|
ضرورة بناء يسار بستجيب لمتطلبات العصر
غسان الرفاعي
كاتب وباحث ماركسي من لبنان
الحوار المتمدن-العدد: 3616 - 2012 / 1 / 23 - 09:16
المحور:
ملف - حول دور القوى اليسارية والتقدمية ومكانتها في ثورات الربيع العربي وما بعدها - بمناسبة الذكرى العاشرة لتأسيس الحوار المتمدن 2011
تجتاح عالمنا العربي ، من اقصاه الى اقصاه ، ريح خيرة تبشر بافاق تفتح ديموقراطي طال انتظاره . فبات من الضرورة الخروج من الاحباط الذي يشل اليسار . اول شروط تحقيق هذه الضرورة، من اجل استكشاف المنحى الموضوعي لتطور عالمنا المعاصر ، هو بلورة مقاربة نظرية معمقة تنطلق، اساسا ، من المستجدات ( النوعية بمعنى ما ) الحاصلة في بنية الراسمالية المعاصرة، ومن المتغيرات في موازين القوى على المستوى العالمي ، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي . هذه الضرورة تحتمها ، من جهة ثانية ، مهمة ابطال المساعي التي يبذلها ايديولوجيو الراسمالية المعاصرة للترويج لابدية الراسمالية وخلودها، ولاظهار ان الاشتراكية هي مجرد طوبا فكرية غير قابلة للتحقق وللحياة. ولم يكن ظهورها الوقتي في الاتحاد السوفياتي الا صدفة ، او خطأ في مسار التاريخ... وبذلك يراد ابقاء الفكر والعملية الاجتماعية في اسر الماضي وظاهراته ، بالزعم " ببطلان الماركسية " ، وسد السبل امام التقدم نحو المستقبل الا في اطار النظام الراسمالي . هذه الضرورة تحتمها ، من جهة ثالثة ، مهمة التصدي للمفاهيم القاصرة والخطيرة التي تعتمد " نظرية المؤامرة" لتفسير انهيار الاتحاد السوفياتي والازمة في الحركة الشيوعية .وتغطي بذلك امكانية الكشف عن التشويهات التي لحقت بنظرية ماركس ، وما ادت اليه من صعوبات واخطاء ، بل وارتكابات في البناء الاشتراكي على صعيد الاقتصاد والاجتماع ، وعلى صعيد السياسة الممارسة داخليا وخارجيا، وعلى صعيد بناء الدولة وحقوق الانسان بمنحى يناقض مبادىء الديموقراطية التي كان من المفروض ان تكون اوسع مما هي في المجتمع الراسمالي حتى اكثرها تقدما . فبدون ذلك لا يمكن فهم اسباب انهيار التجربة ، ولا الازمات التي تعاني منها فصائل الحركة الشيوعية العالمية . ان اهمية هذه المقاربة النقدية للمارسة النظرية - السياسية والعملية لا تقتصر على فهم وتفسير صحيحين لاخطاء الماضي وحسب ، بل تكمن ، بوجه خاص ، في مساعدتنا على الرجوع الى منهجية ماركس المادية الديالكتيكية التاريخية لاكتشاف القانون العام ، الموضوعي، لتطور بلداننا، تحت تأثير المستجدات الحاصلة في الراسمالية المعاصرة. فبدون اكتشاف حقل هذا القانون بملموسيته لا مجال ، في اي حال من الاحوال ، صياغة استراتيجية ملائمة وسليمة وواقعية للنضال تخرج اليسار من ازمته ، وتدخله، من جديد ، عاملا فاعلا في الحياة السياسية .
الجديد في الراسمالية المعاصرة واثره على التطور الاجتماعي مازالت الراسمالية تتحرك، في عهد العولمة ، تحت تأثير تناقضها الاساسي الذي اكتشفه ماركس ! فاذا كانت الثورة العلمية - التكنولوجية ، وما احدثته من ثورة في الانتاجية، قد زودت " الانسان " ، من الناحية المبدئية ، بامكانيات أكبر للسيطرة على الطبيعة وتحويلها لمصلحته ، فان هذه المنجزات تسخر لصالح الاحتكارات الاعظم ، وتعطيها قوة هجومية هائلة زادت من عدوانيتها ، لانها تجري في اطار النظام الراسمالي ، وإن كانت قد أدت ، في الوقت نفسه ، الى تعميق تناقضها الاساسي ، البنيوي ، الى حدوده القصوى. هذا الواقع ، اذ يؤكد حتمية و تكرار الأزمات بصورة دورية ويصعب معالجتها في اطار البلدان المتقدمة ، يضفي عليها سمات جديدة ، من حيث مدى عمقها وشموليتها القطاعية والجغرافية ( عالميتها ) ...هذا ادى الى اتخاذ الازمة الاخيرة طبيعة سياسية مباشرة ، تجلت في انكشاف فشل الليبرالية الجديدة والاضطرار الى تدخل الدولة المباشر ، والى انشاء مجموعة العشرين ... الخ .
