|
لاتُصالح ودوائرالثأرالجهنمية
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3561 - 2011 / 11 / 29 - 16:14
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عندما قرأتُ قصيدة (مقتل كليب) التى أخذتْ اسم (لاتُصالح) من مقطعها الأول ، تساءلتُ كيف لشاعرأنْ يتبنى العنف ، بينما الإبداع يسعى لترسيخ التحضر؟ وتضخم التساؤل مع ولع الثقافة السائدة بهذه القصيدة ، كستارمن الدخان يعمى عن حقيقة أنّ مأساة الشعب الفلسطينى لن تُنهيها قصائد التحريض فى طوباوية مريضة تنص على (إما نحن أوهم) فإذا كانتْ مرجعية الشاعرمستمدة من التراث العربى (مقتل كليب) وأنّ الصلح لن يتم إلاّبعودة القتيل إلى الحياة (= طلب المستحيل) فإنّ الإسقاط على قضية الفلسطينيين يعنى عودة عقارب الزمن إلى عام تقسيم فلسطين ، أى إجراء عملية جراحية (إنْ جازالتعبير) فى جسد الماضى ، فتتنازل إسرائيل عن كل انتصاراتها الساحقة ، ويعود الوضع كما كان قبل عام التقسيم (= عودة القتيل إلى الحياة) هنا يتبين أنّ الثقافة السائدة المولعة بالشعارات لم تُدرك التناقض الذى وقع فيه الشاعرعندما قال ((إنها الحرب/ قد تُثقل القلب/ لكن خلفك عارالعرب/ لاتُصالح/ ولاتتوخ الهرب)) صحيح أنّ الهرب مرفوض ، ولكن إذا كان الفلسطينيون خلفهم ((عارالعرب)) فكيف يُمكن أنْ يتخلصوا من هذا (العارالعربى) وهم ملتصقون ببعض التصاق الجنين بالمشيمة ؟ هذا السؤال واحد من أسئلة كثيرة مسكوت عنها فى قصيدة الشاعر. كما أنّ القصيدة تمتلىء بالصياغات التقريرية والبديهيات الطبيعية مثل قوله ((أترى حين أفقأ عينيك/ ثم أثبتْ جوهرتين مكانهما/ هل ترى؟)) فما الجديد الذى أضافه الشاعرلوعى القارىء ؟ فأى إنسان يعلم هذه البديهية. كما أنّ الشاعرانزلق وراء الصياغة الشاعرية متجاهلا أنّ الإنسان الحريُدرك ويرى بصيرته أكثرمما يرى ويُدرك ببصره. وإذا كان الشاعر كتب ومضى (فهذه رؤيته وهذا حقه) فإنّ الكارثة تكمن فى الثقافة السائدة المولعة بالإبداع أحادى النظروالذى يجترتراث العنف دون أفق إنسانى يبتكرتصورات لمجتمع بشرى أقل تعاسة وأكثرسعادة. وكما احتفتْ الثقافة السائدة بقصيدة (لاتصالح) سبق لها أنْ فعلتْ نفس الشىْ مع قصيدة (إما أنْ نكون أولانكون) ل (على أحمد باكثير) وفيها قال ((لاصُلح ياقومى وإنْ طال المدى/ وإنْ أغارخصمنا وأنجدا/ وإنْ بغى وإنْ طغى وإنْ عدا)) إلخ. الفساد الشعرى هنا يكمن فى توظيف جملة شكسبيرالفلسفية لأغراض السياسة وفوقها ديماجوجية فجة ، مثلها مثل فساد طلب عودة القتيل إلى الحياة. وفى كل الحالات يجد العقل الحرأنه أمام دوائرعبثية من اجترارالذهنية العربية التى ترى (إما الكل أولا شىء) وهى ذهنية عبّرعنها شاعرعربى قديم (عمروبن كلثوم) فى قوله ((وإنّا أناس لاتوسط بيننا/ لنا الصدردون العالمين أوالقبر)) وقال أيضًا ((لنا الدنيا ومن أمسى عليها / ونبطش حين نبطش قادرينا / طغاة ظالمون وما ظُلمنا / ونظلم حين نظلم بادئينا)) أليستْ دائرة الثأرالجهنمية هى دعوة للانتحارالجماعى ، كما تفعل حماس التى ترى أنّ بقاءها وحصولها على أموال الشعوب العربية والإتحاد الأوروبى مرهون باستمرارشقاء الشعب