|
الجبل والفأر
أوري أفنيري
الحوار المتمدن-العدد: 1060 - 2004 / 12 / 27 - 11:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
لقد أثبت خطاب أريئيل شارون في "مؤتمر هرتسليا" مرة أخرى، وهو الاجتماع السنوي للنخبة الثرية والسياسية والأكاديمية في إسرائيل، قدرته المميزة على طرح عالم خيالي أمام أعين مستمعيه، فيما يبعد انتباههم عن العالم الحقيقي. كبهلوان متمرّس يعرف أن المستمعين يرغبون في تصديق كافة الأمور الجيدة وأنهم مستعدون تمام الاستعداد لتجاهل الأمور السيئة.
لقد كان هذا الخطاب خطابا متفائلا على حد أقوال المحللين الذين أبهرهم هذا الخطاب. لقد تنبأ بأننا في طريقنا إلى الفردوس، وأن عام 2005 سيكون عام النجاحات الكبيرة في كافة المجالات وأن كل مشاكلنا في طريقها إلى الحل.
لقد شدد الخطاب على إنجازاته المميزة منذ أن أطلق في الفضاء، في المؤتمر ذاته في السنة السابقة، "خطة الانفصال أحادي الجانب".
وهذا ما قاله (بترجمة حرة): أمريكا في جيبنا. الرئيس بوش يؤيد كل مواقف شارون حتى تلك التي تتعارض ومواقف الرئيس بوش المعلنة السابقة. أوروبا تتصالح معنا. أبرز الشخصيات في العالم تقف في الطابور لزيارتنا. مصر وسائر الدول العربية تتملّق أمامنا. لقد طرأ تحسن لم يسبق له مثيل على وضعنا في الحلبة الدولية. اقتصادنا يتقدم بوتيرة سريعة والمجتمع الإسرائيلي آخذ في الانتعاش. وفيما عدا الهوامش اليمينية الحمقاء، لم يعد هناك أي وجود للمعارضة. حزب العمل سينضم إلى الحكومة وهو يؤيد كافة خطواتها. (لقد نسي أن يذكر أن حزب "ياحد" التابع ليوسي بيلن يقترح عليه "جسرا حديديا").
لقد أحرز شارون كل ذلك بالكلام فقط. كلام لم يترافق، حتى الآن، ولو بفعل واحد على أرض الواقع. من غير المؤكد أبدا أن شارون ينوي تنفيذ "الانفصال". يمكننا تحليل نواياه على النحو التالي:
1. إذا كان بالإمكان الامتناع عن تنفيذ الخطة، وبالأساس عن إخلاء المستوطنات، دون فقدان تأييد العالم والجمهور في إسرائيل، فهذا جيد جدا.
2. إذا لم يكن هناك مبرر واضطررنا إلى التنفيذ فمن المفضل المماطلة في الأمر قدر الإمكان، وخاصة إخلاء المستوطنات. إخلاء مستوطنة واحدة ومن ثم الخلود إلى الراحة. إخلاء مستوطنة أخرى والراحة مرة أخرى.
3. بأي حال من الأحوال، لن يغير كل ذلك الخطة في الضفة الغربية.
في هذه الأثناء تتواصل ممارسات الجيش الإسرائيلي في قطاع غزة، التي من المزمع أن "ينفصل" شارون عنها، في كل يوم وفي كل ليلة، ليقتل ما معدله بين ثلاثة وحتى عشرة فلسطينيين كل يوم. يتم هدم البيوت بالجملة. بعض الأعمال البشعة التي نفذت هناك تثير الجمهور. لم يتم إخلاء حتى ولو مستوطن واحد، بل على العكس تمت إضافة مستوطنين جدد.
لا يشهد كل ذلك على قرار حازم لتنفيذ الانفصال الموعود. بالمقابل تشهد أعمال شارون في الضفة الغربية على عزمه في تنفيذ خطته هناك.