هذه التغيرات النوعية فرضت وتفرض التوجه الى اعادة بناء العلاقات الدولية على الصعيدين الاقتصادي والسياسي ، والى اجراء تغييرات وتعديلات في نظام تقسيم العمل الدولي الحالي ،لتأمين المرونة لاستيعاب تداعيات الازمة ، وذلك لان المعالجات داخل اطر العلاقات القائمة في البلدان المتقدمة لوحدها باتت أضيق واعجز عن استيعاب هذه التداعيات ، في حين تشكل اليلدان النامية ، بسبب تخلفها الاقتصادي ، احتياطا متاحا واقعيا لتحقيق هذه الغاية . ان عملية تكييف البلدان النامية لهذا الدور تتطلب ازالة العقبات والعراقيل الماثلة امام هذه الاستراتيجية ، وفق خطط تكتيكية تتلاءم مع السمات المميزة لتركيبات الهياكل الاقتصادية والسياسية والتكوينات الاجتماعية لكل مجتمع محدد بعينه، ووفق الدور المحدد او المفترض له لإشغاله في نظام تقسيم العمل العالمي الجديد . ويعار انتباه خاص ، في هذا المجال ، الى تلك المنجزات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تحققت بعد التحرر من السيطرة الاستعمارية المباشرة ، والتي تعتبر معيقة لتقدم العولمة . وتلجأ راسمالية العولمة ، ودولها ، الى جميع وسائل الضغط السياسي والاقتصادي، دون التورع عن استخدام القوة العسكرية الغاشمة ، عند الضرورة ، في حالات الاستعصاء. والى جانب ذلك، يعار اهتمام خاص الى الافادة من استياء الجماهير من تردي الاوضاع المعيشية ومن الفقر والمعاناة من الاستبداد والفساد في هذه البلدان . كما يجري التلويح بالمساعدات المالية والاقتصادية ، لتخفيف حدة المشاعر المعارضة التي يمكن ان نسميها "الحساسية الحضارية " لدى شعوب هذه البلدان التي ورثت من الحقبة الاستعمارية إرثا ثقيلا من التخلف والكثير الكثير من المسائل المعقدة ذات الطابع القومي أو العرقي، و من نزاعات الحدود . وتتجلى هذه "الحساسية الحضارية " في تعبيرات بالغة التنوع والتناقض وفي صيغ قومية أو عرقية أو دينية . أن عملية التكييف الشاملة هذه ، في الوقت الذي ترسي فيها أسسا لبناء علاقات تبعية لهذه البلدان ازاء المراكز الراسمالية ،تؤدي ، بصورة موضوعية ، الى إضعاف وتصفية نسبية للهياكل الاقتصادية الاجتماعية التقليدية العائدة للنظم شبه الاقطاعية والقبلية السائدة ، وتحمل ميلا عاما نحو آفاق متقدمة تستجيب لطموحات الجماهير ، ولمصالحها ، بدرجة ما تسمح بتحققها تفاعلات وتناقضات التكوينات السياسية والاجتماعية في البلد المعني . في ضوء كل ذلك يمكننا تثبيت الاستنتاجات التالية : اولا ، ان العولمة والاستراتيجية التي تتبعها ازاء البلدان النامية باتت عاملا رئيسيا ، متعاظم التأثير، في تحديد سبل التطور لهذه البلدان . وذلك لان الطابع الشمولي والمتزامن لهجوم العولمة على جميع الجبهات السياسية والاقتصادية والادتماعية والروحية ( الثقافية – التراثية - الحضارية ) في آن واحد ، قد اضفى على حركة التحرر الوطني لشعوب هذه البلدان طبيعة جديدة ، تتميز بتداخل مرحلة استكمال الاستقلال الوطني وتحقيق السيادة وبناء الاقتصاد المستقل مع حركة التحويل الاجتماعي ( الاشتراكية ) في عملية سياسية - اجتماعية ديموقراطية عامة عامة واحدة ،متصاعدة، متدرجة ، مستدامة . وهذا اذ يعني سقوط