|
الديمقراطية التوافقية العراق انموذجا/ شروط التوافقية
عبد الستار الكعبي
الحوار المتمدن-العدد: 3581 - 2011 / 12 / 19 - 19:16
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شروط التوافقية الانظمة السياسية هي نتاج لنشاطات فردية وجماعية تمتد على مدى مئات السنين ساهمت فيها مختلف الشعوب والدول فهي لم تنشا جميعا من ابداع فرد او افراد بشكل مستقل عن المجتمعات التي يعيشون فيها وكذلك لم يكن دور الافراد فيها معدوما بل ان لهم الريادة في ذلك عبر التاريخ ومن جهة اخرى فان بعضها قد نشات من خلال نشاطات جماعية لقطاعات او شرائح من المجتمعات من الحضارات القديمة والوسطى والمعاصرة كل بقدر. وقد تبلورت هذه الانظمة بعد تراكم الخبرة والمعرفة في هذا المجال لدى مختلف الشعوب حتى وصلت الى صورها الحالية وما كان ذلك يتحقق لولا وجود ظروف اجتماعية او عرقية او فكرية او اقتصادية او دينية او سياسية شكلت بيئة ملائمة لظهور تلك الانظمة . والتوافقية باعتبارها نظاما سياسيا نشأ حديثا في الدول الاروبية الاربع (هولندا- بلجيكا – سويسرا - لوكسمبورغ) (1) فانها بالتاكيد كانت مرتبطة بشروط معينة. ....................................... (1) حسب ما ورد في كتاب ارنست ليبهارد ومن دراسة التجربتين العراقية واللبنانية في تطبيق التوافقية وتحليل مجتمعيهما ومقارنة ذلك بالتطورات السياسية المعاصرة في عدد من الدول وخاصة الافريقية فاننا نستطيع ان نحدد اهم الشروط التي لابد من توفرها باعتبارها المقدمة المناسبة التي لولاها لما وجدت التوافقية طريقا لها في تلك المجتمعات والعامل الحاسم للاتجاه نحو التوافقية واختيارها نظاما سياسيا او قبول فرضها او الاضطرار الى ذلك بسبب الظروف الداخلية او الخارجية. ونعتقد ان اهم الشروط الممهدة للتوافقية هي ما يلي : اولا: صراع المكونات تطرقنا فيما سبق الى ان بعض المجتمعات تعددية اي متعددة المكونات وتكون العوامل المشكلة لهذا التنوع المكوناتي اي الاختلاف بين المكونات متعددة ايضا فالاختلافات في المستوى الاقتصادي ونوع المهن والاعمال تقسم المجتمع الى طبقة اغنياء وطبقة فقراء او طبقة مالكين وطبقة عمال وقد توجد بينهما طبقة وسطى او ينعدم وجودها حسب درجة الثراء والفقر واحوال المجتمع وتتصارع هذه الطبقات لو سنحت لها الفرصة فيما بينها من اجل مصالحها فاصحاب رؤوس الاموال ووسائل الانتاج يبحثون عن الربح حتى وان كان على حساب كرامة ووقت واجور العمال الذين يبحثون من جانب اخر عن مصالحهم في الضمان الاجتماعي والاقتصادي، والاختلافات السياسية بشكل اساسي التي كانت سائدة في مجتمعات الدول الاوروبية الاربع المشار اليها قسمتها الى قطاعات متعددة تصارعت فيما بينها من اجل المصالح المتنوعة ، والاختلافات القبلية في افريقيا والارتكاز عليها في العمل السياسي واستخدامها من قبل بعض الحكومات للبطش بالقبائل الاخرى والمكونات المعارضة ولد صراعات دموية بين المكونات تخللتها انتهاكات عديدة لحقوق الانسان وراح ضحيتها الالوف ، بينما تعد الاختلافات الدينية اولا والمذهبية ثانيا في لبنان والمذهبية اولا والقومية ثانيا في العراق عاملا اساسيا في تشكيل المجتمع فيهما وتنوع وتعدد مكوناته التي اتسمت العلاقات بينها بالصراع الظاهر مرات والخفي في اخرى. والنتيجة الحتمية لتعدد المكونات في ظل استغلال بعضها لسلطة الحكومة ولاشكال القوة الاخرى للسيطرة على البعض الاخر اوعدم حصول