الفلسطينى حتى ولوأدى الأمرإلى فنائه. وكان أ. عبدالرحمن الراشد على حق عندما ذكر أنّ الرافضين لإطلاق سراح شاليط (الجندى الإسرائيلى) لايهمهم مأساة مليون فلسطينى ، لأنّ ذلك لو تم فلن يكون هناك حصار ومواجهات وقضية يرفعون قميصها كل يوم لأغراضهم الأخرى (صحيفة الشرق الأوسط 1/6/2010ص13) ولعلّ نظرة إلى دواوين محمود درويش الأولى الخطابية ، ووقوعه فى التناقض بين تحريرفلسطين وإدانته للشعب الإسبانى الذى تحررمن مستعمريه ، كما فى قصيدته الطويلة (أحد عشركوكبًا- على آخرالمشهد الأندلسى) مقطع (الكمنجات) التى يقول فيها ((الكمنجات تبكى مع الغجرالذاهبين إلى الأندلس/ الكمنجات تبكى على العرب الخارجين من الأندلس / الكمنجات تبكى على زمن ضائع لايعود / الكمنجات تبكى على وطن ضائع قد يعود)) إلخ ويصل به العنف اللفظى مداه فى قصيدته (بطاقة هوية) حيث قال ((سجّل برأس الصفحة الأولى / أنا لا أكره الناس / ولا أسطو على أحد / ولكنى إذا ما جُعتُ / آكل لحم مغتصبى)) ولكنه عندما راجع نفسه وقرأ الواقع العربى بروح حيادية ، اكتشف وهم مقولة أنّ (العرب يُساندون الشعب الفلسطينى) فكتب فى قصيدة (أحمد الزعتر) : ((وأحمد العربى يصعد كى يرى حيفا / ويقفز/ أحمد الآن الرهينة / تركتْ شوارعها المدينة / وأتتْ إليه / لتقتله / ومن الخليج إلى المحيط ، من المحيط إلى الخليج / كانوا يُعدون الجنازة / وانتخاب المقصلة)) ويرتفع وعيه أكثرفى قصيدته الطويلة (جدارية) إذْ كتب ((باطل ، باطل الأباطيل.. باطل / كل شىء على البسيطة زائل / لاجديد إذن / والزمن / كان أمس / سُدى فى سُدى / للولادة وقت / وللموت وقت / وللصمت وقت / وللنطق وقت / وللحرب وقت / وللصلح وقت)) وفى دواوينه الأخيرة تتسع نظرته إلى الكون والوجود ، بلغة شاعرية جمعتْ بين الفلسفة والبُعد الإنسانى فكتب ((كنتُ أحسب أنّ المكان يُعرف/ بالأمهات ورائحة المريمية/ لاأحد/ قال لى إنّ هذا يُسمى بلادًا/ وأنّ وراء البلاد حدودًا ، وأنّ وراء الحدود مكانًا يُسمى شتاتًا ومنفى/ لنا ، لم أكن بعد فى حاجة للهوية/ ... والهوية ؟ قلتُ/ فقال دفاع عن الذات/ إنّ الهوية بنت الولادة ، لكنها فى النهاية إبداع صاحبها ، لاوراثة ماضٍ . أنا المتعدد/ فى داخلى خارجى المتجدد/ يُحب بلادًا ، ويرحل عنها (هل المستحيل بعيد ؟) يُحب الرحيل إلى أى شىء/ ففى السفرالحربين الثقافات / قد يجد الباحثون عن الجوهرالبشرى/ مقاعد كافة للجميع)) (مقاطع من ديوانه " كزهراللوزأوأبعد " دارنشررياض الريس 2005). وأعتقد أنّ الروائية والشاعرة سهيرالمصادفة عندما كتبتْ قصيدتها المعنونة (محمود درويش) كانت تعى تطورالمراحل الشعرية لهذا الشاعرالفلسطسنى الكبير، إذْ كتبت ((من أظافرنا تهرب غابات / بحار، أنهارغربة متوجة/ بنيران حامليها / تخرج من أنوفنا / بدايات الصمود أمام شيخوخةٍ ما / فيخمد فينا وهج الأعضاء / نخلع عن أجسادنا الرصاص / نُضمّد خدوش موسيقى الجاز.. إلى أنْ تقول نحب الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا)) بهذه الصياغة الشاعرية أثبتتْ سهيرالمصادفة قدرتها على قراءة شعرمحمود درويش فى تحولاته ، إذْ أنه فى