التقديرات القديمة عن تتابع المرحلتين التي يفصل بينهما فاصل زمني ، انما يعني ، في الوقت نفسه ، خطأ وخطورة عدم ادراك موضوعية عملية التطور الديموقراطي المتدرج باقحام عملية انجاز التحويل الاجتماعي ، زمنيا وعمليا ، على السياق العام لعملية التطور الديموقراطي دون ، وقبل ، تهيئة انضاج الشروط المادية والعملية التي تبرر وتضمن هذا التحويل وتؤمن حمايته اللاحقة . ثانيا ، ان الطابع الشمولي والمتزامن لهجوم العولمة على جميع الجبهات من المتوقع ان يثير ، ويحرك ، فئات اوسع فاوسع من الجماهير ، ويدخلها في الحياة السياسية ، تحت تأثير هذا العامل او ذاك من عوامل المواجهة . وهذه الظاهرة التي تبين وتؤكد اتساع القاعدة الاجتماعية المتصدية للعولمة، بصورة عامة ، الا انها تحمل ، في الوقت نفسه ، امكان حصول تناقضات معينة داخل العملية الاجتماعبة - السياسية في سياق تطورها وتناميها ، بحكم التأثير المتمايز لهذا العامل او ذاك من عوامل المواجهة على كل فئة جماهيرية . ومن الطبيعي ان يفرض هذا الواقع التزامات محددة على الفكر والممارسة اليساريتين من اجل ضبط التنسيق والتكامل فيما بين الاتجاهات والتيارات المختلفة ، وذلك من اجل تسهيل نمو وانضاج الحركة الشعبية الديموقراطية . ثالثا : مع اتساع هجوم العولمة من المتوقع احتدام الصراع على الجبهة الايديولوجية والسياسية ...، وان يشوب هذا الصراع الكثير من التشوش والالتباسات . فالعولمة تبرر استراتيجيتها الهجومية برفع شعار الديموقراطية وحقوق الانسان، استنادا الى واقع توجهها العام الذي يتطلب تقليصا نسبيا لبقايا النظم التقليدية في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية . هذا سيترك تأثيراته على وعي الناس وتصرفاتهم ، جراء ما عانوه طويلا ، وما زاوا يعانونه من فساد انظمتهم وجورها . وهذا الحافز للجماهير ، بحد ذاته ، امر ايجابي . فهو يدفع الى طلب المزيد من التقدم ومن الاصلاحات . مع ذلك يبقى الحذر مطلوبا بابداء الحيطة ازاء المبالغة في التقييم الايجابي ، وعدم رؤية الوجه الاخر للعملية . فطروحات العولمة خطوة متلازمة وضرورية لارساء نظام التبعية الجديد ، وبالتالي لابد من التفريق بين الليبرالية المعبرة عن مواقف وطموحات ا لجمهور وبين ليبرالية العولمة .
التوجه العملي ( السياسي ) للعولمة في منطقتنا
يجري تعامل العولمة مع منطقتنا على مستويين ، الاول : انطلاقا من اعتبارها وحدة استراتيجية نفطية - سياسية ( وقومية ) - عسكرية يهدف تأمين المصالح والامتيازات الاميركية اساسا " الاقليمية والدولية ، المباشرة والبعيدة المدى ، وضمان امن اسرائيل ودورها الضابط لتطور بلدان المنطقة . ونظرا لاهمية المنطقة ، من حيث اختزانها معظم احتياطي البترول العالمي ، ومن حيث موقعها الاستراتيجي الرابط بين قارات ثلارث، والمطوق لروسيا ، من الطبيعي ان تكون لاستراتيجية العولمة هذه تداعياتها على العلاقات الدولية ، وان تستجلب صراعات وتدخلات مختلفة تزيد في تعقيد مسارات التطور السياسي في كل بلدان المنطقة. مثّّل مشروع الشرق الاوسط الكبير ( او الجديد ) النموذج الابرز ( المتكامل ) للخطة التطبيقية لهجوم العولمة الاستراتيجي . غير ان هذه المحاولة لم تحرز تقدما ، لأن إدارة المحافظين الجدد سعت الى فرض مشروع الهيمنة والتبعية بالجملة ، دون الاخذ بعين الاعتبار ، بصورة كافية ، حجم وطبيعة وعمق التناقضات التي تختزنها المنطقة ، والضغوط المتعاكسة التي تتلقاها من خارجها ، ومدى الكره والغضب المتجمع ضد الولايات المتحدة تحديدا في قلوب شعوبنا العربية...