|
بين النقد والاتهام
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1060 - 2004 / 12 / 27 - 11:45
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
بين النقد والاتهام رد على د. كمال اللبواني ياسين الحاج صالح بلَّمتُ وأنا أقرأ جملة للصديق الدكتور كمال اللبواني يلمح فيها إلى أني أغازل السلطة حين أرفض الظهور في قناة إعلامية أجنبية بعينها (كلنا شركاء، 23/12/2004). بلمت (أو "تبلْكَمْت") لأني لا أعرف كيف أرد على كلام من هذا النوع، ولا أظن أن الرد، كائنا ما يكون، مفيدا على كل حال. فحين يصل الجدال إلى "المحسوس" يكون فاسدا ومنعدم الجدوى. لكن ربما يفيد القول أن المرء ليس مضطرا للامتناع عن الظهور في قناة إعلامية أجنبية كي يغازل سلطة لم تظهر أي استياء من تلك القناة ولم تحاول منع أحد من الظهور عليها. الطرق إلى قلب السلطة كثيرة جدا، وأحدها، إن لم يكن اهمها، محاكاة فعلها والاقتداء بمثالها عبر الاستغناء عن أية معايير ونواظم للعمل العام. المدهش أكثر أن الدكتور اللبواني يعتمد نوعا قديما، بل مبتذلا، من التخوين حين يستعيد تعبيرا مستمدا من ترسانة الأحزاب الشمولية وعقائدها المعصومة: أعني الاتهام بمغازلة السلطة. وهو على منوال الشموليات جميعا يفضل الاتهام (وإن تلميحا) على النقد، ومحاولة النيل من الأشخاص بدلا من انتقاد الأفعال والمواقف والأفكار، وعلى منوالها ايضا لا يشعر بالحاجة إلى البرهنة على صحة كلامه، ولا إلى وضعه في سياق معقول. والواضح أن د. اللبواني لا يتخيل أنه يمكن للمرء ان يعترض على شيء إلا لأسباب ايديولوجية ("دوغمائية" حسب تعبيره المفضل) او مصلحية (خوفا او طمعا أو... "غزلا")، وأن موجبات الاعتراض الضميرية والنابعة من الاقتناع الحر غير ممكنة. ولعله من حسن طالعي ان د. اللبواني لم يطلع على نسخة من المقال ذاته أضفت إليها ثلاثة أو أربعة أسطر، أميز فيها بين النقد الأصغر والأسهل، أي نقد السلطة، والنقد الأكبر والأصعب، اي نقد المعارضة والمثقفين والناشطين المستقلين؛ أقول لعل ذلك من حسن طالعي وإلا لتوفرت بين يديه شهادة موقعة باسمي على مغازلة السلطة بدل أن يتجشم عناء استنتاج الغزل من تحفظي على تراخي معاييرنا وتسيب واعتباطية قواعد عملنا وتقبلنا لكل دعوة ولكل داع. أما حديث د. اللبواني على الدوغمائيين " الذين لا يوحدهم سوى العدو المشترك" فمن علائم زمننا هذا بالفعل: أضحى من يتكلم على معايير وضوابط سلوكية وقيمية متهما في عقله ومحتاجا إلى تبرير نفسه. لا بل إن "المتحررين من الأوهام" الدوغمائية يكادون يهنؤون انفسهم على ما لم يبذلوا ولو ذرة جهد لتحقيقه. فيما هم محض مستفيدين من هزيمة عقائديات التقدم والتحديث الدولانية في العالم العربي (الشيوعية والبعثية والناصرية) دون ان يكون لهم فضل في هزيمتها. غير أنهم مستفيدون اكثر من ثمرات الهزيمة، أعني حالة الفوضى القيمية والفكرية الناجمة عن غياب معايير التمييز بين الافعال والأشياء والأفكار والأشخاص، والتي جعلت كل شيء مثل كل شيء و"الجميع في الهوى سوا". هذا عَرَض انحلالي وليس مظهر تحرر فكري وثقافي. وليعذرني صديقي على أني أجد شبها مهما بين الفساد المعنوي المترتب على تسيب المعايير أو اختلاطها وبين الفساد المادي (الرشوة والمحاباة والاستيلاء على المال العام واستخدام الوظيفة العامة لتحقيق مصالح خاصة) في أوساط الإدارة والسلطة في بلادنا. فقد حوصر الإدرايون النزيهون بنظرية تجعل من الفساد والرشوة شطارة وذكاء ومن النزاهة والأمانة بلاهة