|
عن السلطة السياسية في سوريا وممانعتها – 2
رامي أبو جبارة
الحوار المتمدن-العدد: 3567 - 2011 / 12 / 5 - 20:57
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
تركيبة الحكم في سوريا:
في البداية لا بد لنا أن نضع في اعتبارنا عند التصدي لمسألة أشكال الحكم وصناعة القرار في الدول، الموروث الحضاري والإرث التاريخي والثقافي لدولة ما وحتى المنطقة الجغرافية المحيطة بها قبل البت في أحكام هذه المسألة. ولعل جميع المؤشرات تشير إلى أنه لم يكن هناك على مر التاريخ تجربة حكم واحدة في المنطقة العربية خصوصا وفي الشرق عموما، ذات صبغة ديمقراطية حقيقية استطاعت أن تكون مثالا يحتذى ويقدر لها من الثبات والاستقرار ما يؤهلها لتصبح حجر زاوية لتأسيس مناخ سياسي جديد لايكون للاستبداد فيه مكان، أو على الأقل أن تترسخ هذه التجربة في الذاكرة الجمعية ويكون لها بالتالي أثر على الوعي والثقافة الجمعية كما كانت تجربة كومونة باريس على سبيل المثال. ولذلك فقد اتخذت أشكال الحكم في الأقطار العربية ما بعد الاستعمار المباشر طابعها الاستبدادي، وكان للعسكر في الفترة التي تلت حركات التحرر الدور الأكبر في صياغة هذه الأشكال من الحكم وتكريسها بإعتبار أن القوة العسكرية كانت الضامن الوحيد لاستمرار حكم هذا الجنرال أو ذاك. لم تكن سوريا بعيدة عن هذه الثقافة وهذا المناخ السائد، بل على العكس تماما فقد كانت سوريا بإنقلاباتها العسكرية المتعاقبة أهم الشهود على هذا المناخ منذ انقلاب حسني الزعيم عام 1949 وحتى استقرار السلطة بيد اللواء حافظ الأسد. ولذلك فإن في تركيبة الحكم السورية عامل أمني مهم - إن لم يكن الأهم - يتجلى ببعده العسكري، وبهذا تكون القيادات الأمنية والعسكرية الطرف الأول في تركيبة الحكم هذه.
رغم أن سوريا تشترك مع المنطقة المحيطة بها بكثير من الخصائص كما سبق وقد أسلفنا، إلا أن ذلك لا يمنع أن يكون لها خصوصية في تركيبتها السياسية بناءا على خصوصية في تركيبتها الاجتماعية، فسوريا بلد متنوع المذاهب والطوائف والأعراق والأديان، مما جعل هذا القطر وبكل أسف يزخر بهويات فائضة في ظل مواطنة منقوصة(1) جعلت الإنتماء الديني والعرقي والمذهبي يعلو على إنتماءات أخرى بما فيها الإنتماء الوطني (أو بتعبير أدق إنتماء المواطن إلى الدولة). ورغم أن هذا المناخ الاجتماعي لم يكن سائدا في سوريا، إلا أنه بدأ يتوسع شيئا فشيئا وكان لتوسعه هذا عدة ظروف داخلية وأخرى خارجية. أولى هذه الظروف كان الانكسار المدوي للمشروع القومي وتراجعه المستمر منذ السبعينيات، وثانيها كان السياسة الطائفية التي انتهجها حافظ الأسد في اختياره للقيادات العسكرية والسياسية(2)، ثالثا دخول حافظ الأسد في صراع مع الاخوان المسلمين والذي اكتسب صبغة طائفية، وبلغ هذا الصراع ذروته في مجزرة حماة عام 1982، رابعا سقوط الاتحاد السوفيتي وتراجع التيارات الشيوعية واليسارية عموما وما تلاه من هيمنة أمريكية في المنطقة ترحب بالطائفية بل وتعمل من أجل تعزيز مناخاتها، واخيرا قيام الثورة الاسلامية في إيران وما تلاها من صعود للتيارات الاسلامية التي عملت توال القعود الماضية على التفرقة الدينية والتجييش الطائفي. وكان لتنامي نفوذ الطائفة العلوية دون غيرها أسباب عدة أبرزها عدم تـأثرهم بالانقلابات المتتالية