الطريق
في مقال مهم للغاية وتحت عنوان " الكراهية وتعريف التحدي "، عاد وزير
الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر ليطور العديد من الاطروحات والأسس التي تشكل
الإطار النظري للعالم الجديد الذي تجري هندسته اليوم وفقا للمقاسات الأمريكية.
ومقال هنري
كيسنجر الجديد يتمتع بأهمية خاصة ومزدوجة بالنسبة لنا نحن العراقيين ويتعين علينا
قراءته مرتين على الأقل لنفهم مغزى وجوهر المشروع الأمريكي المطروح لحل " المشكلة
العراقية ". ففي هذا المقال يكشف لنا كيسنجر وبوضوح شديد وذي دلالة ما الذي يريده
الأمريكان بالضبط من حملتهم العسكرية القادمة على العراق بحجة الإطاحة بصدام حسين
وبناء نظام ديمقراطي.
لن نستبق الأحداث، بل سنحاول استعراض خطاب السيد كيسنجر لنكشف عن
المستور والمعلوم فيه، ولنستخلص بالتالي الهدف/الأهداف الاستراتيجية التي تكشف عن "
تطابق المصالح " بين الولايات المتحدة والشعب العراقي التي يطالبنا بها كتاب
ومحللون عديدون ينافحون، بمناسبة أو بدونها، للدفاع عن هذه الفكرة/الخرافة التي لا
تصمد أمام ابسط معالجة وتحليل.
ولأن السيد كيسنجر يطرح موضوعات نظرية شائكة تحتاج الى
قراءة مركبة لا يتسع المجال هنا للقيام بها فإن من المفيد تركيز الجهد على الشأن
العراقي في هذا المقال. ولكن هذا التحليل لن يستقيم، بل سيبدو مقطوعا من جذوره إذا
لم نمر، ولو بسرعة، على الجزء العام من مقاله هذا.
أول القضايا المنطلقية في مقال السيد
كيسنجر هو ترويجه لأطروحة بالغة الخطورة وهي ضرورة التخلي عن مفهوم السيادة " الذي
ظل الأساس القانوني للنظام الدولي منذ معاهدة ويستفاليا عام 1648، وتمثلت مبادئها
المنظمة في أن السياسة الخارجية هي قضية دول تعتبر متساوية قانونيا، وملزمة بعدم
التدخل في الشؤون الداخلية لبعضها البعض ". ويعلل ذلك بأن أحداث 11 سبتمبر أدخلت
العالم الى مرحلة جديدة " كشفت فيها المنظمات الخاصة، غير الحكومية، عن أنها قادرة
على تهديد الأمن الوطني والدولي بهجمات سرية "، الأمر الذي يتطلب أعمالا وقائية
ومباشرة. ويقدم كيسنجر بن لادن والقاعدة مثال نموذجيا على التناقض بين وجود هذه
المجموعة وقائدها على ارض قومية ( أفغانستان) وبين نشاطها ببعده العالمي، في مناطق
وبلدان متنوعة بما فيها حلفاء الولايات المتحدة، وما تركه من تأثير على مسار
الأحداث. وفي هذا المجال يقول كيسنجر أنه " جرى تحدي النظام الدولي القائم
على سيادة الدولة القومية عبر تهديد يتجاوز الحدود القومية، ويتعين مكافحته على
منطقة السيادة لدول أخرى في قضايا تتجاوز الدولة القومية.
وبتحديهم الولايات
المتحدة مباشرة، ضمن الإرهابيون أن يتخذ الصراع شكله عبر السمة الخاصة للدولة
الأمريكية. ذلك أن اميركا لم تعتبر نفسها قط، ببساطة، دولة واحدة بين الدول الأخرى.
فقد جرى التعبير عن روحها القومية باعتبارها قضية شاملة تماثل انتشار الديمقراطية،
باعتبارها السبيل الرئيسي للسلام ".
