مهند صلاحات
الحوار المتمدن-العدد: 1057 - 2004 / 12 / 24 - 08:39
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
المجتمع العربي يستمد معظم عاداته وتقاليده من التراث الإسلامي والعربي القديم وبعض المجتمعات الصغيرة تستمد بعض تقاليدها من التراث الديني للديانة المسيحية مثلا أو اليهودية مثل المجتمع الصغير الذي تعيش فيه أفراد الطائفة (السامرية) في فلسطين, وربما أيضا لتقاليد مختلطة مثل الطائفة الدرزية, لذلك فإن علمانية الفرد العربي هي ظاهرة مستحدثة, ولكن الحقيقة التي نقع تحتها كلنا أننا جميعا كأفراد عرب سواء من منا يعيش في الوطن العربي أم خارجه علمانيون !!!
لكن كيف ولا يزال البعض يكفر العلمانية ويرفضها, كيف يمكن أن نصف مثلا التيار الديني في داخل المجتمعات العربية بأنه علماني وأفراده هم أفراد علمانيين ؟؟
ببساطة إن سوء فهم الفرد العربي لمعنى العلمانية هو السبب في وقوعه في هذه الأخطاء, فلا أعتقد أن هنالك مواطن عربي ممن يرفضون العلمانية يفهم ما هي العلمانية والتي يظنونها على أنها مذهب فكري كالاشتراكية أو الرأسمالية, والمشكلة الأكبر أن المواطن العربي المتدين وأعني البعض حين يجد من يحاول شرح فكرة العلمانية ينعته مباشرة بالكفر دون فهم طبيعة الشرح الذي تطرق له الكاتب أو الدارس وهل كل من يتطرق لفكرة هو معها ولماذا مثلا لا نأخذ بالأمور من باب الدراسة العلمية للمستحدث في الأمور ؟
الحقيقة إن العلمانية هي أيدلوجية حقيقية تعطي نظرة شاملة عن الكون والإنسان والحياة تستمد أيدلوجيتها من خلال ارتباطها بالمنظومات الفكرية كالرأسمالية والاشتراكية, ومن هنا فإن العلمانية ليست مذهب وحدوي يتبناه الفرد بحد ذاته بل أنه أيدلوجية يتم تطبيقها عن طريق الهرم الأعلى المتمثل بالدولة, بمعنى أخر العلمانية تفرض نفسها على المجتمع بسبب تبني الدولة لها.
من هنا يتضح لنا أن الفرد العربي حين يخضع للنظام العام المستمد قوانينه من المنظومات الفكرية السابقة سواء الرأسمالية أو الاشتراكية فأنه فرد علماني حتى لو كان متشدد دينيا.
لتوضيح الفكرة أكثر لا بد من العودة لأصل التسمية العلمانية وتطبيقها على الواقع لنفصل في الشرح اكثر لإيصال الفكرة بشكل افضل.
العلمانية كمصطلح كما ورد في قاموس دائرة المعارف البريطانية كترجمة لكلمة (SECULARISM) ترجمة حرفية لتعطينا معنى اللادينية أو الدنيوية وكذلك يمكن أن نجد نفس المعنى في قاموس أكسفورد شرحا لنفس الكلمة فنجد أنه المعنى يكون (1) دنيوي أو مادي، ليس دينياً ولا روحياً مثل التربية اللادينية، الفن أو الموسيقى اللادينية، السلطة اللادينية، الحكومة المناقضة للكنيسة. وهي مشتقة من كلمة لاتينية "سيكولوم Saeculum"، وتعني أيضا العالم أو الدنيا و توضع في مقابل الكنيسة،
وقد اختلف الكثيرين من المفكرين والفلاسفة العرب في تعريف العلمانية , فكل منهم عرفها طبقا لمؤيد ومعارض، على سبيل المثال يرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية "حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية "الممارسة السياسية الرشيدة".
في حين يرى د.وحيد عبد المجيد الباحث المصري أن العلمانية (في الغرب) ليست أيديولوجية -منهج عمل- وإنما مجرد موقف جزئي يتعلق بالمجالات غير المرتبطة بالشئون الدينية. ويميز د. وحيد بين "العلمانية اللادينية" -التي تنفي الدين لصالح سلطان العقل- وبين "العلمانية" التي نحت منحى وسيطًا، حيث فصلت بين مؤسسات الكنيسة ومؤسسات الدولة مع الحفاظ على حرية الكنائس والمؤسسات الدينية في ممارسة أنشطتها.