مكونات مؤثرة على حقوقها القومية او الدينية او المذهبية او الفكرية او السياسية هي حصول صراعات كبيرة ومتعددة وعبر مراحل مختلفة. وتاريخ الشعوب والعجلة السياسية تبينان ان سيطرة بعض الاطراف على الحكومة وادواتها القوية ليست دائمية ولم ولن تكون مانعا من خروج المكونات المحرومة او المسلوبة حقوقها سواءا كانت اقلية ام اكثرية على طاعة وتبعية الاقوياء واصحاب السلطة والحكم للمطالبة بحقوقها وقد يكون ذلك باستخدام السلاح او الاساليب الاخرى التي تضعف الحكومة او تشلها وتسبب تفكك المجتمع وتقاتل مكوناته واضطراب الاوضاع الامنية واذا ما وصلت الاوضاع الى هذا الحد فان المجتمعات التعددية تتجه الى اتباع اسلوب مشاركة جميع المكونات في الحكومة وتوفير فرص متكافئة لها في العمل السياسي والاقتصادي ومنحها الحقوق القومية والدينية والتاريخية وتوفير الخدمات المتنوعة لمناطقها كما حصل ويحصل في العراق ولبنان والسودان وكينيا ودول اخرى وهو الاسلوب الامثل نظريا للقضاء على الصراعات السياسية والميدانية الدموية . ومما يؤكد صحة هذا التشخيص ان بعض الدول ذات المجتمعات التعددية لم تتخذ التوافقية نظاما لها ولا تحتاج اليها لان مكوناتها تتميز بالتعايش السلمي وتتمتع بتكافؤ الفرص الاقتصادية والسياسية وتستطيع ان تعبر عن عقائدها وتمارس طقوسها وشعائرها بحرية وتشعر بالكرامة ونيل الحقوق العرقية والثقافية والدينية كما هو الحال في كثير من دول امريكا اللاتينية التي يعيش فيها الهنود الحمر سكانها الاصليين جنبا الى جنب مع ذوي الاصول الافريقية وذوي الاصول الاوربية والممتزجة عروقهم وقد حكم هذه الدول رؤساء ينتمون الى اصول مختلفة من دون ان يكون ذلك سببا لدعم مكون معين على حساب المكونات الاخرى ولا لاثارة الفتنة بينها . وهنالك نموذج اخر لتعدد المكونات الذي لا يؤدي الى التوافقية وهو مجتمع الولايات المتحدة الامريكية الذي يتكون من عشرات المكونات المختلفة فيما بينها بالعوامل المؤدية الى التعددية كالاعراق والاديان والمذاهب والثقافات ولكنها جميعا تشعر بالانتماء الى الدولة وليس الى الاصل ولا الى المكون لان الحرية مكفولة للجميع والحقوق مصانة دستوريا والانفتاح الاجتماعي بينها كبير جدا وحالة الانسجام بين المختلفين تصل الى مستويات عالية مع احتفاظهم بالخصوصيات التي تحترم من قبل الجميع كما ان الحكومات والقوانين تعامل جميع المواطنين بالتساوي مهما اختلفوا بينهم دينيا اوعرقيا او مذهبيا او ثقافيا وبالنتيجة فان الفروقات المتاحة لنشؤء التوافقية موجودة ولكن الظروف المواتية والممهدة لها غير موجودة الى درجة ان عوامل ومظاهر الاختلاف بين المكونات لاتعتبر اسسا للتمييز بين الافراد من جهة التساوي في المواطنة والحقوق والواجبات ويشعر الجميع بعدم الحاجة الى الانقسامات المكوناتية ولذلك فان المجتمع الامريكي يمتاز بحالة عدم الصراع بين المكونات على السلطة اوعلى الحقوق او على تكافؤ الفرص. ويتضح مما تقدم ان صراع المكونات هو المقدمة الاولى لاختيار التوافقية نظاما للحكم لتكون بديلا عن الدكتاتوريات او ديمقراطيات الاكثرية المستفيدة. ثانيا: توازن القوى نعني بتوازن القوى ان تكون المكونات المشكلة للمجتمع متساوية اوشبه متساوية بالقوة المستندة الى السلاح في ظل الظروف التي تساعد هذه القوة على الظهور حيث انها العامل الحاسم في تغليب مكون على اخر سواء اكانت هذه القوة ذاتية محلية ام اجنبية بغض