أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - محمد باسل سليمان - الصهيونية والوطنية الفلسطينية في مجلة -حيفا-















المزيد.....



الصهيونية والوطنية الفلسطينية في مجلة -حيفا-


محمد باسل سليمان

الحوار المتمدن-العدد: 3584 - 2011 / 12 / 22 - 14:12
المحور: الصحافة والاعلام
    


الصهيونية والوطنية الفلسطينية
في مجلة حيفا (1924-1926)

محمد باسل سليمان

تمهيد
أدت تفاعلات الفكر اليساري في أوساط تجمعات المهاجرين اليهود في فلسطين عبر وقائع صراع مريرة، إلى بروز تيار يساري لحظ ضرورة التشارك مع الفلسطينيين العرب في حزب يتبنّى الدفاع عن المصالح المشتركة لليهود والعرب، بدءاً من النضال ضد الاستغلال الطبقي ومروراً بالانخراط في معركة الدفاع عن الحقوق، وانتهاءاً بالكفاح ضد الاستعمار البريطاني وإحراز الاستقلال الوطني وتحقيق الازدهار والتقدم. وكانت النتيجة النهائية لتفاعلات الحراك نحو هذا الهدف تذاسيس الحزب الشيوعي الفلسطيني، كما يذكر السيد ماير فلنر، السكرتير العام للحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) بمناسبة الذكرى الخمسين للحزب، حيث يقول: "في آذار1919م أسسّ حزب العمال الاشتراكي (م.ب.س) أعضاء من من "بوعالي تسيون" مع كادحين آخرين عارضوا الانضمام إلى "أحدوت هعفودا"، وبلور هذا الحزب مع الوقت أيدلولوجيته. وكان قد وقف على رأس (م.ب.س) الرفاق: ي. ماير- سون دانيئيل، وي. هالدي، وولف أورباخ، وكرشون دواه، و أدموني، وآخرون. وفي الأيام بين 17-19 تشرين الأول (أكتوبر)1919م عقد الاجتماع الأول لحزب العمال الاشتراكي (بوعالي تسيون) في فلسطين. وكان هذا الاجتماع بمثابة الاجتماع القطري الأول لحزب (م.ب.س). ويعتبر المؤتمر الأول للحزب الشيوعي في البلاد. ومن ذلك الاجتماع نقوم بإحصاء عدد مؤتمراتنا.... ".
ومع أن قيادة حزب (م.ب.س) التأسيسية خلت من أي عضو فلسطيني عربي، ولم يعرف ما إذا كان أياً من أعضاء المؤتمر التأسيسي من الفلسطينيين العرب، فإنه كان على رأس أولويات مهام الحزب يومذاك، العمل الدؤوب بين الأوساط الفلسطينية العربية الكادحة وإقناعهم ببرنامج الحزب ودعوتهم للانضمام إلى عضويته.
وإذ ظل حزب (م.ب.س) واحداً من مكونات نقابة العمال اليهود المشهورة باسم "الهستدروت"،فقد كان بضمن مهامه الدعووية للفكر اليساري في الأوساط الفلسطينية العربية، إقناعهم بالانتساب إلى نقابة الهستدروت باعتبارها الإطار المؤهل لتنظيم نضالات العمال المطلبية، والدفاع عنهم وحماية مصالحهم وتأمين حقوقهم.
وقد أسّس انضمام العمال الفلسطينيين العرب الأوائل لتلك النقابة، والمشاركة في أنشطتها النقابية وفعالياتها النضالية، لبداية تعرّف الفلسطينيين العرب على الفكر اليساري والعمالي، الذي أخذ ينمو ويتطور تدريجياً حتى أصبح في بداية الثلاثينات جزءاً رئيساً وهاماً من مكونات الثقافة الفلسطينية.
كان العمل الشيوعي في الأوساط الفلسطينية العربية شاقاً ومريراً لأسباب ذاتية وموضوعية تتصل بتطور واقع الحياة في فلسطين، وبسيادة الوعي القومي خصوصاً وأن الوضع السياسي لم يبرح حاله عشية الخلاص من ربقة الاستعمار التركي بعد. وتعود المصاعب كذلك إلى سبب أعظم هو أن الأفكار الشيوعية في البلدان العربية كانت لاتزال جنينية ومشوشة، ويحمّلها محاربوها مدلولات سلوكية وأخلاقية تتصل بالدين والعادات؛ يُنبذ بعضها ويُرفض بعضها الآخر.
وتذكر المراجع التاريخية على هذا الصعيد أن عدداً محدوداً جداً من الفلسطينيين العرب قد انتسب إلى الحزب في سني عمره الأولى، ومع ذلك فإن السيد ماير فلنر يقول أن "رفيقاً عربياً قد ألقى كلمة في المؤتمر التوحيدي للحزب، وذلك على عكس المؤتمرات الحزبية السابقة التي كانت تخلو من مشاركة أي مندوب عربي فيها .
وكان هذا المؤتمر ثمرة لجهود التفاوض التي بدأت في 1923/7/9م بين حزب(م.ب.س) والحزب الشيوعي في فلسطين (ك.ب.ب) الذي كان قد انشق في أيلول (سبتمبر) 1922م عن الحزب الشيوعي اليهودي في فلسطين (ي.ك.ب) لأسباب تتصل بالخلاف بينهما حول الموقف من الحركة الصهيونية ومدى الاستعداد للإلتزام بقرارات المؤتمر الثالث للكومنتيرن عام 1922م منها؛ وإن ذلك المؤتمر قد أكد على ضرورة التخلص من الصهيونية أيديولوجياً والنضال ضد ارتباطها بالإمبريالية سياسياً. وقد اعتبر ذلك شرطاً رئيساً لا تنازل عنه لقبول أي طرف شيوعي في فلسطين في عضوية هذه المنظمة الأممية. ويضاف إلى ذلك موقف هذا الطرف من نضالات الحركة الوطنية الفلسطينية ضد الاستعمار البريطاني وحق تقرير المصير، وذلك لأن هذه الحركة هي المعبّر الفعلي عن الجماهير الفلسطينية وكانت النتيجة النهائية لهذا المؤتمر توحد الشيوعيين في حزب واحد أطلق عليه الحزب الشيوعي الفلسطيني(ب.ك.ب) . وكان ذلك الانجاز في غاية الأهمية بسبب ما طرحه من أسئلة على الواقع السياسي في فلسطين، وما كان للإجابة على تلك الأسئلة من أصداء تغييرية على واقع الحركة الوطنية الفلسطينية وتطورها اللاحق.
تصدّرت البورجوازية قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية لأسباب موضوعية في مقدمتها أنها كانت استمرارية لحركة النهضة القومية التي كانت الإطار الكفاحي للتحرر من الاستعمار التركي من جهة، ولأنها من جهة أخرى كانت تستوعب مختلف الشرائح الاجتماعية والمستويات الطبقية في المجتمع الفلسطيني. ولذلك فقد اتسم البرنامج الكفاحي الفلسطيني برؤاها التي تعكس تطلعاتها، وتبتغي تحقيق مصالحها وأهدافها، لذا فقد بدا البرنامج الكفاحي الوطني ملتبساً بين مواجهة بريطانيا أو التفاهم معها، وبدا في بعض المواقف مشوشاً أو غامضاً.
وعكست تظاهرات عامي 1919م و1920م والمطالب التي رفعتها كأهداف للحركة الوطنية الفلسطينية، تبلوراً ملحوظاً في البرنامج الكفاحي للحركة الوطنية، تمثل في اتضاح موقف البورجوازية الحاسم من مقاومة الاستعمار البريطاني والنضال من أجل التحرر الوطني وتقرير المصير.
وكان لهذا الأمر تأثيراته المباشرة على موقف الأممية الشيوعية (الكومنتيرن) من النضال الوطني الفلسطيني ومن الحركة الوطنية الفلسطينية وشرعية كفاحها ضد الحركة الصهيونية المتعاونة مع الاستعمار البريطاني والمرتبطة بالكولونيالية العالمية؛ فوثّقت هذا الموقف كأحد مقررات مؤتمر اللجنة التنفيذية للكومنتيرن عام 1921م.
وبسبب تطور موقف منظمة الكونتيرن الأهمية من القضية الفلسطينية، وحسمه لقضايا ايدلوجية وسياسية كبرى على هذا الصعيد أصبحت سياسة الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) منذ إعلان تأسيسه كحزب لكل الشيوعيين في البلاد، ليس بذي صلة بأية سياسات سابقة كانت قد تبنتها المكونات الشيوعية التي تُشكل منها. وتأكد ذلك في الوثيقة البرنامجية للحزب التي أطلق عليها يومئذ "مشروع استقلال فلسطين". فقد رأى الحزب أن مستقبل التجمع السكاني اليهودي الذي كان قائماً حينذاك في مختلف مناطق فلسطين يتحدد باعتباره جزءاَ من المستقبل الذي تُناضل الجماهير الفلسطينية العربية لبلوغه بعد طرد الاستعمار البريطاني من فلسطين وإقامة النظام الفلسطيني الديمقراطي الذي يضمن المواطنة المتساوية لجميع سكان البلاد على اختلاف دياناتهم: اليهودية والمسيحية والإسلامية من جميع المنابت الإثنية القومية، بغض النظر عن عددها، أقلية كانت أو أكثرية.
ورأت الوثيقة البرنامجية أن ذلك غير ممكن دون توفر الشروط المطلوبة لتحقيق الديمقراطية، والتي في مقدمتها إنهاء الانتداب وجلاء جيش الاحتلال، والنضال ضد المخطط الإمبريالي الصهيوني، والدعوة لعقد مؤتمر قطري تأسيسي وديمقراطي يمثل الجماهير الكادحة ويكون باستطاعته ضمان الحقوق الكاملة لجميع مواطني هذه البلاد.
ورأى الحزب أنه "من الممكن تحقيق ذلك عن طريق كفاح منظم تقوم به جماهير الكادحين في البلاد في إطار جبهة عربية يهودية مشتركة، وذلك بالتحالف مع كافة القوى الثورية في العالم ".
إن بلوغ الحزب الشيوعي الفلسطيني هذه الدرجة من وضوح الرؤية ميّز موقفه وأطروحاته، ومكّنه من تمثلها فكرياً بتقديم مفهوم جديد ومختلف للمسألة اليهودية. حيث ظهر من خلال هذه الوثيقة البرنامجية أنه قد افترق نهائياَ عن الأساس الصهيوني للحركة الشيوعية في فلسطين. وأظهر من جهة أخرى عبر هذه الوثيقة على أنه الممثل الحقيقي لمستقبل فلسطين السياسي، حيث بدا صاحب مشروع سياسي واضح وجريء ونوعي مختلف ومتفوق على كافة أشكال الطرح السياسي القائمة في أوساط التجمع اليهودي وبين الفلسطينيين العرب. وأصبحت المهمة المركزية للحزب في ضوء ذلك، النفاذ إلى الجماهير الفلسطينية العربية المنسجمة المصالح مع هذا المشروع. وتأكد لدى قيادة الحزب بأن هذا الأمر لا يمكن الوصول إليه إلا من خلال اقتدار الحزب على تقديم نفسه فعلياً على أنه حزب كل المواطنين في فلسطين: عرباً، ويهوداً، ومن كافة الأقليات القومية الأخرى في البلاد.
ورأى الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) أن المسؤوليات التي ألقتها الوثيقة البرنامجية على عاتقه تتطلب من إطاره التنظيمي العمل بشكل دؤوب وحثيث في أوساط الجماهير العربية بهدف استقطابها إلى الحزب، ودعوة الشبيبة الشيوعية لإيلاء اهتمامها بالعمل بين شببية هذه الأوساط، وكذلك ضرورة تركيز النقابيين في الهستدروت على كسب ثقة الأعضاء العرب واستقطابهم للحزب.
مارس الحزب تأكيد وطنيته بتركيز نشاطه بشكل ملحوظ في أوساط الجماهير الفلسطينية العربية، وكذلك بتنفيذ توصيات الكومنتيرن على صعيد فلسطين والمنطقة فيما يتصل بتنظيم العمال العرب، باعتباره واحداً من أقدم الأحزاب فيها.
واكتسب هذا الأمر أهميته من خلال ما أسداه من قوة تأثير بين الأوساط العربية، وكذلك مما كان له من قوة في زيادة تدعيم مكانة الحزب التاريخية عندما ارتبط بتحقيق الحزب تقدماً في مجالات العمل الأخري بين أوساط الجماهير الفلسطينية العربية .
وجاء في تقرير للبوليس البريطاني ما يشير إلى أن الحزب الشيوعي قد قام في تلك المرحلة بمحاولات لتنظيم مجموعات عمل عربية ومجموعات مهنية أمميّة –أي نقابات-، وأنه أحرز بعض النجاح في محاولاته تلك خاصة في يافا، حيث قام...بتنظيم (11) عربياً في مجموعته، من عمال المخابز.... وإن الحزب قد تمكن من التأثير على منظمات ذات طابع نقابي كانت قائمة. وفي حيفا أحرز الحزب نجاحاً مهماً بتمكنه من إقناع بعض العمال العرب الذين نظموا أنفسهم في أطر عمالية بقبول مشروع نضال مشترك مع الحزب على أساس: مقاومة الانتداب البريطاني والمطالبة باستقلال فلسطين، ومقاومة وعد بلفور، ومقاومة الأساليب القانونية التي تتبعها الحكومة.... وفي ضوء ذلك أقيمت لجنة عمل خاصة في حيفا... وازداد نشاط الحزب في النقابات العربية المستقلة... وأخذ العرب يقدرون مدى أهمية هذه الدعاية، والشعارات التي رفعت خلالها... وعلى الفور أخذ العرب يقيمون المنظمات التي نعتقد أن بعضها وقع تحت تأثير الشيوعيين... ".
وعلى صعيد تطور العمل الحزبي في الأرياف تقول الرفيقة بنينا فاينهاوز(من قيادات حزب راكح الشيوعي أحد سلالة الحزب الشيوعي الفلسطيني – ب.ك.ب) أن الدور التشاركي، والقيادي أحياناَ للحزب في أحداث "العفولة الشهيرة"، التي تمحورت حول الاشتباكات بين الفلاحين وسلطات البوليس وأنصار ملاك الأرض الجدد، لدى محاولاتهم إجبار فلاحي العفولة على الرحيل عن الأرض التي يعتاشون منها؛ بعد أن باعها الإقطاعي اللبناني سرسق إلى الشركات الصهيونية، قد لعبت دوراً هاماً في خلق ظروف ملائمة للحزب كي يمد نفوذه إلى الريف الفلسطيني. وإذا كانت المقاومة الباسلة للفلاحين ودعم الشيوعيين لهم قد أدّت إلى إطالة أمد هذه القضية، خصوصاً بين عامي 1924 و1925م؛ فقد تمكن الحزب من تعزيز تأثيره في الريف، ونجح أخيراً في تشكيل مجموعات عمل فلاحية عربية أطلق عليها اسم "الإعانة القروية". وأسست النجاحات التي حققت عبر أحداث العفولة لأن يعيد الحزب النظر في سياسته تجاه الفلاحين، ولأن يعاود تقدير أهمية الدور الذي يمكن أن يضطلعوا به، لا سيما في بلد كفلسطين، زراعي في الأساس، ويعيش أهله في الغالب في جماعات قروية .
وأما في مجال إعداد الكادر الحزبي العربي فقد سلك الحزب في هذا السبيل منحيين، أولهما عمل الكادر الحزبي اليهودي المباشر بين قطاعات الوسط العربي في مختلف المناطق، بما في ذلك الأرياف. وأما ثانيهما فقد تحقق عبر إيفاد مجاميع من الرفاق الحزبيين إلى مدرسة الكومنتيرن الحزبية في موسكو
حيث يتلقون ولعدة أشهر محاضرات في الماركسية، والفلسفة، والعلوم السياسية، والاقتصاد، والعلوم الاجتماعية، وشؤون الشرق الأوسط، إضافة إلى دراسات مكثفة حول أسس التنظيم والعمل الحزبي السري، والعمل النقابي الجماهيري والشبابي، وغيرها.
وفي خضم النضال المطلبي والديمقراطي والوطني الاستقلالي تطورت ملاكات كثير من الحزبيين، وازدادت فعالية دورهم بسبب اهتمامهم بالانخراط المباشر في الكفاح، وكذلك بالإسناد الذي كان يقدمه لهم الرفاق اليهود، وبالتعضيد الذي وفره لهم انتساب عدد من النخب الثقافية الفلسطينية العربية إلى الحزب؛ والدور الذي اضطلعوا به في الحياة الفلسطينية على المستويين الحزبي والجماهيري في إطار النضال المباشر والمشترك من أجل تحقيق الاستقلال الوطني.




