|
رؤى المثقفون والإصلاحيون فى السعودية حول سبل الإصلاح السياسى
فكرى عبد المطلب
الحوار المتمدن-العدد: 3568 - 2011 / 12 / 6 - 18:49
المحور:
المجتمع المدني
مدخل : يستهدف هذا البحث تتبع جذور المعارضة الثقافية والمدنية ، وأشكال تطورها ، فى مملكة آل سعود ، بغية رسم صورة أكثر تكاملاً ، لما ستفضى إليه المطالب الإصلاحية لهذه القوى ، فى مواجهة الحكم المطلق لآل سعود ، وما يعتوره من صراعات متأججة بين أطراف . وذلك عبر محاور ثلاث ، يتوقف الأول : عند مغزى الإحياء الثقافى للتراث الروحى والحضارى لمكة ، من جانب العديد من جماعات المثقفين السعوديين ، ولاسيما الحجازيين منهم ، ويشتمل الثانى : على أشكال المعارضة السياسية الحجازية التى واجهت ابن سعود ، لأجل قيام جمهورية حجازية مستقلة ، وما ترتب عنها من اخفاقات ، أما المحور الثالث : فيتمحور حول أساليب النظام السعودى فى احتواء حركات المعارضة ، منذ الهزة التى كادت أن تعصف الحكم السعودى ، عقب اغتيال الملك فيصل ، ثم احتلال جماعة جهيمان العتيبى للحرم المكى، كمدخل لاستكشاف أوضاع المعارضة السعودية ومستقبل المملكة . 1 - المثقفين الحجازيون وإحياء التراث الثقافى لمكة : فى معرض تنديده بالمجموعات السعودية ، الساعية لتقزيم الدور الحضارى والإنسانى والعالمى لمكة المكرمة ، على إثر اختيارها عاصمة للثقافة الإسلامية ، فى العام 1426هـ/2005 ، يقول الكاتب السعودى : سحمى الهاجرى : " هناك من حاول أن يجبر دور مكة المكرمة الحضارى والإنسانى وأن يحصره فى نطاق (معرفى) محدود ، أو من لام النادى (المسمى بنادى جدة الأدبى) على مبادرته المعرفة المنسجمة مع دوره الثقافى المشهود فى تشكيل الوعى العام ، ومع المعنى العالمى لمكة المكرمة ، الذى حاول النادى ، إبراز أهميته فى بناء الذهنية الثقافة المتجددة ، انطلاقاً من وعى النادى بأن هذه الأمة فى عصر العولمة والتحولات الفكرية والعلمية التى تتلاحق بإيقاع متسارع بحاجة إلى الوعى الصحيح بالتراث ، بصفته أحد الأسس الراسخة لإثبات الهوية المتفردة " ( ) . وكانت تنديدات هذا المثقف السعودى اللامع ، قد جاءت عقب تنظيم النادى الأدبى الثقافى بمدينة جدة فى العام 2005م ملتقى علمي ، تحت عنوان : " مكة المكرمة بوصفها نصاً " ، الذى توخى – كما يقول الهاجرى " استجلاء الآفاق المعرفية والإنسانية لمكة المكرمة التى تتعالى على نزوات الخطاب الفتوى والنفعى الضيق ، الذى يقزم معناها " ( ) . هو – إذاً – الفعل الثقافى الجديد ، الذى أشهره هذا الفريق من مثقفى تلك المملكة ، تجاه كل من عمد إلى تغييب دور مكة الثقافى والحضارى ، أكان من جانب الملك الأول : عبد العزيز، أو ممن تبعه من أبناءه ، فى المُلك والهيمنة على مُقدرات ومصائر أبناء تلك المملكة ، أو ممن التحقوا بآل سعود وعناصر الجماعة الوهابية ، من أهل الدعاية والتدليس فى حقول الثقافة والإعلام والتعليمى طوال العقود الثمانية السابقة ، وحتى اليوم ! . فما صاغه الهاجرى – ضمناً – من لوائح اتهام ، لخصوم الوجه الحضارى والإنسانى لمكة المكرمة ، فى مملكة آل سعود ، يعكس – بالفعل – واقع الهم الثقافى ، المُلقى على عبء قطاعات واسعة من مثقفى هذه المملكة ، منذ الإلحاق القسرى لإقليم الحجاز – وفى القلب منه مكة المكرمة – لسلطنة آل سعود ، فى العام 1926 ، عقب حرب ضروس فُتك فيها بأبناء هذه البقاع المقدسة ، كى يكون قرباناً غير مقدس لتلك المملكة ، التى عرفت منذ العام 1932 بـ : مملكة آل سعود ، فغيبت فعل مكة الحضارى ، فى سابق الزمان الإسلامى التليد ، حيث ظلت مكة – كما يقول الهاجرى ، مجدداً " رسالة ضرورية وخالدة ومنجماً ثرياً تتم استعادته كلما حصلت خلخلة فى مسيرة الأمة " . ويضيف : " طالما كانت مكة حاضرة فى كل الأدوار على مر التاريخ ، فهى الرابطة وهى قبلة المسلمين ومهد الرسالة ، (كما) كانت عظمتها تتجلى فى أسمى صورها عند تكون قاعدة انطلاق يوم كانت الحضارة العربية والإسلامية تقود الحضارة الإنسانية ، وتغيب هذه العظمة أو تضمر حين تتحول مكة المكرمة إلى مكان انكفاء أو تكسب فى فترات انحدار الأمة " ( ). هو – إذاً – عطاء مكة الثقافى ، الذى لا ينضب . لذا ، ظلت المُعين لجمهرة المسلمين ، فى أزمنة الانحدار ، التى تخللت مسيرة أمتهم ، فى سابق العصر السعودى . فعبر مواسم الحج والعمرة يئتلف الحجيج والمعتمرين ، فى مؤتمر لا نظير له ، حيث الداعى إليه إله العالمين ، فيتبارى فيه المتبارون ، ويتناظر فيه المتناظرون من كل حدب وصوب، نظراً وعلماً وتداولاً ، فيما يخص شئون دينهم ودنياهم ، فتتماذج رؤاهم وتتصل ، وتتناغم أفئدتهم وتنصهر ، عنواناً لثقافة عالمية متفتحة ، ولهوية إسلامية مشتركة ، رغم تباين الأجناس والأعراق والبيئات . مركزية مدينة : منذ ظهور الإسلام إلى فتح مكة ارتبط ( ) " مفهوم المركزية " بمفهوم المدينة والبلدة التى محورها البيت الحرام ، وأصبحت مكة المكرمة تمثل مدينة المركز للإسلام ، ومن ثم للحضارة الإسلامية ، فالمكان والبيت كان لهما دوراً مهماً وأساسياً فى تحديد عنصر المركزية فى بناء وتأسيس الأمة والحضارة الإسلامية ، وكل الحضارات التى ظهرت فى التاريخ الإنسانى ارتبطت فى حركتها وتقدمها بمكان أو موقع مثل لها دور المحور وعنصر الانبعاث والانطلاق ، فالحضارات كما يقول فرناند بروديل هى مواقع ، ويرى أنه مهما علت أو صغرت حضارة من الحضارات فلابد أن نجد لها بداية متصلة ومرتبطة بأرض ما ، وأن جزءاً كبيراً من واقع تلك الحضارات قد كان رهناً بمتطلبات وخيرات أتاحتها تلك الرقعة الجغرافية ( ) . وفى نظر الدكتور محمد إقبال أن رسالة الإسلام قائمة منذ اللحظة التى بعث بها الله فيها سيدنا إبراهيم عليه السلام ، أبا الأنبياء ، ومرشدهم إلى الطريق ، ومنذ أن أوحى جل شأنه إلى إبراهيم وابنه إسماعيل أن يطهرا البيت الحرام ، فعمرا البيت بإذن منه جل جلاله ، وتوالت الرسالات السماوية من ذلك العهد حتى مجىء خاتم الأنبياء الذى أعلن لا نبى بعدى ، لذلك يرى إقبال أن حياة الأمة تتطلب مركزاً محسوساً لها ، ومركز الأمة الإسلامية هو البيت الحرام ، وقانون ميلاد الأمم يتطلب مركزاً ، والحياة تتجمع حول المركز ، فمن المركز للقوم ارتباطهم وانتظامهم ، ومن المركز يكون دوام زمانهم ( ) . فكل أمة وحضارة صنعت لها – إذاً – مدينة لعبت دور المركز فى حركة ونشاط تلك الأمم والحضارات ، فأثينا لعبت دور مدينة المركز فى الحضارة اليونانية ، وقد أطلق عليها بعض القدماء تسمية مدرسة اليونان ، واعتبرها بعض المعاصرون ، المكان الذى ولدت فيه الحضارة الغربية ، وروما القديمة التى لقبت فى العصور الوسطى بمدينة المدن وصرة العالم، لعبت دور مدينة المركز فى الحضارة الرومانية ، ومكة المكرمة لعبت كذلك دور مدينة المركز فى الحضارة الإسلامية . ويرى زكى الميلاد " أن القرآن الكريم اختار لمكة اسم إلى جانب أسماء أخرى ، يوحى بدلالة مفهوم المركز لهذه المدينة وهو اسم (أم القرى) الذى ورد فى القرآن الكريم مرتين ، مرة فى قوله تعالى : " وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذى بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها " ومرة فى قوله تعالى : " وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أم القرى ومن حولها " كما تعددت المعانى والدلالات فى كتب التفاسير القديمة والحديثة فى تحديد ما يقصد بأم القرى ، وأجمل الشيخ الطبرسى تلك المعانى بقوله (يعنى بأم القرى مكة ، ومن حولها أهل الأرض كلهم عن ابن عباس ، وسميت مكة أم القرى لأن الأرض دحيت من تحتها فكأن الأرض نشزت منها ، وقيل لأن أول بيت وضع فى الدنيا وضع بمكة فكأن القرى نشأت منها ، وقيل لأن على جميع الناس أن يستقبلوها ويعظموها لأنها قبلتهم كما يجب تعظيم الأم) . ويضيف الميلاد : " مع فريضة الحج التى أوجبها الله على المسلمين كافة لمن استطاع إليه سبيلاً ، تحولت مكة المكرمة إلى أكبر وأعظم مكان ومركز فى العالم يجتمع فيه الناس ، عبر هذا الاجتماع الذى يتحقق فى الحج بهذا العدد الكمى من الناس ، وبهذا التنوع الإنسانى ليس له مثيل فى تاريخ الأمم والحضارات السالفة والمعاصرة ، والحقل الدلالى لهذا الاجتماع فيه من التأمل والثراء ما يثير الدهشة والعظمة ، فقد تحول هذا المكان من واد غير ذى زرع ، إلى مكان تهوى إليه أفئدة من الناس ، ويأتونه رجالاً وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا منافع لهم ، ويذكروا اسم الله فى أيام معلومات . وقد نشأت عن هذه الفريضة طريق عرف بطريق أو طرق الحج لتعدد اتجاهاته ، وأصبح المسلمون يسلكون هذه الطرق بكل اتجاهاتها ذهاباً وإياباً من أى مكان كانوا فى العالم . وعدت هذه الطرق من طرق الحضارة الإسلامية ، وأصبحت جزءاً من جغرافيتها . واكتسبت المزيد من الأهمية والحيوية مع مرور الوقت ، وقد اشتهرت كما اشتهر من قبل طريق الحرير الذى أطلق عليه من شدة أهميته طريق الحرير العظيم ، وكان يبدأ من الصين ويمر بوسط آسيا وبحر الخزر والبحر الأسود ، وينتهى فى بيزنطة المعروفة الآن بمدينة أسطنبول، واكتسب هذا الطريق شهرة عالمية لتأثيراته ومساهماته فى الاتصال بين أمم ومجتمعات متعددة الديانات والثقافات والقوميات ، ومازال العالم يذكره إلى هذا اليوم ، ويجرى الحديث عنه ليس لإسهاماته التجارية فحسب ، وإنما لإسهاماته فيما يمكن أن يعرف بحوار الحضارات أو الثقافات ، وهذا ما التقتت إليه منظمة اليونسكو التى شكلت فريقاً علمياً مع بداية القرن الحادى والعشرين لإحياء طريق الحرير ، وإعداد مجموعة من الدراسات تبرز التأثيرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية له على تنمية المجتمعات التى كانت تقع فى طريقه . وحديثاً التفتت المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم (الإنيسيسكو) لأهمية إحياء طرق الحج فى سياق اهتمامها بتوثيق التراث الإسلامى ، وفى إطار إبراز ملامح الهوية الثقافية الإسلامية ، ولهذا الغرض عقدت الإنيسيسكو ندوة دولية فى القاهرة سنة 2002 ، حيث أكدت هذه الندوة على الثراء الفكرى والحضارى الذى شكلته طرق الحج فى منظومة الثقافة الإسلامية ، فهذه الطرق عززت من التأثيرات الثقافية لمكة المكرمة ورسخت فى مركزيتها " وذلك على ضوء الأوصاف التى تطلقها الأدبيات والكتابات العربية لهذه المدينة تعكس مكانتها المركزية فى الثقافة العربية الإسلامية ، فهى حين يصفها المحقق حمد الجاسر يقول كانت مكة وماتزال نقطة التقاء ، ومركز تجمع لجميع المسلمين فى مختلف الأقطار الإسلامية ، ولهذا كانت من أقوى مراكز نشر الثقافة بين تلك الأقطار ، وصلة وصل بين العلماء فى شرق البلاد وغربها ، شمالها ، وجنوبها ، وفى مختلف العصور الماضية ، وكان علماء الأندلس كما يضيف الجاسر يفدون إلى مكة المكرمة لا للحج وحده ، ولكن لينشروا علماً ، وليستزيدوا منه، وليكونوا صلة بين شرق البلاد وغربها بالعلم والثقافة . كما كانت للمستشرقين أبحاث حول مكة المكرمة أظهروا مثل ذلك الوصف وأكدوا عليه ، ومن أشهر هؤلاء المستشرق الهولندى كريستيان سنوك هورجرونيه الذى وصل إلى مكة فى 22 فبراير 1885م ومكث فيها ستة أشهر ونصف الشهر ، وظل يحضر مجالس العلماء هناك ، ووطد علاقات بكثير منهم ، ونشر كتاباً مهماً من جزءين ، يرجع إليه الدارسون باهتمام كبير عن مكة المكرمة ، حمل هذا الكتاب عنوان (مكة المكرمة فى نهاية القرن الثالث عشر الهجرى) ، وفى هذا الكتاب اعتبر سنوك أن من المستحيل على المرء قراءة الآلاف العديدة من الإنتاج الأدبى العربى الذى سطر حول هذه المدينة ، وبعد أن أسهب كثيراً فى وصف تفاصيل الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيها ، اعتبر أن مكة المكرمة تمثل مركزاً للعلم والثقافة . كما تظهر مركزية مكة المكرمة فى الثقافة العربية الإسلامية فى صور عديدة من التجليات . ومن هذه الصور اختيار مكة المكرمة مكاناً للبحث والتأليف وإتمام الأعمال الفكرية بصنوفها المختلفة ، التوثيقية والتحقيقية والبحثية على اختلاف تخصصاتها ومجالاتها ، فى التفسير والحديث والفقه واللغة والأدب وغيرها من مجالات المعارف والعلوم الإسلامية ، وغالباً ما يكون هذا الاختيار مقصوداً ومطلوباً لذاته ، كسباً للتشريف ، وطلباً للتسديد ، وزيادة فى التبجيل ، ورغبة فى أن تعم الفائدة بهذا العمل .. إلى غير ذلك من محاسن تحدث عنها أصحابها تلك الأعمال ، وبنوع من الاهتمام فى مقدمات مؤلفاتهم ، ومن هؤلاء الزمخشرى الذى ألف كتابه الشهير فى تفسير القرآن والمعروف باسم (الكاشف) فى جوار بيت الله الحرام، وبهذا الجوار لقب الزمخشرى بلقب الجارلله ، ومن هؤلاء أيضاً ، الإمام البخارى صاحب كتاب الجامع الصحيح فى الحديث ، وإلى جواره كذلك أنجز النحوى جمال الدين بن هشام الأنصارى كتابه فى اللغة (مغنى اللبيب فى كتاب الأعاريب) ، كما أنجز أيضاً عبد الرحمن بن إسحاق الزجاجى كتابه (الجمل) فى جوار ذلك البيت العتيق وهكذا آخرون . لذا ، طلبت " مكة المكرمة المكان الوحيد فى العالم الإسلامى التى يجتمع فيها علماء الأمة على اختلاف مذاهبهم ومللهم ومناهجهم ، طلباً للعلم ونشره ، وتحصيلاً للرواية والسماع والإجازة ، ورغبة فى التفاكر والتذاكر ، وليس هذا فحسب ، بل ولتحصيل الكتب التى يتعثر الوصول إليها ، فكان بعض العلماء كما يقول شوقى ضيف إذا افتقد كتاباً ولم يستطع الحصول عليه ، رغم تطوافه إلى البلدان ، لجأ إلى النداء عليه فى الحج ليخبره عنه بعض من يراه فى مكتبة من المكتبات المتناثرة بين الأندلس وأواسط آسيا حتى الهند ، ولعل من أبلغ هذه الصور ما ناره فى ذلك النسق من الكتابات القديمة والحديثة ، التى وثق فيها أصحابها رحلاتهم إلى تلك المدينة المقدسة وأداء فريضة الحج ، وفى هذه الكتابات أظهر مؤلفوها المكانة المركزية لمكة المكرمة فى الثقافة العربية الإسلامية ، وكيف أنهم وجدوا فى نفوسهم من الدوافع والبواعث والخواطر ، ما يحرضهم برغبة وشوق لتوثيق وتسجيل تأملاتهم وخواطرهم وتجاربهم المفعمة بالروحانية وصفاء الإيمان ، وقد شكلت هذه الرحلة عند أصحابها تحولاً معنوياً ، ومنعطفاً تاريخياً ، وبداية لمسلكيات مغايرة عما كانوا عليه من قبل " . والواقع ، فإن هذا اللون من الثراء الثقافى القديم ، ظل متصلاً إلى ما قبل العهد السعودى ، مباشرة ، طبقاً لما يذكره كاتب سعودى آخر ، هو عبد الرحمن خياط ، استناداً إلى الترجمة التى اضطلع