وفي المنتصف يجيء د. فؤاد زكريا-أستاذ الفلسفة- الذي يصف العلمانية بأنها الدعوة إلى الفصل بين الدين و السياسة، ملتزماً الصمت إزاء مجالات الحياة الأخرى (الاقتصاد والأدب) وفي ذات الوقت يرفض سيطرة الفكر المادي النفعي، ويضع مقابل المادية "القيم الإنسانية والمعنوية"، حيث يعتبر أن هناك محركات أخرى للإنسان غير الرؤية المادية.
ويقف د. مراد وهبة - أستاذ الفلسفة- و كذلك الكاتب السوري هاشم صالح إلى جانب "العلمانية الشاملة" التي يتحرر فيها الفرد من قيود المطلق والغيبي وتبقى الصورة العقلانية المطلقة لسلوك الفرد، مرتكزًا على العلم والتجربة المادية.
ويتأرجح د. حسن حنفي بين العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة ويرى أن العلمانية هي "فصل الكنيسة عن الدولة" كنتاج للتجربة التاريخية الغربية،ويعتبر د.حنفي العلمانية -في مناسبات أخرى- رؤية كاملة للكون تغطي كل مجالات الحياة وتزود الإنسان بمنظومة قيمية ومرجعية شاملة، مما يعطيها قابلية للتطبيق على مستوى العالم , وأيضا كما يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن العلمانية أن الكتابات التي تطرقت للعلمانية تميز بين نوعين: هما العلمانية الجزئية و العلمانية الشاملة.
لذلك إن شئنا أو أبينا فأن العلمانية هي أيدلوجية مهما حاول أساتذة الفلسفة العربية إعادة تفسيرها ونسبها للمجتمعات العربية, والسؤال المطروح كيف يتم الحكم على علمانية المجتمع ؟
إن الحكم على علمانية المجتمع يتم عن طريق الحكم على الدولة التي تحكم المجتمع فإن كان الدولة علمانية فإن المجتمع بطبيعته يكون علمانيا, وذلك لأن العلمانية لا تطبق بشكل فردي مثل الشعائر الدينية مثلا وإنما يتم تطبيقها بشكل شامل بإطار دستوري تتبناه الدولة.
إن الدساتير العربية كاملة سواء الدول التي رفعت شعار الديمقراطية الليبرالية أو الدول التي لا تزال متمسكة بشعار الدولة الاشتراكية أو حتى الدول التي ترفع شعار أو مسمى الدولة الإسلامية مثل السعودية هي دول علمانية وذلك من خلال الحكم على دساتير هذه الدول فالسعودية كمثال بدأت بإدخال إصلاحات رأسمالية إلى دستورها وقوانينها كبديل عن الحدود الإسلامية هذا من ناحية , ومن ناحية أخرى أن التوغل الرأسمالي من خلال الشركات النفطية والشركات الصناعية في داخلها يجعل من صبغتها العامة صبغة علمانية رأسمالية بحتة حتى وإن رفعت شعار لا إله إلا الله على العلم و أسمت الدستور (دستور إسلامي).
إن غالبية الدساتير العربية لا تخلو من كلمة دين الدولة هو الإسلام, ولكن ما بعد هذه الكلمة يأخذ منحى أخر باتجاه مغاير بعيد عن الإسلام الذي هو لب وتراث الآمة العربية ودولها, ومن هنا فإن الدول تمارس العلمانية بأدق صورها وهو الفصل الديني عن نظام الحكم.