أعماله الأخيرة كان ينحو نحوأنْ ((نخلع عن أجسادنا الرصاص)) أى نبذ العنف ، و((نُضمّد خدوش موسيقى الجاز)) أى نحب الحياة ونرقص على أنغام تلك الموسيقى الإفريقية الجميلة المنتشرة فى أمريكا وأوروبا بينما نحن (المصريين) لانمارسها. والممارسة هى تضميد جروح هذه الموسيقى. وكما قرأتْ سهيرالمصادفة شعرمحمود درويش ، قرأت شعرأمل دنقل فى تحولاته فكتبتْ عنه قصيدة معنونة باسمه قالت فيها ((يا لك من خائن / لماذا لم تأت فى موعدك ؟ لدىّ دم طازج / ونصال لامعة / وموسيقى تصلح / لنومٍ طويلٍ هادىء)) (قصيدتيها عن محمود درويش وأمل دنقل من ديوانها "فتاة تُجرب حتفها" دارالتلاقى للكتاب- ط 2عام 2009) بلغة شاعرية وبكلمات قليلة صاغتْ التضاد الجدلى بين (النصال اللامعة) و(الموسيقى الصالحة لنوم طويل هادىء) أى أنه لو اقترب من عالمها ، وذهب فى موعده ، فربما كان يُعيد النظرفى توجهاته الأيديولوجية ، لأنّ (النصال اللامعة) هى اجترارللموروث العربى القائم على أفضلية السيف على القلم ، أى أفضلية العنف على التحضر، وهوالمعنى الذى كتب عنه كثيرون من شعراء العرب ، وكان أبرزهم المتنبى الذى قال ((حتى رجعتُ وأقلامى قوائل لى / المجد للسيف.. ليس المجد للقلم)) ولما دخل (معد المعز) مصرسأله ابن طباطا العلوى عن نسبه ، فجذب نصف سيفه من غمده وقال ((هذا نسبى)) (أنظربدائع الزهورفى وقائع الدهور- تأليف محمد بن أحمد بن إياس- هيئة الكتاب المصرية- عام 82ص 187) فإذا كان بعض الشعراء المعاصرين لنا يلوكون تراث الماضى القائم على لغة الخطابة الحماسية كما قال المفكرالسعودى عبدالله القصيمى و ((إن الإنسان العربى لم تتخلق فيه مواهب الإنسان المتحضر)) (العرب ظاهرة صوتية- منشورات الجمل عام 2000ص 405) فهل يأتى يومٌ يكون فيه (المجد للقلم وليس للسيف) ؟ أى تعظيم قيم التحضر لمواجهة خطاب العنف وآلياته ؟ سؤال أترك إجابته لعقل وضميرالثقافة السائدة فى مصر. *****
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كفيل مصرى لأى خليجى فى مصر
-
رد بأن مقالى عن اللغة القبطية
-
المشروع الفكرى للراحل الجليل بيومى قنديل
-
سيناريو مُتخيّل عن استقالة شيخ الأزهر والمفتى
-
قوى التقدم وقانون التغير الكيفى
-
اذا كان المسيحيون مواطنين فلماذا الكتابة عن الجزية
-
إرهاصات العالمانية فى مصر
-
الحب والظلال للمبدعة إيزابيل اللندى
-
الحرام بين النظرة الأحادية وتعدد المنظور
-
الأدب التراثى وأنظمة الحكم وجهان لمنظومة واحدة
-
جدل العلاقة بين البؤس الاجتماعى والميتافيزيقا
-
دستور يحكم الثقافة ويحمى المثقفين
-
عقاب الطغاة بين دولة القانون وقانون الغابة
-
انعكاسات الحرب والدمار على أهل الهوى
-
الفلسطينيون بين العرب والإسرائيليين
-
محمد البوعزيزى : الإبداع على أجنحة الحرية
-
نجران تحت الصفر للكاتب الفلسطينى يحيى يخلف
-
المبدعة الليبنانية هدى بركات وجدل العلاقة بين الحياة والموت
-
عمارة يعقوبيان : الإبداع بين الأحادية والجدل الدرامى
-
اللغة القبطية بين لغة العلم والأيديولوجيا السياسية والعواطف
...
المزيد.....
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|