|
الطغيان والأخلاق في -سورية الأسد-
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 3571 - 2011 / 12 / 9 - 18:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
لم يعش السوريون عقودا دون حياة سياسية فقط،, وإنما دون حياة أخلاقية أيضا. الأساس في ذلك هو حرمانهم الجوهري من الحرية، تحت وطأة استبداد خبيث، منتهك للضمير والكرامة الإنسانية، قلما اكتفى بمنع المحكومين من فعل ما يرونه مما لا يناسبه، بل لطالما مضى إلى حد فرض ما يناسبه مما لا يرونه هم. وقلما توقف عند منعهم من قول ما يؤمنون به، بل مضى إلى حد فرض ما يؤمن هو به عقيدة مقدسة عامة. ولا يكتفي بمنع الناس من التجمع والتعاون المستقل، أو بمجرد تفريقهم، بل يحدد الشكل الصحيح لاجتماعهم ويلزمهم به حين يناسبه ذلك. فهو يسلبهم استقلال الإرادة وحرية المبادرة في كل حال. 1 فإذا ميزنا بين استبداد بسيط يقوم على منع الناس من فعل ما يضره، واستبداد مضاعف أو طغيان يقوم على فرض ما ينفعه على الناس، أمكن القول إن النظام السوري طغياني في بنيته، وإن أمكن له أن يكون استبداديا أوقات استرخائه. فهو ينصب حاجزا (المنع) أو حاجزين (المنع والفرض) ضد مطابقة الناس لأنفسهم وصدقهم مع غيرهم، أي في وجه أن يعيشوا حياة أخلاقية. نتكلم على أخلاق حين يكون المرء مطابقا لذاته، ليس مزدوج الشخصية أو متعددها، وحين يكون أمينا مع غيره. لا يستطيع أي سوري أن يكون أخلاقيا في المجال العام. ينبغي أن يكون له وجهان غير متطابقين، خاص يشبهه ويطابق به نفسه، وعام حميد يجتنب به المخاطر. وأن يتدرب على إخفاء أفكاره في الشؤون العامة، وفي العلاقات بين الناس وبينهم وبين الحكم، لأن من شأنها أن تكون مصدرا للمتاعب، وربما تؤدي إلى التهلكة. أو أفضل من ذلك ألا تكون له أفكار في الشأن العام بتاتا. ويكفي إنكار الحرية على المحكومين حتى يوصف النظام بأنه غير أخلاقي. فإذا أخذ هذا الإنكار شكلا عدوانيا متطرفا أمكن وصف النظام بأنه مضاد للأخلاق. وليس في حال رجال النظام في سورية ما يدل على ضمير مستقل أو شجاعة أخلاقية. ولا يتوفر مثال واحد عن أي منهم يدل على سماحة نفس أو انشراح صدر أو انضباط بمبدأ عام. وبينما قد لا يكون متماثلين في فسادهم، فإنه ليس بينهم من يقر بمبدأ المساواة مع عموم المحكومين. 2 يعتمد الطغيان السوري على ثالوث قيمي يتكون من الخوف الذي جعله مونتسكيو "فضيلة" الطغيان، ومن الكذب الذي لا يترك مجالا لقول الحقيقة في ما خص الشؤون العامة، ومن السينيكية (الكلبية) أي التشكك والاستهزاء العام، واعتبار جميع الناس أنانيين، تحركهم مصالحهم الضيقة، وهو ما يبيح الأنانية والانتفاع الشخصي غير المقيد، ويؤسس للامبالاة العامة التي تمثل ضرورة حياة للطغيان. الخوف يكسر عيون الناس ويردعهم عن مواجهة النظام، والكذب العام يفقدهم القدرة على التحكم العقلي بأوضاعهم والتوجه السليم في العالم، والسينيكية واللامبالاة المترتبة عليها تؤلب المحكومين ضد أنفسهم وتضعف الثقة بينهم، وتنال من إمكانية تشكل بدائل ذات صدقية. والأثر المتعاضد لهذا الثالوث القيمي يقوّض الثقة العامة والخاصة. ترويع الناس وإذلالهم يفقدهم الثقة بأنفسهم، وخوفهم من بعضهم يحطم