، الى جانب ما اثاره المشروع من ردود فعل هائلة ،منوعة ، ومن مواقع سياسية جد متناقضة احيانا، من قبل اصدقاء وحلفاء الولايات المتحدة تحديدا . . لقد اجبرهذا الواقع الولايات المتحدة على التراجع و"تجميد" العمل بصيغة مشروع الشرق الاوسط الجديد ، تحت ضغط جملة تلك التناقضات . وانتقلت الى تحقيق استراتيجية العولمة اياها على اساس خطة تنفيذية جديدة ، متدرجة ، تأخذ بعين الاعتبار حقائق الحياة السياسية الواقعية بحرص اكبر، وذلك باتباع سياسةحل الاشكال عقدة عقدة ، بدءا من العقدة الاكثر احتقانا وتفجرا ، والاكثر حساسية وتأجيجا للمشاعر القومية: العقدة الفلسطينية . فالولايات لمتحدة تنطلق في نهجها هذا من التقدير بان الشروط السياسية الحالية ملائمة لفرض اكثر ما يمكن من التنازلات على الجانب الفلسطيني سواء بسبب الانقسامات داخل صفوف الفلسطينيين انفسهم ، ام بسبب تخاذل ، بل وتواطؤ النظام الرسمي لعربي ... في هذا الاطار يمكن فهم وتقدير ومحاكمة طبيعة ومضمون جميع المشاريع والاقتراحات المطروحة لحل القضية الفلسطينية، وفهم الالتباسات والتعقيدات والخلافات التي تبرز ما بين مواقف وتكتيكات الا طراف التي تتعاطى مع هذه المسألة بصورة مباشرة . ولكن الشيء الاكيد هو أن كل الصيغ المطروحة قاصرة ، بهذه الدرجة او تلك ، عن تلبية الحدود الدنيا من طموحات الشعب الفلسطيني المشروعة.
أما هجوم العولمة على المستوى الثاني فيأخذ منحى التعامل مع كل بلد بذاته ،مع اخذ مميزاته الخاصة بعين الاعتبار ، من حيث مستوى تطور الحياة السياسية فيه ، وطبيعة نظام الحكم ، وخصائص تركيبته الديموغرافية والاتنية وتناقضاتها ، وطبيعة بنيته الاقتصادية وعلاقاته الدولية والاقليمية على البعدين السياسي والا قتصادي. في هذا الضوء تصبح دراسة هذه الجوانب الرئيسية من حياة البلد دراسة تفصيلية موضوعية ، من قبل قوى اليسار ، مهمة اساسية لبناء استراتيجيتها الجديدة ، للتعبير عن طموحات المستقبل وطريقة تحقيقها ، وذلك لأن هذه المسائل بالذات ستكون الاساس لوضع الخطط الهجومية للعولمة. هذه الصورة العامة التي ترسمها الوقائع الموضوعية واتجاهات تحركها التي تحدد منحى التطورالعام تسمح بالاستنتاجات التالية : اولا : يتميز مسار القضية القومية، في عهد العولمة ، بالتداخل الشرطي بين استراتيجية حل القضايا القومية لصالح الشعوب عبر ممارسة نضالية طويلة المدى لتغيير موازين القوى على الصعيد الاقليمي وبين استراتيجية التحويل السياسي الديموقراطي للانظمة الاستبدادية القائمة . فالانظمة ، رغم الفروقات فيما بينها ، من حيث تركيب هياكلها الدستورية والتشريعية والتنفيذية، ورغم الخلافات والتناقضات فيما بينها ، هي ذات طبيعة متخلفة متشابهة . وقد اثبتت بالتجربة وبالنتئج السياسية التي ترتبت على ممارساتها بانها