النظر عن عوامل القوة الاخرى المتعلقة بالجوانب العددية السكانية او الاقتصادية او الحكومية . والسلطة تعتبر عامل اساسي في تحديد ميزان القوى وسيطرة مكون ما على البلاد والمجتمع فالاقلية اذا ما سيطرت على الحكم فانها تعتبره تعويضا عن ضعفها في الجانب السكاني العددي وتستخدمه لفرض وجودها وسياستها على الاكثرية واسكاتها ، واذا ما سيطرت الاكثرية على السلطة فانها تستخدمها لتاكيد تفوقها على ضعف الاقلية واستسلامها الظاهر ، وكلاهما يسعيان لاجل ديمومة السيطرة على الحكم بالقوة والاكراه. ولكن الحكم المستند على القوة ليس له صفة الدوام فاذا سيطر مكون ما على السلطة واحتكر المناصب العليا والمهمة واقصى المكون او المكونات اخرى واستخدم السلطة سلاحا عسكريا وامنيا واعلاميا وفكريا ضدها وقصر في منحها الحريات السياسية والدينية والمذهبية والثقافية وحرمها ومناطقها من الخدمات الاساسية فان هذا الضغط مهما طال فانه لابد وان ينهار امام ثورة شركاء الوطن المهمشين لنيل حقوقهم التي قد تظهر بشكل مفاجىء في محطات تاريخية فاصلة وحسب الظروف الداخلية او الخارجية الملائمة. واذا ضعفت سلطة المكون المسيطر على الحكم وفقد قدرته على فرض وجوده على الاخرين عندها تتغير العوامل المرتكز عليها في تقدير موازين القوى بين المكونات وتكون الاوضاع مواتية لها لاظهار اليات اخرى في التعامل بينها واستخدام عناصر جديدة في الصراع من اهمها تشكيل المجاميع المسلحة من اجل الوصول الى الحكم والسيطرة على الدولة واستعادة الحقوق المسلوبة او كسب المزيد منها والهيمنة على الاوضاع وفرض الامر الواقع وبذلك تتغير موازين القوى بين المكونات فبعد ان كانت السلطة هي العامل المسير تصير القوة المكوناتية المسلحة والغلبة المعتمدة عليها هي الاساس في التعامل والسيطرة. وقد تحقق ذلك في العراق عام 1991 حيث سقطت اكثرية المحافظات بيد الثوار الشيعة والكرد وهما المكونان المحرومان من حقوقهما المذهبية والقومية مع انهما يمثلان اكثر من 75% من مجموع سكان الشعب العراقي ولم تشارك في الانتفاضة على الحكومة المحافظات التي تعتبر سنية المذهب في الغالب وهي صلاح الدين وديالى والانبار ونينوى اضافة الى بعض مناطق العاصمة بغداد وانحسرت سيطرة نظام الحكم الصدامي في حينها الى تلك المناطق فقط الا انه استطاع بعد ذلك اعادة توازنه والسيطرة على العراق والتنكيل بالشيعة والكرد بمباركة ومساعدة ودعم سياسي وعسكري من الولايات المتحدة الامريكية وبعض الدول العربية. ومن النماذج الشاهدة والمؤكدة على ماذكرناه هو سقوط سلطة العرق الابيض في دول الجنوب الافريقي (ناميبيا وجنوب افريقيا ) امام انتفاضة الاكثرية الافريقية السوداء وقد نالت شعوب هذه الدول استقلالها في النصف الثاني من القرن الماضي وتخلصت من الانظمة العنصرية البيضاء التي كانت تحكمها مستندة الى قوة وسلطة الحكم في فرض نظامها وسياساتها على الاكثرية وعدم منحها حقوقها القومية وما كان ذلك يحصل لولا تغير ميزان القوى لصالح الاكثرية المسحوقة. ولم يتحقق في تلك النماذج حكم توافقي بسبب الخلل في ذلك الميزان بين البيض والسود لصالح البيض وعدم تنازلهم عن التفرد بالسلطة قبل الاستقلال ولصالح الافارقة بعد الاستقلال. ولكن في مجتمعات اخرى تكون الامور سجالا بين الفرقاء ولا تستطيع القوى المتصارعة على الارض حسم الموقف لصالح اي منها مما ينهكها بشريا وماديا ومعنويا وتكون الخسائر اكثر تاثيرا