مجلة حيفا
يرى بعض المؤرخين أن ظروف السرية التي كان يعمل وفقها الحزب الشيوعي الفلسطيني، وكذلك الاتجاهات اليسارية اليهودية الأخرى في حينه، هي التي منعت الإفصاح عن أية بيانات شخصية للرفيق الشيوعي الفلسطيني العربي الذي ألقى مداخله في المؤتمر التأسيسي (التوحيدي) للحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب)، إلا أن بعض المصادر رجحت أن يكون ذلك الشخص هو السيد إيليا زكّا صاحب ومدير تحرير جريدة التغير الحيفاويه ؛ وأن تقارير البوليس البريطاني أكدت ذلك عندما كانت تشير إلى أن إيليا زكّا قد "وقّع في 1924/12/22م على بيان خطي يعلن فيه عن انتسابه إلى الحزب الشيوعي الفلسطيني وعن موافقته على برنامج هذا الحزب. وقد اتخذ في مراسلاته مع الحزب لقب (الغريب) أي اللايهودي " .
ورأت قيادة الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) في انضمام السيد إيليا زكّا الصحافي والمستثمر في الصحافة والطباعة، ما يساعدها على استكمال المتطلبات والإجراءات التي تقتضيها "خطة العمل المشترك"، و التغلب على مصاعب العمل الحزبي بين الجماهير الفلسطينية العربية، خصوصاً لجهة إصدار صحيفة حزبية فكرية ونظرية باللغة العربية، لا سيما وأن الرفيق يمتلك مطبعة، ولديه تراخيص حكومية لإصدار أكثر من صحيفة.
كان السيد إيليا زكّا يمتلك ويدير جريدة النفير التي أسسها السيد إبراهيم زكّا في الإسكندرية عام 1902م تحت اسم "النفير العثماني"، ثم انتقل بها إلى يافا؛ وبعد ذلك إلى القدس سنة 1908م. وظلت تصدر من هناك حتى آلت ملكيتها إلى السيد إيليا زكّا. وفي سنة 1913م انتقلت الصحيفة من القدس إلى حيفا واستمرت تصدر فيها حتى سنة 1945م. وكانت جريدة النفير سياسية أدبية جامعة. ومع أنه لم يذكر أين طبعت في البداية، إلا أنه بدءاً من عام 1909م أخذت تطبع في مطبعة النفير في حيفا التي أسسها السيد إيليا في تلك السنة .
وتذكر المصادر التاريخية منذ أن انتقل السيد إليا زكّا إلى حيفا سنة 1913م؛ أصبحت لديه تطلعات بإنشاء مؤسسة صحافية وطباعية كبرى. ورأى في امتلاكه لجريدة ومطبعة النفير في حيفا ما يمكنه من البدء بهذا المشروع. وبعد فترة وجيزة توسعت أعماله الصحافية بمفرده أو بالتشارك مع آخرين كما عمل مع السيد نجيب نصار عندما أصدرا معاً وشراكة جريدة الكرمل ذائعة الصيت.
وطور السيد إيليا زكّا مطبعته في سياق طموحه لتحقيق ذلك المشروع. وأخذت المطبعة تقوم بجميع الأعمال الطباعية الصحافية والتجارية. ودأب السيد زكّا على العمل الحثيث والمتواصل في نفس الاتجاه، خدمة نفس التوجه، فأصدر جريدة حيفا في آذار (مارس) سنة 1921م في مدينة حيفا، كمطبوعة أسبوعية تطبع في مطابع النفير، وتدافع عنحقوق العمال والفلاحين في فلسطين. وتولى السيد إيليا زكّا إدارة تحريرها. وقد توقفت الجريدة دون أن يعرف عدد ما صدر منها من أعداد، ودون معرفة أسباب توقفها .
ويبدو أن السيد إيليا زكّا فعلا هو الرفيق العربي الذي شارك في المؤتمر التوحيدي للحزب. وأكثر من ذلك فإنه لا يستغرب أن يكون هو أول فلسطيني عربي ينضم للحزب الشيوعي. ويمكن أن نعيد هذا الاعتقاد إلى أسباب كثيرة وواقعية تتصل بالسيد زكّا نفسه فتجعل الافتراض صحيحاً. فالسيد إيليا زكّا خريج معهد المعلمين العالي في الناصرة (السيمنار الروسي). وهذا مكنه من إجادة اللغة الروسية. وكان هذا الأمر مهماً في تلك الأيام، لأن الشيوعيين الأوائل في فلسطين هم في معظمهم من اليهود المهاجرين من روسيا، ثم الاتحاد السوفياتي بعد ذلك. وربما ساعدته اللغة على الاتصال بهم و عرض خدماته عليهم، بما في ذلك تقديم خدمات طباعية لهم، فتعرف بسبب ذلك الاتصال على الحزب وعلى مبادئه. وتمكن بسبب ذلك من المحافظة على علاقته مع القنصلية الروسية في القدس ، خصوصاً بعد أن أصبحت بعثة تمثيلية للنظام الجديد في روسيا بعد انتصار ثورة 1917م.
ويكون ذلك ممكناً حتى لو صدقنا ما كان يوصف به السيد زكّا من قبل القوميين الفلسطينيين وكذلك بعض اليهود، من صفات سيئة مثل: مصلحية وانتهازية وغيرها؛ وما يطلق عليه من ألقاب بذيئة؛ وكذلك حتى "لو كان السيد زكّا يصدر جرائده بخطط متنوعة تتمايل ذات اليمين وذات اليسار "، لغرض مصلحي فلماذا لا ينتسب إلى الحزب ولغرض مصلحي أيضاً ويحقق مكاسب مالية من تقديم خدمات طباعية وصحافية ودعائية للحزب الشيوعي، وتظل علاقته التنظيمية بالحزب مرهونة بدوام حصوله على المكاسب المادية والنفعية الأخرى التي يحصل عليها من الحزب مقابل استفادته من عضوية السيد زكّ في الحزب ومن استعمال التراخيص الرسمية التي يمتلكها في خدمة احتياجات الحزب الصحافية والطباعية المختلفة؟!
لقد أوكل الحزب إلى الرفيق إليا زكّا (بغض النظر عن كل الالتباسات في العلاقة بينهما والدوافع الفعلية لعلاقة زكّا الحزبية) مهمة إصدار صحيفة حزبية باللغة العربية تضطلع بوظيفة توصيل سياسة الحزب وموافقة من مختلف القضايا الوطنية والطبقية إلى الجماهير الفلسطينية العربية. وتقوم في الوقت نفسه بتطوير معارف وملكات رفاق الحزب الفكرية والثقافية، وتقدم إجابات واضحة ومقنعة على الأسئلة المطروحة في الشارع حول القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والنقابية وقضايا العمال والفلاحين... الخ، وكذلك الوجود الاستعماري البريطاني في فلسطين، وضرورة النضال ضده حتى تتمكن فلسطين من نيل الاستقلال وإقامة نظام الحكم الديمقراطي فيها.
وصدرت مجلة حيفا (في مرحلتها الثانية) كصحيفة حزبية يسارية باللغة العربية بتاريخ 21 تشرين الأول (أكتوبر) سنة 1924م في مدينة حيفا الفلسطينية. وكانت بذلك أول صحيفة يسارية عربية، لأن الصحف الخاصة والحزبية التي كانت تصدر في فلسطين في تلك الأيام كانت سياسية عامة، وطنية أو قومية تتناول القضايا العالية والطبقية في إطار تناولها العام للقضاياالوطنية أو القومية التي تهتم بمتابعتها ومعالجتها.
وترى بعض المصادر أن إصدار مجلة حيفا للاضطلاع بهذه المهمة الكبرى اقتضى ضرورة أن يتوفر كل ما يمكن من العوامل والعناصر اللازمة لتمتعها بقابليات خاصة ضرورية وأساسية لآليات عمل المهمة التي كانت بكل تأكيد أكبر من الإمكانيات والقدرات المهنية والسياسية والفكرية للسيد إليليا زكّا. وهذا ما يؤكد على أن صدور مجلة حيفا في هذه الفترة وللقيام بمثل هذه الوظيفة، كان بناءاً على اتفاق بين الحزب أو بعض أعضاءه. وهذه السياسة كانت متبعة لدى الكثير من الأحزاب الشيوعية العربية في فترات تأسيسها وذلك تفادياً للمصاعب التي يتوقع أن تضعها الحكومات الرسمية في طريق الأحزاب لمنعها من من الإنطلاق. وكانت هذه السياسة توفر من جانب آخر الحماية القانونية للتحريض السياسي الذي ستقوم به الصحيفة الحزبية باعتبارها صحيفة رسمية وتعمل بموجب ترخيص رسمي من الحكومة...
استمرت مجلة حيفا طيلةفترة صدورها في المرحلة الثانية وعمرها والتي بلغت 23 شهراًكصحيفة يسارية عمالية تعنى بالشؤون الوطنية والطبقية في مجالات تكثفها المختلفة على المستويات السياسية والإجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية. وتعالج قضايا العمال والفلاحين والنقابات. وتدعوا إلى النضال المشترك الفلسطيني العربي – اليهودي ضد الاستعمار ومن أجل الاستقلال الوطني وإقامة نظام الحكم الديمقراطي في فلسطين. وقد عالجت المجلة هذه القضايا والمسائل بكيفيات مهنية مختلفة بعضها كان مقنعاً وبعضها كان إشكالياً والتباسياً وبعضها الثالث مرتبكاً. وطال هذا التفاوت في المستوى والاختلاف في التقييم ومعظم المواضيع التي عولجت فيها خصوصاً مفهوم الاستقلال الوطني ومرتكزاته والمسألة العلاجية والاستيطان اليهودي، والنضال المشترك واتحاد الكادحين، والمسألة الفلاحية وقضايا التعريب ومفهوم الحزبية والديمقراطية. وحيث أن الصهيونية والمسألة الوطنية الفلسطينية هما القضيتان الأكثر مروراً في خلافية معالجتهما في هذه المجلة في الموقف الفلسطيني السائد كان من الأهمية مناقشة تناول المجلة لكل منهما، وذلك في اتساق فكري وسياسي.