ليست عاجزة وحسب عن تحمل المسؤوليات والتحديات التي تواجه شعوبنا على مختلف الصعد ، بل انها ، فوق ذلك ، اصبحت مصدر كوارث وطنية وقومية جديدة ، وعاملا مشجعا ومساهما في التواطؤ ما دامت متحكمة بالسلطة . ثانيا : يفرض الانطلاق من التوجه الاستراتيجي في الاستنتاج الاول ضرورة اعادة بناء وتدقيق جميع السياسات والمواقف والمقولات ( التي تدخل في اطار الخط التكتيكي العام ) ذات العلاقة بالنضال القومي ( قضايا تحرير الاراضي المغتصبة - قضية الدولة الفلسطينية - قضايا التضامن العربي والوحدة العربية – اساليب واشكال النضال الملائمة ... الخ ) . وهذ الامر يتطلب ، ضمنا وبداهة ، اعادة تقييم موازين القوى بين الشعوب العربية وبين اعدائها في ضوء الطبيعة الشمولية الطويلة المدى للمعركة وضرورة تسخير الجدوى السياسية في المواجهات المنفردةفي هذه الجبهة النضالية او تلك لصالح الاستراتيجية ا لعامة لتغيير موازين القوى. كما أن هذا الواقع بات يفرض ، كذلك ، اعادة تقييم جدية لطبيعة المعركة ولموازين القوى بين الاطراف الداخلية في كل بلد ، وتحديد طبيعة التناقضات فيما بين البلدان العربية ومحاورها ، وامكان استخدامها ، ولو بادنى الدرجات ، لخدمة استراتيجية المواجهة الشاملة . وتصح القاعدة ذاتها عند تقييم هذه الموازين على الصعيد الاقليمي والدولي في اطار تشابك وتضارب المصالح. ثالثا : انكشف وتأ كد قصور برامج القوى القومية وازمتها في ضوء تجربة الممارسة الطويلة ، من داخل الحكم ومن خارجه ، حيث فشلت في تحقيق الاهداف والشعارات التي رفعتها . بل ثمة تحول خطير في نهج فصائل رئيسية منها نحو ممارسة سياسة رجعية شوفينة ، بوليسية مخابراتية دموية في السلطة ، معادية للديموقراطية والشعب في الداخل ، والى سياسة عدمية ، لا افق لها ، تراوحت بين تكرار الهزائم وخسارة المزيد من الارض وبين التواطؤ الواقعي وتغطية ذلك بطروحات كلامية " ثورية " ، او مساندة الاعمال المغامرة التي لاجدوى سياسية من ورائها . بيد ان المازق الاساسي في برامج القوى القومية هو في عدم اخذها بعين الاعتبار التغيرات النوعية على طبيعة ا لنضال في عهد العولمة . فالبقاء في اسر المفاهيم والصيغ والاساليب القديمة لم تعد تستجيب لمتطبات النضال المستجدة ، وليست قادرة على تعبئة الطاقات النضالية لمختلف فئات الجماهير التي باتت تحركها ، الى جانب القضايا القومية ، جملة من المطالب والطموحات المشروعة الأشمل .
رابعا : من حيث الاساس يمكن التقرير بان برامج القوى الاسلامية تشكو من نقاط الضعف والقصور اياها التي تشكو منها برامج القوى القومية . ورغم التضحيات والبطولات التي يبديها مجاهدوها في النضال ، فلا يمكن توقع اي نتائج ايجابية حاسمة من خوض مثل هذا الصراع ، في مواجهات اتخذت طابعا شموليا . بالعكس ، ان التجربة التي مررنا فيها خلال السنوات الاخيرة قد بينت ان الولايات المتحدة واسرائيل استغلتا نواحي الضعف والخلل في هذا الشكل القاصر من النضال لتوجيه ضربات فعلية ومعنوية ( نظرا لاختلال موازين القوى على هذا الصعيد في الظروف الحالية ) ، في حين لا يمكن القول بان جبهة العدو لا تحقق تقدما في الجبهات الاخرى عبر هجومها الشمولي .