بها الشيخ عبد الله ميرداد أبو الخير (ت : سنة 1343 هـ) لأكثر من ستمائة من علماء وعالمات مكة المكة ، ما بين القرن العاشر إلى القرن الرابع عشر من الهجرة ، حيث تولوا تدريس علوم ( ) القرآن والحديث والتفسير والفقه والتاريخ والنحو والصرف والتجويد والجبر والفلك والمعانى والقوافى والبيان والمنطق والبديع والبلاغة والمنظور والاستطراد والطباق والتورية والاستخدام والمقابلة والإرصاد والإدماج والمذهب الكلامى وحسن التعليل والتجريد بأنواعه والمشاكلة والمزاوجة والطى والنشر والجمع والتفريق والتقسيم والجمع مع التفريق والجمع مع التقسيم والمغايرة وتأكيد المدح بما يشبه الذم وتأكيد الذم بما يشبه المدح والإيهام والنفى والسلب والإيجاب والقول بالموجب وائتلاف اللفظ مع المعنى والتفريع والاستتباع والإبداع والأسلوب الحكيم وتشابه الأطراف والعكس وتجاهل العارف والتمرين بفرعيه والتصحيف والازدواج والسجع والموازنة والترصيع والتشريع والتصوير والمواربة والتطريز والاكتفاء والائتلاف والتسميط ، ثم يضيف بأسى : " لم يبق معنا من تلك العلوم سوى (القرآن والتفسير والحديث والفقه والتاريخ والنحو والتجويد) إلا أن أساه هذا لم يمنعه من ذكر علماء آخرين مثل : " الشيخ عبد الله بن صدقة دحلان الذى كان يدرس علم الفلك فى المسجد الحرام وأيضاً المنطق ومما يذكر أنه ذات يوم كان يدرس ويشرح قصة الإسراء والمعراج فطلب منه دليلاً محسوساً على وقوعهما بالجسم والروح فرد " الطائرات " الأسانسير ، الإذاعة، السيارات ، سيدنا جبريل عليه السلام يهبط بالوحى فى لحظة ، وفى المنطق (العمل بالقديم الصالح والأخذ بالجديد الأصلح) . صفوة القول ( ) : " إن ما وجد بمكة المكرمة من قوام حضارى مكتمل الأركان ومنظم بشكل دقيق يدعو إلى الإعجاب ، كيف لا وهى مهوى أفئدة جميع المسلمين ومحط أنظارهم فكل ما هو حضارى أخذ أهلها بطرف منه ، خاصة وأنه ضمت خليطاً من الجنسيات الإسلامية التى قدمت إليها بثقافاتها ومعارفها ، فطبقوا بها ما يوافق المجتمع والبيئة المكية ، علاوة على أن هذا الخليط لم يكن بأعداد كبيرة بحيث تستطيع فرض ثقافاتهم على المكيين كما هو حاصل اليوم ، ولكن أعدادهم مناسبة بحيث أنهم اندمجوا مع المكيين وأصبحوا جزءاً منهم ، بعكس ما يوجد اليوم من وافدين بأعداد كبيرة جداً لم يهضمهم المجتمع المكى فاستطاعوا الاحتفاظ بموروثاتهم الثقافية ويعيشون فى أحياء خاصة بهم ولم يندمجوا بالمكيين كما فعل أسلافهم " . نحن – إذاً – إزاء نمطين متباينين ، أشد التباين لتلك المدينة المركزية ، حيث اندماج كل وافد إلى مكة فى ثقافتها المنفتحة ، بحيث ما تبدى – تاريخاً – فى النمط الأول ، بينما شهد النمط الثانى اغترابات لهذا الوافد – مقارنة بأسلافهم – فانفصل وانعزل عن روح المدينة ، رغم بقاءه فيها (!) ، حيث الأحياء الخاصة ، وكأنه فى مدينة أعجمية ، من مدن الغرب الأوروبى والأمريكى (!) ، على نحو ما هو حاصل فى زمان مكة السعودى . ولم لا ؟ وقد دأب الخطاب السعودى على تجفيف ينابيع مكة الروحية والثقافية والإنسانية ، أكان لآجل مكاسب نفعية مباشرة ، عبر مواسم الحج والعمرة ، أو نتيجة لهيمنة خطاب وهابى مادى آخر ، يجرم كل التقاليد الروحية والعلمية لأسلاف زوار مكة من المسلمين ، فانكفأت المدينة على نفسها، وأى وهجها الذى عرفته لقرون مديدة ، وهى ما أتاح للمكيين ، وللحجازيين ، عموماً ، أن يكونوا فى طليعة مثقفى شبه جزيرة العرب ، حتى عشية السيطرة السعودية ، ولاسيما فى حقل الأدب ، وما يتفرع عنها . وفى هذا ، يتذكر باحث سعودى عريق ، هو : حسين محمد بافقيه ، أوضاع تلك المرحلة ، بالقول ( ) : " أن مفهوم الأدب والأدباء كان فى تلك الأيام غير مفهومها اليوم ، فالأدب عند العامة هو التحلى بالأخلاق الفاضلة . أما عند الخاصة والطبقة المثقفة طبقة المشايخ فالأدب فى نظرهم ورأيهم الاشتغال بكتب البلاغة وأنواعها البديع والبيان والتشطير والتخميس والتضمين . أما كلمة الأديب فلم تكن تطلق إلا على الشبان والناشئة الذين يتصفون بالصفات الآتية : أن يكون الشاب هادئاً فى أعماله وحركاته وسكناته وأن يُطرق رأسه إذا تكلم مع من هو أكبر منه سناً ، وأن يكتفى من الضحك بالتبسمات الخفيفة لاسيما فى مجلس علم يضم الخاص والعام، وأن لا يتصدر فى المجالس بل يكتفى بالجلوس فى آخر الصفوف بعيداً عن صفوف الكبار وإذا تكلم أحد الكبار فلا (يحشر) نفسه لا بالتصديق ولا بالتكذيب ولو كان المتكلم مخطئاً أو جاهلاً ، عملاً بالحكمة " أكبر منك يوماً أعلم منك بسنة " ، وإذا سئل عن أمر فتكون إجابته على قدر اللزوم مجرداً من أى تعليق أو هوامش من عنده ، وإذا مشى مع الكبار فيكون فى الساقة ، فالشاب الذى يحوز هذه الصفات ويتحلى بهذه الأخلاق كان جديراً بأن يلقب بلقب "الأديب" وقيل إن ولد فلان أديب ولو كان هذا الأديب أمياً لا يقرأ ولا يكتب " . ويضيف : " هكذا كان الوضع فى الثلث الأول من القرن الرابع عشر الهجرى ، ثم ما هو غير قليل حتى اندلعت الثورة العربية الكبرى فى مكة المكرمة (1344هـ/1916م) فأحدثت وعياً فكرياً واجتماعياً وأدبياً جديداً ، وأفضت بالنخب الثقافية فى مكة المكرمة إلى حقبة من التفكير والوعى لم تأنس إليه بطحاء مكة المكرمة من قبل ، وكان من أثر تلك الثورة استعادة الهوية العربية فى التعليم والإدارة ، وكان لصحيفة " القبلة " أثر فى إطلاع ناشئة الحجاز على ألوان من الكتابات العربية ، شعراً أو نثراً ، لعدد من الأدباء العرب الذين ساندوا الثورة العربية والتفوا حولها ، وكان لبعضهم ، وبخاصة الشاعر فؤاد الخطيب ومحب الدين الخطيب يد فى إدخال ألوان من الثقافة والأدب إلى مكة المكرمة لم تكن معهودة قبل تحريرهما لصحيفة " القبلة " ، وبهذا أدرك الجيل الجديد أن هناك ثقافة أخرى غير التى ربوا عليها ، وأن هناك مناحى للقول مختلفة عما ألفوه أجيالاً متتالية ، وعرفوا أن هناك شعراً غير الشعر الذى بين أيديهم ، وأجناساً أدبية جديدة كـ " المقال " و" القصة القصيرة " ، وأساليب كتابية تنتهج نهجاً وسطاً تنأى عن السجع والجناس والمحسنات البديعية ، فكانت صحيفة القبلة – فيما يقرر أحمد على وقد كان معاصراً لها – " مدرسة أدبية مهمة للنشء فى الحجاز ، فقد وجد الشباب طلبة المدارس فى العكوف على قراءة القبلة خير طريق لفهم المصطلحات الحديثة والتعابير الجديدة والمفاهيم الأدبية ، كما كان لمقالات الشاعر الكبير المرحوم فؤاد الخطيب والافتتاحيات التى يدبجها الأستاذ محب الدين الخطيب ، رحمه الله ، والقصائد والمقالات العلمية والتاريخية التى تنشر على صفحاتها – أثر قوى فى تذوق الناشئة للأدب الحديث وتكوين شخصية الأدباء بالمفهوم المصرى الحاضر ، وتشجيع نفر من المتعلمين لكتابة المقالات فى التاريخ ، والقصائد فى الإشادة بالماضى المجيد والدعوة إلى إحياء المجد العربى والترنم بالوطنية العربية . ويواصل بافقيه شهادته بالقول : " ولم تمر الثورة العربية الكبرى فى وعى الثقافة فى مكة المكرمة ومدن الحجاز الأخرى مرور الكرام ، فلقد هزت ، كما يرى غير واحد من مثقفى تلك المرحلة ، وأدخلت أنماطاً من التفكير لم تكن ذات جذور ، وأسهمت مؤسساتها التربوية والصحفية فى تكوين جيل جديد من الشبان الذين طعموا لبانها ، وأفضى اتصالهم بعدد من رجالات القضية العربية الذين وفدوا إلى مكة المكرمة أن يتعرفوا إلى ما يجرى خارج مدينتهم، وخارج قطرهم الذى ينتمون إليه ، وكان ذلك الاتصال العتبة الأولى لصلة الناشئة بالأدب الحديث فى مصر والشام والمهجر ، وحرصوا على التلمذة الفكرية والأدبية لأبرز الشخصيات الأدبية والفكرية التى تضج بها سماء الثقافة العربية فى عصر نهضتها ، كالكواكبى وشوقى وحافظ ومطران والعقاد وطه حسين والرافعى وميخائيل نعيمة وجبران وشبلى شميل وفرح انطون وخير الدين الزركلى وأمين الريحانى وغيرهم " . ويضيف : (لقد) بدت دلائل اللحظات الأولى لميلاد الأدب الحديث فى الحجاز ، فى مكة المكرمة ، فى السنوات التى أعقبت الثورة العربية الكبرى ، وذلك حين نهد بعض أدباء الحجاز ، وبخاصة محمد حسن عواد ، إلى نشر شىء من شعره فى صحيفة " القبلة " وبنفس شعرى يختلف عن الأنماط الشعرية السائدة ، ومن ذلك قصيدته المبكرة " تحت أفياء اللواء ": نهضتى أنت فخرى أنت ذخرى بك قدرى يعتلى ، فوق السماك الأعزل لك قد آثرت فى عمرى احتساء العلقم بك دوماً فقت قوماً عرفوا معنى الحياة فانشلينا وارفعينا فى الورى أرفع جاه نحن قوم نعتلى تحت ظلال العلم **** نهضتى ! ما ارتقائى واعتلائى واكتسائى ثوب عز فيه يصفو العيش لى بسواك . أنت أنبوب حياة الأمم بها تحيا كل عليا أنت عنوان البخار افهمينى علمينى فى الورى خفض الذمار وارفعى راياتنا فوق جباه الأنجم ***** كما أبرز فى ذلك الأوان ، وعلى خفاء ، بعض التجمعات الأدبية التى رعاها ، بعيداً عن عين مؤسسة الثورة ، ثلة من الشبان المنتمين إلى مكة المكرمة أو الذين قصدوها ، ولعل أظهرها ما أشار إليه محمد سعيد عبد المقصود من أمر " الشيبة الحجازية " التى تألفت فى أواخر عصر الحسين بن على ، والتى ضمت نفراً من الشبان الذين اتصلوا بالأدب الحديث ، وكانوا يتخفون عن أعين السلطة ، ولعلها أن تكون الجمعية الأدبية التى أشار إليها محمد حسن عواد، والتى يتعاطى أعضاؤها ، وهم محمد سرور الصبان ومحمد عمر عرب وعبد الله فِدا وعبد الوهاب آشى ومحمد حسن عواد الذى قدم إليهم من جدة ، الأدب ، شعره ونثره ، والتى اتخذت لها اسماً ذا دلالة وهو " جمعية الأدب الحديث " وذلك فى عام 1342هـ / 1923م . ويرى بافقيه أن ميلاد الأدبي الحديث فى مكة المكرمة كان ممثلاً لمولد طبقة ثقافية جديدة، كان من السائغ أن يكون كتاب " أدب الحجاز " جماعى الطابع ، وأن يكون الأدباء الشبان الستة عشر الممثلين الأوائل للأدب الحديث فى البلاد ، الذى ولد ونما ونشأ فى مكة المكرمة، وظهر أن ما كان متناثراً ، هنا وهناك ، من شأن الاشتغال بالأدب وفنونه فى القرن الثالث عشر وبدايات القرن الرابع عشر الهجريين ، أصبح المسوغ لولادة طبقة جديدة لا من الأدباء فحسب ، ولكن من المشتغلين بالشأن الثقافى ، الذين سيثيرون عدداً من الأسئلة التى كانت غائبة فى ثقافة مكة المكرمة ، والتى لم تكن لتثير جدلاً قبل ذلك ، وأن هذه الطليعة الأولى للأدب والثقافة فى مكة المكرمة ، ومن ثم المملكة العربية السعودية : " فالأدباء الشبان كانوا قد اختلفوا إلى مؤسسات تعليمية حديثة كـ " الفلاح " و" الصولتية " و" الفخرية " وامتهنوا مهناً ذات طابع مدنى حديث كالتعليم فى المدارس ، أو العمل التجارى ، أو العمل فى دواوين الدولة ، وقد كان من يزاول العمل الأدبى قبل ذلك من علماء المسجد الحرام والمدرسين فى أروقته الشريفة ، أما فى بداية ذلك العهد (السعودى) فقد تفرغ أولئك الشبان للأدب ، وعرفوا به ، وقدموا أنفسهم للناس بصفتهم أدباء قبل كل شىء حيث طغى على شعر " أدب الحجاز" ونثره الرؤية الرومانسية ، أدبياً ، والرؤية الليبرالية ، فكرياً ، وكان ذلك نتيجة طبيعية لاتصال الأدباء الشبان ، آنذاك ، بالحركة الأدبية الحديثة المشتعلة فى مصر والشام والمهجر، بما يغلب عليها من دلائل الأدب الحديث كالقلق والاكتئاب والتمزق والحيرة ، وهى السمات التى عادة ما تهيمن على " الرومانسية " والدعوة إلى الحرية والفردية ، وحمل عبء إصلاح المجتمع والنهوض بـ " الوطن " هذه المفردة الجديدة على المعجم الثقافى فى الحجاز ، وذلك بعض فيوض خطاب عصر النهضة فى الوطن العربى ، وعبر أشكال أدبية بالغة الجدة ، حينذاك ، كالشعر المنثور والمقالة ، إضافة إلى القصيدة العمودية ، وإن كان هم النهوض بالوطن وإعادة أمجاده خلاصة ما يطمح إليه " أدب الحجاز " كما تعبر عن ذلك هذه المقتطفات: عبد الوهاب آشى (آلام وآمال : نحو أمتى ووطنى) نفسى مروعة وقلبى يخفق فى ليلة حاك الجمود ظلامها ما ذاق فيها الطرف من طعم الكرى وأقض مضجعى وأنهكنى الأسى ولكم أسوت القلب وهو مولة حزناً على أحوال أمتى التى والفكر فى جو الظنون محلق والهم أوسعنى اضطراباً يُقلق سنة ، وكنت كما يكون الشيق والهم يودى بالأبى ويؤرق وكففت دمعى وهو هام مغدق مازال يرديها الشقاق المعرق
محمد صبحى (المجد المندثر) : قف بالطول وشاهد سيىء الكلل واندب معالم أوطان عفت ، ولها أين الحضارة إذ كانت مرفرفة قد كنت تبنين فى الجوزاء منزلة واسكب دموع الأسى كالعارض الهطل غر المفاخر من أيامها الأول فى رحب مغناك تدعو النفس للعمل شادت بنا يد الأقدار فى زحل
محمد حسن عواد (حقائق فى الوطنية والاجتماع) : متى نرتقى المجد الصريح المخلدا متى نملك الشأو الرفيع جلالة أنبغى المعالى بالتقاعس ضلة أما وجلال المجد ما المجد مدرك أرونا بنى الأوطان عزماً مجسماً أرونا نهوضاً واتركوا اللهو واكتبوا ولا تتوانوا إن سمعتم مقالة يفيض على الأسماع والسمع مطرق ويوحى إلينا أن للغرب عزة فردوا صداها واهجروا سوء قوله وما هو إلا الجد من حاك خيطه ونكتب فى التاريخ فجراً مؤبداً ونرمى إلى العلياء سهماً مسدداً ونطلب عزاً فى الخليقة رقدا بغير جهاد يجعل الشعب مسعدا أرونا بنى الأوطان عزا مشيدا على صفحات العصر ذكراً مؤبداً يرددها الشانى وقولاً مفندا محاسن أوروبا ويطرى مردداً تربع منها هامة المد مقعدا ولا توهمونا أن للغرب سؤددا تناول عن بعد سماكا وفرقداً
محمد عرب حرب (إلى الشرق المستكين) : يا شرق هل نفدت قوا أم قد جبنت عن النضا بالأمس كنت مناضلاً تسعى إلى العلياء لا بالأمس كنت ورائد واليوم فل مضاءك ك وهدّك الخطب الكبير ل وهالك الرزء الخطير تبغى الصدور أو القبور تخشى مناوأة الدهور الإقدام يهديك الطريق الحدثان هلا تستفيق
محمد سعيد العامودى (ظلموك يا أم المدائن) : القوم قومك والبنون بنوك إن جد جد الأمر يا " سورية " والطامحون إلى العلا أهلوك فهم الذين جنودهم تحميك
عبد القادر عثمان (دمعة على الشرق) : كشف الساقى عن الثغر اللثاما وتجلى كعروس تزدهى .... تلك والله سويعات الصفا .... أين من شادوا المعالى أين من واستمد الغرب من أنوارهم أين من فى الشرق كانوا شهباً عبد الوهاب النشار (إلى الوطنيين) : وفى شرف الأوطان كل عظيمة ولا بلد إلا إذا عز أهله محمد سرور الصبان (يا ليل) : يا ليل صمتك راحة خففت من آلامهم أما ترى حدث الزمان فسقى القوم رضاباً ومداما فى حلاها وعلاها تتسامى
حين كان الشرق للعز مقاما
كسبوا بالسمى مجدا ولا يسامى شعلة التمدين فازدادت ضراما رجموا الجهل فولى الانهزاما؟!