والصراعات الدموية التي كانت تنخر الجيش السوري طوال الخمسينيات والستينيات، مما شكل لضباط تلك الطائفة نوعا من الاستقرار النسبي والترقي في الرتب العسكرية(3) رغم تذبذب هذا الاستقرار في بعض الأحيان، كما أن نسبتهم غير البسيطة من التعداد السكاني شكلت لهم عامل قوة اضافي، فهم يعدون ثاني أكبر طائفة في سوريا كما هو معلوم. وبالتالي فإنه من الممكن اعتبار العلويين ككتلة بشرية لها ما يربطها مع رؤوس السلطة السياسة ثاني أطراف تركيبة الحكم في سوريا، كون أفرادها يتمتعون بالنفوذ الأكبر داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية بشكل خاص، ضمن حسابات قبلية دقيقة وتوازنات حساسة بين الأقسام الأربعة لقبائل العلويين وهي الحدادين والخياطين والمتاورة والكلبية، ورغم عدم وجود مرجعية طائفية واضحة أو وصاية مباشرة بمفهومها الديني على هذه التوازنات، ولكن هذا لا يمنع ان يكون هناك تدخلا ما من قبل بعض أعيان المشيخة العلوية (رغم تفريغها من زعمائها الدينيين إلى حد ما) حسب ما تقتضي الحاجة(4)، ولذلك يبقى هذا التكتل العلوي المفترض هلامي الشكل وغامض إلى حد كبير. ورغم موقفي الصارم من التفرقة الدينية ونبذي الكامل للطائفية والنابع من الايدولوجية التي اتشرّف بالانتماء اليها، إلا أن هذا وبكل أسف واقع لا يمكن تجنبه، فكيف يمكن تفسير اقتصار القيادات الامنية والعسكرية على أبناء الطائفة العلوية منذ مدة طويلة (حسن خليل، علي حبيب، آصف شوكت، علي دوبا، علي حيدر، محمد ناصيف، غازي كنعان، بهجت سليمان، ماهر الأسد، إبراهيم حجاوي، عدنان الأسد، محمد الخولي، عدنان بدر الحسن، علي حسن، رفعت الأسد، إياد محمد، علي أصلان وغيرهم المئات بل ربما الآلاف).
لعل ما قاله وزير الخارجية الأمريكية هنري كيسنجر عن أهمية الشيخ وعدم أهمية الخيمة مقابله، يعبّر عن حقيقة كامنة في النظم السلطوية العربية، ولذلك فإن هذه الأوتوقراطية المطلقة ولدت حكما أوليغارشياً أخذ طابعا عائليا في أغلب الأقطار العربية، وبهذا أصبحت عائلة هذا الرئيس أو ذاك الملك دعامة من الدعائم التي يرسي بها حكمه مع مرور الوقت، وهذا ما كان في التجربة السورية، فعائلة الأسد (حافظ، رفعت، جميل، باسل، ماهر، عدنان) وأقرباؤها (حافظ مخلوف، رامي مخلوف، ذو الهمة شاليش) وأنسباؤها (آصف شوكت) كان لهم اليد الطولى في تسيير السلطة السياسية على مدى العقدين أو الثلاثة عقود الماضية. وبالتالي يمكن اعتبار العائلة الموسّعة للرئيس المتوفى حافظ الأسد طرفا ثالثا في تركيبة الحكم السورية.
لا أعتقد أنني بحاجة إلى تقديم العلاقة العضوية بين رأس المال والسلطة السياسية، فكلاهما يتداخل ويتقاطع على نحو قذر قد نحتاج إلى صفحات لشرحه وتبيانه، ولكن مما لا شك فيه أن بعض أصحاب رؤوس الأموال الصخمة له تأثير كبير على المطبخ السياسي في سوريا وخصوصا الليبرالين منهم، ولعل أكبر دليل على ذلك الصراع الذي جرى في عام 2008 بخصوص رفع الدعم عن المواد التي ترهق الموازنة(5). كما أن ميخائيل عوض نفسه (وهو المؤيد للرئيس بشار الأسد) يؤكد نفوذ هذا "الفريق الليبرالي" كما أسماه(6). وبناءا على ما سبق يمكن اعتبار هذا الفريق الاقتصادي الليبرالي طرفا رابعا في المطبخ السياسي السوري من أمثال شركات رامي مخلوف، وفيصل ليمتد(7)، مجموعة بكداش(8)، وغيرها.