لقد وصل الاحتلال في الضفة الغربية إلى ذروة جديدة. الحواجز البشعة مستمرة في تمزيقها إربا إربا ومنع أية إمكانية لوجود حياة طبيعية. لقد أثار مشهد عازف الكمان الفلسطيني الذي يعزف للجنود المرابطين على الحاجز في قلوب العديد من الإسرائيليين ذكريات قاسية. ما زال بناء "جدار الضم" مستمرا، من خلال إزاحة المسار هنا وهناك بعدة أمتار بهدف إرضاء المحكمة الإسرائيلية ومن خلال التجاهل التام لقرارات المحكمة الدولية. يقتلع المستوطنون كروم زيتون الفلسطينيين ليبنوا مكانها أحياء جديدة. تتوسع المستوطنات في كافة أرجاء الضفة الغربية، ويتم تعبيد شبكة من الطرقات "لليهود فقط"، والبؤر الاستيطانية "غير القانونية" تقام برعاية الجيش وبمساعدة من كافة الوزارات الحكومية ذات الشأن. يتم تحويل الأموال إليها، في وقت تقلص الحكومة المخصصات المعدة للمسنين، ويستلقي المرضى في ردهات المستشفيات.
هل هذا تصرف لائق لسياسي يتمتع برؤيا سلمية؟ إنه أشبه بطبيب يعالج يده المريض الجريحة وفي الوقت ذاته يطعنه في صدره وفي بطنه.
يحدث كل ذلك في وقت يؤيد العالم فيه شارون بحماس، وطالما يتحدث شارون عن " الانفصال"، فيمكن له أن يفعل ما يحلو له على أرض الواقع.
لقد أعلن دافيد بن غوريون في حينه: "من غير المهم ما يقوله غير اليهود، إنما المهم هو ما يفعله اليهود". لقد صحح شارون هذا المبدأ: "من غير المهم ما نقوله نحن، بل المهم هو ما نفعله".
إن أكثر ما يثير الانتباه في الخطاب هو ما لم يتضمنه هذا الخطاب. لم يتخلل الخطاب أي اقتراح سلام للفلسطينيين. لم يتحدث عن السلام أصلا.
لقد أخذ يسود العالم اعتقاد بأن هناك "نافذة من الفرص" وأن هذه هي الساعة المواتية للنهوض بمبادرة جديدة ومنقذة. وبالفعل فقد ذكر شارون ببرودة أن ياسر عرفات قد مات، وأن هناك احتمال الآن بأن تحل محله "قيادة فلسطينية معتدلة". وما الذي يقترحه شارون في خطابه على هذه القيادة المعتدلة؟
لا شيء.
لقد تحدث بغموض عن "ترتيبات للأمد الطويل". أي بما معناه: ترتيبات مؤقتة تتراكم على ترتيبات مؤقتة، هدفها الوحيد هو تأخير الاتفاق الحقيقي إلى ما بعد الأفق. يستنتج من أقواله أن إسرائيل لن تسيطر على الكتل الاستيطانية الكبيرة إلى الأبد فحسب، بل ستسيطر أيضا على "المناطق الضرورية لأمنها". ما هي هذه المناطق؟ هذا معروف للجميع: غور الأردن وسائر المناطق التي أشير إليها في اتفاقيات أوسلو على أنها "المنطقة سي". ستكون النتيجة النهائية من "خطة الانفصال" إذن، ضم 58% من الضفة الغربية وذلك كما أراد شارون منذ البداية.
سيبقى بين يدي الفلسطينيين، وفق هذه الخطة، 10-12% من فلسطين الانتدابية وبما فيها قطاع غزة. "الدولة الفلسطينية" التي يفهمها شارون ستكون مؤلفة من عدة قطاعات معزولة عن العالم. هذا ما يسميه هو "إنهاء الاحتلال"، "تنازلات موجعة جدا"، و"عدم الرغبة في السيطرة على شعب آخر".
لإزالة الشك، رسم بنيامين نتنياهو هو أيضا الحدود النهائية بيننا وبين الفلسطينيين: الحدود ليست الخط الأخضر و"ليست قريبة من الخط الأخضر أيضا".
لا أحد يقترح على الزعامة الفلسطينية الجديدة محادثات سلمية. إنهم يقترحون على الأكثر تنسيقا ما فيما يتعلق بترتيبات الانسحاب من غزة. ماذا بعد؟ لقد وعد وزير الدفاع، في المؤتمر ذاته، بأن الجيش سيخرج من المدن الفلسطينية "لمدة 72 ساعة" ليتيح للفلسطينيين إجراء الانتخابات. بين حاجز وحاجز وبين "تصفية موجهة" وأخرى سيتسنى له دفع الديمقراطية الفلسطينية قدما.
لقد تفاخر شارون بأن الجيش كان قد انتصر على الإرهاب. لقد قيل ذلك بعد أيام معدودة من عملية كومندو فلسطينية أثارت عجبا أخرس في الجيش الإسرائيلي حيث نجح الفلسطينيون بالقضاء على ثكنة عسكرية كاملة على "محور فيلادلفيا" بواسطة تفجير عبوة هائلة داخل نفق ومن ثم التسلل إلى الثكنة المدمرة. (لم يتأثر الإسرائيليون بذلك كثيرا، لأن الجنود الذين قتلوا هم عرب من مواطني إسرائيل).
صحيح أن كمية العمليات ضد المواطنين في إسرائيل قد انخفضت في هذه الأثناء، إلا أن هذا كله بفضل محاولات أبي مازن. من الممكن أن تستمر هذه الحال لوقت ما، طالما يأمل الجمهور الفلسطيني بوجود بصيص من النور في نهاية النفق. عندما سيفقد هذا الجمهور الأمل، سيعطي الضوء الأخضر لموجة جديدة من العمليات.
يعِد شارون مواطني إسرائيل بعام ممتازة، عام من الأمن والهدوء، النمو الاقتصادي والانتعاش الاجتماعي. لا يمكن بطبيعة الحال أن يحدث هذا فيما يسد هو طريق السلام ويحفظه في علبة "فورمالين"، كما أعلن مستشاره المقرب.
زعماء أوروبا يتحدثون الآن عن تجنيد تبرع ضخم للسلطة الفلسطينية بعد انتخاب أبي مازن. هذا هو الوهم القديم، وعمره من عمر الصهيونية: من الممكن شراء الشعب الفلسطيني، أو أي شعب آخر يناضل من أجل حريته، بالمال وسيتخلى عن أرضه واستقلاله. إلا أن تخصيص الأموال هذا، إذا لم يترافق بتدخل أوروبي مكثف لإنهاء الاحتلال بسرعة والتوصل إلى حل دائم بين إسرائيل وفلسطين، فمن شأن هذا الجبل أن تمخض فيلد فأرا هو أيضا.
#أوري_أفنيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أعطني فرصة
-
تحطيم أبي مازن
-
لا تفرح بسقوط عدوك
-
مميّز في عصره
-
أنهى دوره
-
على طريق حرب أهلية
-
شكرا لك، يا دوبي
-
لا تصدقوا كلمة واحدة
-
كل البيض في سلة واحدة
-
مفجرو المساجد
-
هذه إرادة الله!-
-
على اللاعنف السلام
-
حرب أحادية الجانب تماما
-
قحط في تكساس
-
ترتيب الفوضى
-
الأوليغارخيون أو: البتول التي تدهورت إلى الزنى
-
جلد الدب
-
الرجل الطيب والسيدة العجوز
-
حقا هناك قضاة في هاغ
-
العدل، الغاز والدموع
المزيد.....
-
تفجير جسم مشبوه بالقرب من السفارة الأمريكية في لندن.. ماذا ي
...
-
الرئيس الصيني يزور المغرب: خطوة جديدة لتعميق العلاقات الثنائ
...
-
بين الالتزام والرفض والتردد.. كيف تفاعلت أوروبا مع مذكرة توق
...
-
مأساة في لاوس: وفاة 6 سياح بعد تناول مشروبات ملوثة بالميثانو
...
-
ألمانيا: ندرس قرار -الجنائية الدولية- ولا تغير في موقف تسليم
...
-
إعلام إسرائيلي: دوي انفجارات في حيفا ونهاريا وانطلاق صفارات
...
-
هل تنهي مذكرة توقيف الجنائية الدولية مسيرة نتنياهو السياسية
...
-
مواجهة متصاعدة ومفتوحة بين إسرائيل وحزب الله.. ما مصير مفاوض
...
-
ألمانيا ضد إيطاليا وفرنسا تواجه كرواتيا... مواجهات من العيار
...
-
العنف ضد المرأة: -ابتزها رقميا فحاولت الانتحار-
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|