تحقرها للمرء منقبة الفخر عزيز وإن ذلوا فيا ضيعة العمر
للموجعين أساً وكربا ووسعتهم رفقاً وحبا أمضهم عسفاً وغلبا
المناجاة (محمد جميل حسن) : على وطنى العزيز تحيتى وسلامى على وطنى العزيز الذى أحبه من شرقيه إلى غربيه ومن وديانه إلى جباله إلى رباه تحية الابن الصادق الإخلاص لأمه التى حضنته أيام صباه حامد كعكى (كيف يجب أن نكون ؟) : نظرة إلى الماضى تكفى لأن نطلع منها على مجمل ما كان للحجازيين فى القرون الأولى من الشأو الرفيع والمنزلة السامية بين جميع طبقات الشعب العربى فى كل قطر " . ويرى بافقيه : " إن الأدب كان غريباً فوجد من يرده عن غريته ، ويعيده من بعد قلة وفرقة عزة وقوة ، وحين عاد على أيدى أولئك النفر من الأدباء الشبان كان قد أسدل ستاراً على أدب العصور المتأخرة ، شعره ونثره ، وفتح نافذة على العصر الذى ينتمى إليه ، هذا ما تنبىء به تلك الفورة فى تأكيد حضور الأدب – والحديث منه خاصة – والدعوة إلى الانفصال عن دواعى التقليد ، وتم ذلك ، وبصورة لافتة للنظر ، فى تكريس مؤسسات خاصة بتدشين معالم الأدب الحديث ، كـ " المكتبة الحجازية " التى أسسها محمد سرور الصبان فى مكة المكرمة ، والتى قامت بنشر " أدب الحجاز " و" المعرض " و"خواطر مصرحة " وكأنه أراد من وراء ذلك إحداث قطيعة مع أشهر مطبعتين فى مكة المكرمة ، وهما " الميرية " و" الترقى الماجدية" اللتان لم توليا الأدب اهتماماً يذكر ، خاصة أن مضمون الكتب الثلاثة التى تمثل فاتحة الأدب الحديث لم تكن لتنسجم مع مضمون الكتب التى قامتا بنشرها ، (لكن) بعد سنة من صدور "أدب الحجاز" جاء " المعرض أو آراء شبان الحجاز فى اللغة العربية : 1345هـ / 1926م، مؤكداً الحس الجماعى فيه ، ومنتمياً إلى موضوع بالغ الحداثة ، وهو ما أثارته مقالة " نقيق الضفادع " لميخائيل نعيمة فى كتابه " الغربال " عن اللغة الأدبية ، والتى أزرى فيها على عدد من الكتاب والأدباء المحافظين على النقاء اللغوى وقوفهم فى وجه التجديد فى الأساليب اللغوية والكتابية ، والتى لخصها فى مقولته النقدية الذائعة : " فى الأدب العربى اليوم فكرتان تتصارعان : فكرة تحصر غاية الأدب فى اللغة ، وفكرة تحصر اللغة فى الأدب " ، فكان سؤال محمد سرور الصبان إلى رصفائه من شبان الحجاز : " هل من مصلحة الأمة العربية أن يحافظ كتابها وخطباؤها على لغة الفصحى أو يجنحوا إلى التطور الحديث ويأخذوا برأى المصريين فى تحطيم القيود اللغوية ، ويسيروا على طريقة عامية مطلقة ؟ فتفضلوا بإبداء رأيكم وما يحملكم على ترجيح إحدى الكفتين من البراهين القاطعة والأدلة المعقولة عسانا نجد مجموعة من أقوال ذوى الاطلاع على ما يساعدنا على تكوين رأى عام فى هذا الموضوع . وبغض النظر عن الالتباس الذى حدث فى فهم الصبان ورفاقه من شبان الحجاز لمقولة ميخائيل نعيمة تلك ، وعدها دعوة إلى اللغة العامية ، وهو ما لم يصرح به نعيمة – كما يقول بافقيه – فإن الذى يسترعى النظر أن اتصالاً حقيقياً قد انطلق من مكة المكرمة بالقضايا الأدبية والنقدية التى كانت مشتملة فى الأدب العربى الحديث فى مصر والشام والمهجر ، خاصة أن القضية المثارة آنئذ ، لم تكن بعيدة عن الأساليب الكتابية التى ضج بها الأدباء الشبان ، وهم يجيلون أبصارهم فيما بين أيديهم من مؤلفات علماء مكة المكرمة ومثقفيها ، والتى لم تبارح، إلا فيما ندر ، الأساليب الذائعة فى العصرين المملوكى والعثمانى ، وأن الأدباء الشبان الذين تألف وعيهم الأدبى فى أم القرى ، كانوا ، فيما يبدو ، قد نفضوا أيديهم مما يشتغل به القوم على مقربة منهم ، ويمموا وجههم صوب المنابر الأدبية المشتعلة فى الأدب العربى ، وفى السنة ذاتها أصدرت المكتبة الحجازية فى مكة المكرمة أول كتاب فردى وهو " خواطر مصرحة " لمحمد حسن عواد ، الذى لم يمنعه صدوره فى مكة المكرمة عن أن يبشر بقيم بالغة الحدة والجذرية ، وأن يتخذ من كتابه ميداناً للإنحاء باللائمة على الثقافة التقليدية فى الحجاز ، وأن يقترب ، بصورة غير معهودة ، من المناطق الشائكة فى الثقافة والفكر والمجتمع، وأن يعلن انتماءه إلى قيم الثقافة العربية المعاصرة حتى أصبحت مكة المكرمة نهباً لتحولات أدبية (لكنها) ما لبثت أن اتخذت من المنابر الصحفية وبخاصة صحيفتنا " أم القرى" 1343هـ / 1924م ، و" صوت الحجاز " : 1350هـ / 1932م ، مهاداً للجدل الأدبى والنقدى وحضنا للأصوات الأولى فى الشعر والقصة والنقد والمقالة ، وأن تكون صفحاتها ساحة للمعارك النقدية والأدبية التى هى نموذج لما يشتغل عليه الأدب الحديث من قضايا وإشكالات ، وصورة مقربة لما أحدثه الوعى الأدبى الجديد من عوامل جذب إلى حماه ، حتى غدا ما كان غريباً مجهولاً غاية المتعلمين وطلاب المدارس وموظفى الدولة الذين أرادوا أن ينتموا إلى دولة الأدب ، هذه الدولة التى كانت رمزاً للعصرية والتقدم . لذا أصبح الأدب الذى ولد فى مكة المكرمة ، جاذباً للجماء الغفير من الأدباء الذين قصدوها من نواح مختلفة من المدينة المنورة وجدة والرياض ، وكأن الرسالة التى تريد أم القرى إيصالها إلى الجميع أنها خلاصة المشهد الأدبى الذى شهدته العقود الأولى من ولادة المملكة العربية السعودية ، وأنها استطاعت أن تقدم لقاصديها الثقافة التاريخية التى اشتهرت بها . قروناً متتالية ، وأن تقدم ، كذلك ، الأدب الحديث الذى كان فاتحة أسئلة النهضة التى انطلقت من بطحائها ، بعد أن عاشت الأجيال الجديدة من أدبائها ومثقفيها قلق التحولات فى الأدب والفكر ، ذلك القلق المبدع الذى كان من حسن حظ التاريخ الثقافى لمكة المكرمة أن سجل بعض وقائعه محمد حسين هيكل ، فى أثناء رحلته الشهيرة إلى أم القرى ، حيث قال : " وصبوة شباب مكة للحياة الحديثة قوية آخذة بنفوسهم تدفعهم إلى تتبع ما يُكتب ويقال عن هذه الحياة ، وإلى التعلق بما يظنونه من صورها وأمثالها ، ويبلغ اندفاع بعضهم فى هذا السبيل حداً يكاد ينكره ماضى البلد الحرام فى العصور القريبة ، بل يكاد ينكره حاضره ممثلاً فى الجيل الذى تخطى الشباب إلى الكهولة " . بيد أن هذا الجيل الكهل لم يكن هو وحده العقبة فى وجه شباب مكة ومثقفيها المتطلع إلى كل صور الحياة الحديثة ، إذا ما سايرنا كلام هيكل حول الدور السلبى لهذا الجيل الكهل ، ناهيك عن التراث التقليدى لمكة ، والذى لم يكن – فى الواقع – إلا متفتحاً ومتسامحاً ومتفاعلاً ، مع كل عصر . 2 - المعارضة السياسية الحجازية بين الصعود والهبوط : يبدو لافتاً أن العصر السعودى الصاعد ، آنذاك ، كان قد بدأ يضرب بقفازاته الغليظة على حياة الحجازيين عموماً ، والمكيين خصوصاً ضمن عملية تحول قسرية للوجه الثقافى الحضارى الذى شهدته هذه البلاد الكريمة ، على نحو ما بينا أعلاه ، وهو ما عكسته احتجاجات الحجازيين وصفوة عقولهم ومبدعيهم ، فى وجه حالات التجبر السعودى وتعسفات العناصر الوهابية ، إلى حد التخطيط – جدياً – لإقامة جمهورية حجازية مستقلة فى العام 1936 ، أى بعد أقل من عشر سنوات من فرض الاحتلال السعودى كامل سيطرته على الأراضى الحجازية ، وهو ما سجله الدبلوماسى البريطانى المقيم فى مدينة جدة caivert فى ثنايا التقرير الذى وجههه لحكومته ، حول الأحداث التى شهدتها المدينة فى يونية من تلك السنة ، والذى يقول فيه : " إن من أكثر المسائل إثارة فى مكة ، تدور حول الشيخ محمد سرور (الصبان) الذى يتمتع بنفوذ كبير كنائب لوزير المالية . إن الشباب الحجازى ، مبهور بغنى ، وسعة مدارك ، وتحرر سرور ، الذى صار كرمه حديث المدينة المقدسة . إنه يحاول خلق الأمل لدى الشباب بإمكانية إقامة جمهورية الحجاز تحت زعامته ، والانفصال عن نجد ، التى تستنزف ثروة الأراضى المقدسة . بيد أن تخازل الصبان عن تلبية مطامح أبناء جلدته ، فى ضوء ولاءاته لآل سعود ، قد دفعت لهؤلاء الحجازيين بتوسيع دائرة المعارضة خارج حدود تلك المملكة ، عبر الاستنجاء بجماعات المثقفين المصريين ، فى القاهرة ، وهو ما تجاوبت معه ، وبدرجات متفاوتة ، أعداد منهم ، وفى مقدمتهم الكاتب والمفكر المصرى اللامع : سلامة موسى ، الذى سارع بتأسيس جمعية " أصدقاء الحجاز " ، ما حمل ابن سعود لتقديم احتجاج شديد اللهجة إلى الحكومة المصرية برئاسة زعيم الوفد : مصطفى النحاس ، الذى جاء رده معاكساً – كلية – لما كان يأمله الملك السعودى ، وذلك بإعلان التعاطف الكامل مع أبناء الشعب الحجازى ، وهو الموقف الذى ترتب عليه حملة رسمية وشعبية لدعم الحجازيين ، من خلال تشجيع المصريين على الحج ، وما تلاها من إبرام سلسلة الاتفاقيات مع الحكومة السعودية لأجل تحديث مناطق الحجاز ، ورفع مستوى معيشة أبناءه ، وهو وضع تمكن خلاله ابن سعود من فرض مشروعية تمثيله لأبناء الحجاز وغيرهم من أبناء المناطق الأخرى ، ما أخمد فتيل المعارضة السياسية الحجازية ، وتوارى جماعات المثقفين ، فى ظل عمليات التجفيف الوهابية لكل منابع التنوع الثقافى والأدبى ، فى هذه المملكة ، والتى تواصلت بعد تولى سعود ولاية الملك ، عقب وفاة والده ، فى العام 1953 . بيد أن بوادر الصدام بين سعود ، هذا ، والرئيس المصرى : عبد الناصر ، على خلفية قيام الوحدة المصرية السورية ، واندلاع الثورة اليمنية ، منح المعارضة الحجازية وغيرها فرص جديدة للعمل السرى ، فتبدت المنظمات الموالية للأفكار الناصرية والقومية ، وحتى الماركسية، ناهيك عن الشيعية منها – وهى المعارضات التى لم تصمد كثيراً ، بعد هزيمة العام 1967 ، وما ترتب عليها من انحسار المد القومى والثورى ، فى عموم المنطقة ، فصعود قوة السعودية المالية ، نتيجة الطفرة فى أسعار النفط ، منذ منتصف السبعينات من القرن المنصرم ، ما أتاح لآل سعود امكانات أكبر لتعزيز نمط حكمهم المطلق . إذ يعد النظام السياسى السعودى الأنموذج الاستثنائى بين نظرائه ، من أنظمة الحكم الشمولية ، فى العالم العربى ، لجهة تثبيت نمط من أنماط الحكم المُطلق ، غير المُقيد بدستور ، أو برلمان، أو قضاء مستقل ، منذ تأسيس الدولة السعودية الراهنة (الثالثة) ، فى العام 1932، وحتى اليوم . وذلك على الرغم من جملة التحولات والتبدلات التى شهدها المجتمع السعودى والإقليمى والعالمى ، خلال سبعة عقود خلت ، وذلك على مختلف الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، مما يثير العديد من الأسئلة والاشكاليات ، ذات البعد الإبستمولوجى (المعرفى) حول طبيعة الآليات التى حكمت ، ولاتزال ، تحكم عمل النظام السعودى ، مما حال دون تفاعله مع حركة الواقع المتغير ، خصوصاً بعد العام 1975م ، الذى شهد اغتيال رأس الحكم العائلى (فيصل) ، على يد أحد أبناء تلك العائلة ، ما أملى عليها البحث عن صيغ سياسية وصفت بـ " الإصلاحية " والتى مثّل إعلانها اعترافاً بالطابع السياسى لحادث الاغتيال ، بعد الإخفاق فى تسويقه كفعل فردى طارىء ، كما شاع ، آنئذ ، بل إرهاصاً بما كان يمور فى جسد الحكم السعودى من تفاعلات صراعية بين أجنحته ، وبينها وبين مختلف الفئات والشرائح الاجتماعية والفكرية الصاعدة ، وهى الصراعات التى جرى العمل – دوماً – على احتواء آثارها ، أو كبحها ، ما خلق تراكمات أدت إلى انسداد سُبل التغيير السلمى ، فى ذلك المجتمع المتعدد المذاهب والمشارب الدينية والسياسية ، واقعاً ، والمُنمط مذهبياً وفكرياً ، سلطوياً (!) إلى اليوم ، ما جعل النخبة الحاكمة تعيد إنتاج خطابات قديمة فى صيغ مستحدثة ، كلما أحوجتها المآزق إلى ممارسة ذلك الفعل ، دون خشية أو حياء من جمهور المملكة ، أو من شعوب العالم الإسلامى ، التى ما فتئت تنظر إلى تلك المملكة بوصفها الحاضنة لأقدس بقعتين لديه (مكة والمدينة) ، ما جعل الصورة السياسية لهذه المملكة عنواناً سلبياً للديانة الإسلامية الغراء ، ولعشرات الملايين من معتنقيها ، عبر العالم . ولاريب ، فى أن الأراضى الحجازية – التى احتوت تلك المقدسات بين جنباتها – شكلت تحدياً سياسياً واقتصادياً وثقافياً وحضارياً لدى دولة آل سعود ، منذ أن استطاع ابن سعود (عبد العزيز) – عبر الدعم البريطانى ( ) الصريح والمستتر – ضم هذه الأراضى إلى سلطانه فى بادية نجد وملحقاتها ، منذ العام 1926م ، لما مثلته التجربة الحجازية فى مجالات الإدارة العامة من خصوصية متقدمة ، لم تعهدها بقية مناطق شبه الجزيرة العربية ، ما أدى إلى اتخاذ هذه التجربة أساساً لإدارة شئون المملكة ، بعد صبغها بالتوجهات التوتاليتارية (الشمولية) لابن سعود ، ما أفضى إلى أشكال من التهجين الشاذ بين نمطين متباينين من أنماط الإدارة السياسية فى بنية الحكم السعودى . 