الثقة فيما بينهم، والسينيكية تقوض ثقتهم بالإنسان والعالم من حولهم. وهذه سمة جوهرية للطغيان على نحو ما عرفناه في بلداننا العربية وفي روسيا وبلدان أوربا الشرقية. وتلقى هذه السمة تعزيزا مما تحرص عليه نظم الطغيان المحدثة، "الشمولية" بمختلف صيغها، من تسييس الحقيقة وإلغاء استقلاليتها. ليس هناك في بلدنا وأشباهه مؤسسة عامة، معنية بتوفير المعارف والمعلومات الصحيحة للعموم، لا الجامعات ولا الإعلام ولا أية هيئات ثقافية. والتفكير الناقد لا سند عاما له، سياسيا أو مؤسسيا أو اجتماعيا، ويقع على المسؤولية الشخصية لممارسيه. زوال الحقيقة عبر التسييس والحظر يفتت وحدة المجتمع (لكلٍ حقيقته) ويشوش مدارك الناس وينال من قدرتهم على التحكم العقلي بشروط حياتهم، فيدفعهم إلى مزيد من الانعزال عن بعضهم والارتياب ببعضهم، ويخفّض في المحصلة من الحواجز الفكرية والأخلاقية التي تحمي حياتهم. الحقيقة ليس مسألة معرفة فقط. إن لها وجها عمليا يحيل إلى التحكم بالواقع وحسن التوجه في العالم، ووجها أخلاقيا يحيل إلى التماثل الجوهري للناس ووحدة العقل الإنساني. 3 ولعل التجسد الأصفى للاأخلاقية الطغيان السوري يتمثل في السجين السياسي الذي لا يفرض عليه التعهد بعدم العمل بالسياسة بما يوافق ما يؤمن به، بل وأن ينقلب على نفسه ويتعاون مع الأجهزة الأمنية. لا يكفي حرمان السجين من مطابقة ذاته، أن يكون هو، بل ينبغي أن يطابق ذات النظام. وهذا التجسد النوعي يكشف الطابع القسري للاأخلاقية السورية، وصلتها الوثيقة بكل من الحرمان من الحرية، والخوف. فما يجبر السجين السياسي على الانقلاب على نفسه هو خوفه على حريته، بل وعلى حياته ذاتها. وهذا خوف معقول، وفي رصيد معقوليته قتلى كثيرون. وليس مثال السجين السياسي استثنائيا، أو حالة قصوى نادرة. بل هو بالفعل المعيار العام الذي قد لا يدركه إلا من عايش السوريين. ليس السجن السياسي والاعتقال على الرأي مؤسسة قائمة دائمة في "سورية الأسد" إلا كي يكون كل السوريين خائفين. لا يلزم من أجل ذلك حبسهم جميعا، يكفي أن يكون الحبس مؤسسة مقيمة. وهناك عبارة شائعة للسجناء السياسيين في سورية تقول إنهم خرجوا من السجن الصغير إلى السجن الكبير. حتى بالمقاييس العربية، "سورية الأسد" هي البلد السجن. لم يكن المعارضون التوانسة والمصريون يتعرضون إلى المتابعة الأمنية الدائمة والمنع من السفر ومن العمل بقدر السوريين. وإذا وضعنا في البال أن عدد من مروا بتجربة أمنية من نوع في سورية يكاد يشمل السوريين البالغين جميعا، بمن فيهم عموم البعثيين وعموم الموالين، وأن من الروتيني أن تجري مساومة هؤلاء على "التعاون" مع الأجهزة الأمنية، أي العمل كوشاة و"كتبة تقارير"، تبدّى لنا أن رهان النظام هو تحويل السوريين جميعا إلى مخبرين ووشاة، وجاز لنا القول إننا حيال تدريب وطني على الخيانة. من يخن جواره ورفاقه، لن يصعب عليه أن يخون بلده. وليس معنى استناد النظام على الأجهزة الأمنية، وهي رهيبة ومرهوبة في سورية، وإرهابية أيضا، غير غرس رجل أمن في رأس كل مواطن، على ما يقوله عموم المشتغلين في الشأن العام في سورية فعلا. أي أن يشعر بأنه سجين مراقب طوال الوقت. 