أو ادعاء، ولم يكن ينقص غير وصفهم بـ"الدوغمائية". القواعد والمعايير لا تقيدنا بل تمكننا من السيطرة على عملنا وتوجيهه وقياس نتائجه، وبالاستناد إليها نقدم كشف حساب امام الغير ونطالب الغير بتقديم كشف حساب أمامنا. إنها اساس المسؤولية ودستور الممارسة الديمقراطية والعمل العام. والحرية ليست انفلاتا من القواعد والمعايير بل إنتاج لها والتزام بها واستعداد تام للمساءلة. الطغيان وحده هو الذي لا يعترف باية قاعدة مطردة أو معيار مستقر. ولم ينجم الطغيان والفساد في سوريا عن تشدد القواعد والضوابط القانونية بل عن احتقار كل قاعدة والدوس على كل قانون وازدراء مفهوم الدستور ذاته. وأجد شيئا مؤسفا ودالا في الوقت نفسه على غياب المعايير كملمح اساسي في أزمتنا الثقافية حين يقول د. اللبواني إنه لا يرى "فرقا بين وسيلة إعلام خارجية وأخرى... بعد (فضيحة الكوبونات النفطية)". أليس هذا مدهشا؟ فبدلا من ان تكون الفضيحة تلك دافعا نحو وضع معايير ونواظم للنشاط الثقافي والإعلامي ولعمل المثقفين تغدو مسوغا للتحلل من اية معايير ونواظم. وبدلا من الترفع عن الفساد يغدو الرد: خصمي فاسد أيضا! هذا اقتداء بالأسوأ والأفسد، وسعي وراء المثل الأسفل لا الأعلى. وهو يظهر مرة أخرى مدى الإفلاس القيمي والأخلاقي الذي بلغته بعض أجنحة النخبة المثقفة المتلهفة على سلطة ما. كما يظهر أنها تستفيد من حالة الأزمة وغياب الرقابة الديمقراطية لتحرز سبقا وميزة على غيرها وتضمن لنفسها موقعا متقدما في مرحلة ما بعد الشمولية التي لا شك أننا ندخلها – بقليل من الجاهزية للأسف. وفي ظل الأزمة ذاتها، وبالخصوص حال الفوضى الفكرية والقيمية الراهنة، ينتشر نوع جديد من منطق الإقصاء واحتكار السلطة القيمية، نوع يضاف إلى التكفير أو الإخراج من الدين الذي يمارسه بعض الإسلاميين والتخوين او الإخراج من الوطنية الذي يمارسه بعض القوميين. هذا النوع الجديد إخراج من العقل والحداثة، وأقترح ان نطلق عليه اسما عاما هو التسفيه ريثما نعثر على تسمية اكثر تحديدا. واقول التسفيه لأن التكفيريين الجدد يسفهون خصومهم ويصمونهم بالدوغمائية والتمسك بالأوهام الإيديولوجية(دون أن تعرف لأحد منهم إسهاما فكريا أو ثقافيا ذا قيمة، إلا إذا اعتبرنا شاكر النابلسي مفكرا!!)، ولأنهم كذلك لا يمتنعون عن ممارسة السفاهة حيال الخصوم. والمفارقة أن هذا النوع الشديد الرواج اليوم من الممارسة الإقصائية يكثر من نقد التكفير والتخوين فيما هو يمارس تكفيره وتخوينه الخاصين. ثمة نقطة إضافية. يوحي د. اللبواني أن مقالي يحاول النيل من الأستاذ انور البني. هذا كلام غير صحيح. ففي كل مرة انتقدت تصرفا للأستاذ البني في مقالي أشرت إلى أن مسؤوليتي ومسؤولية زملائي الآخرين عنه عبر فشلنا في وضع قواعد ناظمة لعملنا وافتقارنا إلى تصور صحيح عنه. وقد كان رأيي الذي أوردته في مقالة: "نقد ذاتي" إنه ليس هناك اشخاص جيدون واشخاص سيئون في العمل العام؛ هناك فقط قواعد واضحة او لا قواعد، وان الفساد ينجم عن تراخي المعايير والقواعد وليس عن سوء الأشخاص. وهو غير صحيح أيضا لأن د. اللبواني والزملاء الثلاث الاخرين قد قرأوا مقالي قبل ان يرسل للنشر وطلبت منهم ان يبدوا ملاحظاتهم عليه، وألححت بالسؤال على الأستاذ البني بصورة خاصة إن كان يرى في المقال ما يسيء له شخصيا، وكان جوابه سلبيا. أما اعتقاد الدكتور اللبواني أن ملاحظاتي العامة (وليس "النصائح العامة" حسب قراءته هو) في القسم الثاني من المقال مفصلة على قياس الأستاذ البني تحديدا فهو