3 – تناقضات الحكم السعودى بين أصول مرتكزاته وتحديات أزماته : مثّل مقتل (فيصل) - بوصفه رأس الهرم السياسى السعودى – حدثاً مدوياً ، لم يعهد مشهده أركان الأسرة الحاكمة ، من قبل ، لكونه صادراً عن أحد أبناء المستوى الأول فى صفوفها ، وهو المدعو بذات الاسم (فيصل) ، وبصفة ابن الأخ لضحيته ، وكونه النجل الثانى لمساعد بن عبد العزيز أخى فيصل الملك ، وإن كان فرع القاتل لأمه ينحدر من عائلة ناصبت عائلة آل سعود العداء طويلاً ، على الملك والنفوذ فى مناطق نجد ، هى آل الرشيد . ولهذا ، لم تتردد السلطات السعودية – فور ذيوع خبر اغتيال فيصل – فى نشر عناصر "الحرس الوطنى" ، بسياراتهم المصفحة فى مختلف أنحاء العاصمة (الرياض) ، خشية أن يكون حادث الاغتيال إيذانا بتمرد قبلى ، من جانب آل الرشيد ، وحلفائهم ، أو " مقدمة لتحرك شعبى ، أو عسكرى هدفه الإطاحة بنظام الحكم السعودى " ( ) ، وهى الإجراءات التى اقترنت بإطلاق المسئولين السعوديين عشرات التصريحات المتعهدة بالقيام بإجراءات سياسية إصلاحية ، من قبيل البدء بتأسيس مجلس للشورى ، وإعداد دستور للبلاد ، وما إلى ذلك . وهو ما عبر عنه الملك الجديد (خالد) ، فى أول بيان له – بتاريخ 31 مارس ، من ذلك العام (1975) ، وذلك بقوله : " لقد حرص الراحل – فيصل – أن يقدم لشعبه نظاماً أساسياً للحكم مستمداً من كتاب الله وميادين الشريعة الإسلامية (...) ، ليرسى للعدل قواعده ، وينظم علاقة السلطة ببعضها ، وصلات الحاكم بالمحكوم ، يكون من دعائمه مجلس الشورى ليضطلع بدوره التنظيمى الهام ، وأعلن (رحمه الله عن رغبته تلك وعمل لتحقيقها بتهيئة الجو الملائم وشرع فى مراحل التنفيذ (!) ، وشاءت إرادة الله أن يرحل قبل تحقيق رغبته " . واستناداً إلى ذلك تعهد خالد بأن حكومته " ملزمة أمام ذكرى العاهل الراحل بإتمام ما تبقى من الشوط ، وإبراز هذا العمل الهام ليصبح حقيقة ترسى دعائم الاستقرار وتقوى أجهزة الحكم " . كما قرن خالد بين ما أسماه " تثبيت دعائم النظام الأساسى لقواعد الحكم على أسس متينة " وبين استكمال جميع الإجراءات التنفيذية لوضع نظام المقاطعات موضع التنفيذ ، ليكون هو الآخر لبنة من لبنات بنائنا الشامخ " ( ) (!) . وعلى الرغم من محاولة البيان تحميل الإرادة الإلهية – لا الإرادة البشرية – مسئولية عدم تطبيق الإجراءات الإصلاحية ، بسبب قبض الله – جل شأنه – روح فيصل (؟!) ، فقد جاء التعهد بالسير فى تنفيذها ، عبر الملك الجديد ، كإحدى الإشارات الدالة على المخاطر التى صارت تحيط بأوضاع الحكم العائلى،إن لم تُقدم على طريق الإصلاحات . ومع ذلك ، فمن اللافت أن الحكم السعودى لم يكن راغباً – بالفعل – فى الإقدام على أى من الخطوات الإصلاحية المعلنة ، وهو ما عكسته التصريحات المتضاربة لولى العهد الجديد ، آنذاك ، فهد بن عبد العزيز ، الذى زعم فيها أن القوانين والأنظمة السائدة فى المملكة استوفت كافة الجوانب " بحيث يندر أن تكون هناك أخطاء أو ثغرات مهمة " فى قرارات الحكم السعودى لكنه عاد ليؤكد " أن التنظيم الجديد لمجلس الشورى سوف يصدر قريباً جداً بإذن الله"( ) ، وهو ما حمل المراقبين على التساؤل عن مدى جدية العائلة الحاكمة فى توسيع قاعدة المشاركة السياسية ، شعبياً ، فى ضوء الدفاع الذى أبداه فهد عن صواب الإدارة المتبعة من قبل لشئون البلاد ؟! وهو الأمر الذى أفصح عنه الأخير صراحة فى تصريحات أخرى لاحقة، حيث نفى وجود أى استعداد من جانب الحكومة السعودية لإقرار مبدأ انتخاب أعضاء مجلس الشورى الجديد ، وذلك بقوله : " لا .. سيكون بالتعيين .. إننا لا نريد أن نضحك على أنفسنا ، فنحن نرى نتيجة الانتخابات فى العالم كله .. هل تمثل الإرادة الشعبية ؟ .. أنا لا أعتقد ذلك"(!) . وأوضح : " لو كنا نريدها مسألة شكلية للجأنا إلى الانتخاب ولكننا نريدها تجربة عميقة ، ومؤثرة .. وهذا ما يدفعنا إلى الاختيار " ( ) . وبذلك صارت مسألة الاقتراع السرى المباشر ، لاختيار ممثلين لمواطنى المملكة فى المجلس المزمع أمراً شكلياً ، برأى ولى العهد السعودى ، بينما يمثل قرار التعيين لأعضائه فعلاً مؤثراً وعميقاً ! . ومع ذلك ، لم يستح فهد من القول – بعد أيام قليلة من تصريحه السابق " إن حكم الشورى سيدخل إلى المملكة من الباب الواسع ، بالإضافة إلى انفتاح المجتمع العربى السعودى على العصر (...) من خلال المحافظة على التقاليد الإسلامية والعربية العريقة " ( ) . إلا إن مصدراً سعودياً مسئولاً – كما وصف – سارع ، لاحقاً ، بتوضيح فحوى الوعد الملكى، بشأن مجلس الشورى ، وذلك من حيث اقتصاره على الجانب الاستشارى لا الجانب المتصل بمراقبة سياسات الدولة ، وأعمالها ، بقوله : " إن ما وعد به جلالة الملك خالد بن عبد العزيز بشأن تشكيل مجلس للشورى سينفذ حالما يتم الانتهاء من إعداد نظامه ، وسيكون هذا المجلس استشارياً (كى) يخفف عن جلالة الملك عبء العمل (!) ، ويقدم لولى الأمر المشورة التى يراها فى المصلحة " ( ) ، وهى المهمة التى كان فهد قد ادعى من ورائها اتاحة المشاركة الفعالة للأجيال الجديدة من الشباب المثقف فى مملكته ، بحسب تصريحاته السالفة ( ) . بيد أن الوعد بتشكيل مجلس الشورى لم يتمخض عن أى شىء (!) بعد أن طال أمد إعداد نظام عمله نحو عامين تاليين ، من الإعلان الملكى المنقضى والتصريحات الصاخبة لولى العهد ، وحينها عاد الأخير للتحلل من كل ما سبق الوعد به ، عبر تصريحات جديدة أدلى بها لمراسل صحيفة الأهرام المصرية ، الذى وجه إليه حديثه : " أقول لك إن المشاركة قائمة الآن (...) ، فأبواب الحكم مفتوحة للرأى الشعبى بشكل مكشوف .. الناس تتوافد يومياً على مجلس جلالة الملك وعلى الديوان الملكى وتطرح بشكل صريح ما هو مطلوب لهذه البلاد" ( ) . ويبدو أن حنث النخبة السعودية الحاكمة بوعودها حول مجلس الشورى جاء بعد أن استطاعت أجهزة الحكم امتصاص صدمة اغتيال الملك السابق ، وبعد أن تمكنت العائلة الحاكمة من إيجاد آلية للتداول فيما بين أمرائها ، بحسب ما ذكر فهد نفسه ، وذلك بقوله : " هناك ثلاثة لقاءات فى الأسبوع مع الأسرة الحاكمة .. القصد منها استعراض قضايا قد تكون فردية (...) ، وقد تكون عامة (لاحظ أولوية القضايا الفردية على العامة) ، وقد تكون آراء (قابلة) للتطبيق " . وأضاف : " إنه لقاء الأسرة صغيرها وكبيرها .. إنه لقاء يستعرض فيه المسئول الأول أو الثانى آراء هذه الأسرة ، كما أنها فرصة لسماع التوجيهات .. إننا نريد أن نناقش قضايانا بشكل رحب وتجمع أكبر " ( ) . هى – إذاً – أمور الأسرة ، بعد حالة التصدع التى لحقت بها ، من جراء إقدام أحد عناصرها على اغتيال رأسها الملكى ، والذى عزاه مراقبون عديدون إلى أسباب ذاتية وأخرى موضوعية ، منها انتقام القاتل (فيصل بن مساعد) من ضحيته (فيصل بن عبد العزيز) لإقدام الأخير على قتل أخيه الأكبر (خالد) ، فى العام 1966 ، لتنديده بسماح الملك ببث برامج تليفزيونية فاسدة ، وما اقترن ، بذلك ، من مشاعر الاستخفاف التى كان يلاقيها والد القاتل ، من جانب أقطاب الأسرة ، مما زاد من حنقه على هؤلاء ، والتعبير عنه بصورة من النقد السياسى اللاذع ، ما حمل (فيصل) الملك على سحب جواز سفر قاتله ، ومنعه من مغادرة البلاد ( ) ، قبل زمن غير قليل من إقدامه على تنفيذ فعلته المدوية . آل سعود بين صراعات العائلة ومعارضة الشارع : بيد أن أجواء الأمان التى بدت للنخبة السعودية الحاكمة أنها قد تعززت سرعان ما تبدلت على خلاف توقعاتهم ، بحلول العام 1979 ، فأطلت انقسامات الأمراء السعوديين ، برؤوسها ، بصورة أكثر احتداماً ، عن سابقتها ، فى ظل ما كانت تمور به المنطقة العربية عادة ، والخليجية ، خاصة ، من أحداث ، تطلبت اتخاذ مواقف سياسية جد حاسمة إزاءها ، مثل : سقوط شاه إيران ، وما اقترن به من تشكك النظم الحليفة لأمريكا فى مصداقية الأخيرة تجاهها، خلال الأزمات ، إلى جانب ما تسبب به إبرام الرئيس المصرى السادات اتفاقية "كامب ديفيد" مع القادة الإسرائيليين من تباين فى الرؤى بين أطراف العائلة الحاكمة ، وأخيراً نشوب الحرب المسلحة بين شطرى اليمن ، وما تطلبته من وسائل لإدارة سياسة متوازنة تجاهها . ويرى فهد القحطانى أن تلك المتغيرات دفعت بالأجنحة العائلية المعادية لولى العهد (فهد) للمطالبة بمسايرة التيار الشعبى المناوىء لأمريكا ، ممثلاً فى الأميرين سعود الفيصل وزير الخارجية ، والنائب الثانى لرئيس الوزراء (عبد الله) ، وهو ما أشارت إليه الصحف الغربية، منها مجلة لوبوان الفرنسية ، بتاريخ 19 مارس 1979 ، حيث نقلت عن مصادر الاستخبارات الأمريكية القول بتعاظم التوتر داخل العائلة السعودية ، بين طائفة مؤيدة للغرب، وأخرى تفضل موقفاً غير منحاز ، وهى الصراعات التى كانت تخفى الخشية من نجاح فهد فى القفز إلى سدة الحكم ، وإبعاد الملك خالد ، فى ضوء الوضع الصحى المتدهور الذى كان يعانى منه الأخير ، آنذاك ، وهو ما أدى إلى إحالة رئيس جهاز الاستخبارات الشيخ كمال أدهم إلى الاستيداع ، فأقاله نائب وزير الدفاع الأمير تركى بن عبد العزيز ، ثم نُفى للخارج حينما تأكدت أنباء مشاركته فى الاعداد لانقلاب عسكرى ، بالتعاون مع بعض الضباط ، ضد الملك ، وتزامن ذلك مع فضيحة تلقيه رشى ضخمة ، من شركة لوكهيد لصناعة الطائرات الأمريكية . وهو ما حدا بولى العهد فهد لإلغاء زيارته لواشنطن ، بينما نُقل الأمير ماجد إلى أحد المستشفيات الفرنسية ، على أثر إطلاق النار عليه فى 8 مارس 1979م . وفى هذه الأثناء حسمت الأجنحة المناوئة لفهد أمرها ، فاجتمع مجلس الوزراء برئاسة عبد الله، لا فهد ، لاعلان تأييده للقرارات العربية بمقاطعة السادات ، خلافاً لرغبة فهد ، ما حمل الأخير على مغادرة المملكة إلى أسبانيا ، بحجة إجراء فحوص طبية ، بينما سرت شائعات ، على نطاق واسع ، من أن فهداً أصيب بطلقات نارية فى قدمه ، وذلك فى ظل ما نشرته مجلة الايكونوميست البريطانية ، بتاريخ 19 مارس 1979 من أن فهداً رضخ لقرار إخوته ، الذين اتخذوا فى جلسة مغلقة قراراً بمقاطعة مصر ورفض معاهدة كامب ديفيد ، لكنه ما لبث أن طالب بترأس وزارة الخارجية ، بعد أن رأى أن هيمنته السياسية ما برحت تتسرب من يديه ، إلا إن تشابك الأحداث ومخاطرها على العائلة الحاكمة فرضت على أمرائها إبقاء الوضع على ما هو عليه ، ما حمل فهداً للعودة إلى المملكة ، بعد غياب طال نحو شهرين ، حين بدا أن الأزمة العائلية قد جمدت مؤقتاً ( ) . غير أن هذا الجمود لم يدم طويلاً ، فما هى إلا أشهر قليلة حتى انفجرت انتفاضة الحرم المكى فى نوفمبر 1979 ، التى عرّت ما كان يسعى أقطاب العائلة السعودية لإخفائه من انقسام فى الأجهزة العسكرية ، بسبب النزاعات بين أجنحة العائلة،والتى أشارت مجلة نيوزويك الأمريكية إلى أنها بدأت تعصف بها ، ومن ذلك قولها : " فى الأشهر الأخيرة ازداد الشقاق بين عبد الله المُحافظ ، وسلطان العدائى والإصلاحى ، الذى حاول مراراً إزاحة منافسه من سلسلة التتابع .. ولقد هدد هذا الخلاف بتمزيق العائلة المالكة ، إلى أن كانت حادثة مكة (انتفاضة الحرم) " ، التى تذكر الصحيفة أنها أدت إلى معاودة " الأمراء الكبار إلى التقارب فى آرائهم ، فقاموا برص صفوفهم مجددين البيعة (...) لعبد الله كولى للعهد بعد فهد ، ومؤكدين (...) على " النظام " الذى جعل العربية السعودية مشروعاً عائلياً فريداً (!) " ( ) ، بينما ذكرت صحيفة الفايننشيال تايمز البريطانية ، بتاريخ 7 ديسمبر 1979 ، تعليقاً لها على أحداث انتفاضة الحرم: " إن تكاتف العائلة السعودية خلال الأزمات واضح الآن إلا إن الحرس الوطنى التابع للأمير عبد الله ، والقوات المسلحة النظامية ، تحت قيادة سلطان ، وقوات الأمن بإدارة نايف ، قد سببت مشاكل كبيرة للسيطرة على القيادة " ، حيث حاول كل جناح إثبات كفاءته عبر جنوده ، إلا أن العجز كان هو سمة كل هذه الأجهزة ، بعد أن استطاع المقتحمون للكعبة الصمود نحو اثنين وعشرين يوماً فى وجه الهجوم الذى شنته ضدهم هذه الأجهزة، والتى قتل فيها وفق الإحصاءات الدولية 2700 من الجانب السعودى الرسمى و450 من المقتحمين ، والذى تزامن مع مهاجمة القصور الملكية فى الرياض ، واستهداف أحدها بقنبلة، إلى جانب الاشتباكات التى نشبت فى مدينة الطائف بين القوات الحكومية وعناصر مؤيدة للمقتحمين ، التى استطاعت السيطرة على مطار الجوية ( ) ،واعلان التمرد فى ثلاث قواعد عسكرية هى: (تبوك ، خميس مشيط ، الظهران) ، الذى جرى قمعه ، بعد اعتقال سبعمائة جندى وضابط ، واكتشاف أجهزة الاستخبارات السعودية لعدد من " الطرود " فى مطار الظهران ، تحوى أسلحة ومتفجرات ، باسم مدير المطار ، بينما أفادت أنباء أخرى عن نشوب اشتباك مسلح – فى ذات الفترة بالظهران – بين عدد من الأمراء الشباب وجنود من عناصر الحرس الوطنى ، سقط فيه عدد كبير من القتلى والجرحى ( ) ، فى حين حاولت عناصر أخرى مناوئة اقتحام المسجد النبوى ، لأجل احتجاز الملك ، الذى كان يتوقع وجوده فيه ، ما أدى إلى اعتقال المئات من العناصر المتعاطفة مع مقتحمى الحرم ، فى كل من مدن الاحساء وتبوك والرياض والقصيم ، وغيرها بعد اكتشاف مخابىء عديدة للسلاح فى عدة مدن ، إضافة إلى مناطق متفرقة من مكة وهو ما كان يدل على اكتمال خطة واسعة لإسقاط الحكم السعودى، نُفذ جزء منها ، واعترى أجزاء أخرى النقص ، مما سبب عدم التنفيذ ، وهو ما أدى بالسلطات السعودية إلى إغلاق المطارات فى وجه حركة الملاحة الجوية ، وتعطيل الاتصالات ، وفرض حظر التجول فى عدد من المدن ، وغير ذلك من الاجراءات ، التى شملت قمع مسيرات المسلمين الشيعة فى المنطقة الشرقية بالمملكة ، خلال احتفالات عاشوراء من ذلك العام (1979) ما أسفر عن مقتل عشرين فرداً ، واعتقال المئات ، بعد أن كادت أحداث مكة "تنجح فى تغيير النظام السعودى" على حد تعبير صحيفة اللوموند الفرنسية ( ) وهو ما دفع النخبة السعودية الحاكمة – عقب اقتحام قواتها الكعبة – لإعلان سلسلة من التغيرات فى قيادات الجيش ، وإقالة الأمير فواز حاكم مكة،وإحلال وزير البلديات (ماجد) محله( ) . إذ عكست انتفاضة الحرم – دون تخطيط مسبق ، أو قصد مُبيت ، من جانب منفذيها – رمزية كعبة مكة لدى ملايين المحرومين والثائرين ، من عامة الجمع الإسلامى ، بوصفها ملجأهم للنيل من مستغليهم ومهدرى حقوقهم الطبيعية فى العدل والحرية ، بعد ان استطاع آل سعود تجريد " الكعبة المشرفة " من تلك الرمزية الشعبية ، وتحويلها إلى مجرد " مزار " تحترق بين أرجائه