4 وبمحصلة ذلك، ليس هناك سوري واحد يستطيع أن يعيش عقائده الشخصية ويمارسها. ممارسة العقائد تعني طرحها في المجال العام والنقاش العلني في شأنها. هذا بالطبع لا يسمح بوجود عقائد حقيقية عند أحد، أو ولاء خالصا مخلصا من أحد لقضية أو مبدأ عام. ولا حتى للقضايا والمبادئ التي يُعلنها النظام. إذ المطلوب هو الولاء للنظام، وليس المشاركة الشخصية الحرة في مبادئه المفترضة، الأمة العربية وفلسطين وحزب البعث والوحدة الوطنية. ليس للنظام مبادئ. النظام هو المبدأ، وهو القضية. والباقي أدوات حكم مساعدة، ولا قيمة غير أداتية لها. وليس لتوهين نفسية الأمة ومعاداة أهداف الثورة التي يتواتر أن يحاكم على أساسها معارضون سوريون أي صلة بشيء عن الأمة العربية، أو بالوحدة أو الحرية أو الاشتراكية، أهداف حزب البعث المفترضة، بل حصرا وفي جميع الحالات دون استثناء واحد بالاعتراض على النظام. ودون عقائد حقيقية لا يمكن أن يقوم نقاش عام. يحول دونه على كل حال حاجز آخر: الاحتكار الكلي لمؤسسات النقاش العام المحتمل. 5 لكن أكثر حتى من الحياة الأخلاقية، ما نفتقر إليه في شروط الطغيان السوري هو التفكير الأخلاقي. لا يبدو التفكير في الشأن الأخلاقي موضوعا ثقافيا في "سورية الأسد". الثقافة لدينا هي "المعرفة"، وبخاصة الكلام على العقل والحداثة والتنوير، دون أي إحالة إلى الحرية أو العدالة أو الكرامة الإنسانية، أي دون محتوى أخلاقي. والثقافة أيضا آداب وفنون، قلما تنشغل بقضايا الضمير، وقلما نجد فيها أفرادا يخوضون صراعا أخلاقيا، أو لديهم وساوس أخلاقية. وفي كتابات المثقفين السوريين لا نكاد نجد شيئا عن العدالة والحرية والكرامة الإنسانية والتسامح والاحترام، ولا وصفا من أي نوع للاضطهاد أو المهانة أو التمييز (برهان غليون استثناء مهم). وهذا، أعني الخلو التام من الحس الأخلاقي هو ما يحكم على الإيديولوجية الحداثية، والتي تجد في البنى السياسية والإيديولوجية القائمة في البلد أطرا استقبال وتعميم ذكية مرحِّبة بها، يحكم عليها بالهامشية الاجتماعية ويضعها نسقيا في صف الطغيان. وهو ما يجعلها تختلف عن الاشتراكية في وقت سابق، وقد احتفت بقيم العدالة والمساواة, وألهمت أفعالا شجاعة بلغت حد التضحية بالنفس. تختلف أيضا عن الديمقراطية التي تهتم بقيم الحرية وكرامة الإنسان وحقوقه، والتي حفزت نضالات متنوعة ضد الطغيان، وجرت في سياقها تضحيات كبيرة أيضا. وتختلف ثالثا عن الإسلامية التي تركز على قيم العدالة والتضامن والبر، والتي حفزت بدورها نضالات كبيرة وتضحيات عظاما. كبار أعيان "الحداثية" (الحداثة كعقيدة خلاص أو ديانة، "الحل") أقرب إلى النظام السوري سياسيا منهم حتى إلى معارضيه غير الإسلاميين. وهذا منبثق من منظورهم الفكري بالذات، وليس من أية اضطرارات خاصة قد يكون منها الخوف من النظام (يعيش أكثرهم خارج البلد). وفي هامشية البعد الأخلاقي في تفكيرهم ما يُسبغ على مذهبهم طابعا شكليا وإجرائيا، ويجعله أوفى للأقوياء، في سورية وفي العالم. ومواقفهم من الثورة اليوم تتراوح بين التحفظ وبين العداء الصريح. ومن حصل أن اقتربوا من الثورة من معتنقي الحداثية هم من يعرضون تباعدا مطردا عن ثوابتها وتعاليها. وعلى كل حال تشارك "الحداثية" عقيدة "التطوير والتحديث" الخاصة بنظام بشار الأسد في الخلو التام من أي محتوى إنساني. 