خامسا : ان انفجار الحركات الشعبية بهذا الاتساع وبهذه القوة في مصر وتونس وليبيا واليمن وسوريا ، مع بعض الارهاصات التي تابعناها في البحرين والاردن... انما هو مؤشر بالغ الدلالة ، من وجهة نظر التطور الاجتماعي التاريخي ، لانه كشف ان الاوضاع الاجتماعية ناضجة ، موضوعيا ، لتقبل وتحقيق التحويل الديموقراطي ، وان الجماهير اظهرت عمليا استعدادها للنضال والتضحية . وحققت وتحقق على الارض منجزات وتغييرات سياسية كبيرة مرشحة لفتح آفاق واسعة للتقدم اللاحق . ان دخول الجماهير الى ساحة الفعل السياسي بهذه القوة وبالنتائج التي تحققها قد اكدت من جديد انها هي اداة التاريخ لدفع عملية التطور، وليس " الزعماء " ولا "الابطال" ! سادسا : في ضوء هذه الحقيقة ينبغي الاعتراف بان اليسار ، عموما ، كان بعيدا ، في احسن الحالات عن الاحساس بالمخاض الجاري في مجتمعه . وهذا امر يتطلب تقييما لا يتوقف عند مجرد الاعتراف " بالخطيئة " طلبا " للغفران " ! فما زال الحراك الشعبي في بداياته. وما زالت دروب النضال طويلة . والاهداف كبيرة ، وعملية تحقيقها معقدة . لابد من منطلق جديد فكري وسياسي يعيد للماركسية وللماركسيين دورهم المبادر والنوعي على الساحة الوطنية والساحة القومية ، ويجدد علاقاتهم العضوية مع الجماهير . وهذا الامر يتطلب ، بالدرجة الاولى ، نهجا جديدا للتعامل مع هذه الجماهير ، يختلف عن النهج الذي كانت تتبعه قوى اليسار، والذي كان يقوم على اساس فهم خاطىء وتفسير جامد لمفهوم الصراع الطبقي . اذ كانت تعتبر الممارسة السياسية العملية والوعي السياسي بمثابة نتاج عفوي ، ميكانيكي ، مباشر، لموقع الفرد ولانتمائه الاجتماعي (الطبقي ) . وهذا الفهم الخاطىء كان يستبعد تأثيرات عوامل سياسية واجتماعية وايديولوجية عديدة ( وطنية – قومية – دينية – قبلية – ثقافية - نفسية ... الخ ) ، ذات تاثير في تركيب وبناء مواقف الناس وسلوكهم الفردي والاجتماعي . مثل هذا الفهم الغلط أفسح في المجال ، في كثير من الحالات ، إما الى سلوك نهج منعزل عن الجماهير " المتخلفة " ( ! ) بصورة عامة ، وسد الطريق أمام تحريك طاقاتها السياسية الايجابية واطلاقها، وإما إلى ممارسات شعبوية تضّيع نهج الحزب وتغرقه في عفوية ، او في تبعية سياسية لا يمكن ان تؤدي الى تحقيق أهداف واضحة من المفترض أن يسعى الحزب اليساري الى تحقيقها. سابعا : ان الظروف الجديدة التي خلقتها العولمة ، بطيسعة هجومها الشمولي ، من جهة ، وانطلاق الحركات الشعبية ( الربيع العربي ) ، من جهة ثانية ، والاستنفار الذي تواجه به من القوى المضادة للثورة الداخلية والخارجية ، من جهة ثالثة ، تتطلب تصحيح الرؤية والممارسة ، وتجديد وتطوير اساليب التعاطي مع الجماهير، ومع التنظيمات والقوى السياسية والاجتماعية الناشطة في هذا الوسط ، لتوحيد التوجه العام الديموقراطي المتكامل للحركة الذي يبطل مناورات القوى المضادة للثورة ، ويزيل التشوش والارتباكات ، مع الحفاظ على التنوع وتعدد الاجتهادات فيما بين فصائل التيار الديموقراطي العام . ولا شك ان هذا الامر يقتضي بذل الكثير من الجهد والمرونة من قبل التنظيمات والاحزاب الديموقراطية ، وبالدرجة الاولى ، من قبل قوى اليسار ، لايجاد الصيغ الملائمة لكل فئة جماهيرية ، ووضع البرامج التي يمكن ان تتقبلها وتدفعها الى النضال لتحقيقها . مثل هذا التوجه وحده يمكن ان يؤدي الى النجاح في دفع النشاطات المتفرقة التي تحفزها وتحركها دوافع مباشرة مختلفة الى محصلة تشكل التيار الديموقراطي . هذا هو السبيل الواقعي الوحيد لتجميع وبناء الكتلة الشعبية التاريخية التي تضمن الاصلاحات والتحويل الديموقراطي في سياق عام متسق لتطور العملية السياسية بموضوعيتها .