حيفا والصهيونية
تحضر الصهيونية بشكل رئيس ولكن ليس كأولوية في تراتبية اهتمامات معالجة مجلة حيفا لمختلف الأوضاع الفلسطينية تلك التي تتصل بفلسطين. كما أن تَعرّض المجلة للقيادات الصهيونية بارز في واجهة وثنايا مقالاتها ومواضيعها وتعليقاتها، انطلاقاً من الاعتقاد بأن "الصهيونية حركة رجعية بورجوازية أريد لها أن تؤدي دوراً لا أحد يعلم بدقة عن مدى خطورة نتائجه على المنطقة؛ ولكن هذه الهجمة ليست ملموسة الخطر بقوة، ولا يسلط عليها الأضواء بالقدر الذي تستحق، فيما يبرز التناقض الرئيسي مع الإمبريالية البريطانية ".
وإن هذا الإهتمام والبروز والتحديد الصارم للتعريف بالصهيونية ودورها وخطرها يبدو متناقضاَ في موقف المجلة، كما هو الحال في موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني أيضاَ. ولكن هذا التغاير الذي هو تعبير واضح من التناقض في مثل هذه الحالة، لا يمكن فهمه إلا في إطار إعادته إلى أسبابه الحقيقية التي تعود إلى وجود ارتباك جبري ومعقد في القناعات الأيديولوجية للحزب في بعض ما يتصل بالصهيونية مرتبكاَ، وذلك بسبب ما علق بأيديولوجية رفاق القيادة من أفكار مشوشة عن الصهيونية نتجت من اختلاطات الأفكار الموروثة من الجذر الحزبي الانتسابي للقيادة في صفوف الحزب الاشتراكي العمالي وحزب بوعالي تسيون، حيث كان الخلط قائماً بين الأوهام والأيديولوجيات التي تجمع بين الماركسية والصهيونية؛ والتي لعبت دوراً مركزياً في إفشال محاولات الحزب المتلاحقة بشأن التعريب بدءاً من عام 1924م بعد أحداث العفولة ومروراًً بأعوام 1929م و 1931 وحتى عام 1936م.
وشكل هذا الفهم منطلقاً لاقتصار عمل الحزب المكثف على تفنيد ما يتصل بالصهيونية في مواقع العمال اليهود وداخل المؤسسات والمجالس والنقابات اليهودية. وربما يعود ذلك إلى الرهان المضمر لدى قيادات الحزب في وجود قدرة ثورية لدى المهاجرين اليهود لا يمتلكها ولا يتأهل لامتلاكها أحد غيرهم في البلاد. وقد خلق هذا الإعتقاد لدى قيادة الحزب أوهاماً وانحرافات مميتة عبر عنها بتعويل القيادة على العمال اليهود للعب دور بلشفي على غرار الثورة الروسية. وكان على مثل هذا التوهم أن يجيز لأي من قيادة الحزب أن يتصور وهماً ذاتياً عن طبيعة بروليتارية للثورة في الأوضاع الراهنة لفلسطين .
استغرق الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) وقتاً طويلاً ومضنياً لبلورة متطلبات تشكّله وإعلان انطلاقته الحزبية وقبوله عضواً في الأممية الشيوعية (الكومنتيرن) استناداً إلى توصيات مؤتمرها الثالث (حزيران – تموز 1921م). واستغرق الحزب وقتاً أطول لتحديد موقفه من الصهيونية بشكل نهائي وحاسم وبذل في سبيل ذلك الجهد أيضاً. وكان كل واحد من الاستغراقين منطقياً برغم ما يستحوذ عليه من مرارة، حيث تحدد في قبول الاشتراطات التي وضعها الكومنتيرن لإكساب الحزب (ب.ك.ب) عضويته، ضرورة قطع صلات الحزب بالنظريات والاتجاهات الصهيونية؛ من جهة، وأن يدين الحزب المشاريع الصهيونية الاستعمارية المسخّرة لخدمة الاستعمار البريطاني في فلسطين من جهة أخرى؛ والمبادرة إلى اتخاذ الإجراءات الحاسمة ضد الانعزاليين البورجوازيين الصغار، وذلك لأن محاولة صرف أنظار الجماهير الكادحة اليهودية عن الصراع الطبقي بالترويج لفكرة الاستيطان اليهودي الواسع النطاق في فلسطين ليس مشروعاً قومياً بورجوازياً صغيراً فحسب، وإنما هو أيضاً مشروع معاد للثورة من حيث نتائجه في حال تحمس جماهير واسعة له وصرف أنظارها عن النضال ضد مستغليها من اليهود وغير اليهود (37).
إن التزام الحزب بسياسة وموقف الأممية الشيوعية من الصهيونية ومن مشروعها الفلسطيني لم يكن أمراً سهلاً، وذلك لأن الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) كان قد تكون من عناصر ومجموعات وفرق منضوية في الحزب العمالي الاشتراكي أو متحالفة معه. وهي بمجملها تقريباً منشقة على حزب بوعالي تسيون منذ فترة مبكرة، إلا أن هذه المجموعات والفرق لم تستطع التخلص نهائياً من الترسبات القومية – الصهيونية، ولذلك ظل الحزب داخل (الغيتو اليهودي) حزباً للأقليات الإثنية اليهودية في فلسطين؛ فيما وضعته أيديولوجية البروليتاريا الصهيونية في يسار الأحزاب الصهيونية. وكان من تداعيات ذلك المباشرة، إقحام الحزب في إشكالية تناقضية، فهو من جهة يتناقض مع المؤسسات الصهيونية، وهو في الوقت نفسه عاجز عن أن يكون حزباً جماهيرياً ووطنياً واسعاً. وكان الحزب مرغماً على حل هذه الإشكالية لأنها تضع مصيره ومستقبل شيوعية قيادته في مهب الريح وذلك لأن للكومنتيرن موقفاً لا مهادنة فيه على هذا الصعيد .
وأدرك حزب (ب.ك.ب) مدى الخطورة التي تتهدده إذا لم يعكس دقة عالية في ديسبلينيته وتمثله للقرارات الشيوعية الدولية، وخصوصاً فيما يتصل بالموضوعات الفكرية والنظرية.
ويقول المؤرخ والترلاكور في كتابه "الشيوعية والقومية في الشرق الأوسط" الصادر بالإنجليزية عام 1961م في لندن حول هذه المعتقدات الفكرية وتأطيراتها النظرية وصيغ كيفيات تطبيقها في المجالات السياسية والوطنية المختلفة المتعددة"، أن الأممية الشيوعية قد تأسست أصلاَ لتكريس هذه المفاهيم كعقيدة لا يعتنقها ويناضل من أجل تحقيقها الشيوعيون فحسب، وإنما جميع المناضلين من أجل الحرية، وفي مقدمتها أحزاب وقوى حركة التحرر الوطني في البلدان المستعمرة".
هو يرى من جانب آخر أن الأممية الشيوعية قد جاءت كرد ثوري على الانتهازية والشوفينية القومية التي جسدتها عملياً مواقف الحركة الاشتراكية – الديمقراطية في الأممية الثالثة التي كانت قد سارعت لبيع نفسها لبورجوازيات بلادها ودعمها لحكمها وأنظمتها أثناء الحرب الكونية الأولى؛ برغم أن تلك الأنظمة والحكومات البورجوازية كانت قد اتخذت خطاً شوفينياً – انتهازياً ضد شعوب المستعمرات وضد عمال وبروليتاريي البلدان الأخرى.
ومنذ المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية الثالثة كان الهم الأول منصباً على استكمال القطيعة مع أحزاب وسياسات الأممية الثانية. وقد رأت قيادة الأممية الثالثة أن تمكن المؤتمر من الموافقة على "الشروط الواحد والعشرين المطلوب الالتزام بها من أي حزب شيوعي أو عمالي لانضمامه إلى الكومنتيرن إليها والحصول على عضويتها، تُعدّ نجاحاً كبيراً للمؤتمر". فقد تكرس بموجب هذه الشروط الاعتراف بشرعية حزب (ب.ك.ب) كحزب شيوعي فلسطيني، وحسم موضوع موقف الشيوعية من الصهيونية بشكل نهائي.
وتأسس الموقف الفكري الذي عكسته مجلة حيفا حول الصهيونية وارتباطاتها وعلاقاتها ومشروعها في فلسطين،على مدلولات الفهم النظري والتطبيقي لموقف الأممية الشيوعية وقراراتها على هذا الصعيد، خصوصاً "الشروط الواحد والعشرين" التي شكلت خارطة طريق يساعد السير على هديها توفير إمكانية تفسير الإشكاليات والالتباسات في أوصاف وتلوينات ما يسمى أحزاب يسار الصهيونية. وذلك لأن هذه الشروط مست في أكثر من جانب من بنودها أسس أيديولوجية حزب بوعالي تسيون وطابعه القومي تنظيمياً. كما مست على صعيد آخر التعابير المحلية للتنظيمات العمالية اليهودية في فلسطين.