النقطة المنطلقية الثانية هي جنوح السيد كيسنجر الى
تحليل سهل للظاهرة الإرهابية حيث يعيدها ليس الى جذورها الحقيقية وأسبابها الجوهرية
بل الى عوامل وأسباب ثانوية ومشتقة. فهو يعتقد أن " ارهابيي الحادي عشر من سبتمبر،
الذين يعملون على أساس عالمي، لا تدفعهم مظلمة محددة بقدر ما تدفعهم كراهية معممة،
ولديهم وسيلة للحصول على أسلحة يستطيعون بواسطتها منح جهد لهذه الاستراتيجية في قتل
الآلاف، واكثر من ذلك في نهاية المطاف " . وفي الوقت الذي يتعين إدانة الأعمال
الإرهابية التي تمت في الحادي عشر من سبتمبر 2001 فإن اعتبار ما قام به هؤلاء مجرد
كونه ناجم عن " كراهية معممة " لا يقدم لنا أي معرفة تساعدنا في تفسير
الظاهرة الإرهابية التي لها جذور اقتصادية واجتماعية وسياسية ناجمة عن بنية النظام
العالمي السائد والياته القائمة على الهيمنة التي تنتج وتعمم الفقر من جهة والثروة
من جهة أخرى، سواء محليا أو عالميا، علما بأن الكثيرين من هؤلاء الإرهابيين تمت
صناعتهم من طرف مطابخ الأجهزة الخاصة في الولايات المتحدة تحديدا ضمن الصراع الذي
كان دائرا بين المعسكرين، الاشتراكي والرأسمالي، حيث كان هؤلاء خصوما اقحاح لـ "
الشيوعيين الكفرة " !
وانطلاقا من فكرة الطابع المعولم للإرهاب والظاهرة الإرهابية التي
تستلزم عولمة الحملة المناهضة له بقيادة الدولة الأقوى - الولايات المتحدة،
وارتباطا بفكرة أن التكنولوجيات الحديثة الموضوعة في خدمة الإرهاب ومنفذيه قد أتاحت
المرونة لهؤلاء والقدرة على التلاشي مع فعل الافتراق، فإنه لابد – بحسب - كيسنجر من
مواجهة هذا التحدي . ولهذا " فإن عملا وقائيا معينا ـ بما في ذلك العمل العسكري ـ
هو جزء من تعريف التحدي ".
ولهذه الأسباب يستنتج كيسنجر " أن الدول التي تؤوي مقرات
الإرهابيين أو مراكز تدريبهم لا يمكن أن تلوذ خلف المفاهيم التقليدية للسيادة لأن
وحدة أراضيها انتهكت بطريقة وقائية من جانب الإرهابيين ".
ومن جهة أخرى، يوظف السيد
كيسنجر هذا الاستنتاج منتقلا به من المجرد الى الملموس، مؤكدا على أنه وفي المرحلة
الراهنة من العمل ضد الإرهاب " تمتزج قضية العمل الوقائي العام ضد الإرهاب مع
قضية العراق ". وهكذا إذن يضاف بعد جديد للحملة القادمة على العراق. فبعد أن كانت
الاتهامات تكال للنظام الديكتاتوري في بغداد بكونه يطور أسلحة الإبادة الجماعية
ويمتلك كميات هائلة منها، نلاحظ أن الجهود منصبة في هذه المرحلة للبحث عن وجود
علاقة بين الإرهاب على الصعيد العالمي والنظام الديكتاتوري.
ولكن السيد كيسنجر لا يترك
المجال لقارئة لكي يلتقط أنفاسه حتى يفاجئه بأطروحة جديدة كل الجدة. لحظة
اندلاع الأعمال الحربية ضد طالبان والقاعدة في أكتوبر 2001 كان المحللون وكبار
الاستراتيجيين يروجون لفكرة أن الحرب ضد الإرهاب ستكون طويلة وعالمية البعد، وعلى
مراحل. وكانت معظم التحاليل تشير الى أن الحلقة الثانية في " الحملة العالمية على
الإرهاب " ستطول أحد بلدان " محور الشر " وهو العراق بالتحديد، ولكن انطلاق هذه
الحملة مرهون بانتهاء المهمة في أفغانستان. كيسنجر في مقاله هذا يقول معكوس ذلك،
مؤكدا وبالفم المليان أن " العمل ضد العراق ليس عقبة أمام الحرب على الإرهاب وإنما
هو شرط مسبق لهذه الحرب ". وبهذه الكلمات فإن كيسنجر، وهو أحد كبار المفكرين
الاستراتيجيين الذين تأخذ الإدارة الأمريكية الحالية كلماته كمرشد لها، يحسم جدالا
ليس أكاديميا بالطبع ولكن عملي ظل يدور حول توقيت موعد الحملة الثانية. إذا ربطنا
هذا الكلام بما يدور من جهود حثيثة تقوم بها الإدارة الأمريكية في هذه اللحظات
لبناء تحالفات محلية ودولية وإسكات " المعترضين " أمكننا أن نستنتج أن قرار المرحلة
الثانية من " الحملة العالمية على الإرهاب " قد اتخذ فعلا وان سيناريو " بغداد أولا
" الذي طرحه كيسنجر في مقالة سابقة قد اصبح جاهزا للتنفيذ الفعلي.