وضررا من المكاسب المتحصلة وتجعل الاستمرار بالصراع غير ذي فائدة والهدف المرجو منه بعيد المنال والتحقق اي ان القوى التي تملكها المكونات وتتصارع بها تكون متوازنة بينها وفي هذه الحالة فان الاطراف المتصارعة والمحركة لها تضطر الى التخلي عن الحوار المسلح الدموي تدريجيا لصالح الحوارات السياسية والواقع الجديد. وتعد لبنان ابرز نماذج توازن القوى المؤسسة للحكم التوافقي فالمجتمع منقسم الى مسلمين ومسيحيين وبنسب متقاربة والمسلمون ينقسمون بدورهم الى شيعة وسنة ودروز وعلويين والمسيحيون ينقسمون الى موارنة وروم كاثوليك وروم ارثوذكس وارمن ارثوذكس وارمن كاثوليك وانجيليون وانشطرت هذه المكونات سياسيا الى عدة خطوط تصارعت على السلطة ومرت العلاقات المتشنجة بينها بنزاعات مسلحة لسنوات عديدة ولكن من دون ان يكون هنالك غالب ومغلوب بشكل واضح ومؤثر على الساحة خلصت بعدها جميع الاطراف الى ان الصراع المسلح الدموي لايؤدي الى نتيجة حاسمة لصالح طرف معين يؤهله للسيطرة على الساحة السياسية وحكم البلاد منفردا بل الخسائر البشرية والدمار في البلاد هو المتحقق الفعلي من الصراع فكان لابد من اشتراك جميع المكونات في الحكم كونه السبيل الوحيد لاخراج البلاد من حالة عدم الاستقرار والصراعات الدائمة اي ان توازن القوى بين مكونات الشعب اللبناني هو الدافع الى اتفاقاتها السياسية المتعددة والى ان تؤكد على خيار التوافقية في الحكم فقسمت المناصب الحكومية بينها ودخلت من دون ان تشخص ذلك في متاهات كبيرة جرت وتجر الشعب اللبناني الى الجمود في المجالات المتعددة على الصعد السياسية والامن الاجتماعي والوحدة الوطنية. وفي العراق حيث تغيرت المعادلة السياسية بعد 9/4/2003 بدخول قوات الاحتلال الامريكي الى بغداد وسقوط النظام الصدامي الدكتاتوري اذ كان العراق يحكم لاكثر من ثمانين عاما من قبل النخب التي تنتمي الى الطائفة السنية سواءا في العهد الملكي ام في العهد الجمهوري ولم يتح للشيعة والكرد ان يحكموا او يشاركوا في الحكم بمستوى يماثل نسبتيهما الى عموم سكان العراق. وانفتحت الساحة العراقية امام المكونات المختلفة لاستعراض القوة والصراع لاجل السيطرة على الحكم وحصل تبدل مواقع الحاكم والمحكوم بين مكونات المجتمع العراقي. وبعد زوال السلطة عن النخب السنية وتحولها الى نخب الشيعة والكرد شعر السنة بفقدان الامتيازات التاريخية وبانهم يتعرضون للاقصاء والتهميش فتحركت بعض نخبهم الى المحيط السني العربي والتركي للحصول على مساعدات مادية ومعنوية للوقوف بوجه التغيير الجديد ومنع سيطرة الشيعة على الحكم وحصلوا عل مساعدات مالية ومعنوية واعلامية وسياسية كبيرة مصحوبة بمد كبير من (المجاهدين العرب) لحماية السنة من الشيعة و(تحرير العراق من الاحتلال الامريكي ) وصارت المحافظات السنية (الانبار، صلاح الدين، ديالى، نينوى) ومعها بعض مناطق بغداد حاضنة لهؤلاء القادمين من خلف الحدود المشحونين مذهبيا وقوميا ضد الشيعة والكرد وبالمقابل تسلح الشيعة وحصلوا على دعم ايراني واضح فاشتعلت الفتنة المذهبية ومر العراق بسنوات من الماسي والظلام والمعاناة والالام حيث القتل والاختطاف والتهجير والنزوح والتسليب وقطع الطرق وتحول العراق الى بلد الارامل واليتامى حيث يقدر عددهم بالملايين. ولم يؤد ذلك الى اي نتيجة حاسمة ولم تلح في الافق قدرة مكون معين على السيطرة والحكم منفردا مما دفع جميع المكونات الى الاعتراف بعدم امكانية