إن متابعة الموضوعات التي نشرتها مجلة حيفا عن الصهيونية وما يتصل بها بقراءة استشرافية، سترينا بأنها قد تمثلت إلى حد بعيد منظرياً نظومة المواقف الماركسية – الليننية التي عكستها قرارات مؤتمرات الأممية الشيوعية، وما انبثق عنها في الاجتماعات الفرعية المتخصصة التي عقدتها مؤسسات الأممية الشيوعية كلما استدعت الضرورة ذلك.
وتشير هذه القراءة إلى موضوعات مجلة حيفا المنشورة في مختلف أعدادها قد تعمدت غضَّ الطرف عن الصيغ التي تنتجها على الأرض بشكل عملاني كيفيات تطبيق المكان اليهودي للإطروحات الصهيونية، خصوصاً عندما يكون الأمر متعلقاً بنشاط حركة الاستيطان اليهودي وإقامة الموشافات والقرى والزراعية، وخصوصاً المؤسسات الصهيةنية على امتيازات استثمارية بأشكال مختلفة من سلطات الانتداب البريطاني بما في ذلك تسهيلات توسع ملكية اليهود للأراضي الفلسطينية كنتيجة للنجاح في الحصول على هذه الامتيازات، وغيرها.
وثالثة الأثافي في مواضيع مجلة حيفا غياب الهجرة اليهودية في فلسطين كمرتكز رئيس في العقيدة الصهيونية من أي هذه المواضيع بما في ذلك التغطيات الإخبارية، باستثناء بعض الأخبار التي تتصل بمعاناة المهاجرين اليهود الجدد من قبل السلطات الحكومية. وتخلو مجلة حيفا من أي موضوع صحافي يستعرض الهجرة اليهودية إلى فلسطين وإبعادها وموقعها في حذف المخطط الاستعماري وأثرها التدميري على الموقف المبدئي من موضوع حقوق الشعوب في التحرر والاستقلال الوطني وتقرير المصير...الخ.
وتتكئ المضامين العامة لموضوعات ومواقف مجلة حيفا من الصهيونية بشكل رئيس على الوثيقة التي كان قد تقدم بها فلاديمير لينين إلى المؤتمر الثاني للأممية الثالثة (آب 1920م) حيث اعتبرت وثيقة المؤتمر الرئيسة حول الصهيونية. فقد أدان لينين في وثيقته، الصهيونية إدانة كاملة وشاملة بعد أن فصّل فيها النزاعات القومية البورجوازية لدى الأحزاب الصهيونية اليسارية، وعلى الأخص حزب بوعالي تسيون؛ وحدّد بدقة أساليب الخداع والتضليل التي تمارسها تلك الأحزاب ضد العمال والكادحين اليهود. وجاء في الفقرة السادسة من الموضوعة الحادية عشرة المتعلقة بـ "حول المسألة الوطنية ومسألة المستعمرات "في تلك الوثيقة تشبيهاً لتلك الأضاليل والخداعات بما" تمارسه على الطبقة العاملة في البلدان المضطهدة قوى الحلفاء الاستعمارية وبورجوازيات هذه البلدان – نذكر مشروع الصهاينة في فلسطين، حيث تعمل الصهيونية، بحجة إنشاء دولة يهودية في فلسطين التي يشكل اليهود نسبة لا تذكر من سكانها – على إخضاع السكان الأصليين من الكادحين العرب لنير الاستغلال الإنجليزي.
ووجدت مواقف مجلة حيفا مرتكزات إسناد أخرى للموقف النظري الذي تبنته من الصهيونية وما يتصل بها،أكثر حسماً كان أبرزها ما اشتمل عليه " نداء مؤتمر باكو لشعوب الشرق الذي انعقد في أيلول سنة 1920م في مدينة باكو بهدف توطيد تحالف الثورة البلشفية والحركة الشيوعية العالمية مع الشعوب المستعمرة في الشرق. وقد جاء في ذلك النداء إدانة خاصة للصهيونية وتحديداً لطبيعتها كحركة استعمارية استيطانية في فلسطين، وكحركة موظفة في خدمة الاستعمار البريطاني في آن واحد .
وتقتضي أمانة البحث القول أنه رغم تغييب التركيز على موضوع الهجرة اليهودية في فلسطين لأي سبب كان في إعداد مجلة حيفا المختلفة، فإن الهجرة الصهيونية إلى فلسطين كانت من المواضيع التي تناولتها المجلة بحساسية عالية، وعلى قاعدة موقف الحزب من الحركة الصهيونية باعتبارها حركة رجعية مرتبطة بالاستعمار الأوروبي. وغالباً ما شددت المجلة على موقفها على هذا الصعيد من خلال تركيزها على إبراز المواقف التي تبين حقيقة الصهيونية ونستظهر أخطار برامجها الفادحة في تضليل يهود العالم بالهجرة إلى فلسطين، وذلك انطلاقاً من أن هذا الخط يقدر ما يمس الفلسطينيين العرب وحقهم في تقرير مصيرهم فهو يمس بالقدر نفسه المستقبل الخطر الذي يتهدد اليهود.
واعتمدت المجلة سياسة نشر المواقف التي تتوافق معها حول الموقف من الصهيوينة وأبعاد خطورة برنامجها، بعناية واهتمام وتقدير. ويقال في هذا المجال أن من بين أهم الأحيان الكثيرة التي تناولت مجلة حيفا فيها الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، نشرها مبادرة الحكومة السوفيتية بإطلاق مشروع توطين اليهود في القرم. وقد ذكرت فيه: "... إن حكومة العمال والفلاحين أعطت مبلغ 400 ألف رويل ذهب لأجل مشروع توطين الإسرائيليين في القرم. وهذا هو القسط الأول من المليون الذي وعدت بدفعه في سبيل هذا المشروع. إن الحكومة الروسية هي الوحيدة التي اعترفت منذ الابتداء بخطر الفكرة الصهيونية على فلسطين وعمالها وفلاحيها، خصوصاً أنها بذلت ولا تزال تبذل كل ما لديها من الوسائط المادية والمعنوية من أجل إحباط المساعي الصهيونية.
ولا عجب في أن الصهيونيين في هذه البلاد يقشعرون لذكر روسيا وحكومتها وينقمون على كل من ينتمي إليها ويسعى في تنفيذ خطتها هذه ".
رغم قلة تركيز مجلة حيفا على مخاطر الهجرة إلى فلسطين وإغفالها نهائياً في بعض الأحيان لأسباب غير موثقة رسمياً كتعبير عن مواقف وسياسات، وتأثير ذلك على مستوى بنّاء وفي الملتقى من أعضاء الحزب وأنصاره حول الهجرة اليهودية، فإن موقف الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) من الصهيونية لعب دوراً مركزياً في التأسيس إلى "ضرورة توجه الحزب نحو الجماهير الفلسطينية وكذلك نحو القيادة العربية". وكان ذلك مؤشراً هاماً على تطوير موقف الحزب من المسألة الفلسطينية وعلى إمكانية تحوله في المستقبل إلى مكوناتها الرئيسة، حتى عندما يكون ذلك انطلاقاً من مواقف الحزب الطبقية التي يمكن أن لا تتسم بالدقة في ذلك الوقت لأسباب تتعلق بظروف الحزب الذاتية وبآليات حراكه ونشاطه وفق ما تتيحه الظروف الموضوعية السائدة.
ويدل على وجاهة رأى الحزب على هذا الصعيد، ما كان قد كتبه جوزيف بيرجر أحد قادة الحزب في إحدى أدبيات الحزب الشيوعي الفلسطيني الصادرة في نيسان (إبريل) 1925م، حين يقول: "... إننا لا نستغرب كون الحركة الوطنية العربية موجهة ضد الصهيونية في الأساس، لأنه طالما استمر كبار الملاكين العرب الإقطاعيين من الأغنياء في الوقوف على رأس هذه الحركة، فإنها ستظل تحاول منافسة المنظمة الصهيونية في كسب رضا الحكومة البريطانية بدل قيامها بقيادة النضال ضد الحكم الإنجليزي. والحركة الوطنية الفلسطينية لم تتبنّ أية سياسة حازمة في النضال ضد الاستعمار البريطاني إلا عندما (...) أجهرت الحكومة البريطانية علناَ بوقوفها إلى الجانب الصهيوني... ".