آمال المطحونين وطموحاتهم الانسانية والروحية المشروعة . ولا ريب ، فى أن الزلزال الذى أحدثته انتفاضة الحرم شكل تحدياً سياسياً ودينياً غير مسبوق لسلطة آل سعود ، وخاصة منذ رحيل مؤسسها (عبد العزيز) ، حيث جاء اعتصام المئات – بنسائهم وأطفالهم وأقربائهم ، داخل الحرم – ليحيى قوة " الاخوان " الوهابيين ، الذين كان عبد العزيز قد تمكن من القضاء على قوتهم المسلحة قبل خمسين سنة بينما شكل " الاخوان " الجدد خليطاً من جنسيات إسلامية مسلحة وهو ما عكس عمومية فعل الاعتصام ، على مستوى العالم الإسلامى ، الذى طـالب المتحدثين باسمه ، فى أرجاء الحرم بـ : أ – إنهاء الحكم الملكى السعودى ، وأن لا بيعة للأمراء السعوديين ، لأن بيعتهم وحكمهم قائمان على الجبر والقهر،وأنهم فى مملكتهم لا يلتزمون بالدين بل يهدمونه . ب – قطع الروابط مع حكومات (النصارى) – من حلفاء آل سعود – وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية ، وإخراج الأجانب (النصارى) ، من مدرسين وأساتذة وخبراء عسكريين ومستشارين وجواسيس . ج – القضاء على الفساد والانحراف فى المجتمع ، والتشدد فى تطبيق الأحكام الشرعية ، وإدانة النظام الحاكم على إهماله إياها ( ) . الاصلاحات السعودية .. الحقيقة والوهم : وقد كان لتلك الأحداث آثارها العسكرية والسياسية ، فمن ناحية تكثف الوجود العسكرى الأمريكى فى أراضى المملكة ، بغية تعزيز الحماية الأمنية للأسرة الماكة ، خاصة بعد الإعلان عن الاهتمام الذى باتت تبديه المخابرات الأمريكية لأنشطة منظمة الثورة الإسلامية فى الجزيرة العربية ومقرها لندن ( ) ، ومن ناحية أخرى عادت حمى التصريحات السياسية لتحيى الحديث عن مجلس الشورى المنتظر ، حيث أعلن ولى العهد فهد : " إن المملكة العربية السعودية ستشكل مجلساً للشورى قريباً لوضع القانون الأساسى خلال شهرين ليقوم مقام الدستور (...) " ( ) ، إلا إن وزير الداخلية نايف سارع بتصحيح ما ذكره فهد ، فى تصريح لاحق له ، وذلك بقوله إن " النظام الأساسى ليس دستوراً (..) ، لأن دستور السعودية هو القرآن " . وأوضح أن " النظام الأساسى للحكم هو كتابة بعض أشياء (...) موجودة وتمارس فعلاً (!) ، وأرجو ألا يفهم أبداً أنه دستور ، لأن دستور الدولة هو القرآن " ، مشيراً إلى أن " الهدف من نظام المقاطعات هو التنظيم بالنسبة إلى كل مقاطعة ، من حيث حدود المقاطعة وهذا موجود حالياً (!) ، ولكن قد توجب المصلحة إجراء بعض التعديلات عليه ، وكذلك كيف تدار المقاطعة من قبل حاكمها .. أو أمير المنطقة ، بجهاز يمثل قطاعات الدولة الأخرى، فهى إجراءات تنظيمية تُمكن من التقليل من المركزية " ( ) . والمدهش أن تصريحات المسئول الأمنى الأول فى تلك المملكة جاءت متعارضة مع البيان الذى كان الديوان الملكى السعودى قد أعلنه ، فى التاسع عشر من مارس من نفس العام (1980) ، حول رغبة الملك خالد فى إنجاز " الدستور " ، الى جانب " نظام المقاطعات " و"نظام مجلس الشورى" ، حيث شُكلت لجنة برئاسة الأمير نايف ، نفسه ، وبعضوية ثمانية أفراد لوضع مسودة القانون الأساسى – الدستور – بينما أعلن فهد أن مجلس الشورى المزمع سيتألف من خمسين إلى سبعين عضواً ، وهو أمر لم يتحقق – مرة أخرى – حتى العام 1984 ، حيث عاد فهد ، بعد مبايعته ملكاً للتسويف ، من جديد ، فأعلن لمراسل إحدى الصحف البريطانية " أنه خلال ثلاثة أو أربعة أشهر سيؤسس مجلساً للشورى وسيبدأ عمله فى وقت ما فى السنة القادمة" مشدداً على أن "جميع أعضائه سيعينون مباشرة من قبل الحكومة (!) " ، إلى جانب إعداد " دستور مكتوب للبلاد". لكن فهداً عاد لينقلب على موقفه المناوىء لمبدأ الانتخاب ، وذلك بقوله : " بعد سنتين تقريباً من تأسيس المجلس ، سيعطى الشعب حق انتخاب نصف أعضائه [ أى أعضاء المجلس] انتخاباً مباشراً عن طريق مجالس المقاطعات " . لكن ، اللافت أن الملك السعودى صار ينظر إلى مجلس الشورى بوصفه برلماناً ، على الطراز الحديث ، وليس محض هيئة استشارية لا تلزم توصياتها أحداً ، وذلك بقوله: " وفى مرحلة لاحقة سيتم انتخاب بعض أو معظم أعضاء البرلمان بالانتخاب المباشر من قبل المواطنين ، وسيكون المجلس برلماناً كغيره من برلمانات العالم " . لكن فهداً عاد للتسويف حول ما يزعمه عن الطابع البرلمانى لمجلس الشورى ، بقوله : "إلا إن المجلس سوف يؤسس بخطوات تدريجية " وذلك بذريعة تجنب " ارتكاب الأخطاء " (!) ، لذا " نحن سنخوض التجربة تدريجياً (تشديد ثان) ، وسنبنى ببطء (تسويف مجدد) .. نظاماً متيناً " . وبالطبع ، لم يفت فهداً ، فى سياق ذلك التصريح الاستهلاكى تجاه الأوساط الغربية ، طمأنة هذه الأوساط بأن " المجلس سيكون أداة للتعبير عن الرأى ، ووسيلة لمراقبة تنفيذ سياسات الدولة ، وضماناً لمساهمة الشعب فى الحكم " ، مبيناً أن العمل قد بدأ – بالفعل – " ببناء مجلس الشورى منذ شهر تقريباً " ( ) . ولكن ، ومنذ هذا الشهر ، لم يقدم النظام السعودى على أية خطوات متدرجة فى هذا الاتجاه ، طوال اثنين وعشرين سنة تالية ، ولم يسفر البناء البطىء – بحسب تعبير فهد – عن أى نظام متين ، كما زعم ! . خيار الإصلاح الداخلى .. الممكن والمستحيل : صفوة القول : إن العائلة الحاكمة – وبحكم المفاهيم القبلية المسيطرة على أدمغة أعضائها – ليست راغبة ، إلى اليوم ، فى الإقدام على أى من طرق الاصلاح والتطوير السياسى الجدى، مما يجعل من فرضية أن يأتى الاصلاح الطوعى ، من جانبها ، ضرباً من العبث ، خاصة فى ظل الحماية التى تتمتع بها من جانب الولايات المتحدة ، وهو ما عبر عنه ، السناتور الأمريكى (كيس) ، قبل سنوات عديدة ، بقوله : " السعودية تفهم أن ضمان مصالحها يعتمد كلية على قوة إسرائيل فى المنطقة ، وحجم الدعم الأمريكى لضمان هذه القوة ، لأن هذا النظام سوف يُمسح من الوجود بمجرد أن تتعطل إمكانية أمريكا فى التدخل لإنقاذه " ( ) . وعلى الرغم مما بدى للكثيرين من امتلاك أمريكا لامكانات تدخل هائلة ، فى مختلف مناطق الشرق الأوسط ، وخاصة بعد أحداث الحادى عشر من أيلول / سبتمبر 2001 ، والتى شملت – كما هو معلوم – أفغانستان والعراق ، فقد أدى هذا التدخل ، فى ذات الآن ، إلى إضعاف القدرة الأمريكية على توسيع نطاق تدخلاتها ، بذلك الشكل الفج من الغزو والتدمير الهمجى، فى ظل الإخفاق الذريع لمشروعها السياسى فى هذين البلدين ، الذى كان يعد أنموذجاً لبقية بلدان الشرق الأوسط ، ومن بينها المملكة السعودية . ولهذا ، فإن خيار الاصلاح ، أو بالأحرى التغيير السياسى الشامل من داخل هذه البلدان ، ضمن أفق القوى والحركات الاجتماعية والسياسية الجديدة ، لا ضمن أفق الأنظمة السائدة ، هو الخيار الأكثر واقعية وملائمة لهذه البلدان ، ومنها المملكة السعودية . ولعل فى تراث العهود والوعود التى قطعها ملوك السعودية ، خلال خمسة عقود خلت ، ما يفيد فى بلورة برنامج متكامل لإدارة شئون هذه المملكة ، طبقاً لخصوصيات وهويات مناطقها ومقاطعاتها ، وفى المقدمة منها منطقة الحجاز ، التى تحمل إلى جانب سماتها الحضارية التاريخية سمات العالمية الإسلامية ، وهو ما يتطلب استجابة له فى نظام المقاطعات داخل المملكة ، ضمن إطار لا مركزى ، يتيح أوسع مشاركة شعبية ، فى إدارة شئون كل مقاطعة ، عبر مختلف الوسائل السياسية من الاقتراع السرى المباشر لحكام المقاطعات ومجالس إداراتها ، إلى الاستفتاءات المباشرة حول أنجع السبل لإدارة المملكة ، وهو ما كان تطمح إليه أطراف عديدة ، فى أوساط المثقفين الليبراليين ، ودوائر المعارضة المدنية ، مع صعود الملك الحالى: عبد الله إلى سدة الحكم ، فى العام 2006م . إلا أن اكتفاء الملك السعودى ببعض الإجراءات الإصلاحية ، وتعليق الأكثر جذرية منها، باسم البحث والتروى ، زاد من شكوك حركات المعارضة فى نوايا عبد الله ، وخشية أن يكون اعلانه السابق (خلال ولاية العهد) عن تشكيل " مركز الحوار الوطنى " ، شكلاً آخر من أشكال التسويف والمماطلة ، التى دأب سابقيه على ممارستها . وفى هذا أعربت العديد من تيارات المعارضة السعودية عن دهشتها جدوى الحوار من خلال مركز لإصلاحيات تنفيذية له ؟ واعتبر أحد التقارير ( ) الذى بثتها فريق من هؤلاء المعارضين : هذه الخطوة ، بمثابة محاولة سعودية للوقوف على دعوات وحملات مطلبية داخلية من فئات مهمشة في المجتمع ومن تيارات ثقافية ومذهبية للتعبير عن آرائها. وقد وجهت الكثير من النداءات والإلتماسات إلى الأسرة الحاكمة للنظر في هذا الأمر. وأبرز الدعوات كانت من علماء الدين والمفكرين الشيعة للمطالبة بإيجاد فسحة للحوار معهم وإنصافهم كونهم جزء لا يتجزأ من المجتمع السعودي وذلك وبعد أن كانت الشكوى دائمة من إحتكار التيار المتشدد للمنابر وإبعاد التيارات الأخرى وتجاهل وجودها ورفض كل طروحاتها واجتهاداتها ورؤاها، فكان إعلان قيام مركز الحوار توازناً لكفتي الميزان بين المذاهب الدينية والفكرية للسعوديين التي تصب في منبع الدين الواحد مهما اختلفت تطبيقاتها على الأرض. كما جاء توقيت إعلان مركز الحوار الوطني ليرد على الإنتقادات التي وجهتها المعارضة السعودية التي تطالب بإجراء إصلاحات سياسية داخلية وتدعو لتعزيز الديموقراطية وحماية حقوق الإنسان وفتح الباب لمناقشة قضايا الحريات الدينية وحقوق المرأة. ومن الواضح أن هذه المطالب هي التي سيعالجها المركز لكن السؤال المطروح هل ستندرج المعارضة السعودية الناشطة في الخارج في إطار عملية الحوار؟ أضف إلى ذلك جملة معطيات خارجية كانت تؤرق القيادة السعودية بعد أن وسمت بالإرهاب إثر أحداث 11 أيلول، وترافق ذلك مع حملات إعلامية مكثفة شنتها الإدارة الأمريكية وصحف الولايات المتحدة على المملكة، لأن غالبية منفذي الإعتداء على برجي التجارة العالمي (15 من أصل 19) سعوديون. وتركت التغييرات الإقليمية في المحيط الجيوسياسي للسعودية أثراً بالغاً في السياسة الداخلية وتحديداً في السعي للإصلاح، كي لا يطالها القصاص الأميركي بحجة إحلال الديموقراطية. فالطروحات التي سبقت العدوان الأميركي البريطاني على العراق كانت تلوح بتقسيم مرتقب للسعودية يفرط عقد أجزائها إلى ولايات وفق سيناريو أميركي. وزاد من حراجة الموقف حدوث سلسة التفجيرات في العاصمة السعودية الرياض في أيار الماضي. قد تعتبر فكرة مأسسة الحوار أمراً مستهجناً، لكنه فعل تنظيم وتأطير لمشروع أكبر من المؤسسة المعلن عنها، بل إنه اعتراف بأهمية المؤسسات في تحقيق الإستراتيجيات الموضوعة. وقد اعتبر عبد الله ناصف نائب رئيس لقاء الحوار الوطني في حديث تلفزيوني أن إنشاء المركز يعني الاعتراف بضرورة تطوير الحوار واشتراك كافة التيارات فيه وترسيخ مناخ بحثي للحوار". ويهدف ضبط الحوار في مركز – كما يقول التقرير - إلى رسم استراتيجية واضحة المعالم تشمل ما يشغل بال المواطنين السعوديين من قضايا وهموم معيشية وحياتية، ويرفع الأسقف الموضوعة للتحرك وإبداء الرأي ويوسع الأقنية المجتمعية والاعلامية المتاحة له كبنية تحتية ضرورية لنموه وفاعليته. لذا يكون تكريس الحوار في "مركز" أكثر فعالية من الدعوة للقاءات هنا وهناك، ويضمن له الفاعلية والاستمرارية والتجدد. وتحت عنوان : " الأحادية تدعو للتعددية " ، يقول التقرير : " لقد سيطر أسلوب القطب الواحد الوحيد على النظام والحكم والمؤسسات وغيرها من مرافق البلاد، وذلك عبر التسلسل الزمني التاريخي والفكري للسعودية، لذا كان مستهجناً لدى المراقبين الخارجيين أن تقدم الدولة المحافظة على هكذا قرار. لكن البعض نظر إلى الأمر من وجهة نظر أخرى داعمة لتوجهات السلطة إذ أشادوا به كونه يأتي في إطار التوجه الرسمي للإصلاح السياسي والدستوري، على الرغم من أن ملامح المركز لم تظهر بعد ولم يعرف ما إذا كان مؤهلاً ليقوم بالإصلاحات لكن المكتوب يقرأ من عنوانه كما يؤكدون. لذا يطرح الكثيرون علامات استفهام متعددة ومتشعبة حول فعالية هذا المركز وأهليته لإحداث التغييرات المرتقبة، مع تشديد المراقبون على أهمية الحدث كونه يشكل بداية لتحولات مستقبلية ستشهدها المملكة قريباً. لكن الإقرار الرسمي بإنشاء مركز للحوار الوطني ورعاية ولي العهد للقاء الوطني الذي سبقه، كان بمثابة الدعم السلطوي الذي يحتاجه الإصلاحيون، وكان دفعة جديدة لهم للمضي قدماً بما يعدون له. وزاد من ثقة التيار المجدد دعوة ولي العهد لعقد اللقاء في مكتبه في الحرس الوطني في الرياض، بمشاركة أكثر من خمسين مثقفاً وعالم دين يمثلون الأغلبية السنية والأقلية الشيعية والإسماعيلية ومثقفين ومفكرين ليبراليين. وقد تم تسليم البيان الختامي وتوصيات اللقاء في بداية شهر آب إلى الأمير عبد الله بعد جلسات مناقشة امتدت لأربعة أيام، فاعتبرها "بناءة وتعزز التمسك بالعقيدة السمحة وتؤكد الوحدة الوطنية". وبدا أن ولي العهد يتبنى فكرة الحوار خاصة عندما أعلن موافقة الملك فهد على إنشاء مركز الحوار الوطني لافتاً، بما يشبه تبني الفكرة، إلى أن المجتمعون رأوا "أن يستمر الحوار ويتسع نطاقه ليدخل فيه المزيد من المتحاورين، وليبحث فيه المزيد من القضايا بهدف أن يتطور الحوار حتى يكون أسلوباً بناء من أساليب الحياة في المملكة العربية السعودية". ولفت إلى أن "إنشاء المركز وتواصل الحوار تحت رعاية الملك فهد سيكون إنجازاً تاريخياً يسهم في إيجاد قناة للتعبير المسؤول سيكون لها أثر فعال في محاربة التعصب والغلو والتطرف، ويُوجد مناخاً نقياً تنطلق منه المواقف الحكيمة والآراء المستنيرة التي ترفض الارهاب والفكر الارهابي".