6 والواقع أن في ضعف التأمل الأخلاقي في تفكيرنا ما يؤشر على ضعف تطلب الحرية في الثقافة، وليس على مجرد انعدام الحرية في المجتمع. فليس أدل من الأفكار الأخلاقية، النظر في الضوابط والقيود الذاتية التي نلزم أنفسنا بها، برهانا على حسنا بالحرية وتلهفنا عليها وجدارتنا بها. دون الضوابط، الحرية تنزلق إلى اعتباط وهوى وحكم القوة، هي بالضبط ما يميز الطغيان. الطاغية هو الشخص الذي يريد حرية مطلقة دون ضوابط من أي نوع. حرية الطفل الفاسد. ونرجح أن أحد منابع انتشار التدين في مجتمعاتنا بعد وقوعها في قبضة الطغيان المحدث، وربما أهمها، هو المنبع الأخلاقي. الدين يضبط الغرائز، ويوفر معايير للسلوك العام، ويدخل تنظيما على حياة تبدو فوضوية تماما دون ذلك، ويوفر حسا جمعيا بالتضامن والمشاركة لا يوفر ما يناظره أي شيء آخر في مجتمعنا المعاصر. ومن هذا الباب تبدو العلاقة بين التدين الإسلامي والحرية أمرا غير عارض، تسببت به ظروف سياسية مخصوصة. الطلب على الحرية ينمو مع الطلب على الانضباط وليس ضده. والدين، الإسلام وغيره، يبدو العارض الأقوى للضوابط والمعايير، ولعل ما يوفره من انضباط هو منبع احتداد شعور الأفراد بالقيود الاعتباطية التي يفرضها الطغيان، ومحرك التمرد عليها. بالمقابل، لا يتمرد على الطغيان، ولا يشعر بالاعتباط أصلا، من لا ينضبط بشيء، أو يفرض على نفسه نظاما. على أن مجال صلاحية الضوابط الدينية ضيق. للدين فاعلية تأديبية مؤكدة على مستوى الأفراد، ونظام الأسرة، وإن لم تكن مطابقة لما يفضل أن يعتقده المدراء الدينيون. ينتهك الأفراد، أكثرهم، النواميس الدينية، لكن ذلك لا يكفي للقول إن الفاعلية الأخلاقية للدين عاطلة. إذ تبقى أوامر الدين ونواهيه بمثابة صوى ونقاط علام مُجرّبة للسلوك المنضبط، يمكن الالتزام بها في أي وقت. بيد أن الأمر مختلف على مستوى الدولة، وإن ظن الإسلاميون العكس عبر الدعوة إلى "تطبيق الشريعة". تجربتنا التاريخية القديمة تظهر أن القواعد التي قد تصلح على مستوى الأفراد والمجموعات الصغيرة، قلما تصلح على مستوى أوسع، الدولة. لذلك كان الحكم "طبيعيا"، "غير مؤدب" على الإطلاق وقائم على الهوى والشوكة، بدءا من وقت مبكر من التاريخ الإسلامي وبتناسب مع اتساع نطاقه. والتجارب الإسلامية المعاصرة كلها لا تظهر نجاحا في "تأديب" الدولة. وليس في السجل التاريخي للدولة والتفكير في الدولة إسلاميا ما يستند إليه لضبط الدولة المعاصرة في المجال العربي والإسلامي. 7 على أن أضعف موقع لنقد الإسلام السياسي المعاصر، وهو يعمل على فرض قواعد خارجية على الدولة ("الشريعة")، هو الطغيان المعاصر الذي لا دستور له. الفرص مهيأة لأن تبقى "الشريعة" اسما عاما للدستور المرغوب لنظم سلطة لا ضوابط لها من أي نوع، إلى حين تنضبط ممارسة الدولة بدستور حقيقي. وهذا بالطبع غير الدستور الشكلي الذي لا وزن له ولا اعتبار، ولقد انتهكته طوال عقود حالة أوضاع الاستثناء، وكان شاهد زور صامتا على حاكمية المخابرات، وعلى الرئيس ذي السلطان المطلق. ولعله لا شيء يبين أن لا دستور لـ"سورية الأسد"، وأن "سورية