اي حزب لليسار الجديد ؟ التغيرات النوعية التي تجتاح العالم ، وتجر بلادنا في تيارها ، تحتاج الى حزب يساري من نوع جديد، حزب مبدئي معارض، يهدف ، في المدى الاستراتيجي ، الى قيام نظام سياسي مدني. نظام ديموقراطي شعبي، بقيادة تحالف قوى الديموقراطية واليسار ، حزب يعتمد الاساليب الديموقراطية حصرا ، لكنه ، في الوقت نفسه ، حزب واقعي ياخذ بعين الاعتبار الامكانات التي تتيحها الظروف الدولية والداخلية الراهنة، حزب يناضل من اجل اجراء اصلاحات ديموقراطية شاملة ، تدريجية ، في بنية النظام بكل مؤسساته وبناه التشريعية والتنفيذية والقضائية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية ، وفق برامج علمية مدروسة ، حزب يمارس معارضته للحكم على قاعدة ما تؤدي اليه ممارسته الفعلية في تحقيق او عرقلة التوجهات الاصلاحية الديموقراطية. ويمكن ان يدرس الحزب امكان مشاركته في الحكم اذا ما تهيأت في البلاد شروط سياسية تجعل من هذه المشاركة عامل تسريع في وتائر تحقيق الاصلاحات الديموقراطية وتعميق مضامينها . حزب يؤمن بمبدأ تداول السلطة، ويمارس نشاطه السياسي في ضوء هذا المبدأ، ويعتبر الانتخابات النيابية والبلدية ، وفي سائر منظمات المجتمع المدني الوسيلة الديموقراطية لتعبير الشعب عن ارادته في كيفية ادارة دولته ومجتمعه وتحقيق الاهداف التي تؤمن مصالحه . حزب يعتمد اساليب النضال الدبموقراطي السلمي حصرا لتحقيق اهدافه القريبة والبعيدة، ويستند في ذلك على قوة الجماهير المنظمة الواعية وزيادة فعاليتها وتاثيرها على الحياة السياسية لترجيح المنحى الديموقراطي في التطور السياسي في البلاد و يعارض ويدين لجوء اي فريق او طرف سياسي الى العنف والسلاح من اجل تحقيق اهدافه . انطلاقا من مبدأ ابقاء القرار والمبادرة بيد الجماهير، يكون الحزب عاملا مساعدا وداعما فكريا وسياسيا وتنظيميا للحراك الجماهيري ويتخذ لنفسه صيغة حزب الكادر . ويمارس الحزب اوسع مبادىء الديموقراطية لبناء وتنظيم حياته الداخلية ، سواء لتحديد علاقات الهيئات بالهيئات ، ام لتحديد علاقات الاعضاء بالهيئات ، على اساس ان الانتماء الى الحزب يقوم على مبدأ الانتماء الطوعي والالتزام الطوعي . وتقوم الهيئات القيادية ، على مختلف الدرجات ، على قاعدة الانتخاب من قبل اطر انتخابية شرعية ملائمة لكل درجة . ويحق لاي رفيق او مجموعة من الرفاق ان يقدموا برنامجا خاصا بهم الى المؤتمرات والترشح على اساسه ، مع ضمان حقهم الشرعي في الترويج الكامل لهذا البرنامج دون اي معيقات من اي نوع كان ...الخ. غسان الرفاعي
( ملاحظة : من الطبيعي ان بجري تناول موضوع الحزب وبنائه اتلتنظيمي في بحث خاص يتناسب مع الاوضاع الملموسة في كل بلد )
#غسان_الرفاعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حوار من أجل صياغة رؤية سياسية ماركسية
المزيد.....
-
وفاة جندي كوري شمالي أسير في أوكرانيا- تقارير
-
ترامب يطلب من المحكمة العليا الأمريكية تأخير حظر TikTok
-
طائرة مدنية تقل مئات الركاب.. مسؤول أممي تواجد في مطار صنعاء
...
-
سوريا..القوات المسلحة للقيادة الجديدة تشتبك مع قوات قسد في
...
-
روايات عن أشباح تحوم حول المقر الرسمي لإقامة رئيس الوزراء ال
...
-
الجيش النيجيري يقتل 10 مدنيين عن طريق الخطأ
-
زلزال بقوة 6.3 درجة يضرب سواحل جزر الكوريل الجنوبية الروسية
...
-
البرلمان العربي: حرق الجيش الإسرائيلي لمستشفى كمال عدوان شما
...
-
مقاطع فيديو -صادمة-.. سجين يموت تحت الضرب المبرح من حراس الس
...
-
مصادر طبية: كوادر في مستشفى كمال عدوان استشهدوا حرقا
المزيد.....
|