الوحيدة التي برهنت على صحة الفكرة الاشتراكية! ومن اجل أن تتخذ هذه الأفكار التقليدية والمبتذلة في نفس الوقت من حيث أسسها الفكرية، صيغة "الاكتشاف" الباهر في التاريخ المعاصر، كان ينبغي لها أن تتجلبب بهيئة "معجزة"، لعل "النبوءة" هي نموذجها الأكثر معقولية بالنسبة لوعي العوام الموجهة إليه. فنرى "الوصية" تتنبأ بأزمات أربع تمر بها البلشفية في روسيا، الأولى: وتبدأ بافتقاد الرحمة وتنتهي بالمجاعة، والثانية: أزمة الانهيار، التي يمكن تجاوزها من خلال إشعال الحرب الأهلية والعنف الطبقي، والثالثة: أزمة سياسية اقتصادية، يمكن تجاوزها من خلال الحرب الشاملة على الفلاحين وإبادة الفئة الأفضل بينهم، والرابعة: الأزمة الأيديولوجية. وهو "تنبؤ" يشبه قراءة الكف الواسعة الانتشار بين الغجر ومحترفي الصنعة أمام "النسوان" والعجائز. ويستجيب لذوق الليبرالية الروسية المعاصرة التي حولت حتى دراسة الرأي العام إلى جزء من هذه اللعبة السخيفة. أما في الواقع فليست هذه الأزمات سوى المراحل الصعبة التي ميزت فعلا تاريخ السلطة السوفيتية، والتي يعرفها كل تلميذ في المدرسة عبر دراسته تاريخ الدولة السوفيتية، مع فارق واحد هو أن كتب التاريخ السوفيتي تقول، بان المرحلة الأولى هي مرحلة الحرب الأهلية التي رافقها اقتتال عنيف وقسوة من جانب قوى الثورة المضادة، التي أدت في حصيلتها وعلى خلفية الحرب العالمية الأولى إلى مجاعات (هي "الأزمة الثانية") استطاعت السلطة السوفيتية في غضون فترة بسيطة حسمها بالشكل الذي وفر الأرضية المناسبة للتصنيع (أي "الأزمة الثالثة"). وقد استلزم التصنيع حسب خطة وسياسة ستالين إشراك الفلاحين في تعاونيات تقترب من التصنيع وبالشكل الذي يكفل بناء القاعدة المادية التكنيكية للانتقال إلى الاشتراكية في المدينة والريف. وهي مرحلة تميزت في بعض جوانبها بالعنف، سواء ما يتعلق منها بنزع ملكية الكولاك ( وهم الفلاحون الأغنياء والمتوسطون) من ملكياتهم بالقوة، أو باعدامات وسجون ومعتقلات 1936 –1940. أما "الأزمة الرابعة" فهي الحالة التي يتكلم عنها بعض ممثلي اليسار الشيوعي الروسي المعاصر، الذين يرون سر الهزيمة التي تعرضت لها الدولة السوفيتية في انهزامها الأيديولوجي أمام الغرب. وهو السبب الذي يفسر انتقال كل أولئك الذين كانوا يجرون عربة الأيديولوجية الحزبية زمن البيريسترويكا بعد انحلال الاتحاد السوفيتي إلى صف أعداء الشيوعية المتشددين. وينطبق الشيء نفسه على ما تتعرض له التجربة السوفيتية من نقد واسع الانتشار منذ زمن قديم سواء في الأدبيات اليسارية العالمية، أو في النماذج الدعائية والتشهيرية المميزة للأدبيات المتخصصة بمحاربة الشيوعية والاتحاد السوفيتي من جانب المراكز الأساسية للرأسمالية العالمية آنذاك. مثل "نبؤة" "تحول العمال في ظل اشتراكية اللينينية من عمال يستأجرهم الرأسمال إلى عمال تستأجرهم الدولة الإقطاعية"، و"انتزاع الفلاحين من الأرض وإلقاء عبء التصنيع عليهم"، و"إن مراحل تطور السلطة السوفيتية ستكون على الشكل التالي: تحول ديكتاتورية البروليتاريا