الأسد" لا تفهم معنى كلمة دستور أصلا، أكثر من استعداد النظام اليوم لوضع دستور جديد، وتكليف هيئة من موظفين موالين لوضعه. النظام نفسه بدستورين هو، بكل بساطة، نظام بلا دستور. هذا النظام هو الدستور. ولعل في توفر الدين (الإسلام والمسيحية...) على معايير مرعية عند عموم المتدينين ما يفسر أننا قلما نجد نموذج الأنا المطلق عند المتدينين، بينما هو وفير في أوساطنا الاجتماعية غير المتدينة. الأنا المطلق لا ينضبط بقضية عامة أو بمبدأ يعلوه. لا دستور له، "متحرر" بالمعنى البدائي والطفلي للكلمة، طاغية. وهو أحد ركائز الطغيان في البلد. الأنا المطلق لا يتعاون، ولا يشترك مع غيره. والأنا المطلق أخلاق نفسه ودستور نفسه مثل الطغيان. ونموذج الأنا المطلق أحد آفات العمل العام المعارض في سورية. بين جيل الكهول والشيوخ بخاصة. 8 الخاصية الخبيثة للطغيان السوري، والطغيان المحدث عموما، أنه لا مهرب منه. البداوة والقبيلة والتصوف والتقوى التي تكلم عليها عبدالله العروي في "مفهوم الحرية" كتجسدات للشعور بالحرية عند العرب ليست مهارب من الطغيان اليوم، ولا بالضرورة مؤشرات على تطلب عميق للحرية. البداوة لا فاعلية لها اليوم ولم يعد ينظر إليها كمثال محتمل، والقبيلة إطار استتباع بالأحرى. ربما تحتفظ التقوى بشيء من فاعليتها، والتصوف أيضا، لكنهما تجربتان غير عامتين، ولا تقبلان التعميم في عصرنا. لا حرية اليوم إلا في الدولة على ما يقول العروي ذاته، مستندا إلى هيغل. ولذلك لا حرية للسوريين إلا بالتخلص من نظام الطغيان، وبناء دولة تقوم على حكم القانون، وتتيح للمحكومين عيش حياة أخلاقية. 9 الثورة السياسية لا تعالج بذاتها مشكلات أخلاقية، لكنها مناسبة للتعرف على الوجه اللاأخلاقي لأوضاعنا السياسية القائمة. وبينما يكاد يكون يقينيا أن يحظى عموم الناس بحريات أكبر بعد الثورة، فإنه سيكون مهما جدا حفز التفكير الأخلاقي والعمل على قضايا الضمير والضوابط الذاتية. وإذ يرجح أن يجد الإسلام والإسلاميين موقعا معترفا به واسعا في الحياة العامة، فلن يتأخر في الظهور أنه لا يستطيع أن يكون منبعا للقواعد الأخلاقية العامة المتوافقة مع حرية الأفراد، ولا دستورا للدولة. لا يمكن للقواعد الضابطة للحرية أن تعم الجميع إن لم تكن متغيرة، موافقة لتغير أوضاع الجميع. وظاهر أن القواعد الإسلامية "خارجية" من وجهة نظر التجارب والأوضاع الحديثة التي يفترض أن تنضبط بها، وأنها أقرب إلى قوانين ملزمة منها إلى التزامات وجدانية. هذا لا يمنع أنه يمكن تشكل قواعد أخلاقية مستندة إلى تعاليم الإسلام، لكن واقع الحال يشير إلى هزال في التأمل الأخلاقي الإسلامي لا يقل عن هزاله في العقيدة "الحداثية". وتعوق التفكير الأخلاقي من الجهة الإسلامية آلية الفتوى والتفاتي التي هي مصدر سلطة الفقهاء، والمنبع الأهم لضمور القلب الذي يستفيته المرء في كل شؤونه ولو أفتاه المفتون، أي الضمير الشخصي الحي. وضمور "القلب" هو ما يرد المرء إلى ما يشبه إنسانا آليا، برنامجه هو "الشريعة". ويتمثل العائق الثاني في مراوحة الفكر الإسلامي عموما بين التلجلج في التعامل مع مسألة حرية الاعتقاد الديني وما بين الرفض الصريح لها. لا فكر أخلاقيا إسلاميا