بناءا على هذا التحليل السابق نستطيع القول أن هناك أربعة اطراف تتشارك في حكم سوريا أو أربعة مجموعات تنفرد بإدارة المطبخ السياسي في سوريا وهي: القيادات الأمنية والعسكرية، عائلة الأسد وأقرباؤها، التكتل العلوي الهلامي الذي سبق الحديث عنه، وأخيرا فريق اقتصادي من أصحاب رؤوس الأموال الضخمة. وهذا لا يعني ان هذا المجموعات منفصلة عن بعضها البعض بشكل تام أو أن أعضاءها متحالفين مع بعضهم البعض بالكامل، ولكنه لا يعني انها متصارعة في المطلق أو متفقة فيما بينها اتفاقا مطلقا، فهذه المجموعات تتداخل وتتقاطع على نحو عجيب يستحيل مسك خيوطه، وتحتل العلاقات الشخصية والعائلية والطائفية قسطا لا بأس به بالإضافة إلى روابط العمل والمصلحة، فمثلا رامي مخلوف وهو على رأس الفريق الاقتصادي المؤثر على المطبخ السياسي، هو أيضا أحد أعضاء عائلة الأسد الموسعة (ابن خال الرئيس)، وشقيق القائد العسكري العميد حافظ مخلوف، وهو ابن الطائفة العلوية كذلك، وهذا الحالة تنطبق على معظم أعضاء المجموعات الأخرى. ولذلك فإن نفوذ هذه المجموعات الأربع يتوزع على ملفات عدة منها ما هو اقتصادي ومنها عسكري ومنها سياسي ومنها اعلامي وغيرها من الملفات، كما أن مراكز القوى تتبدل وتتغير وفقا للظروف الموضوعية المحيطة بهذه المجموعات وتحالفات أفرادها ومصالحهم، فتارة يعلو نفوذ واحدة على أخرى في موقع ما، وتارة يخبو في موقع آخر، وفي موقف معين ينتصر تيار داخل احدى هذه المجموعات على آخر مقابله بمساعدة مجموعات أو أفراد من المجموعات الاخرى، وفي موقف آخر قد تنقلب الموازين لصالح التيار المقابل وهكذا دواليك. ورغم تشعب هذا الوضع وتعقيد هذه التركيبة، إلا أنه لا بد في النهاية من وجود ضامن ما أو صمام يضبط أعمال هذه التركيبة ولعل هذا الصمام هو المصلحة التي تجمعهم متمثلة في البقاء في دفة الحكم وتحقق مصالحهم الضيقة المتشعبة والمتفرعة، ولعل تحديد المصلحة تلك يتولاها بشكل أساسي الطرف الأول وهو القيادات الامنية والعسكرية، كونه الأقدر على تحديد الوضع الميداني الضامن الأقوى لاستقرار العرش، ويشاركه بنحو خجول المدنيين من الطرف الثالث وهو عائلة الأسد، بينما يشكـّل الطرف الثاني وهو التكتل العلوي الهلامي الجسم المنفذ والحاضن الوصي على هذه المصلحة. - يتبع في الجزء الثالث تحليل تاريخي لمواقف النظام السوري بناءا على تحليل تركيبة الحكم الوارد في هذا الجزء، وبناءا على تعريف وتشريح مصطلح الممانعة الوارد في الجزء الأول من هذه السلسلة.
(1) من كتاب "هويات فائضة..مواطنة منقوصة" للكاتب وجيه كوثراني، حيث يناقش هذه الجزئية بمزيد من التفصيل. (2) للمزيد من التفصيل في هذه النقطة انظر مقال لميشال إيزنزستادت بعنوان "من يحكم سوريا" بتاريخ 21-06-2000 نشر في نيويوركر. (3) من مقال بعنوان " الحزب القائـد والطائفـة القـائـدة" للكاتب صالح السعيدي نشر في جريدة القبس بتاريخ 13-04-2011. (4) مقال بعنوان "الطائفة العلوية بين الثورة والنظام" للكاتب طالب ابراهيم نشر في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 08-08-2011. (5) راجع مقال بعنوان "من يحكم سوريا؟" بقلم محرر صحيفة صفحات سورية الأسبوعية الالكترونية بتاريخ 27-10-2008. (6) مقال للكاتب ميخائيل عوض بعنوان "متى يحكم الأسد ورؤيته الاجتماعية بديلاً عن الارتجال والليبرالية؟" نشر في جريدة السفير بتاريخ 28-08-2008. (7) مقال للكاتب جريس الهامس بعنوان "من يحكم سوريا، خلف الستار؟ - 2" نشر على موقع الحوار المتمدن بتاريخ 14-02-2009. (8) نفس المصدر السابق.
#رامي_أبو_جبارة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن السلطة السياسية في سوريا و-ممانعتها- - 1
-
ملكية الفضاء وعولمة ما لا يمكن عولمته..!!
-
حرب العملات ونهاية القيامة الأمريكية: هل نحن بحاجة إلى النظا
...
المزيد.....
-
شاهد..برازيلية تخوض تجربة قفز مثيرة من جسر شاهق بأمريكا
-
فيديو يوثق مواجهة مضيفة طيران لراكبة متسللة بعد رحلة من نيوي
...
-
سوريا.. خريطة تحركات وسيطرة فصائل المعارضة ووضع بشار الأسد..
...
-
-رويترز- : أوكرانيا مستعدة لتقديم تنازلات عن أراضيها وفقا لخ
...
-
الجيش السوري يشن -هجوماً معاكساً- ويستعيد مناطق من المعارضة
...
-
في غزة.. مأساة مستمرة وأثمان باهظة في حرب بلا نهاية وتل أبيب
...
-
ألمانيا.. عدة ولايات تطالب الحكومتين الحالية والمقبلة بتشديد
...
-
مدفيديف يتوقع نهاية حتمية لزيلينسكي ويوجه رسائل إلى عدد من ق
...
-
معركة القسطل.. يوم قال الحسيني للجامعة العربية -أنتم مجرمون-
...
-
تشكيل مجلس شراكة سعودي فرنسي خلال زيارة ماكرون للرياض
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|