على الطريقة اللينينية إلى دكتاتورية الحزب الواحد، ومنها إلى دكتاتورية الفرد" وأخيرا "اتخاذ الدكتاتورية في بداية الأمر مظهرا طبقيا ثم صيغة شاملة". وإذا كان في هذا "التقرير" جوانب واقعية فعلا كتب عنها الملايين من المقالات والأبحاث في ما مضى، فان محاولة استنطاقها من جديد عبر لسان بليخانوف "مجهول الهوية" يعبّر في ممارسة الليبرالية الروسية المعاصرة عن سعي نموذجي لما يمكن دعوته "بالتنبؤ المأجور". وهي ممارسة واسعة الانتشار بما في ذلك عند أولئك "المثقفين" الذين يمثلون "عقل وضمير وشرف" اللصوص. بصيغة أخرى ليست "الأزمات الأربع" وحيثياتها المتعلقة بتاريخ الدولة السوفيتية، والمقدمة على طبق "النبوءة" الحية "لبليخانوف"، سوى الصيغة الفجة والنموذجية في نفس الوقت "للتكنولوجيا القذرة" المميزة لوسائل الإعلام الروسية (أو بصورة أدق اليهودية) في تضليل العوام وأنصاف المثقفين وجعلهم ينبهرون بهذه النبوءة، لكي يجري تمهيد السبيل أمام الغاية النهائية "للوصية"، التي تعلن بصوت مسرحي: "القرن العشرون قرن الاكتشافات العظيمة، قرن التنوير والإنسانية سوف يرفض البلشفية ويدينها"! وعندما تتضح للجميع "أفكار لينين الخاطئة، آنذاك ستنهار الاشتراكية البلشفية"! ولإضفاء مزيد من المصداقية الخطابية على هذه الشعارات، نقرأ "شكوك" اللغة الواثقة من نفسها، والقائلة، بان "مستقبل روسيا سوف يتحدد بالفترة التي يقضيها البلاشفة في السلطة". إلا أن "الأمور سوف تعود إلى نصابها الطبيعي. ولكن كلما طال وجودهم في السلطة أصبح الرجوع إلى الحالة الطبيعية أمرا صعبا". وهي "مصداقية" يجرى بلورتها وتقديمها من خلال لغة خطابية سليمة المظاهر، لكنها لا تخدم إلا الغرض النهائي من "الوصية" كما بينته. فهي تختتم "تنبؤها" عن "أن مستقبل روسيا وتطورها وازدهارها ممكن على أساس أيديولوجية تقدمية تستند إلى افضل التقاليد القومية والى تصورات مناسبة عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية. إذ لا تلد الأيديولوجية المضللة سوى قادة مشوهين ومضللين". و"إذا اختار التاريخ روسيا من جديد لأجل بلوغ الاشتراكية، فان ذلك يفترض مرورها بمراحل" لها أولوياتها. المرحلة الأولى: من25-30 سنة، وهي مرحلة الاشتراكية المبكرة. الانطلاق فيها من الاعتراف بالدولة ورجل الأعمال والعامل! والمرحلة الثانية: وتستمر أيضا 25-30 سنة يتم فيها انتزاع ملكية البنوك والمصانع والمعامل المتوسطة. والمرحلة الثالثة: وتستمر 50-100 سنة تطبق فيها مبادئ الفكرة الاشتراكية للانتقال بعدها إلى الشيوعية. وهو "مشروع" ليس اقل طوباوية من مشاريع الليبرالية عن "خمسمائة يوم للإصلاح"، وان "روسيا سوف تصبح أغنى البلدان في غضون سنتين" وما شابه ذلك. إلا أن تجربة السنوات العشر الماضية كانت مفيدة لليبرالية الروسية أيضا في هذا الميدان. أنها تريد القول، بان المفكر الكبير بليخانوف في نقده العميق ونبوءته الخارقة عن تاريخ وآفاق ومصير الدولة السوفيتية الذي زكاه وأيده التاريخ بكل حذافيره كما لو انه سيناريو الهي، يقترح من اجل بلوغ روسيا ازدهارها التام ما لا يقل عن 100 سنة كحد وسط أو 160 سنة كحد أقصى. أما الليبرالية الروسية التي تقول بأولوية "الدولة ورجل الأعمال ثم العامل" أو الشعب، فأنها لم تقض في السلطة أكثر من 10 سنوات! أنها تمتلك الشرعية المادية والمعنوية والتاريخية استنادا إلى مفكري الماركسية الديالكتيكيين الصلبين على الأقل بعشرة أضعاف هذه المدة من الزمن. *** إن الشيء الوحيد المهم الذي يمكن استخلاصه من هذه "الوصية" هو الصورة النموذجية لذهنية الليبرالية الروسية المعاصرة في تعاملها مع النفس والآخرين. فهي تتعامل مع التاريخ الروسي كما لو انه شيء غريب ينبغي رميه كله إلى مزبلة هي نفسها أكثر من ساهم في صنعها. أي أن في صورتها هذه درسا بليغا لما لا ينبغي القيام به. وللحق ينبغي القول، بان هذه الممارسة ليست من صفات الليبرالية الروسية، بقدر ما هي قاسم مشترك بين أغلب التيارات الروسية الكبرى التي لم تتعظ حتى الآن بقيمة الاعتدال والوسط العقلاني. فقد سبق وان مارس البلاشفة هذا الأسلوب الخشن في التعامل مع التاريخ الروسي السابق. وهو أحد الأسباب الجوهرية التي أدت إلى فشل التجربة البلشفية في بناء اشتراكية عقلانية إنسانية. وإذا كان ذلك مرتبطا حينذاك بثقل الكيان اليهودي الذي نشأ وتربى على تقاليد الغيتو والشتات، فان الليبرالية المعاصرة هي الاستظهار الأكثر قبحا لتلك التقاليد. إذ لا كابح لها ولا قيود ولا حدود داخلية. من هنا ينبع غلوّها الخالي من هواجس الضمير والأخلاق. وهو غلوّ يفضي إلى الهاوية. أما الشيء الوحيد الجديد الذي يمكن إضافته إلى هذه "الوصية"، فهو أنها ليست الأخيرة، حتى من جانب "بليخانوف" نفسه، أي "أستاذ الفيزياء الرياضية" في "تكنولوجيا الدعاية القذرة" لجامعة الليبرالية الروسية!
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفكرة الإصلاحية في (رسالة التوحيد) للشيخ محمد عبده
-
شخصية ومصير - الهجويري
-
التوتاليتارية وإشكالية الحرية والنظام في العراق
-
التوتاليتارية والراديكالية (البعثية- الصدامية) - أيديولوجية
...
-
التوتاليتارية – أيديولوجية الطريق المسدود
-
نبوة المختار – قدر التاريخ وقدرة الروح!
-
السياسة والروح في شخصية المختار الثقفي
-
العقيدة السياسية لفكرة الثأر الشامل في العراق (الماضي والحاض
...
-
فردانية المعرفة الصوفية ووحدانية العارف
-
كلمة الروح وروح الكلمة في الابداع الصوفي
-
النادرة الصوفية
-
فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (5-5)
-
فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (4)
-
فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية(3)
-
فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (2)
-
فلسفة الجهاد والاجتهاد الإسلامية (1)
-
مذكرات الحصري والذاكرة التاريخية السياسية
-
بلاغة طه حسين وبلاغة الثقافة العربية
-
شخصية طه حسين وإشكالية الاستلاب الثقافي!
-
الولادة الثالثة لمصر ونهاية عصر المماليك والصعاليك!
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|