المسألة الوطنية
ينحدر الجذر البعيد للمعتقدات الأيديولوجية لمؤسسي وأعضاء الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) الأوائل إلى مفهوم العقيدة الشيوعية عند الاشتراكيين واليساريين اليهود، الذين قدموا من بلدان شرق أوروبا في إطار موجات الهجرة اليهودية المتعاقبة على فلسطين، وفق برنامج الحركة الصهيونية العالمية لإقامة وطن قومي لليهود مهيأ استئناساً بقرارات المؤتمر الصهيوني الأول الذي انعقد في مدينة بازل بسويسرا سنة 1897م.
ويمكن القول أن بعضهم قد تشجع للمهاجرة إيماناً منه بأنه سيحل في أرض بكر وبلا سكان وإنه يمكن أن يحقق حلمه بإقامة نظام شيوعي في تلك الأرض التي ستصبح وطناً قومياً لليهود.
ومع أنه من غير المنطقي تصديق أي نوايا من هذا النوع وقفت وراء هجرة بعض اليهود إلى فلسطين، لأنها مبنية على الوصول إلى استنتاجات مبنية على تحليل لمعلومات هي بالأساس افتراضيه، ويصبح منطقياً مثل ذلك إذا كان (اليساريون) اليهود المؤطرين فيها يتساون ويتماثلون في وعييهم الفكري مع (اليمينيين) اليهود، فيصبح في ضوء ذلك من المنطقي تصديق نوايا بعض يسار الصهيونية حول دافعه إلى الهجرة وأسبابه؛ للإنخراط في هذه العملية بشكل تسليمي لا يكلفه شيئاً بما في ذلك حتى عدم إجهاد نفسه في تفسير المعطيات المغايرة التي وجدها قائمة في البلاد وأصبحت تحيط بواقع حياته اليومية في فلسطين؛ وهي بالمناسبة كثيرة من بينها اكتشافه بعد وصوله إلى البلاد والإقامة فيها وجود سكان من يهود غير صهاينة يمثلون أقلية سكانية وطنية إلى جانب أقلية وطنية أخرى مسيحية وأكثرية إسلامية، ويتعايشون كلهم كمواطنين فلسطينين بأخوة وسلام في هذه الأرض.
ثم إذا كان هذا الأمر صحيحاً بمعنى أن دوافع هجرة (اليسار) لم تكن استلابية استيطانية، فلماذا لم يقف اليسار الصهيوني وقد وجد في الواقع معطيات مغايرة تماماً لتلك التي دفعته للهجرة، ويوجه نداء الحقيقة إلى يهود العالم عن فلسطين باعتباره قد أصبح جزءاً من المكونات السكانية في البلاد، ويرفع شعار المطالبة وقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين باعتبارها اعتداءً يمس الحقوق الوطنية لسكان البلاد.
إن المعطيات المغايرة في واقع فلسطين، التي اكتشفها المهاجرين اليهود قد أحدثت صدمة كبيرة لدى كثيرين منهم، دفعت ببعضهم إلى إعادة النظر في موضوع خيار توطنه في فلسطين، وفي هذا السياق فقد سمعنا عن الهجرة المعاكسة لخائبي الأمل الذين اعتبروا أنفسهم قد ضللوا بقبولهم الهجرة إلى فلسطين، ومع أنه يقال بأن الهجرة المعاكسة كانت محدودة ومقتصرة على عدد من المثقفين اليهود، وأنه يمكن أن يكون من بينهم شيوعيون ويساريون؛ فإن الوقائع التاريخية لم تشر إلى أي هجرة معاكسة للشيوعيين (باستثناء بعض الحالات الفردية المحدودة جداً) حصلت بالاستناد إلى موقف عقائدي، برغم مزاعمية الخلاف العالية لهم مع الصهيونية الكولونيالية.
وإذا كانت المعطيات التاريخية تدلل على جوانب كثيرة من الانتهازية والديماغوجيه اللامبدأية في سلوك يسار الصهيونية، إلا أن تفاعل المزاودة بين الاتجاهات الفكرية الصهيونية في مناخ التطرف في العداء للفلسطينيين العرب، والانهماك التبارزي بين هذه التيارات في خطط الاستعمار البريطاني باعتباره رافعة للبرنامج الصهيوني لإقامة الوطن القومي لليهود في فلسطين؛ قد جعل عملية تبلور اليسار الماركسي مسألة في غاية التشويش والتعقيد، حتى عندما عبرت عنه نزوات إقامة تنظيم شيوعي في فلسطين لا يأخذ في حسبانه انضمام الفلسطينيين العرب إلى عضويته، وتمكنه أخيراً من تشكيل حزب بوعالي تسيون باعتباره الحزب الشيوعي حيناً، والحزب العمالي الاشتراكي ثم الحزب الشيوعي اليهودي... الخ حيناً آخر. واستمر هذا التشوش والارتباك إلى أن حسم المؤتمر الثاني للأممية الشيوعية الثالثة الأمر بتحديد شروط تحقق شيوعية أي حزب يمكن أن يقبل في عضويتها. وكانت النتائج المباشرة لذلك انعقاد المؤتمر الشيوعي الرابع وإعلان الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) كحزب لجميع الشيوعيين من منتسبي الإثنيات والديانات من سكان فلسطين؛ وخصوصاً العرب واليهود.
إن قراءة استشرافية لتطورات واقع الشيوعيين واليساريين من منظور جيو– بوليتكي أيديولوجي واجتماعي معاً تشير بسهولة إلى إن مفهوم "المواطنة" وتعريف "الوطن" عند كل اليساريين اليهود، قضيتان غمائميتان ملتبستان عندما يتخطى مفهوم كل منهما في أي أفق خارج "إطار الوطن القومي اليهودي" الذي لا اعتبار لعربي أو لمن هو غير يهودي فيه.
ومن هنا فقد خلت جميع أدبيات حزب بوعالي تسيون، وكذلك الحزب الشيوعي اليهودي، والحزب الاشتراكي العمالي من أي مهام يتطلب من كل منها خوضها ضد الاستعمار البريطاني، أو النضال من أجل إنهاء الاحتلال البريطاني للبلاد، وإنجاز التحرر الوطني والاستقلال. وكذلك خلت برامجها من أي مهام نضالية ضد الحركة الصهيونية بصفتها حركة كولونيالية ومرتبطة بالاستعمار وحليف له في فلسطين.
وكان البرنامج الكفاحي للحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) الذي أعلن عن تأسيسه من رحم مجموعات وأحزاب اليسار الصهيوني،مرشحاً للاستمرار في أن يظل خالياً من هذه المهام لولا اشتراطات الكومنتيرن الثالثة على ضرورة وجود ذلك، واعتبار شيوعية أي حزب لا تتحقق إلا إذا التزم بذلك. وحينما آثر بوعالي تسيون أن يكون قبوله لهذه الشروط شكلانياً رفضت عضويته في الكومنتيرن، فسارع (ب.ك.ب) لإعلان قبوله بتلك الشروط، فتمتع بالشرعية الشيوعية برغم ما يخشى على حقيقتها من الانتهازية الصارخة التي مورست من أجل الحصول عليها.
لقد وجد الحزب نفسه مجبراً بسبب ذلك على إعادة النظر في سياسته وصوغ برنامج توائمي مع اشتراطات الكومنتيرن بشأن وطنية الحزب، والموقف من الاستعمار البريطاني، ومن الكولونيالة الصهيونية، والنضال المشترك اليهودي_ العربي ضد الاستغلال الطبقي والاستعمار البريطاني، ومن أجل التحرر الوطني والاستقلال.
وواجه الحزب مصاعب كثيرة في سيره على هدي البرنامج الجديد. وتعرض بسبب ذلك لأكثر من ضربة قوية كادت أن تودي به، لا سيما عندما اعترضت نسبة كثيرة من رفاق الحزب على الخط السياسي الجديد، وفضلت يسار الصهيونية على الشيوعية الفلسطينية، فعادت إلى حزب بوعالي تسيون .
إن التشويشات والالتباسات الأيديولوجية لأحزاب اليسار الصهيونية التي انبثق منها بكيفيات مختلفة الحزب الشيوعي (ب.ك.ب)، قد انعكست على مفاهيم التحرر الوطني والنضال الاستقلالي في برنامج الحزب؛ فبدت مترددة ومرتبكة وأحياناً غامضة أيضاً. وتمثلت تلك الالتباسات بتجليات واضحة في موقف حزب (ب.ك.ب) من أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية وبرامجها، ومن فعالياتها الكفاحية برغم أن بعضاً منها كان أهدافاً كفاحية للحزب راهنة ومستقبلية.
تعامل الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) مع اشتراطات الأممية الشيوعية الثالثة حول المسألة الوطنية الفلسطينية بارتباك ووجل شديدين، وبما يشبه الحيادية في بعض الأحيان. وتعامل مع الحركة الصهيونية باعتبارها "قدراً لا راد له"، ولكنه مع ذلك أجهد نفسه في البحث عن كيفيات "اللطف فيه". فحيث سعى لإثبات ما يؤكد على أنه "حزب شيوعي لجميع السكان في البلاد" من خلال تبنيه لفكرة ما اصطلح على تسميته بالتعريب، وممارسته له، معززاً بنشاط ملحوظ على الصعيد الشعبي، فقد أرفق الحزب ذلك النشاط بتحرك إيجابي وحثيث باتجاه القيادة السياسية الوطنية للجماهير الفلسطينية العربية، مؤملاً صوغ علاقة تنسيقية معها في فعاليات كفاحية يتعرف من خلالها على حقيقة همومها واهتماماتها الوطنية وعلى درجة معاناتها من العسف والقهر الطبقي، وكذلك على العناصر والكوادر المتنورة والمتقدمة في هذه القيادة والتقرب منها بهدف ضمها إلى جانب الحزب وخطه السياسي. وبرغم عدم تبلور الحركة الوطنية الفلسطينية في تلك الفترة، وخضوعها لرهان مساعدة السلطات البريطانية لها على الصهيونية، إلا أن نويات ذلك التبلور بدأت في الظهور على أثر الانشقاق الذي عصف بقيادة الحركة الوطنية، بقيادة راغب النشاشيبي، وسليمان التاجي الفاروقي؛ حيث ظهر اتجاه في الحركة الوطنية الفلسطينية ينادي بضرورة تحقيق الاستقلال السياسي الفلسطيني، ويعمل على تخفيف ارتباط الحركة الوطنية ببريطانيا.
وقد ساعد هذا التحول على رغم محدوديته الحزب الشيوعي في أن يقيم بعض العلاقات مع القيادة السياسية للبلاد. وبالفعل فقد حدثت لقاءات ومحادثات بين الحزب وبعض القوميين الذين لهم اتصالات معينة بالمتطرفين العرب داخل إطار اللجنة التنفيذية. ومن بينهم السيد جمال الحسيني، وكان من المنطقي أن تقوم هذه اللقاءات على قاعدة توحيد الجهود لمقاومة الاستعمار البريطاني والاستيطان الصهيوني ودعوة الجماهير للمشاركة الواسطة بالنضال من أجل تحرير فلسطين.