من صنف الأحكام الاعتباطية التي يلقيها دون برهان. إن المعني بالملاحظات الثلاث هو نحن جميعا دون استثناء لنفسي، بعضنا أكثر من بعض بلا شك، لكنها تشملنا معا وتمثل جوهر الأزمة الاجتماعية الثقافية في مجتمعنا. ختاما لم يميز د. اللبواني بين النقد من جهة والاتهام أو النيل من الأشخاص من جهة اخرى. النقد ينصب على افعال وافكار وتصرفات بعينها، فيما الاتهام والنيل ينتقصان من الأشخاص. والأهم ان النقد يصدر عن معايير متسقة تسلط الضوء على عيوبنا وقصورنا من اجل نجوع العمل العام، فيما النيل من الأشخاص يضخم عيوبهم المحتملة ويستهدف تضخيم ذات الشخص الذي ينال من الآخرين ورفع شأنه. إنه نمط ممارسة الأنا المتورمة المسكونة بذاتها. لقد كشف عام 2004، بصورة خاصة، الكثير مما تحدثت عنه من انعدام المعايير وآفة الأنا المتضخمة والنزوع النخبوي المعادي لعامة الناس في اوساطنا. حيال هذه العيوب نحتاج، أعني الديمقراطيين السوريين، إلى المزيد من النقد الذاتي لا إلى القليل منه. فالنقد الذاتي ليس ارفع ثمرات الثقافة فحسب بل هو كذلك ما يجنبنا الانزلاق نحو المنطق الاتهامي والتنصل من المسؤولية والرضا الزائف عن الذات. أعود مرة اخرى لأقول إن نقد السلطة سهل بالنظر إلى سجلها الحافل من المخازي وإلى عمق إفلاسها الفكري والمعنوي والأخلاقي. وهو نقد خادع أيضا لأنه يضمر ان إفلاس السلطة ذاك يجعلنا أغنياء فكريا ومعنويا واخلاقيا، ما يدفع إلى الاكتفاء والتراخي والتهاون مع الذات. لكن إذا كان إفلاس السلطة هو كل ثروتنا فإن المستقبل سيكون مقلقا. سوريا تستحق شيئا افضل! دمشق 25/12/2004
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نقد ذاتي
-
معاناة -السيد ياسين- ومغامراته في عالم -الصحيح الواقعي-
-
مفهوم لخط الفقر السياسي
-
عن الحرب العادلة والإرهاب والدولة
-
سوريا ممكنة دون معتقلين سياسيين!
-
قانون الأحزاب وتحرير الحياة السياسية في سوريا
-
المستحيلات الثلاث في -الشرق الأوسط-
-
سوريا غير المتطابقة مع ذاتها
-
حلفاء ضد التحليل: التبريريون والتشريريون في معركة الإرهاب
-
أجهزة أمن اكثر = أمن اقل؛ والعكس بالعكس
-
موت آخر المحاربين
-
مشاركة في انتخاب الرئيس الأميركي!
-
اي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 2 من 2
-
أي مستقبل لبلادنا دون الخط الثالث؟ 1 من 2
-
إصلاح حزب البعث والإصلاح السياسي في سوريا
-
حول الطريق الثالث ... مرة ثالثة
-
اسحقوهم بتناسب، وحطموهم برفق، واقتلوهم بلطف!
-
الاستقطاب والاختيار: حول مفهوم السياسة 2 من 2
-
الاستقطاب والضعف : حول الخط الثالث مجددا 1 من 2
-
ماضي الخط الثالث ومستقبله في سوريا
المزيد.....
-
هاني شاكر لأول مرة في أوبرا دبي ولقاء مع سعد لمجرد
-
الجامعة العربية تحذر إيران من -تأجيج الفتن ونشر الفوضى- في س
...
-
شاهد حجم الدمار الذي خلفته غارات إسرائيلية على اليمن
-
بوتين يشكل مجلس الخبراء العلمي التابع لمجلس الأمن الروسي برئ
...
-
-موقف المترقب-: متى تقبل مصر بإدارة سوريا الجديدة؟
-
روسيا تعلن تحييد خلية لتنظيم -داعش- كانت تخطط للهجوم على مرك
...
-
مصادر لـ-أكسيوس-: فرص التوصل لاتفاق بين إسرائيل وحماس قبل ت
...
-
إسرائيل تنتقد السفير الألماني بعد منشور عن -وفاة رضع في غزة-
...
-
هيئة الطيران الروسية تتحدث عن ملابسات تحطم الطائرة الأذربيجا
...
-
-بوليتيكو-: بولندا والمفوضية الأوروبية تعتزمان تسريع فرض عقو
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|