فمعظم القوانين العربية التي تطبق على الأفراد بكافة توجهاتهم الفكرية أو العقائدية هي تشريعات وضعية كما تسمى أو بمعنى أخر لا ربانية وإنما إنسانية (من وضع الإنسان وليست مشتقة من الكتب السماوية باستثناء بسيط يكمن في قوانين الأحوال الشخصية )
لذلك فإن الحديث عن علمانية المواطن العربي شاء أم آبى حديث واقعي ويستحق النقاش بشكل مطول
فالواقع تحت نظام وضعي كما يتم إطلاق الاسم عليه ويطبق الأنظمة والقوانين الوضعية وتبقى علاقته مع خالقه علاقة ثانية هو علماني سار على أساس فصل الدين عن الدولة, لان الفصل يتم من قبل الدولة وليس من قبل الفرد
وإذا فالحكم أتى من خلال خلو الدول العربية من دستور دولة إسلامية واحدة ليس فيه قوانين وضعية ؟؟
من ناحية أخرى يأتي الحديث الأقرب للواقعية عبر حوارات بعض المثقفين العرب الذي يمكن أن يتجسد بالفكرة التالية التي تتحدث عن علمانية الفرد العربي من خلال النظرة لتطبيق الإسلام في المجتمعات العربية فيقول أحد المثقفين حول فكرة الأيدلوجية الإسلامية حتى وصل الحد إلى إيجاد مبتكرات جديدة في الاصطلاح مثل مصطلح مسلم علماني ويبرر المثقفين العرب اصطلاحهم الجديد هذا والذي يبدو واضحا من خلال خوفهم من الهجوم عليهم بدعوات التكفير وتفريق الزوجية وغيرها بحيث أخذ منحى وسطي بين العلمانية التي فرضت نفسها والخوف من البعد عن الدين فنرى مثل هذه الأفكار التي تقول : إن فكرة الحاكمية لله والاحتكام له تحتاج لوسيط الآن لان الله عز جلاله.. ختم الرسالات السماوية بمحمد (ص ).. ولم يعد هناك أنبياء على الأرض يمثلون الله ولن يكون من باب قول الرسول محمد (ص) (لا نبي بعدي) .. إذا من سنحتكم له هو بشر مثلنا له فهم خاص للإسلام
.. ربما عليه خلاف .. وكما هو واضح على الأرض الإسلام ليس واحد حتى عند من يحتكمون إليه فإسلام الأزهر مختلف عن إسلام الوهابية و إسلام طالبان مختلف عن إسلام البوسنة والهرسك ... و إسلام الأخوان مختلف عن إسلام حزب التحرير, والحديث هنا ليس في جوهر العقيدة الإسلامية والفقه الإسلامي بل في التجسد القانوني الاجتماعي للإسلام.
أما بالنسبة لفكرة المحكومية في الأرض فهي فكرة تبدو صحيحة من المنظور الديني لها, وأعني بالديني هنا الدين الإسلامي فقط لأن الأديان الأخرى كالمسيحية مثلا حسمت الأمر مسبقا من خلال جوهر العقيدة الدينية فيها من خلال علمانية الدين من داخل فكره من خلال ( أعطي ما لله لله وما لقيصر لقيصر ) .
لذلك من حيث أصل وجود الإنسان على الأرض وهي استخلافه من قبل الله ليحكم في الأرض, إذا فدين الله واضح الحدود ولكن بحاجة لمن يطبقه ولكن دين الله لا يطبق على نطاق فردي بل بحاجة لدولة لتطبق هذا الدين, لكن الفهم الخاطئ بالوصف حين نقول أن الفرد العلماني هو فرد كافر فهنا يقع الخطأ فهنالك من آمن بالله ربا ، و بمحمد نبيا وأمن بأنبياء الله وملائكته وكتبه ورسله و آمن باليوم الآخر والقضاء والقدر وأقام عمود الدين الصلاة وشهد الشهادتين وأتى الزكاة لمستحقيها وحج مكة وصام رمضان لكنه خاضع ويطبق قوانين الدولة الوضعية فهذا بحد ذاته هو العلمانية التي لم يفهمها البعض الذي يعيش حالة الفصل بين الدين وقوانين الدولة ويصر على عدم علمانيته ولو قال لها أحد أنت علماني لكفره ربما.
وذلك عودة لمعنى العلمانية حسب الفهم العربي البسيط لها وهو فصل الدين عن الدولة وفصل الدين لا يعني بالضرورة استثناء الدين.
لكن حتى السلفيين يعيشون العلمانية فرضا لا طوعا فكيف نعيش العلمانية فرضا لا طوعا ؟؟
جميعنا نعيش العلمانية فرضا بحيث أن الفرد المسلم يصلي ويصوم ويزكي ويشهد قبل ذلك بالشهادتين ويحج بيت الله ويؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر, لكنه يعيش في ظل دولة لا تطبق الإسلام بل تحكم بالحكم الوضعي سواء السعودية التي ستشرع بتطبيق القانون المدني أو بقية الدول الإسلامية التي دساتيرها جميعها وضعية أو الأشخاص الذين يعيشون بدول أجنبية فينطبق عليهم القانون المدني الوضعي
لذلك فقد غدونا جميعا علمانيين شئنا أم أبينا, و العلمانية غدت هي الواقع الذي نعيشه ونرفضه بذات الوقت فنعيش حالة التناقض بكل حالاته.
#مهند_صلاحات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