وقد حققت هذه المحادثات بعض النجاح، إذ توصل الطرفان بنتيجتها إلى تشكيل "منبر مشترك" لطرح القضايا المشتركة المتفق عليها. وكانت هذه الاتصالات والاجتماعات قد لقيت من الحركة الشيوعية العالمية اهتماماً بالغاً. انعكس بشكل واضح في مضمون الرسالة التي وجهها الكومنتيرن إلى الحزب سنة 1925م، حيث تضمنت الرسالة أسئلة جادة حول سير المفاوضات مع ممثلي الأحزاب الوطنية العربية، وعن ما جرى التوصل إليه معها. وحذرت الرسالة من مغبة ما تقوم به اللجنة التنفيذية للحركة الوطنية العربية من ممارسات سياسية انتهازية ومتناقضة، "فحيث هي تتفاوض مع الشيوعيين وتتفق معهم على تشكيل منبر نضالي مشترك ضد الانتداب البريطاني ووعد بلفور ومن أجل الاستقلال والديمقراطية، فإن أياً من المندوبين العرب الذين أرسلتهم اللجنة التنفيذية إلى لندن لم يتفوه ولو بكلمة واحدة ضد الانتداب البريطاني....ولذلك فعليكم أن لا تترددوا في فضح الطبقة الإقطاعية البورجوازية لقيادة هذه المنظمة الوطنية" .
إن تقدير الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) لأهمية العلاقة مع الحركة الوطنية العربية ينطلق من اعتبار أن تحقيق أية نجاحات في هذا الاتجاه ستوفر للحزب ديناميكيات عمل استقطابي واسع بين الجماهير العربية تدعم قوته، وتنحاز في النهاية إلى خط الحزب وتوجهاته. وكان الأجدر به أن يستغل مجلة حيفا كأداة لتحقيق ذلك، ولكن متابعة أعداد المجلة تؤشر إلى أن الحزب لم يعكس هذه الأهمية في مواضيع متابعة ومقالات تثقيفية وتعبوية، وتعليقات رأي...الخ كتبها قادة الحزب ورفاقه ومؤيدوه أو ترجموها عن لغات أجنبية، ونشروها في المجلة لتعميق هذا الفهم على المستويين الحزبي والجماهيري معاً. وما هو أكثر من ذلك أن المواضيع التي هي من هذا النوع والمنشورة في المجلة تشير إلى أن هذه المسألة بدت وكأنها ليست رئيسة في أولويات الاهتمام، بدليل قلة الموضوعات التي تناولتها أو عالجتها. وحين كان مثل ذلك ضرورياً ويجب أن يكون بارزاً، فقد وجد منزوياً في طيات صفحات المجلة الداخلية، وبلا حيوية.
ومن جانب آخر ركزت معظم أبرز الموضوعات المنشورة حول المسألة الفلسطينية على نقد قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية (اللجنة التنفيذية وموسى كاظم الحسني)، انطلاقاً من الاختلاف معها حول توصيف المسألة الوطنية والبرنامج النضالي وتراتبية أولوياته والكيفيات الكفاحية لهذا البرنامج، ومروراً بالعلاقات مع السلطات البريطانية، وبلوغاً لفهم كيفية إقامة العلاقة مع الملوك والحكام العرب، ودوافع وضرورات مثل ذلك.
وفي هذا السياق نجد أن مجلة حيفا قد انتقدت الزيارة التي قام بها موسى الحسيني ووفد اللجنة التنفيذية للمؤتمر الوطني الفلسطيني إلى الشريف حسين بن علي، اعتقاداً من الحزب بأنه ليس في العلاقة مع الحكام العرب أي مقومات دعم لحركة الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، لأن أياً من الحكام في أي يوم من الأيام لم يكن "...ركناً وسنداً متيناً قط.... ولأن الحكام لا أهمية عند أحد منهم للناس الضعفاء البسطاء. وهذا يعني أن طريقكم هنا لا يؤدي إلى الحرية، ولا يجب علينا أن نبحث عمن يساعدنا في نهضتنا بتلك الديار.... فلا من يساعدنا غير اتحادنا وانضمامنا في جبهة النضال المشترك؛ وبذل جهدنا في سبيل العمل الحر. وإننا نقول لأولئك الذين يتجولون.... ويطرقون الأبواب في طلب المساعدة... (أن الأفضل هو أن) اقتربوا من الشعب وتنازلوا لاستشارته، واطلبوا المساعدة من جماهير العمال والفلاحين بعد أن تخففوا آلامهم وتتمموا مشيئتهم فتهتدوا إلى السبيل الذي بحثتم عنه طويلاً... إن حرية الشعب تخص الشعب فقط، وسيكون اتحاد العمال والفلاحين أقوى زعيم وأبلغ قائد في الجهاد نحو سبيل الحرية والاستقلال ".
وأوضحت مجلة حيفا رؤية الحزب للحراك السياسي الذي يمكن أن يعطي أكلاً في مجال توظيف العلاقات الفلسطينية – العربية في دعم الكفاح الفلسطيني من أجل التحرر الوطني والاستقلال. وركزت المجلة في الوقت نفسه على تقوية الوضع الداخلي كمرتكز رئيس، وتوظيف كيفيات الحراك الأخرى لتدعيمه. وقد قالت المجلة على هذا الصعيد، " كنا نأمل أن نرى ممثلي أمتنا وقد تتبعوا حوادث الأشهر الأخيرة وأن يكونوا اقتبسوا منها ما يعود على سياستهم وعلى القضية العظيمة بالفائدة، غير أن آمالنا بذلك خابت ولم يتحقق ما كان يخالج نفوسنا المضطربة في التخيلات والأوهام الذهبية. إذ ظهر لنا أخيراً أن زعماء نهضتنا لم يعتبروا بالحوادث الحديثة العهد، ولا زالوا متمسكين بخطتهم السياسية العوجاء ".
وأبرزت مجلة حيفا في أكثر من عدد صدر منها، نقد الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) لجدية مواقف اللجنة التنفيذية من السياسة البريطانية التي تعتمدها سلطات الانتداب، وكذلك نقد ضبابية التوجهات الكفاحية في برنامج الحركة الوطنية من الإجراءات الانتدابية التي تطال مصالح الجماهير بشكل مباشر أو غير مباشر. وكذلك نقد الحزب لما هدفت إليه تلك السياسة، وما قصدته السلطات البريطانية من وراء ذلك من أغراض في مقدمتها تحقيق المرامي الكولونيالية في الشرق الأوسط وفق ما استهدفته اتفاقية سايكس – بيكو، وحماية ما ضمنته لبريطانيا من نفوذ ومصالح قصيرة وبعيدة المدى بغض النظر عن الضرر الذي سيلحقه تنفيذ هذه الاتفاقية بشعوب الشرق الأوسط وتطلعاتهم التحررية الوطنية والاجتماعية.
وأوجزت أعداد مجلة حيفا المختلفة رأي الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) من اللجنة التنفيذية معتبراً إياها بأنها تمثل قطاعات من الشعب الفلسطيني، إلا أنها لا تمثل الشعب كله، وذلك لأن نسبة كبيرة من هذا الشعب من مختلف قطاعاته وفئاته وطبقاته لا تتوافق مع سياستها، ولا تعترف بأهليتها التمثيلية وقابليتها القيادية، مهما بلغت من مقومات مستوى الوجاهة العائلية أو الجهوية أو المالية أو القارية.
وفي هذا السياق عكست مجلة حيفا هذا الموقف الحزبي في موضوعات ومواضع كثيرة من أعدادها، وقد تساءلت موضوعات المجلة وتعليقاتها عن أهلية اللجنة التنفيذية التمثيلية بقولها: "أحقيقة أنهم يعبرون عن إدارة الشعب ؟! ".
وجاء تساؤل المجلة بهذا الوضوح عن الأهلية التمثيلية للجنة التنفيذية في أجواء ما أراد موسى كاظم الحسيني التعبير عنه عند إجابته على سؤال اللورد بلومر لوفد اللجنة التنفيذية حول من تمثلون؟، حيث أجابه رئيس الوفد بقوله: "نحن نمثل الأمة العربية".
لقد رأت مجلة حيفا أن الصفة التمثيلية يتمتع بها الممثلون عندما يكونون منتخبين من مؤتمر. و" لا شك أن لجنة تنفيذية ينتخبها مؤتمر عربي لا بد وأن تمثل المؤتمر عامة وبالتالي الأمة أيضاَ. غير أننا لو طالعنا الخطب التي نشرها مندوبو اللجنة التنفيذية في جريدة فلسطين اليافاوية بتاريخ 16 تشرين أول (أكتوبر) 1925م، مخاطبين اللورد بلومر فأنه لا يسعنا إلا الإقرار بأن هؤلاء المندوبين قد أساؤوا استعمال قوة انتدابهم والمسؤولية التي تحملوها من سكان فلسطين العرب. فمتى يا ترى اعترف الوطنيون بالانتداب البريطاني على البلاد ؟...وفي أي زمن رفضوا مطلب الاستقلال التام ؟!.
إننا لا يمكننا أن نذكر من هذا شيئاً مطلقاً..... ولأنه لا توجد رغبة ما تتأجج في قلب كل عامل وفلاح فلسطيني، ولا أمل يتوقد بين الأضلع أكثر من أمل الحصول على الاستقلال التام والوحدة مع سوريا وتكوين حكومة خاصة وطنية بدون أي تدخل أو مراقبة أجنبية. غير أن مندوبي اللجنة التنفيذية ما ذكروا مطلقاً ولا صرّحوا أبداَ بهذه المطاليب الأولية والجوهرية... وكأنهم مَثلوا أمامه لا ليطالبوا بحقوق أمة مهضومة بل ليسألوا هبة وعطية أو يطلبوا رحمة... ولذا فإن مطالب المندوبين وما يمثلون مطالب تخصهم، لأن للشعب مطالب أخرى في مقدمتها الاستقلال الوطني.
ورأت مجلة حيفا أن الزيارة التي قام بها اللورد بلفور صاحب وعد إقامة الوطن القومي اليهودي خلال الفترة من 25 آذار (مارس) حتى 5 نيسان (أبريل) سنة 1925م، قد جاءت في سياق المسألة الكولونيالية البريطانية وكيفيات تطبيق هذه السياسة ومدى النجاحات التي أحرزت على هذا الصعيد.
ورأت المجلة أن " مجيئه ليس سوى مظاهرة إنجليزية ضد النهضة الوطنية العربية. فليعلم كل مخلص يريد حريةالشعب، إن من واجباته المقدسة نحو الأمة... أن ينبذ الآن كل ما فيه ضرر للشعب. ولسنا نخال السواد الأعظم من الشعب العربي إلا مدرك لأهمية موقفه أمام ذلك... )".
وبعد أن سخرت المجلة من موقف اللجنة التنفيذية من هذه الزيارة، خصوصاً لجهة دعوة الصحف الفلسطينية للصدور باللغة الانجليزية (!)، دعت مجلة حيفا اللجنة التنفيذية إلى الإقلاع عن الاستمرار في اعتماد ضبابية المواقف خصوصاً من القضايا الوطنية الواضحة، لأنه لا يعقل أن يقبل من هذه القيادة مثل هذه المواقف في الوقت الذي تدعو فيه الجماهير الشعبية إلى الاحتجاج على هذه الزيارة.
وقد اعتبرت مجلة حيفا أن أيام بلفور في فلسطين "امتازت بتأثيرها المزدوج على عواطف سكان هذه البلاد امتيازاً لم يكن له شبيه في تاريخ الإنسانية منذ تكوينها، لأنها كانت بالنسبة للأقلية الضئيلة من السكان أيام فرح وغبطة واحتفال بمعبودها بلفور. وكانت بالنسبة للسواد الأعظم من السكان أيام حداد وحزن، هاجت فيها عواطفهم وتعاظم حزنهم وتفاقم غضبهم المقدس، فكانت أيام احتجاجات رفعت على بلفور، و ضد مجيئه الذي كان سبباً لاشتعال نيران البغض والحنق في صدور من قضى عليهم بحكمه الجائر المجرد من الإنصاف والحق والعدل والإنسانية... (52)".