ادراة العراق تنفيذبا وتشريعيا وقضائيا وعسكريا وامنيا الا بمشاركة فعالة واسعة من جميع المكونات اي بتطبيق التوافقية منهاجا في الحكم وتم توزيع الرئاسات الثلاث ( الجمهورية والوزراء ومجلس النواب ) والوزارات والمناصب العليا في الدولة والمهمة على الصعيدين المدني والعسكري بين تلك المكونات فكان اختلال ميزان القوى سببا للصراع من اجل استعادة وتحقيق توازن القوى دستوريا وحكوميا الذي عد عامل اساسي في تجاوز مرحلة الصراعات الدموية والانتقال الى المشاركة في الحكم. ويتبين مما ذكرناه بان توازن القوى بين المكونات عنصر اساسي لنشوء التوافقية وديمومتها ما يعني ان اي خلل في هذا التوازن يغير المعادلة القائمة بين المكونات قد يؤدي الى الاطاحة بالتوافقية والانقلاب عليها نكوصا الى حكم المكون الاقوى . ثالثا: اتفاق النخب يعتبر اتفاق النخب المؤثرة في المجتمع فيما بينها عاملا حاسما في رسم وتحديد شكل النظام السياسي القائم فيه وتعتمد النخب في رسمها للخارطة السياسية للبلد بشكل اساسي على طبيعة تكوين ذلك المجتمع من حيث الجوانب السياسية الفكرية والعشائرية والدينية والمذهبية فالنخب الاوروبية ترتكز في تفاهماتها واتفاقياتها على الاتجاهات السياسية والفكرية وربما الاقتصادية السائدة في مجتمعاتها فقد يكون اتفاقها على تطبيق الديمقراطية العددية التي تعتمد على مبدا الاكثرية والاقلية كما هو الحال في اكثر الدول الاوروبية او يكون اتفاقها على تطبيق التوافقية كما في هولندا وبلجيكا وسويسرا حسب ما ذكر في كتاب ارنت ليبهارت . اما النخب الافريقية فانها ترتكز على الجانبين العرقي والقبلي وذلك لرسوخ هذين العاملين المكونين للمجتمعات في افريقيا وقوة وتاثير نفوذ القبائل على المجتمع وقدرتها على تحديد صورة الدولة وتشكيل الحكومات في غالبية الدول الافريقية استنادا الى هذين العاملين ولذلك فان نخب تلك المجتمعات لايمكنها ان تقفز فوق هذا الواقع الذي قاد تلك البلدان في محطات عديدة الى ازمات وماسي كبيرة . اما النخب الشرق اوسطية والعربية منها خصوصا فانها تعتمد في اتفاقياتها وتفاهماتها على التنوع المذهبي او الديني او القومي او العرقي حيثما تتواجد هذه العوامل بقوة وفاعلية ، ففي لبنان تتفق النخب على تشكيل نظام سياسي يرتكز على المكونات الدينية والمذهبية وفي العراق يضمحل نوعا ما العامل الديني ليظهر بدلا عنه وبقوة كبيرة العامل القومي في تشكيل المجتمع العراقي ولذلك نرى النظام السياسي اللبناني وحكومته تضم المسيحيين والمسلمين الشيعة والمسلمين السنة بينما النظام السياسي في العراق وحكومته يضم المسلمين الشيعة والكرد والمسلمين السنه واتفاق النخب بهذا الشكل ليس نابعا من فراغ ولا من رغبتها السياسية او الفكرية ولاحريتها في اختيار وتحديد نوع النظام السياسي وانما من الظروف المكوناتية الضاغطة على هذه النخب والتي تجبرها على اتخاذ هذا المسار مصحوبا بطموحها لاستغلال هذا الواقع لمصالحها الفئوية والشخصية الضيقة فقد تداخلت مصالحها المكوناتية والشخصية والفئوية مع مصالح الدولة في موارد وتضاربت المصالح في اخرى فتضرر بناء الدولة كما هو الحال في العراق ولبنان . اما الدول الشرق اوسطية الاخرى فانها سائرة بهذا الاتجاه لتوفر مقدمات التوافقية وبعض شروطها وامكانية تحقق الشروط الاخرى بسبب العوامل الداخلية والدولية مما يعني ان الظروف والمستجدات ستجبرها على ذلك. وخلاصة القول في هذا