ولذر الرماد في عيون
المعترضين على هذه الاستراتيجية وهذا السيناريو البالغ الوضوح، يدعو كيسنجر
الى التشاور مع حلفاء الولايات المتحدة. ولكنه يحذر من جهة أخرى مؤكدا على " أن
التشاور ليس حلا سحريا لكل المشاكل، بل أن البعض يعتبره وسيلة للمماطلة والتأجيل.
وليس هناك وقت غير محدد لعملية التشاور هذه. أن التأخير لسنة أخرى يمكن أن يصل الى
الإذعان للأمر الواقع بكل دلالاته ". الكلام هذا بالغ الوضوح ولا يحتاج الى تعليق.
ويؤكد هذا الاستنتاج ما يطرحه كيسنجر مباشرة بعد هذا الكلام حين يكتب قائلا " وفي
النهاية فإن الولايات المتحدة ستحتفظ بحق التصرف بمفردها "، رابطا في هذا المجال
بين مدى جدية التوجه الأمريكي وتبدل مواقف حلفاء الولايات المتحدة، وخصوصا
الأوربيين منهم الذي يفسر كيسنجر أن البعض من " تشدد " هؤلاء " مرتبط بقضايا
السياسة الداخلية (حيث من) الصعب الاعتقاد بأن حلفاءنا سينبذون نصف قرن من
الشراكة الأطلسية ".
وبمقابل ذلك فإن كيسنجر وفي الوقت الذي يؤكد على أهمية التشاور حول
أسلحة الدمار الشامل وفقا لقرارات الأمم المتحدة، فإن يروج لفكرة ترفض نظام التفتيش
السابق الذي أثبت عجزه حسب كيسنجر. وهنا يحث هو الإدارة الأمريكية على " أن تقدم
فكرتها حول نظام تفتيش محكم يدار بحدود زمنية صارمة ". ولا يكتفي كيسنجر بذلك بل
يشدد على أن هذا النظام المقترح يجب أن يتضمن المبادئ التالية : " عمليات تفتيش عند
الطلب، وإمكانية وصول غير محدودة الى أي موقع، ويجب عدم السماح بأي تدخل لمسؤولين
عراقيين يحول بين المفتشين وهدفهم. ومن اجل منح هذا النظام القوة، لا بد من إقامة
قوة عسكرية مقرة دوليا تتمتع بسلطة بديلة لإزالة أي عائق أمام الشفافية
".
ولا يرى
كيسنجر أن تطبيق النظام العراقي لهذه المبادئ سيجنبه حملة عسكرية أمريكية، بل على
العكس فإنه يعتقد " أن مثل هذه الاستراتيجية يمكن أن توفر لنا، أيضا، أن نحدد
أهدافا سياسية قادرة على أن تكيف لتلائم وضعا ناشئا معينا ". أي أنه يقول وبفصيح
العبارة أن هذه لم تعد استراتيجية بالمعنى العلمي لهذه الكلمة بل هي عبارة تكتيكات
هدفها أما قبول النظام الديكتاتوري بها وما سيتبعه من استحقاقات قد تنتهي برفضه
للنظام المقترح، أو برفض النظام العراقي للفكرة من اصلها. وفي الحالتين سيتم تطبيق
خيار الحرب بكل كوارثه المرافقة واستحقاقاته المعروفة، بما فيها طبيعة البديل
القادم وقواه الفعلية المكونة .