كما شدد الأمير عبد الله على ثقته بالعلماء السعوديين والمفكرين والمثقفين وبإدراكهم أن "السعودية قيادة وشعباً لن ترضى أن تتحول حرية الحوار إلى مهاترة بذيئة أو تنابز بالألقاب أو تهجم على رموز الأمة المضيئة وعلمائنا الافاضل". لكن ولي العهد لم يعارض ما خلص إليه المشاركون في نقاشاتهم من فشل تجربة الرأي الواحد والمذهب الواحد، واعتبارهم أنها عمقت الفجوة بين الناس في المجتمع، ولهذا دعوا إلى إنشاء مركز وطني للحوار وتوسيع دائرة المشاركة السياسية ضمنه. وركزوا في المناقشات التي كانت علنية على ضرورة تبادل الآراء بين المذاهب الأربعة السنية والحوار مع المذهب الاثني عشري لتحقيق الأمن الاجتماعي، والتأكيد على رعاية الدولة لجميع الفئات السياسية والدينية والاجتماعية دون استثناء. وأوصى المجتمعون بأهمية التنمية المتوازنة وضرورتها ومعالجة هموم الوطن والمواطن وتوسيع مشاركة المرأة المسلمة بما يخدم قضاياها. ولم يغفل أقطاب اللقاء عن العملية التربوية فدعوا لتطويرها بما يواكب تطورات العصر. وللمحافظين رأي آخر ومع ذلك لم تخلُ الصورة العامة من انتقادات التيار المحافظ في الحكم، فقد كان للمتشددين آراؤهم المعارضة للإصلاح بشكل عام ولتوقيت إعلان المركز في ظل تفجيرات الرياض خاصة. فلم يتأخر البعض في اعتبار هذه الأحداث ذريعة لتأجيل حملة التغيير لأن الظروف غير مؤاتية لهذا الحديث، خاصة عندما تسربت إليهم أخباراً عن إحتمال توجه السلطة إلى إجراء انتخابات للمجالس المحلية السعودية، وهذا الأمر يرفضه المتشددون بتاتاً. لكن الحزم الذي وجدوه في موقف الملك فهد جعلهم يغيرون مواقفهم ويستسلمون لإرادة السلطة الحاكمة. موجة إصلاحية… مضادة وهبت موجة أخرى. إذ شن الإصلاحيون السعوديون حملة منددة بمواقف التيارات المحافظة، على لسان الكاتب نجيب الخنيزي في حديث لوكالة الصحافة الفرنسية عندما اعتبر أن الإصلاح هو "الرد والحل الصحيح إزاء تفاقم الإرهاب الذي هو في جوهره تعبير عن شيوع ثقافة الإقصاء والتكفير وإلغاء الآخر". فقد استغرب الإصلاحيون ما ينادي به المتشددون من "تأجيل أو كبح التوجهات الإصلاحية بحجة ضرورة المحافظة على الأمن والسلام" مؤكدين أن "التقييم الموضوعي لهذه الأحداث وغيرها يفرض العكس أي التوجه نحو الإصلاحات وترسيخها". ورأى ناشطو حقوق الإنسان في أحداث الرياض دعوة للمكاشفة والمصارحة في ظل حركة إصلاح شامل، وعدم الإكتفاء بالإجراءات الأمنية فقط. حروب "عنكبوتية" متبادلة عند الدخول إلى بعض المنتديات السعودية أو العربية على شبكة الإنترنت، يمكن اكتشاف ما يشكله موضوع إنشاء مركز الحوار الوطني بالنسبة للكثيرين. فهناك يمكن أن نرى ما يسيء كثيراً إلى الفكرة في مقابل من يمدحها بلا هوادة. حتى أن الملفات الطائفية القديمة في العلاقة بين السنة والشيعة أعيد نبشها، مع طرح التساؤلات والإشكاليات حول مدى شرعية التلاقي والحوار مع الآخر، المحكوم عليه سلفاً بأقسى الأحكام. فهناك هجوم على نهج اللقاء الوطني ونتائجه وتوصياته، وهذا ما يعتبره عالم الدين الشيعي البارز في المنطقة الشرقية الشيخ حسن الصفار "أمراً متوقعاً"، ويرد أسبابه في حديث نشر على شبكة الإنترنت إلى أن "وراءنا تاريخاً من القطيعة والنزاع، وتراثاً مثقلاً بالآراء والمواقف السلبية المتبادلة، وهناك جيل تربى على التقرب إلى الله تعالى بمناوأة الآخر والإساءة إليه، ومراكز قوى تستمد نفوذها وشرعية وجودها، من هذه المعارك المذهبية المفتعلة". وكان للمثقفون السعوديون حصة في هذه الحرب العنكبوتية إذ نشروا بياناً غير موقع بالأسماء اعتبروا فيه أن "طرح موضوع الإصلاح يستفز على الفور "المؤسسة الدينية" وحلفاءها في الحكم، ولكن الاتفاق بين هاتين القوتين الآن حول معارضة الإصلاح لم يعد سهلاً"، ويرجعون ذلك إلى "بروز عوامل محلية وخارجية تعيق التحالف بينهما وتفرض على العائلة المالكة حسم ثنائيات متعارضة غير قابلة للاستمرار، فأما التشدد المذهبي أو الديمقراطية لأنه من الصعب أن تتبني المملكة شعار الديمقراطية والحريات في وجود مذهبية متحكمة بالأفكار والعقول". ويعتبرون أن المذهبية "نقيض الاعتدال والحرية والتعددية ونموذج للأحادية الثقافية والفكرية والهيمنة والاستبداد السياسي، فهي تعودت منح الشرعية لاستبداد الحكم لكي يمنحها (الحكم) شرعية الاستبداد الفكري والديني والاجتماعي، الأمر الذي أفضى إلى ازدواجية حادة في الشخصية السعودية، لهذا كله يصعب أن يتبنى نظام الحكم الحرية مع الاحتفاظ بدور لمذهبية الدولة". الموقف الشيعي تسود الشارع الشيعي موجة ترقب حذر يشوبه الكثير من التفاؤل المبطن بالخشية. ولعل الشيخ الصفار يعبر عن هذا الوضع بالتأكيد على أهمية "التعددية الفكرية والمذهبية واحترام حقوق الإنسان والرأي الآخر، لكن هذا يجب أن يقترن بالعمل على استصدار القوانين من أجل المساعدة على الحوار وتعزيز الوحدة الوطنية".فالنظرة القريبة إلى واقع الشيعة السعوديين تشير إلى تغييرات إيجابية أذابت من الجليد الذي كان محاطاً بهم وكأنهم كيان ووجود مفصول عن بقية المواطنين، وجعلتهم يأملون في ضوء إنشاء مركز الحوار باستقطابهم وتفعيل مواطنيتهم بما فيها من حقوق وواجبات دون تمييز. ويأمل الكثير من علماء الدين الشيعة السعوديين إهتمام الجهات المعنية بإنجاح هذا المسعى الحضاري، أي الحوار الوطني، وعدم تحويله إلى "مجرد مؤسسة تهتم بالمظاهر والشكليات"، كما يشير الصفار في موقفه من المركز الذي نشر على شبكة الإنترنت. وأكد على ضرورة قيام المركز بوضع "حملة إعلامية ثقافية، بدءاً من المدارس والجامعات، مروراً بالصحافة ووسائل الإعلام، وصولاً إلى خطب المساجد والتوجيه الديني، لمواجهة آثار حقبة التطرف والتشدد التي لن تزول بين عشية وضحاها". المركز والمهام الصعبة قالوا أنها الحوار خطوة تقدمية في دولة كالسعودية تقودها نحو الإصلاح الداخلي، والمصالحة بين أفراد الشعب الواحد. واعتبرها البعض أولى الأميال الألف للوصول إلى شكل الدولة الملائم والمتناسق مع تعريف الدول الديموقراطية بالمفهوم العلمي للكلمة لا بالمفهوم الأمريكي فقط.-SA”> وكانت ردود فعل الدبلوماسيين الأجانب حول إعلان مركز الحوار الوطني متفاوتة، تراوحت بين الثناء على هذا القرار والإتهام ببطء تطبيق الخطوات، والسؤال عن التفاصيل . هذه التساؤلات هي نفسها التي شاعت في مختلف منتديات السعودية الإعلامية والسياسية والثقافية والدينية وغيرها. فالكل يتساءل عن الدور المتوقع للمركز، والبعض يسأل هل سيتولى مركز الحوار الوطني مهام الإصلاح السياسي في السعودية كأداة تقريرية يؤخذ برأيها؟ أم سيكون له دور مختصر بلمّ شمل أفراد البيت السعودي وتهدئة الغضب العالمي فقط؟ هل سيكون منتدى أم برلمان؟ هل هو شعبي أم رسمي؟ هل أعضاؤه دائمون أم متغيرون وهل يتم انتخابهم من قبل الشعب أم يعينون؟ وما هي صفتهم ليقودوا الحوار الوطني؟ هل تحتاج القضايا المناقشة لموافقة مسبقة من الحكم؟ كما طرحت التساؤلات الكثيرة حول علاقة المركز بالهيئات الحكومية الأخرى كمجلس الشورى ومجلس وزراء ومجالس مناطق. الأسئلة كثيرة ويبدو أن الرغبة الشعبية واضحة وتتمثل بقيام مركز الحوار بدور كبير في تلاحم الأفكار بين مختلف التوجهات الفكرية والمذهبية في البلاد، للوصول إلى حالة من التوافق الاجتماعي والفكري، تسهم في ترسيخ أواصر الوحدة بين هذه الفئات لكي تقف في وجه أي محاولات لتفتيت البلاد. ويقترح البعض أن يتم تفعيل نشاطات المركز للوصول إلى افضل النتائج عبر تأسيس فروع للمركز في مختلف مناطق المملكة ليشمل الحوار شرائح وفئات المجتمع السعودي كافة، ومن أجل أن يكون الحوار حالة إجتماعية يومية مقابل حالات الإقصاء والإلغاء التي قد تظهر هنا أوهناك. وأجمع الأكاديميون السعوديون في حوارات صحفية مختلفة على أن الحوار الوطني هو اقصر الطرق لاستثمار الوقت في استثارة الوعي العام للمجتمع السعودي وتنوير شرائحه بمتطلبات ومقتضيات ما يحتاجه هذا المجتمع من غايات تتلمس بين الرعية والمسئول. ويكون ذلك بالحوار وجهاً لوجه ومن خلال قنوات ومنابر مختلفة أهمها الاعلام بكافة قنواته المقروءة والمسموعة والمرئية إضافة الى استغلال منابر المساجد والاندية الادبية والرياضية وفي مختلف الجهات الحكومية الرئيسية كادارات التربية والتعليم. لكن مع ذلك تنطلق اصوات محذرة من بيروقراطية التنفيذيين إذ طالب الدكتور فائز جمال "بتفعيل مؤسسات المجتمع المدني وعدم حصر المركز في إطار بحثي ضيق، والارتفاع بسقف حريات التعبير والفكر والسماح للمركز بالتعاطي مع مختلف القضايا دون حواجز". لذا لم يعد أمام النظام السعودي إلا التحرك لتبديل عناصر الصورة التي تنتقدها الجهات كافة: صورة اللون الواحد في الحكم وما يترتب عليها من مشاكل داخلية لا تظهر للعيان إلا مشذبة ملطفة. قد تبدو فكرة الحوار الوطني في أي بلد مقدمة لنهج جديد أما في السعودية فهي أمر مستحدث، لكنه مرحب به، خاصة أنه بات مكرساً "بمرسوم سامي". ويبقى أن تترجم أفكار ومبادئ الحوار إلى برامج، وهذا يعني أن المطلوب صدور قرارات واضحة تؤكد رغبة الدولة في إحداث عملية التغيير في الهيكلية الداخلية للنظام السعودي، بناء لمقتضيات الحوار. ستكون السعودية والسلطة الحاكمة في الفترة المقبلة أما تحدٍ، فهل سيثمر الحوار الوطني أم سيكون مجرد تبديد للجهود . ملحق (1) بين بيان المثقفين الدستوريين ورسالة الشيخ سلمان ( ) ولو أن الشيخ سلمان شفع رسالته بمطالب إصلاحية، تجعلها متوازنة سياسيا وشرعيا، وتكسبها مصداقية وقبولا، مثل اشتراط إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في السعودية، أو السماح بحرية الكلمة، لكانت خطوته أكثر انسجاما وتفاعلا مع الزخم القائم حاليا. وليس معنى هذا أن نجرد المفكر والمصلح والعالم من حقه في الاجتهاد والنظر فيما هو أنسب وأصلح لبلده في ظرف عصيب ودقيق، داخليا وخارجيا، ولا نريده أن يكون "ثوريا"..لكن لا أقل من التلاحم في ساحة معترك الحريات والتسديد والترشيد في مسألة المطالبة بالحقوق الأساسية المشروعة. بينما كنت منغمسا في متابعة الحراك الاجتماعي والسياسي الذي تعرفه السعودية بشأن بعض المطالب السياسية، من إطلاق سراح المثقفين الإصلاحيين ومحاكمات عادلة لسجناء الرأي..إذا برسالة الشيخ سلمان العودة، إلى زعيم القاعدة أسامة بن لادن، تقفز على المشهد وتخطف الأضواء. والرسالة بحد ذاتها، صيغت بلغة متزنة عميقة المعنى، كعادة الشيخ سلمان في طرحه ومواقفه، لكن توقيتها وسياقها وانسجامها مع الزخم الذي تشهده بلاد الجزيرة. صحيح أن ضغط التاريخ والواقع والأوضاع، يفرض على المثقف المقاومة ضد سيل الزمن و"إثبات الحضور"، فيحاول الاستدراك، إبراء للذمة أو سدا لثغرة، ثم التأكيد على النهج السلمي في التغيير، ونقض منطق المنازلة المسلحة، من واجبات الوقت، لكن الانسجام والتفاعل والانغماس مع الهم العام للمثقفين الإصلاحيين، أبلغ في الأثر، لأنه يتعلق بأصل البلاء الذي جر علينا العنف الأعمى، وخرج لنا مجموعات لا تقدر العواقب ولا المآلات، فنحصد بافتئاتها الشرور والمهالك، ذلك أن العنف الأعمى في الدول الإسلامية اليوم ـ ومنها السعودية ـ عرض لمرض، ونادرا ما يكون مرضا في ذاته. فالعنف "ردة فعل" نفسية ومادية على واقع متهرئ من الفساد والاستبداد والظلم، وانتهاك حرمات الناس، وفرض خيارات سياسية تناقض كل ما يؤمنون به في هذه الحياة. فإدانة العنف الذي يستهدف الأبرياء واجبة ومطلوبة، لكن عنف الأجهزة الأمنية والسلطة المطلقة، مدان أيضا، وقد يحصل من رفع ظلمها رفع للظلم الذي يمارسه أفراد ضد أفراد أو أمة. ومن أنفس ما كتبه العلماء المصلحون في بلاد الجزيرة في هذا الشأن، ما تضمنته رسالة للشيخ المصلح سفر الحوالي، بعنوان: "هل تكسب أمريكا هذه الحرب"؟، حينما قال: "وإجمالاً إن لم تغير الحكومات من سياساتها تجاه شباب الصحوة...وإن لم تعتبر بهذه الأحداث وتداعياتها المتلاحقة، فسوف تدفع ثمناً غالياً، قد تضطرها أمريكا نفسها لدفعه". وهو ترتيب دقيق للإشكال القائم، يضع الشيء موضعه. أدرك أن التيار الإصلاحي في السعودية لم يستطع إلى الآن التغلب على عقدة وإشكالية: كيف يحقق مساره الذي تبناه، عمليا، فهو يتعامل مع سلطة أبوية لا ترى لشعبها حقا عليها، وكل ما يحصل عليه، إنما هو "منحة" و"تفضل" منها، ومرد اختلال رسالة الشيخ سلمان العودة إلى زعيم القاعدة أسامة بن لادن، ليس في أصل فكرتها، إذ لا غبار عليها، وإنما في منطق المعالجة، والنظر في أصل البلاء ـ وهو العنف ـ وجذوره، وهو ما اعتنى به بيان المثقفين الدستوريين كما سموا أنفسهم، وتعرض إليه بكثير من التلميح المفكر الإصلاحي د. محمد حامد الأحمري في رسالته الأخيرة إلى الملك عبدالله بن عبد العزيز. وخلاصة القول في الموضوع، لأنه قتل بحثا، إن كثيرا من الأنظمة العربية تسد على الناس كل المسالك، إلا المعابر التي تحددها هي سلفا، والتي إن سلكها العقلاء منهم، فقدوا مصداقيتهم، وإن لم يسلكوها حكموا على أنفسهم بالموت السياسي والبقاء على هامش التاريخ، وأما المكبوتون والغلاة، فيلجأون إلى مذهب السيف، فيفتئتون ويخربون. ولو أن الشيخ سلمان شفع رسالته بمطالب إصلاحية، تجعلها متوازنة سياسيا وشرعيا، وتكسبها مصداقية وقبولا، مثل اشتراط إطلاق سراح المعتقلين السياسيين في السعودية، أو السماح بحرية الكلمة، لكانت خطوته أكثر انسجاما وتفاعلا مع الزخم القائم حاليا. وليس معنى هذا أن نجرد المفكر والمصلح والعالم من حقه في الاجتهاد والنظر فيما هو أنسب وأصلح لأمته وبلده في ظرف عصيب ودقيق، داخليا وخارجيا، ولا نريده أن يكون "ثوريا"، بلغة الشيوعيين، ولم نطالبه أن يكون خصما عنيدا للسلطة، وقد تكون له وجهة نظر خاصة في "المطالب الدستورية"، وما تضمنه بيان المثقفين الإصلاحيين في السعودية التحذير من الكبت والقمع، إذ إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وله الحق في التحفظ على الصيغة أو بعض البنود أو ما إلى ذلك، لكن لا أقل من التلاحم في ساحة معترك الحريات والتسديد والترشيد في مسألة المطالبة بالحقوق الأساسية المشروعة. صحيح أن التصرف دون وعي وتبصر في العواقب، وفي حدود الحق، قد يفضي إلى التعسف وإلى ضرر أكبر، إذ قد يتعلق بالمصير، ولو كان التصرف في الأصل مشروعا، لئلا يتوسل به إلى الممنوع، لكن ما لا يمكن أن نختلف فيه مع بيان المثقفين الإصلاحيين، أن الأصل في الحريات الأساسية أن تُصان وتكفل بضمانات، وهنا تتبدى عبقرية التشريع الإسلامي، في أنه لم يتجاهل أيا من مكونات الواقع، فلا يبغي أحد على الآخر، منعا من الإخلال بمبدأ التوازن.