الموضوع ان الشعوب التي يتدّنى وعيها وتتغلب مصالح المكونات والفئات فيها على مصالح الوطن وينعدم أو يضعف التفاهم بين نخبها وتنظيماتها السياسية تدخل في خلافات وصراعات كبيرة وطويلة حتى وإن كانت قليلة التعدّدية كما هو الحال في لبنان والعراق بينما الشعوب التي تمتاز بالشعور بالمسؤولية تجاه الدولة والوطن والشعب ويضمحل الولاء لمكونها الخاص امام الولاء للوطن وتمتلك رغبة بالعيش المشترك فتنعدم فيها النزاعات المكوناتية ويسودها الانسجام حتى وإن كانت كثيرة التعددية كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت الحاضر مثلا التي يتكون مجتمعها من مواطنين ترجع اصولهم الى عشرات الشعوب المختلفة باديانها وأعراقها وثقافاتها ولغاتها ، فالتعددية فيها اكبر واكثر واعمق مما في كل من لبنان والعراق ولكن أفراد المجتمع الأمريكي يشعرون بالولاء للدولة ويساهمون في بنائها ويدعمون اقتصادها ويشكلون جزءاً من حضارتها ويشعرون بالمسؤولية التضامنية تجاه المجتمع ولا يتخلفون عن آداء الواجبات التي تفرضها عليهم الدولة بعيداً عن الاختلافات القومية أو الدينية أو السياسية أو العرقية على الرغم من حصول صراعات مريرة بين البيض والزنوج في مراحل معينة، ومثل ذلك تقريبا نجده في الهند . وقد ساهم الاندماج المجتمعي مع الشفافية السياسية والثقافية في وصول (باراك اوباما) ذي الأصول الأفريقية والإسلامية اللذين يمثلان اقلية عرقية ودينية في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أعلى سلطة فيها وهو منصب رئيس الدولة . بينما نجد أن المجتمعات في العراق ولبنان اقل تعددية دينية وثقافية وقومية وأقل في عدد السكان واصغر في المساحة واقل في الموارد واضعف في النفوذ والعلاقات الدولية من الولايات المتحدة الامريكية إلا انهما لم يستطيعا بناء نموذج ديمقراطي جيد ولم يستطيعا إيجاد نظام سياسي ينهي الصراعات الدموية التي حصلت بين مكوناتهما في فترة ما ثم هدأت وكمنت على حذر ظاهر كما هو الحال في الوقت الحاضر على الرغم من أن ما يجمع بين مكونات هذين المجتمعين وما هو مشترك بينها أكثر وأعمق وأقدم تاريخياً مما هو مشترك بين مكونات المجتمع الأمريكي فالحضارة العريقة والانتماء الى الأمتين العربية والإسلامية لكل منهما والتسامح والتعايش الديني بين المسلمين والمسيحيين وبين مذاهبهما وطوائفهما لقرون عديدة عوامل تجمع بين مكونات المجتمعين وتميزهما عن المجتمع الأمريكي الذي ليس له انتماء خارج حدود الدولة ولا خارج الزمن القريب فلا حضارة له ولا يعيش حالة انتماء الى امة أوسع ومع ذلك تماسك المجتمع الأمريكي وتفكك المجتمعان اللبناني والعراقي. وما ذكرناه يبين ان التعددية في الولايات المتحدة الأمريكية ودول اخرى ايجابية ولذلك فهي لم تتحول الى سبب لتغيير النظام السياسي فيها الى التوافقية بينما التعددية في المجتمعين اللبناني والعراقي في الوقت الحاضر سلبية فصارت دافعا الى اختيار او قبول التوافقية نظاما للحكم . أي ان التوافقية ترتبط بالتعددية السلبية وليس بالتعددية الايجابية.
#عبد_الستار_الكعبي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية التوافقية العراق انموذجا /2. التوافقية في لبنان
...
-
الديمقراطية التوافقية العراق انموذجا /1. مفهوم ونشوء الديمقر
...
-
من أجل إسلام معتدل...الإصلاح الإسلامي ضرورة شرعية وتاريخية
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|