وخلصت المجلة في إطار تقييمها الزيارة إلى التأكيد على أن بلفور وحكومة بريطانيا عدو للشعب العربي بأسره. ونبهت في هذه المناسبة اللجنة التنفيذية إلى أنه قد "برهنت لنا حادثة مجيء بلفور أن في الإمكان دخول قضيتنا في طور النجاح لو شئنا حقيقة أن نعمل. ودلّتنا المجريات على إمكان تأليف نهضة وطنية موحدة، وعلى ضرورتها لنسمو بها إلى الحرية. وقد دعانا هذا صراحة إلى واجب تأليف وحدة دون ميزة بين مندحر ومدحور. فالشعب وحده يجب أن يكون المنتصر. ولهذا نوجه نداءنا إلى محبي الأمة والمخلصين للنهضة الوطنية أن أقدموا على تأليف حزب الشعب الصحيح والقويم السير ".
وبمناسبة تعيين اللورد بلومر مندوباً سامياً على فلسطين رأى الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) أن السياسة التي اعتمدتها بريطانيا قد اكتملت فصولها من مختلف الجوانب. ومن جانبها رأت مجلة حيفا باسم الحزب الشيوعي الفلسطيني، بأن بلومر أتى ليحكم هذه البلاد بغض النظر عن حكمه بمطالب أهلها، لأنه يرى أن فلسطين يجب أن تتحول إلى قاعدة حربية خدمة لمصالح بريطانيا في الشرق الأدنى. " فما اللورد إلا موظف بريطاني يعمل للسياسة البريطانية. وعليه ستبقى مطالبة الأمة العربية باستقلالها كما كانت، غير ملتفت إليها". وبالتالي ليس في وسع اللورد بلومر أن يلغي وعد بلفور. قد يمكنه أن يسند بعض المراكز العالية إلى بعض أكابر العرب غير أن مزايا الصهيونية ستبقى نافذة المفعول ومعمول بها كأنها جزء من السياسة البريطانية...
" يجب أن يدرك المندوب السامي الجديد على الفور أن أهالي فلسطين يطالبون بكامل حقهم السياسي وأنهم يطلبون حكومة خاصة تكون من الشعب فتحمي طبقة العمال من الإجحاف بحقوقهم... إن بلومر ما جاء إلى فلسطين إلا للمحافظة على المصالح البريطانية... ". وأن الشعب ليس أمامه سوى مواصلة الكفاح ضد هذه المصالح لأنها تقوم على إلغاء المصالح الوطنية والاجتماعية للشعب الفلسطيني وفي مقدمتها التحرر الوطني والاستقلال وإقامة النظام الفلسطيني الديمقراطي.
إن مداومة الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) على التعاطي مع تفاصيل الواقع الحياتي للجماهير الفلسطينية العربية قد مكّنت قيادته من الحصول على بعض إجابات لأسئلة كثيرة في الواقع الكفاحي الفلسطيني كانت عصية الفهم عليها بعد المؤتمر التوحيدي للحزب، وعند اكتسابه لشرعيته الشيوعية الأممية. وساعد ذلك قيادة الحزب على صوغ سياسات ديمومة التفاعل مع قضايا الجماهير الفلسطينية باعتبارها قضايا محورية في النضال الوطني والطبقي المشترك للجماهير الكادحة اليهودية والعربية معاً.
وكان من الطبيعي في ضوء هذا الواقع الجديد أن يضاعف الحزب نشاطه لاستقطاب العناصر المتقدمة في الحركة الوطنية بغرض دفع العلاقة مع الجماهير العربية الى مستويات أكثر تقدماً. وأن تحول ذلك إلى واحد من الثوابت، التي تمثلها الحزب وذلك بتعزيز علاقاته مع العناصر المتنوّرة في الحركة الوطنية، وبتوسيع اتصالاته مع الوطنيين العرب في مختلف القطاعات. ويبدو أن الحزب بسبب ذلك قد حقق نجاحاً ملحوظاً على الصعيد التنظيمي، وعلى صعيد التأييد للسياسة التي اشتمل عليها برنامجه في المجال التحرري الوطني والطبقي أيضاً .
وتشير المراجع التاريخية إلى أن تطور برنامج الحزب الشيوعي الفلسطيني قد وجد قبولاً لدى بعض العناصر التنويرية من المثقفين والصحافيين وأصحاب الصحف أيضاً، إلى الحد الذي بدا فيه وكأنه قد حقق في هذه الأوساط اقتناعات أسست لتجاوز الدعاية المضادة للشيوعية وللحزب الشيوعي والثقة في صدفته أطروحات الحزب حتى عندما لا يفكر بالإنضمام إليه، "لدرجة أن الصحف الوطنية كالاتحاد العربي وفلسطين قد سمحت بنشر مقالات ذات روح شيوعية. في بعض أعدادها. كما أن صحيفة فلسطين بنشرت في أحد أعدادها تقريراً مفصلاً عن أحد مؤتمرات الحزب. كما قامت في أعداد أخرى بنشر بعض المقالات التي تطرقت للحركة العربية ولظروف عملها، ولم تتأثر الرغبة المتزايدة لدى إدارة تحرير الجريدة بنشر مواضيع من هذا النوع، حتى عندما تحتوي هذه المواضع على بعض مقاطع تدافع فيها عن الجماهير الكادحة. وهو الأمر الذي لم يكن معروفاً حتى الآن في القاموس السياسي العربي والذي من الممكن نسبه إلى مصادر إلهام شيوعية ".
ولم يرى المؤرخون في هذا الأمر شيئاً مستغرباً، حتى في تلك الأوقات المبكرة، مدعّمين رأيهم وموقفهم بمعطيات من الواقع. وكان من بينها مثلاً أن السيد رفيق جبور أحد أعضاء الحزب تحقق له أن يتولى رئاسة تحرير الجريدة في وقت لاحق. وكذلك قام عبد الغني الكرمي أحد أعضاء الحزب بنشر عدد من المقالات فيها . وأخذ مناخ العمل الثقافي والصحافي بشكل تدريجي تلاوين علاقاتية جديدة بدت واضحة في مواضيع وتغطيات الصحف والأنواع الجديدة من الكتب التي صدرت إبان تلك الفترة، وعكست رحابة في قابلية القطاع الصحافي عبر عنها في استيعاب عناصر شيوعية في المؤسسات الصحافية بدون ارتياب أو تخوف. وكان من أبرز تجليات التطور ظهور أسماء شيوعية بارزة في هيئات تحرير الصحف وإداراتها.
وقد ذكرت المصادر على هذا الصعيد أن السيدين عارف العزوني وجبرا نيقولا كانا شيوعيين مشهورين، ومع ذلك أصبحا عضوين في هيئة تحرير جريدة فلسطين ؟
ويستطلع من دراسة مواقف وممارسات الحزب الشيوعي الفلسطيني في عقد العشرينات من القرن الماضي من خلال ما نشر في مجلة حيفا وغيرها من المطبوعات الشيوعية الأخرى، وكذلك من خلال تقييم السلطات البريطانية لها أن الحزب قد أظهر قابليات غير متوقعة في فهم واستيعاب معطيات واقع الجماهير العربية الفلسطينية وتطلعاتها وشفافية استعداداتها للكفاح المشترك. ويمكننا أن نقول في هذا المجال وعلى سبيل المثال عمد الحزب إلى تعميق خط الدعاية لسياسته ولبرنامجه النضالي بين الأوساط العربية، بتغليب أولوية الدعوة للمطالب والأهداف الوطنية على المطالب والأهداف الطبقية، مع التأكيد على عدم إغفالها، أو التنكر لها أو للمطالبة بها كلما كان ذلك ممكناً.
وتؤشر متابعات هذه الدراسة إلى أن الحزب الشيوعي الفلسطيني (ب.ك.ب) أعاد ترتيب أولويات المطالب الكفاحية، فتصدر في مقدمتها بناءً على تلك الإعادة "الدعوة لمقاومة الحكم الأجنبي" و "المطالبة بالإصلاحات الديمقراطية " و "الكفاح من أجل حكم ديمقراطي "، وغيرها. وفي الوقت نفسه حرص الحزب على دقة التعامل والاهتمام بالمسألة القومية، نظراً لما تتمتع به من حساسية في فلسطين.
يستقرئ من بعض الموضوعات والتعليقات المنشورة في مجلة حيفا إلى أن الحزب قد توصل في ضوء تطوير سياسته بين الجماهير الفلسطينية العربية إلى أن الأهداف الكفاحية وفق تراتبية أولوياتها الجديدة يستدعي بالضرورة إشراك أوسع الأعداد الممكنة من الجماهير من مختلف الأوساط والشرائح والطبقات القطاعية والاجتماعية والسياسية في معركة الكفاح من أجل تحقيق هذه الأهداف. وهذا ما دعى الحزب إلى استبدال الشعار الكفاحي "طبقة ضد طبقة" بالدعوة إلى "إقامة الجبهة الوطنية العريضة المعادية للإمبريالية وللمشروع الصهيوني من مختلف الطبقات". وأخذ الحزب يخوض نضالا ته مع الجماهير وبينها وفق هذه الرؤيا التي اعتبرتها مختلف اتجاهات البحث تجديدية ليس على صعيد الحزب فحسب، وإنما على مستوى الحركة الشيوعية العالمية؛ خصوصاً وأنها أخذت تتبنى شعار "إقامة الجبهات الوطنية" وأسقطت شعار "طبقة ضد طبقة".
وأسست النجاحات التي أخذ الحزب يحرزها على الصعيدين الجماهيري والتنظيمي إلى تعميد المفاهيم المستخرجة من تجربته الكفاحية العملية كمعارف نظرية جديدة دعمت الاتجاه الشيوعي الذي كان يرى بأن كفاح الشيوعيين يجب أن لا يكون استنساخياً أو استنسابياً أو تمثلاً لتجربة أحد، أو تطبيقاً نظرياً نقلياً بمفهوم المقدس، وذلك لأنه يجب أن يكون " خصوصياً" مستمداً من فهم عميق ودقيق للواقع الموضوعي الوطني أو القومي ودرجة إمكانية الواقع الذاتي الحزبي للعمل فيه والتفاعل معه.
وإن التحول في سياسة الحزب ورؤاه وفق هذا المفهوم الذي عبر عنه في مجلة حيفا من مختلف القضايا وفي مقدمتها المسألة الوطنية الفلسطينية والصهيونية لحركة خفية معادية لها، وممارسة الحزب سياساته بهذه الرؤى، هو بالتأكيد العامل الحاسم الذي وقف وراء ما أحدثه الحزب من نقلات في مواقفه التطبيقية لمدلول معنى "تعريب الحزب " و " النضال المتلاحم من أجل تحقيق المصير المشترك"، وفي ترسيخ المواقف والمفاهيم المتصلة بهذه الرؤية التي انعكست مضامين إيجابية في المحطات التاريخية من مراحل حياة الحزب اللاحقة حتى عندما بدأت تأخذ أشكال أو مظاهر الانقسامات أو الإلتئامات في حياة الحزب التنظيمية. ولعب هذا التحول دوراً رئيساً في رسم الكيفيات التي آل إليها الحزب وفي تحديد البرامج السياسية لكل منها إبان عهد الانتداب البريطاني، وكذلك في الكيانات السياسية التي قامت في فلسطين التاريخية بعد ذلك. وظل ذلك التحول جذراً عميقاً لجوانب مختلفة من القضايا البرنامجية للحزب الشيوعي منذ ذلك الحين وحتى أيامنا الحاضرة.