والمطالبة بإقرار الحريات الأساسية ورفع الكبت والتضييق عن الناس ولو بقدر، قضية تعني الجميع، وهي مما تستوجب التلاحم والنصرة في حدود الممكن، إذ لا يقتل الفكرة إلا السكوت عنها أو تمييعها أو خذلانها من الوصول للناس, وكم من حق اغتاله الصامتون, وكم من مظلمة قهرت الناس بسبب سكوت العقول الواعية. وفي أجواء الحريات، لا مكان لأسامة بن لادن ـ إلى حد ما ـ ولا للمكبوتين، ولا مجال للعمل تحت الأرض ولا لانتعاش الأفكار السرية الميتة المميتة، ورفع المظالم يشيع حالة من الأمن النفسي والفكري، وهذا مطلب مشروع تستقيم به حياة الناس. كما أنه مهم بين الفينة والأخرى، وهو ما تضمنه بيان الدستوريين والأحمري، وخلا منه بيان العودة، أن نعيد مراجعة المسافات والحدود القائمة في علاقة الحاكم بالمحكوم في مجتمعاتنا الشرقية، لأن أكثر ما نراه اليوم من فساد في الأرض وإفساد، مرده إلى اضطراب هذه العلاقة، ذلك أن الدولة عندنا اختُزلت في تصرفات شخص، والوطن تقاربت حدوده وضاقت أرجاؤه، وأصبح يتنكر لكل مجاهر برأي "آخر" (وليس بالضرورة مخالفا لسياسة الحاكم) ويلفظه بعيدا، لأن الحدود بين الوطن والشخص تبخرت، فأي خلاف في الرأي والموقف يتم تصويره مروقا على الوطن، والسلطة عندنا مطابقة للدولة، فأي نقد لسلطة الحاكم، يجري تصويره خروجا على الدولة، ولا شك أن هذه المفاهيم السياسية المغلوطة، بقايا موروث قديم صنعه الحاكم بمكره والبطانة بتزلفها ووعاظ السلاطين بالترويج لـ"عقدة الولاء للحاكم". والحكم العربي المعاصر أضاف (من بين ما أضاف) إلى هذا الموروث الطابع السري لسياساته، حتى تحولت إلى ألغاز وطلاسم، وهذا الأمر مقصود لذاته ولغيره، وصانعوه أوهموا أنفسهم قبل غيرهم بأن التعقيد يفرض "الهيبة"، وأن "السرية" تضفي نوعا من الصرامة والانضباط على إدارة الحكم، لكن لا هذا ولا ذاك صمد أمام المرئيات والمحسوسات، لذا عمد الحكم العربي المعاصر إلى سياسة حجب المعلومات والوقائع عن الرعية إمعانا في "الظلامية" وتكريسا لـ"الطابع السري"، انطلاقا من أن الجمهور يتعذر عليه أن يناقش ما يجهل وأن يفتي في ما لا يعلم!، ذلك أن أكثر ما يفزع ويثير حفيظة صناع القرار أن ينتشر الوعي في أوساط الجماهير ويفكر الناس في حاضرهم ومستقبلهم بعقل حر، وأن تتاح لهم فرصة الإطلاع والنظر والبحث. إن عددا من مثقفينا ومفكرينا سرعان ما يقبع في مكان ثابت ولا يتحرك، لا يغادره إلى مناطق وشعب أخرى، ربما لأنه ألفه، أو لإراحة عقله شيئا ما، أو لأنه يؤثر السكون، أو لعجز فيه وهكذا... قد لا تتاح لهؤلاء الفرصة للقول والفعل، أو بالأحرى قد يحال بينهم وبين صناعة الكلام والموقف، كما حيل بين إدوارد سعيد وبين الوصول إلى المراكز الأكاديمية والجامعات ووسائل الإعلام الأمريكية، لكن الفارق أن سعيد واجه الضغوط بإبعاده من المشهد الثقافي والفكري ورفع التحدي وكتب في صحيفة "نيويورك تايمز"، دفاعا عن فلسطين وحاضر في بريطانيا وغيرها من الدول الغربية. إن الأفكار الحية الفاعلة، ولعل أهمها اليوم وأكثرها إثارة للنزاعات والجدل، الحريات العامة، تستحق أن يحشد لها المثقفون والمفكرون الدعم والسند، وأن يفنوا أعمارهم في خدمتها وحمل الغير عليها، وأن يفعلوا كل ما يمكن فعله، وأن لا يهدءوا في سبيل نشرها والتمكين لها في الأنفس والعقول، وانظر ماذا فعلت الفكرة الحية في المفكر العربي إدوارد سعيد، جعلته يعطيها كل حياته، ويصارع مرض السرطان حتى لا يثنيه عن الالتزام بما تتطلبه، وأكثر من هذا، كيف يحافظ على استقلالية فكره وموقفه، وينأى بذهنه عن السلطة، وهذا يفرض قدرا من تحمل "وحشة" التهميش وربما المصادرة، لكنها ضريبة حرية التفكير والقول وإرادة الفعل المستقلة (والاستقلالية لا تعني منازعة السلطة أو معاداتها)، غير أنه في الأخير، قال ما يريد قوله، وتحدى بفعله أشكال الحظر والمصادرة والتضييق. وهناك مسألة أخرى، لا تقل أهمية، أن الصواب الذي نوفق إليه لا يتأتى ـ غالبا ـ بالنظر المجرد والتأمل الفردي، وإن كنا أحيانا نوفق إلى الصواب والرأي السديد، دون اعتماد مجال التداول ومسلك المشاركة والمحاورة، لكن أثره محدود مقارنة بالصواب الجماعي، خاصة مع ما نعيشه في عالم اليوم من تداخلات وتناقضات وتعقيدات وتشعبات، إنه لا مناص من إحياء "طريقة أهل المناظرة" وإشاعة "المفهوم الجماعي للصواب". ولعل واقع الحيرة والاضطراب الذي نشهده اليوم في أوساط الأمة في أكثر القضايا حضورا وتأثيرا، مرده ـ في بعض جوانبه ـ إلى غياب الاشتراك مع "الغير" في طلب الحق والظفر بالصواب والعمل به. وهذا لا يعني بحال من الأحوال الدعوة إلى وحدة الرأي، فهذا مما يتعذر تحقيقه ولم نطالب به أصلا، وإنما أن تُتداول الآراء، على اختلافها وتعددها وتراكمها، وتخضع للمحاورة والنظر الجماعي. يعني في الأخير أن يكون الرأي نتاجا لشراكة في التداول والنظر لا أن يصدر من جهد وعمل فردي مجرد، باعتبار أن هناك تداخلا، وليس تلازما، بين الصواب والمحاورة. وبهذا يمكننا، على الأقل، أن نخفف من حدة التضاربات وفوضى الأفكار، وكذا مظاهر الحيرة والقلق والاضطراب. ملحق (2) على أصداء المؤتمر التحضيرى للقمة العربية الثقافية ببيروت مثقفون سعوديون يطالبون بالإعلاء من مستوى الحرية الفكرية مريسى الحارثى : هموم الثقافة لا يعرفها إلا أهل الثقافة صالح الحسن : مجرد أوصياء محمد المنصور : حرية وهمية أميرة كشغرى : خطوات جميلة على الورق صالح زياد : العلاقة بين السياسة والثقافة عضوية حليمة مظفر : قائمة الطاولات السياسية ممتلئة عبد الله السمطى من الرياض قمة عربية للثقافة ؟ أم ثقافة للقمة العربية ؟ هذا السؤال يراود المثقفين اليوم ، على أصداء عقد المؤتمر التحضيرى للقمة الثقافية العربية الذى يعقد فى بيروت اليوم الثلاثاء ويختتم الأربعاء 14 يوليو ، وتنظمه مؤسسة الفكر العربى بالتعاون مع جامعة الدول العربية ؟ إنه سؤال قد يشق قمصان الثقافة من قبل أو من دبر ، حيث سيراود السياسى المثقف ، وستغلق أبواب الجلسات فلا يدرى المثقف عن أى شىء يتحدث المشاركون ، وعن أى قضايا تدور رحى الكلام ، حيث خصصت قمة العام 2011 لمناقشة أزمات الثقافة ، ومشكلات المثقف العربى . مثقفون سعوديون تحدثوا فى هذا الاستطلاع لإيلاف عن حاجة الثقافة العربية لحرية الفكر ، وطالبوا بوضع آليات وخطوات حقيقية ملموسة للنهوض بالشأن الثقافى ، كما طالبوا بالاهتمام بالكتاب طباعة وتوزيعا ، والاهتمام بالتعليم فى العالم العربى ، فيما رفض آخرون إثقال كاهل السياسيين بقضايا الثقافة ، وضرورة أن تحل هذه القضايا من قبل المثقفين أنفسهم. وهذه هى آراء المشاركين والمشاركات : د. محمد مريسى الحارثى أستاذ الأدب فى جامعة أم القرى فى مكة المكرمة يقول : المؤتمر المتعلق بالثقافة لا تنبع أهميته من القمة السياسية ، بل تنبع من القاعدة الثقافية لأن هموم الثقافة ومسوغاتها ومعوقاتها لا يعرفها إلا أهل الثقافة ، فإذا كان هناك من الخطط المستقبلية للثقافة العربية قد تجمعت من القاعدة الثقافية العريضة ، ليستنير بها الساسة ، فهذا أمر مرغوب فيه ، وإما أن تسقط الثقافة من أعلى إلى أسفل فهذا لن يجدى شيئاً ، لأن الثقافة لا يمكن أن تطلق بقرار سياسى ، لأن الخطاب السياسى لا يمكن أن ينفذ توصيات الثقافة ، فالمثقفون هم المعنيون أولاً وأخيراً . ويرى الحارثى أن الخطاب الثقافى عليه ضغوط ، تمارس من قبل خطابات أخرى غير الثقافة، فتؤثر فى توجهاته ، والبحث عن حرية المثقف ومصداقيته أمر أساسى ، فى مواجهة ضغوط من الخطاب السياسى ، والدينى ، والإعلامى ، فكل يريد أن يحصل على الكعكة التوجيهية للخطاب الثقافى . من الذى يقود ؟ الباحث صالح بن إبراهيم الحسن يعتقد أن السياسيين لم يستطيعوا حل مشاكلهم السياسية ، فما البال بالمشاكل الثقافية ؟ خاصة وأن القرار ليس بأيديهم ، والشأن الثقافى بعيد كل البعد عن ساحة الزعامات العربية ، فهم مجرد أوصياء . ويضيف الحسن : عادة ، الفكر هو الذى يقود لا السياسة ، والسياسيون لا يستطيعون قيادة أنفسهم . ويتفق الشاعر والكاتب المسرحى محمد المنصور مع ما ذكره الحسن ، حيث يرى أن السياسيين لا يستطيعون حل المشاكل السياسية ، فمشاكل الثقافة وقضاياها لا يستطيع حلها سوى المثقفين أنفسهم من خلال مؤتمرات الأدباء والمثقفين ، إلا فى اتخاذ قرارات محددة فى موضوعات مصيرية ، وإذا كانت جامعة الدول العربية – يضيف المنصور – لا تعطى حرية الكاتب أو الكاتبة ، كما رأينا فى مشكلة إيقاف الشاعرة ظبية خميس عن العمل فى الجامعة لأنها كتبت مقالاً ثقافياً ، فكيف يمكن للجامعة أن تحل مشاكل الثقافة ؟ .. إن حرية الكاتب فى العالم العربى حرية وهمية . خطوات على الورق : د. أميرة كشغرى أستاذة الأدب فى جامعة الملك عبد العزيز فى جدة تؤكد أن لدينا الآن خطوات إيجابية ، منها : التقرير العربى الأول للتنمية الثقافية الذى أصدرته مؤسسة الفكر العربى ، وتضمن أموراً وأهدافاً واضحة قابلة للقيام .. لكن مع الأسف : هل التطوير أو الإصلاح يأتى من خلال شعارات ، أو قمم ؟ . تضىء كشغرى سؤالها أكثر : التطوير يكون فيه قيادة فاعلة ، لديها القدرة على أن تقود التطوير ، سواء فى المجال الثقافى أو أى مجال آخر . وتشير كشغرى إلى أن هناك خطوات جميلة على الورق فقط ، لكنها فى الواقع لا تترجم ، أو تجد لها صدى حتى لو كان بطيئاً . وتضيف : أتمنى أن تكون لدينا عدة آليات واضحة لتفعيل الشعارات أو قرارات القمم ، وأن تكون قابلة للقيام وأن يتم تفعيلها ، فتفعيل الثقافة وآليات العمل الثقافى غير موجودة ، ومؤسسات المجتمع المدنى مرفوضة داخل السعودية وغير مصرح لها ، فهناك مطالبات بإنشاء جمعيات ثقافية بصفة مدنية ، لكنها مرفوضة ، والثقافة لا تنمو فى ظل القيود ، والمجتمع المدنى يظل يشكل الخطوة الرئيسية القادرة على دعم العمل الثقافى ، بالنسبة إلى القمة ، نشعر أنه لا يوجد دعم مادى كبير للثقافة ، والتغير والإصلاح يحتاج أيضاً لأكثر من الدعم المادى ، لابد من تغيير طريقة تفكير المجتمع وانطباعاته عن الثقافة والمثقف ، وتغيير طريقة تفكير صناع القرار فى الثقافة ، نحن نريد أن ننتقل من مرحلة الوصف والتشخيص إلى مرحلة وضع خطوات وآليات حقيقية ملموسة للنهوض بالشأن الثقافى . علاقة عضوية : ويشير د. صالح زياد أستاذ الأدب فى جامعة الملك سعود فى الرياض إلى أن العلاقة بين السياسى والثقافة عضوية ، فعادة ما يكون الخطاب الثقافى محكوماً بالخطاب السياسى ، والثقافة كمعارضة نقدية ، أو أيديولوجيا ، مكرسة لمفاهيم السياسة ، الثقافة فعل سياسى . وهذه العلاقة العضوية المتينة مهمة جداً . ويوضح أكثر : نحن نتطلع إلى استجلاء دور سياسى فى حل المعضلات الثقافية ، وأن يكون الوجه الثقافى إيجابياً تجاه القضايا ، ومنها : حركة الكتاب ، وإنتاج المعلومة والمعرفة فى العالم العربى ، خاصة وأن هذا الانتاج ضئيل ونخجل منه قياساً للإمكانيات العربية على مستوى الطاقات والكفاءات والكوادر العربية ، كذلك ينبغى الاهتمام بالكتاب طباعة وتوزيعاً، وبالتعليم فى العالم العربى ، وحركة الترجمة وإنشاء مؤسسات تعنى بالترجمة ، كذلك الاهتمام بمستوى حرية الرأى والفكر لأنه لا حركة للفكر من دون حرية . أما الكاتبة والإعلامية حليمة مظفر فتعتقد أن عقد قمة للثقافة العربية يمثل خطوة مهمة جداً ، وإن كان كثير من المثقفين قد يرون عكس ذلك ، لكنها هى محاولة لقراءة القضايا الثقافية، لأن عندنا قضايا كثيرة موجودة على الطاولات السياسية ممتلئة بالقضايا الاجتماعية والفكرية التى تحتاج من السياسيين أن يحسموها ، من أجل طمأنة الشعوب العربية ، ولكن أن نضيف قائمة من القضايا الثقافية لمناقشتها فأخشى أن نثقل على كاهل السياسيين . رغم ذلك فإن هذه القمة تشكل محاولة لوصول المثقفين بأفكارهم وأطروحاتهم إلى الطاولة السياسية ، وإننا كمثقفين موجهون ومحركون رئيسيون لمختلف القضايا السياسية أيضاً فى ظل العولمة ، لأن المثقفين لا يتخلون عن القضايا السياسية . أهم شىء يمكن طرحه فى ظل ما تعانيه الشعوب العربية من ضيق أفق الفكر الدينى أن تكون لدى المشاركين فى القمة سعة ورحابة الصدر فى إمداد الشعوب العربية بالفكر والثقافة ، لأن مثل هذه الأمور تحتاج إلى قرارات سياسية ، خاصة الحرية الفكرية التى هى من أهم الأسباب التى تدعم الثقافة والفكر فى بلادنا العربية . ملحق (3) "المواطنة" من زاوية أخرى سعود البلوي ( ) "المواطنة" ذات بعد أشمل وأعمق من التعلق وجدانياً بحب الوطن، مهما كان هذا الوطن قرية أو مدينة أو إقليم اً أو دولة. فنقطة انطلاق المواطنة هي (المفاعلة والمشاركة) الناتجة عن حب الإنسان لوطنه بكل أطيافه واختلافاته الثقافية. وترتكز المواطنة بدايةً على الانتماء المدني-الحضاري للوطن/الدولة، فيخرج من ذلك التشرذم الناتج عن الانتماءات الفرعية (الأسرة-العشيرة- القبيلة- الطائفة) التي يفترض أن تبقى في فضائها الطبيعي، لكن خطورتها تكمن في طغيانها على الانتماء الوطني؛ لأن المواطنة ليست مجرد ولاء الشخص لوطن يحمل جنسيته، إنما هي تجسيد فعلي للوحدة الوطنية، من خلال رفض كل ما يهدد وحدة الوطن السياسية والثقافية، ونشر التسامح ونبذ جميع أنواع العنصرية، الدينية والمذهبية والعرقية، والعمل على تأسيس أرضية صلبة لـ"مجتمع مدني" حقيقي ينتمي له كل المواطنين برغبتهم، وتراعى فيه قوانين حقوق الإنسان وتسوده روح الشراكة الوطنية والعمل الاجتماعي المنظم. المفترض أن الذي يثير الوعي بالمواطنة كقضية كبرى هو (المثقف). وهنا تأتي أهمية ممارسة المثقف للتنوير، تعبيراً عن مواقفه الوطنية بحرية واستقلال فكري وذاتي، خاصة إذا ما تعلق الأمر بجوهر الحقوق الإنسانية. فنجد مواقف المثقف تبرز حينما تتعلق الأمور بقضايا الرأي العام؛ فهو يعي أن فكرة المواطنة تتطلب المشاركة، وأن الانتماء لا يعني تقديس الأشخاص والأمكنة والأزمنة على حساب الوطن. ولا تلغي الاختلافات الثقافية أو الفكرية جوهر الحقوق الإنسانية الطبيعية، فالمثقف المؤثر يعتبِر أن واجبه الوطني يحتم عليه الانطلاق من حقه-وحق غيره من الأفراد- في التمتع بالحرية والمساواة. لكن الكثير من المثقفين العرب يتحدثون عن أهمية المواطنة، إلا أنهم يصمتون، أو يغيبون ويختفون، حين يكون الأمر متعلقاً بقضية عامة ترتكز على المبادئ التي أرساها "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان". وفي عالمنا العربي، يحصل أن تغضب أحيانا السلطة السياسية أو الاجتماعية على المثقف الذي يبرز دفاعاً عن منظومة القيم التي يؤمن بها؛ ولذلك من الطبيعي أن يبقى دوره مقيداً ومحدوداً فيصبح العبء عليه مضاعفاً في تلاقي الدولة والمجتمع لئلا تلغي الدولة دور المجتمع أو يلغي المجتمع دور الدولة من خلال تضخم دور القبيلة أو الطائفة أو الحزب؛ فوجود الوطن المتكامل شرط للنهوض والخروج من دائرة التخلف والتمزق الثقافي أو السياسي، ولكن قد يجد المثقف نفسه أمام أول عوائق المواطنة، المتمثلة بفقدان حرية التعبير التي ينتج عنها فقدان البيئة الحافزة على التفاعل الخلاّق بين أبناء المجتمع الواحد. ولربما شعر المثقف بالقزامة أمام جسامة الدور الذي ينبغي عليه القيام به كفرد مؤثر في المجتمع، ليجد بعض المثقفين أنفسهم مجبرين على الانتحاء بشكل أو بآخر، فيضطر بعضهم أن يضع نفسه في مواجهة السياسي، فتكون هناك هوة عميقة و"أزمة ثقة" بين الطرفين. ولكن أهمية المثقف على المستوى الوطني يجب أن تبقى لكي يكون هناك نوع من التوازن؛ فبقاء المثقف كجزء مؤثر في النسيج الوطني يحتم عليه إعادة النظر في موقعه المشهور عنه منذ خمسينيات القرن الماضي، الذي يتخذ شكل المعارضة الدائمة التي تفسر بأنها عبثية أحياناً، حتى لو لم تكن كذلك. ومن الضرورة بمكان ألا تتناقض المواقف مع القيم الثقافية التي يتبناها، ولكن لكي يبقى المثقف في إطار المواطنة والهم الوطني عليه أن يكون "مستقلاً" من الناحية السياسية كما الناحية الفكرية تماماً؛ بأن يكون منطقياً في أحكامه، فيشجع الخطوات الجيدة التي تخطوها السياسة، مثلما يقوم بالضبط بانتقادها حين لا تكون خطواتها جيدة، وهذا يعني ابتعاده عن المواقف الأيديولوجية حتى ولو كان لديه اتجاه سياسي معين، فمثلاً: ليس منطقياً أن يؤيد حكومة بلاده حين تغزو دولة أخرى، كما حدث عقب احتلال النظام العراقي السابق لدولة الكويت، حيث أفرزت تلك الأزمة انحياز بعض المثقفين العرب للدولة الغازية، بدعوى العروبة والقومية! ومن الأهمية ذاتها ألا يتحول المثقف إلى "التطبيل" السياسي، وإلا فقد قيمته وأصبح في خانة (أشباه المثقفين) الذين هم أبعد ما يكونون عن المواطنة بمواقفهم القائمة على الخداع والتسطيح، ومهاجمة أفكار التنوير بدعوى الوطنية أو الدين. ومن المحتمل أن يكون (شبيه المثقف) وجهاً آخر للسياسي في مواقفه التي يهدف منها إلى الوصول لغايات ذاتية النزعة، وذلك حين يكون في أحد مواقع السلطة، ولا سيما السلطة الثقافية، فيتجه للإلغاء والإقصاء بعد أن كان يحاربه ويمقته. فالمواطنة الحقيقية لن يتمثلها المثقف إلا حين يتبنى مواقفه المستقلة ذاتها سواء كان داخل سلطةٍ أو خارجها. كما أن المواطنة تبقى هي ذاتها في السلم والحرب، بل إنّ فعالية المثقف في المواطنة تتضح أثناء الأزمات. وقد أبرزت حادثة الحادي عشر من سبتمبر، وما تلاها، قيمة رؤى المثقف وتجسيده للمواطنة. فعلى سبيل المثال، قام المثقفون السعوديون بدور مهم في رفض وزعزعة الأسس التي يقوم عليها "الإرهاب"، ولم تكن طروحاتهم محل ترحيب من بعض قوى المجتمع آنذاك، وكثيراً ما يتم وصفهم بأنهم "ليبراليون" أو"علمانيون"، وهذا يعني في قاموس (البعض) المروق من الدين الإسلامي، وما زالوا يُتهمون بأنهم يشكلون طابوراً خامساً مؤدين دوراً مرسوماً لهدم الإسلام من قبل القوى الغربية.