ما هي ملامح البديل القادم وفق طرح السيد كيسنجر
؟
1.
يفاجئنا السيد كيسنجر بعبارة بالغة الخطورة وتعطي أكثر من مغزى. يقول كيسنجر " أن
العراق ليس دولة قومية، فقد تأسس في نهاية الحرب العالمية الأولى كثقل موازن
لإيران، وكعجلة موازنة للنزاعات الإقليمية ". ويمكننا أن نسأل السيد كيسنجر " : ما
هو العراق القادم ؟ إذا ربطنا اطروحته هذه باطروحه كتبها في مقال سابق له أمكننا أن
نستنتج أن العراق القادم بحسب وصفة السيد كيسنجر هو فيدرالية على النمط
الأمريكي، أو دولة طوائف على وجه الدقة وليس فدرالية، بالمعنى السياسي !! ومن هنا
التساؤل عن أولوية السياسة أم أولوية الجغرافيا ؟ في طرح السيد كيسنجر هذا تهيمن
الجغرافية على السياسة، على ما يبدو.
2. إن إقامة نظام ديمقراطي ليس مهمة آنية بل
بعيدة المدى، بل ستترك الجهود لـ " المهمات العاجلة لإعادة البناء ". وفي هذا الصدد
يكتب كيسنجر قائلا " أن هدف الحكم الديمقراطي هدف سام وضروري. غير أن تحقيقه اكثر
تطلبا للدأب والوقت من بعض المهمات العاجلة لإعادة البناء ".
3. وارتباطا بذلك فإن
المجتمع العراقي الذي ظل طيلة عقود يرزح تحت الأنظمة القمعية والديكتاتورية لا
ينبغي أن ينتظر حكما ديمقراطيا يتأسس على أنقاض النظام الديكتاتوري، بل يجب عليه
الانتظار فترة أخرى. ويضرب السيد كيسنجر مثالا محددا وهو تركيا " الديمقراطية
الوحيدة القائمة في المنطقة " التي جاءت إليها " الديمقراطية التعددية بعد 20
سنة من الاوتوقراطية الخيرية ". هكذا يتعين علينا أن ننتظر 20 سنة أخرى لنتمتع
بحقنا في الديمقراطية!! والسؤال الآن موجه ليس للسيد كيسنجر بل الى أولئك الذين
ينافحون صباح مساء بأن الولايات المتحدة حريصة كل الحرص على جلب الديمقراطية
للعراق، والمهم أن يسقط النظام الديكتاتوري.
4. وفي الوقت الذي ينافح العديد من
المحللين وكتاب المقالات بأن الحملة العسكرية الأمريكية ستتمخض عن نظام ديمقراطي
يشكل نفيا للنظام الديكتاتوري القائم، نظام يضمن للجميع الحرية والسلام، فإن
لكيسنجر وجه نظر أخرى. هنا يكتب قائلا " وفي هذه العملية يجب أن نكون مستشعرين
للتمييز بين أولئك الذي يستخدمون شعار الديمقراطية للوصول الى السلطة وليس تقاسمها،
وتفكيك البنية القائمة من دون تحسينها، وأولئك الزعماء الذين يكرسون طاقاتهم حقا
لإقامة نظام منفتح ". ولكن السيد كيسنجر لا يحدد لنا المعايير التي تميز بين هؤلاء
وأولئك، وما هي طينة " أولئك الزعماء الذين يكرسون طاقاتهم حقا لإقامة نظام منفتح
"، وما هي سمات النظام المتفتح هذا؟ وعلى عكس الاطروحات الحالمة بديمقراطية للجميع،
فإن السيد كيسنجر يفهم القضية بشكل محدد : لا ديمقراطية مطلقة بل ديمقراطية لمن "
يكرسون طاقاتهم حقا لإقامة نظام منفتح ". هذا مع العلم بأن هذا المجتمع المتفتح -
بحسب طرح السيد كيسنجر وثقافته ومرجعياته النظرية - هو مجتمع ينبغي أن
يؤمن بخيار التطور الرأسمالي وبقوانين السوق، وبالتالي بالتفاوتات الطبقية
والاجتماعية التي يعاد " توازنها " من خلال " يد السوق الخفية " كحل سحري لجميع
مشكلاتنا !