*محمد سليمان كاتب وباحث فلسطيني يقيم في رام الله – فلسطين.



#محمد_باسل_سليمان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تجليات العولمة
- وعود العولمة
- العولمة والدولة ودولة البلدان العربية
- يوم الارض بعيون -وفا-
- النقد الادبي الفلسطيني 1870-1922/الجزء الثاني
- تطور النقد الأدبي الفلسطيني 1870-1922
- سؤال الهوية بين المثاقفة والعولمة
- الصحافة في قطاع غزة
- المثاقفة، تفاعلات واستيعابات
- الصحافة حارسة اللغة العربية في فلسطين
- مقهى الصعاليك
- امهات المطابع واثرها في نشوء الثقافة الفلسطيني
- نشوء المسرح في فلسطين
- القوانين البريطانية وتطور الصحافة الفلسطينية
- العولمة والاستقلال الثقافي


المزيد.....




- دام شهرًا.. قوات مصرية وسعودية تختتم التدريب العسكري المشترك ...
- مستشار خامنئي: إيران تستعد للرد على ضربات إسرائيل
- بينهم سلمان رشدي.. كُتاب عالميون يطالبون الجزائر بالإفراج عن ...
- ما هي النرجسية؟ ولماذا تزداد انتشاراً؟ وهل أنت مصاب بها؟
- بوشيلين: القوات الروسية تواصل تقدمها وسط مدينة توريتسك
- لاريجاني: ايران تستعد للرد على الكيان الصهيوني
- المحكمة العليا الإسرائيلية تماطل بالنظر في التماس حول كارثة ...
- بحجم طابع بريدي.. رقعة مبتكرة لمراقبة ضغط الدم!
- مدخل إلى فهم الذات أو كيف نكتشف الانحيازات المعرفية في أنفسن ...
- إعلام عبري: عاموس هوكستين يهدد المسؤولين الإسرائيليين بترك ا ...


المزيد.....

- السوق المريضة: الصحافة في العصر الرقمي / كرم نعمة
- سلاح غير مرخص: دونالد ترامب قوة إعلامية بلا مسؤولية / كرم نعمة
- مجلة سماء الأمير / أسماء محمد مصطفى
- إنتخابات الكنيست 25 / محمد السهلي
- المسؤولية الاجتماعية لوسائل الإعلام التقليدية في المجتمع. / غادة محمود عبد الحميد
- داخل الكليبتوقراطية العراقية / يونس الخشاب
- تقنيات وطرق حديثة في سرد القصص الصحفية / حسني رفعت حسني
- فنّ السخريّة السياسيّة في الوطن العربي: الوظيفة التصحيحيّة ل ... / عصام بن الشيخ
- ‏ / زياد بوزيان
- الإعلام و الوساطة : أدوار و معايير و فخ تمثيل الجماهير / مريم الحسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الصحافة والاعلام - محمد باسل سليمان - الصهيونية والوطنية الفلسطينية في مجلة -حيفا-