ومهما يكن الأمر، تعبِّر مواقف المثقفين (الجدلية) عن هموم المجتمع واحتياجه للتسامح، والعيش المشترك، والوحدة في إطار التعدد الثقافي. ولهذا بدأت تأخذ طروحات المثقفين حيز الاهتمام والاقتناع تدريجياً، بعد أن كانت مرفوضة سابقاً. كالدعوة لمحاربة التطرف فكرياً، بالقدر ذاته الذي يحارَب فيه الأشخاص المتطرفون. كما أن بعض العلماء ربما أخذوا يفكرون بآراء بعض المثقفين التي طرحوها على مدى سنوات، ومنها مثلاً ما يخص الدعوة للاستفادة من التقنيات الحديثة لتحديد الأشهر الهجرية وخاصة بداية شهري الصيام والحج وعيديهما، ويبدو أن من بين علماء الدين من اقتنع بهذا الرأي فحدثت بين بعضهم خلافات حيال هذه القضية. هنا يمكن ملاحظة دور المثقف في تجسيد المواطنة، وهو الدور المرتبط بفكرة "التنوير"، حيث لا مواطنة للمثقف دون ممارسة دوره التنويري، بعيداً عن اللجوء إلى الشعارات البراقة، انطلاقاًَ من مبادئ حقوق الإنسان، والتي تصون الحريات وتوفر الكرامة الإنسانية، فالمثقف ربما يعي جيداً أن الهدف الأسمى هو عزة الإنسان في وطنه. ملحق (4) مداخلة هاتفية عبر قناة الإصلاح للكاتبة والمعارضة ( د / مضاوي طلال الرشيد ) 23/7/2006 وهذا نص هذه المداخلة : قبل بداية مشاركتي أنا أريد أن أشيد بموقف الحركة مما يحصل في لبنان وغزة وخاصة الحلقة التي استعرضتم فيها تاريخ حزب الله والأمور التي أدت إلى ظهور مثل هذا الكيان على الساحة اللبنانية .. وبالفعل يعني الحركة أعتقد في أول خطوة استطاعت أن تتجاوز هذا الحاجز وتتعرض لموضوع حزب الله طبعاً واللي هو حزب شيعي موجود على الساحة اللبنانية بموضوعية تبعد الجمهور عن مفهوم المؤامرة التي يروجها النظام السعودي واللعب على الطائفية والتي هو متخصص في إشعالها في مناطق كثيرة من العالم .. هذه نقطة ونقطة ثانية أنا أثار انتباهي رد شخص كان يتصل على الجزيرة في برنامج جديد اسمه صوت الناس فقال له المذيع يعني أنت ما الخطوات التي سوف تقوم بها فقال أول خطوة أقوم بها ( أنا أستنكر ) ووقف عند هذا الحد .. وبعد الاستنكار ماذا ؟ فكان عندي مشاركة اليوم أرجو أن تتاح لي الفرصة . (( من المضحك المبكي أن نتابع ما يمكن تسميته بالشارع السعودي المُغيّب وردود فعله على الهجمة الإسرائيلية .. الكل يعرف موقف الصحافة السعودية الرسمية ولا أريد أن أذكركم بها .. هذه الصحافة تعيد اجترار الموقف الرسمي وكأنها ترتل آيات مقدسة وتبتهل إلى خالقها في دعاءٍ وهي تركع خاشعة في حلقة ذكر أفقدتها وعيها من كثرة الورع والحرص على إعادة صياغة الموقف المسمى بالعقلاني للقيادة الحكيمة والتي تجاوزت فيه فصاحة حسان وحكمة لقمان ، لا يتوقع المراقب لمثل هذه الصحافة أي شطحات أو زلات أو حتى تلميحات إلى رأي آخر وتحليل يتجاوز الآيات المقدسة التي نطقت بها القيادة الحكيمة وليتها لم تنطق .. لذلك يجب تجاوز هذه الصحافة في تحليلنا لما يسمى بالشارع السعودي وموقفه من المجازر الصهيونية رغم أن الجميع قد اطلع على موقف الحكومة الواضح والصريح من الأزمة . نلاحظ أن الشارع " الإلكتروني " اتسم بتعددية خلت منها الصحافة الرسمية المكتوبة أو المرئية لا يهمنا هنا الشارع السعودي الإلكتروني المعارض مثلاً إذ أن موقفه صريح من حيث إدانته للموقف المخزي لحكومة خادم الحرمين وقد ظهر هذا الموقف دون مواربة أو غطاء بل عكس بكل شفافية مشاعر شريحة كبيرة من المجتمع وعكس حالة الإجهاض التي يشعر بها شباب هذا البلد والإحباط المهيمنة على أكثريته .. حيث يحرم هذا الشباب من تلك اللذة التي يشعر بها الشاب من خلال الانخراط في العمل الجماعي في سبيل خدمة قضية ماء وما أكبر من قضيتنا اليوم وما أكبر مصابنا . خلال أسبوع كامل كانت الوسائل الالكترونية والتلفزيونية التي وصلتنا تأخذ حالة الإحباط هذه شباب ممنوع من أن ينطق بينما نظامه يحتكر النطق بما تشمئز منه الآذان الأكثرية الصامتة اتجه هؤلاء ليس إلى شوارع الرياض وجدة العريضة بل خرجوا يجاهدون على " ثغور الكيبورد " يصبون جام غضبهم في شارع إلكتروني عريض تختلط فيه الوجوه والأسماء ولا تبقى إلا كلمات جارحة وقاسية تسكب الرصاص على شاشات الأجهزة الإلكترونية وتنزع الهيبة والشرعية عن نظام سقط في مخططات الغير للمنطقة .. يريد هذا النظام حلاً عربياً للبنان وهو نفسه يلجأ إلى كل الحلول ما عدا العربية عندما يقع في مأزق .. أقلية قليلة تخوض معركة فكرية مع من ينقر على الحاسوب نقرات تبث سموم الفكر الرسمي في فضاء إلكتروني فسيح هذا الفكر الرسمي يعربد ويردد ويرتل على مسامعنا ويحاول أن يقنعنا بحكمة لقمان الجديدة .. شريحة كبيرة من الموالين والمدافعين على هذه العقلانية في موسوعة الفكر العقلاني السعودي الجديد لم يجدوا سوى تبرير الموقف الرسمي وإعادة صياغته من أجل إقناع الخصم بأبجديات المؤامرة المسماة منطق وعقلانية .. الملفت للانتباه أنه حتى هؤلاء بدأوا يصيغون عباراتهم بحذر وحيطة مما يعكس عدم اقتناعهم بالحكمة السعودية .. كثيراٌ من هؤلاء ألحقوا ثناءهم بتذكير قرائهم بالخمسين مليون دولار يدفعها ولي الأمر كفارة عن ذنوب ماضية وحاضرة تذكرنا بتلك العاهرة العربية التي ذاع صيتها في "أجول رود " إذ أنها تعاقدت مع أحد المطاعم العربية لمدة شهر كامل خلال رمضان من أجل أن يرسل ذبيحتها المطبوخة بعناية فائقة إلى أحد مساجد المسلمين في حي فقير من أحياء لندن الشرقية .. الكل يعرف أن إناء ولي الأمر إناء فارغ لذلك تكثر قرقعته التي لا يسمعها إلا حزب الولاة .. يقوم الولاة اليوم بحملة مناصرة عالمية لولي الأمر على شاشات الجزيرة وعلى الشارع الإلكتروني ومنتدياته الفارغة السعودية .. مؤخراً استعمل هؤلاء أسلوب التسول وهو أسلوب تعودوا عليه إذ أنهم يطالبون ولي الأمر بشيء من التضامن ولو بالشكل مع المُصاب العربي والجرح الذي ينزف في لبنان .. ومنهم من يشكو إسرائيل وإجرامها المفضوح إلى ولي الأمر ( يا ستَّار ) ويستعرض مجازرها طبعاً بعد أن يمطروا ليس بمطر صيفي يأتي من طائرات إسرائيلية بل بعبارات التبجيل والثناء والخنوع فينطبق عليهم حالة شكوى العبيد للعبيد ، عبوديتهم لنظام العقلانية الجديدة السعودية قد يشبهها البعض بفكر الحداثة الذي تفجر عالمياً منذ أكثر من أربعة قرون وهاهي القيادة السعودية قد قررت أن تنخرط في مشروع العقلانية عقلانية النظام السعودي هي مرآة لعقلانية الغرب التي كانت مسؤولة أولاً وأخيراً عن نشوء الفكر الفاشي الذي كان يقدم بعقلانية متسلحة بتكنولوجيا عالية على يد النازية الألمانية التي سخرت كل طاقاتها العقلانية في تجسيد فكر الإبادة الجماعية والتي ورثتها إسرائيل من الفكر الألماني الأم وطبقتها حرفياً دون أي تغيير أو تعديل .. عقلانية الغرب أيضاً هي التي أنتجت الاستعمار الذي عرفته المنطقة العربية بالإضافة إلى الفكر الشمولي وفكر الأنظمة التوتاليتارية هذه العقلانية التي يتشدق بها النظام السعودي دون أن يعلم أبعادها السياسية والاجتماعية هي ذاتها المسؤولة عن تبلور الفكر العنصري الذي جعل من الرجل الأبيض رسولاً يحمل الإرث العقلاني إلى المستوطنات والمستعمرات حيث صُنِّف البشر إلى شرائح وقبائل ومجموعات حسب حجم جماجمهم ولون بشرتهم وطول أقدامهم ووزن أدمغتهم .. ومن ثم تمت إبادتهم بتقنية عالية .. لهذه العقلانية مرآة أخرى إسمها ديمقراطية الأقلية التي تهيمن على الأكثرية بحكم كونها أقلية ثرية بأسم هذه العقلانية تباع أسلحة الدمار والقتل لأنظمة عربية تقمع شعوبها مستعينة بالتقنية الغربية فويلٌ لشعب الجزيرة من مخاطر تعلم النظام السعودي أبجدية العقلانية والمنطق الغربي .. وبالمناسبة وُصف حاكم الحرمين بأنه أكبر حكام العرب ولكن كان من الأفضل أن يُوصف بأنه أكبر معتوه عرفته العرب ، انتظروا إذاً إبادة جماعية يا شعب الجزيرة لكل من خرج عن هذه العقلانية تماماً كما حدث للهنود الحمر في أمريكا والأبروجني والماو ماو في كينيا ستبقى ردود فعل الشارع السعودي إلكترونية ولن تخرج من حيّز الشبكة العالمية من يحلم بثورة الشارع السعودي على النظام العقلاني الجديد إنما يعلل النفس بالآمال ومع الأسف هذه حقيقة واقعة .. أقولها من موقع استقراء طبيعة المجتمع في هذه المنطقة العربية الذي مسخه النظام السعودي وحوله إلى حزب ولاة كبير معطل فكرياً ومشلول حركياً لا يجد سوى التخفي خلف أسماء مستعارة لينفس عن احتقانه .. بينما نجد الأكثرية تنخرط في هذا السلوك الجماعي من واقعها توفره لها أطنان من المخدرات والمسكرات والممارسات الخارجة عن كل عُرف وشرع وقانون وتقليد .. وكذلك حالة هروب جماعية موسمية إلى خارج البلد من أجل استنشاق نسمة حرية بعيداً عن عيون النظام وآذانه حالات الهروب هذه مستشرية في ما يسمى بالسعودية حتى أصبحت الآلية الوحيدة للتعاطي مع واقع هذا المجتمع المشلول الذي فقد الثقة المتبادلة بين أفراده مشكلة شبابنا اليوم وخاصة تلك الفئة النشطة المجاهدة في الكتابة الإلكترونية تتلخص بعدم قدرتهم على تأسيس أرضية للعمل المشترك السياسي والاجتماعي خاصة إذا كان هذا العمل لا ينطلق من منطلق العقلانية السعودية الجديدة .. شبابنا يشكو من فقدان الثقة بين أعضائه كذلك هو فاقدٌ للمؤسسات المستقلة التي تمكنه من العمل الجماعي العلني عطل النظام السعودي المؤسسات القديمة كمنابر المساجد وحولها إلى آلة إعلامية أخرى بإلاضافة إلى الشرق الأوسط لدروس التبجيل والدعاء لولي الأمر كذلك حول التركيبة القبلية لهذا المجتمع إلى قطيع من المتسولين والأخوية الذين يستلمون مخصصات شهرية لجهودهم الجبارة في سبيل إضحاك الأمير والتهريج والتسلية في مجالس هذا الأمير أو ذاك .. أصبحت قبائل الجزيرة حاشية متنقلة تُصطحب إلى رحلات القنص بأنواعها المختلفة من صحارى أفغانستان سابقاً مروراً بالمغرب والجزائر وانتهاءً بالقنص البشري على مرتفعات سويسرا وماربيا .. هذه حال القبيلة في جزيرة العرب اليوم .. أما الإسلام فحدث ولا حرج وهو الثقافة الدونية الطاغية والأهم في هذا المجتمع فقد حوله النظام السعودي إلى آلية مهمتها أسلمة الاستبداد عن طريق تفسيرات مرجعيتها ولي الأمر وليس الكتاب والسُنة مهمتها اتهام المجتمع في عقيدته وإدانة ممارساته وتبرئة النظام وتزكية رموزه .. عندما يتهمنا مثقفو العرب بالتخاذل الذي دوماً يعزونه إلى ما يسمى إسلامنا السعودي المتخلف وقبليتنا المستشرية وثقافة الغنيمة المهيمنة على قلوبنا وعقولنا ونفطنا الذي يعتقدون أن جيوبنا فاضت به هم يقرأون التحولات الجذرية التي طرأت والتشويه المستمر و ( العقلاني ) المنظم الذي تقوم به آلة النظام السعودي السياسية والدينية والإعلامية والاقتصادية كلها تنتج مجتمعاً ممسوخاً ليس له من حيلة اليوم إلا خيارات ثلاث : أولاً أن يفجر نفسه كما تفعل خلايا القاعدة أو يفجر شهواته أو يعيش حالة كبث فكرية فردية لا تجد وسيلة للتنفيس سوى " الكي بورد " خاصة تلك الأقلية التي انتشلت نفسها من آلة المسخ الممسوخة المستمرة منذ أكثر من نصف قرن لا تتوقعوا إذن انتفاضات قادمة لشباب الجزيرة إلا إذا تعرض لهزة فكرية تعيد توازنه ورشده حتى يرى نفسه من منظور آخر لا يعتمد على منظومة شكوى العبيد للعبيد .. وشكراً لاستماعكم والسلام عليكم )).
#فكرى_عبد_المطلب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نحو نماذج معرفية مفارقة
-
التحريفات الوهابية لعلوم التوحيد الإلهى والحديث النبوى .. قر
...
-
بعد أن صار العالم الحداثى افتراضيا وما بعده حقيقيا .. العقل
...
-
مستقبل الحركات الاسلاموية فى مجتمع العولمة..- الاخوان - مثال
...
المزيد.....
-
تركيا: اعتقال مطلوب دولي بشبهة الانتماء إلى -داعش-
-
تحت ضغط أميركي.. سحب -تقرير المجاعة- بشأن غزة
-
-سوريا الجديدة-.. كيف توازن بين ضبط الأمن ومخاوف الأقليات؟
-
إنفوغرافيك.. اللاجئون السوريون يعودون إلى وطنهم
-
ارتفاع وفيات المهاجرين لإسبانيا عبر الأطلسي في 2024
-
مصدر أمني: ضبط أجهزة تجسس بين خيام النازحين في غزة
-
شاهد.. لماذا يعرقل نتنياهو صفقة تبادل الأسرى مع حماس؟
-
من يكون محمّد كنجو الحسن مسؤول عمليات الإعدام في سجن صيدنايا
...
-
المرصد: إيقاف المسؤول عن عمليات الإعدام في سجن صيدنايا السور
...
-
واشنطن: سعي هونغ كونغ لاعتقال معارضين يهدد السيادة الأميركية
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|