ممكن، ولا حياة أخلاقية ممكنة، بل ولا تدين إسلاميا ممكن، دون الإقرار الحاسم والنهائي بحرية الاعتقاد الديني، بما في ذلك حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، وحرية التحير في شؤون الاعتقاد. لا دين للمكرَه. ولا أخلاق. ويتصل بهذا عائق ثالث يتمثل في حرية جميع الناس في أن يعبروا علانية وفي المجال العام عن أفكارهم وآرائهم في مختلف القضايا، بما فيها ما يتصل بالدين. قد يتقبل الإسلاميون أن تكون للبعض أفكار وعقائد غير موافقة للدين، أو حتى مضادة له، لكن بشرط أن تبقى قيد النطاقات الخاصة، أو حبيسة الصدور. غير أن المرء لا يكون حرا، ولا فاعلا أخلاقيا، إن لم يعبر في المجال العام عن معتقداته الخاصة. ولا يتكامل أخلاقيا إن لم يعش اعتقاده دون إشكال، ويجاهر به. وليس هناك فرق البتة بين حظر السلطات السياسية التعبير عن المعتقدات السياسية غير النمطية علنا، وبين حظر السلطات الدينية التعبير عن المعتقدات الدينية المغايرة. إن كان ذاك طغيان، فهذا طغيان أيضا. والحرية، هنا وهناك، هي حرية المخالف والمختلف. 10 سنحتاج إلى ثورة على مستوى الأفكار والمعايير. ثورة أخلاقية، تجعل من التحرر من الطغيان منطلقا للتحرر من الشكل الخارجي أو الفقهي للضوابط الدينية، ومن هذا سندا مثبّتا للتحرر من الطغيان السياسي. لا مجال لمنازعة الدين سلطانه العام دون تطوير منظومات أخلاقية مستقلة عنه. ولا مجال لعيش حياة أخلاقية دون التخلص من الطغيان السياسي.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليسار موقع وعمل ودور، وليس نسبا أو هوية!
-
نظرة من خارج إلى الأزمة السورية
-
في شأن سورية وإسلامييها والمستقبل
-
الثورة السورية تنظر في نفسها
-
من الشخصي إلى العالم الواسع: حوار في شأن الثورة السورية
-
ملامح طور جديد للثورة السورية...
-
في أصول انقسامات المعارضة السورية وخصوماتها
-
المبادرة العربية والمعارضة السورية
-
-قنطرة-...
-
جوانب من سيرة المجتمع المفخخ
-
حوار في شؤون الثورة السورية
-
حوار في شان السجن والثورة والمثقفين
-
الثورة السورية بوصفها كثورة وطنية
-
جبهات عمل المجلس الوطني السوري
-
في الكذب والخوف وصناعة الطبيعة... والتمرد
-
-دولة البعث- و-سورية الأسد- والحروب السورية
-
حوار في شأن الثورة السورية والمجلس الوطني...
-
المجلس الوطني السوري وتحدياته الملحة
-
حوار متجدد حول الثورة السورية
-
من المملكة الأسدية إلى الجمهورية الثالثة
المزيد.....
-
السعودية تعدم مواطنا ويمنيين بسبب جرائم إرهابية
-
الكرملين: استخدام ستورم شادو تصعيد خطر
-
معلمة تعنف طفلة وتثير جدلا في مصر
-
طرائف وأسئلة محرجة وغناء في تعداد العراق السكاني
-
أوكرانيا تستخدم صواريخ غربية لضرب عمق روسيا، كيف سيغير ذلك ا
...
-
في مذكرات ميركل ـ ترامب -مفتون- بالقادة السلطويين
-
طائرة روسية خاصة تجلي مواطني روسيا وبيلاروس من بيروت إلى موس
...
-
السفير الروسي في لندن: بريطانيا أصبحت متورطة بشكل مباشر في ا
...
-
قصف على تدمر.. إسرائيل توسع بنك أهدافها
-
لتنشيط قطاع السياحة.. الجزائر تقيم النسخة السادسة من المهرجا
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|