|
الفارابي وأشكالية نظرية الفيض ..
هيبت بافي حلبجة
الحوار المتمدن-العدد: 3557 - 2011 / 11 / 25 - 15:44
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
الفارابي وأشكالية نظرية الفيض .. هيبت بافي حلبجة يعتبر الفارابي ، بحق ، من أقوى فلاسفة العرب في ميدان المنطق ، ويحتسب أول من قارع مفهوم البرهان ليس كمفهوم عام أو كمنهج أستدلالي أستنتاجي ، إنما كخطاب دقيق في العقل الكوني . فالخطاب البرهاني ، لديه ، ينزع الغبن عن الفكر ويعيد إليه وحدته كمنظومة تساوقية لاتسمح بأي أنفصام أو تفكك في مقوماته ، وكأن ثمت علاقة جدلية حميمية ما بين الثالوث الفكر ، البرهان ، المنطق .. ويؤكد الفارابي في مؤلفه إحصاء العلوم ص 67 إن صناعة المنطق تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل . ويردف في مجال آخر في مؤلفه كتاب الألفاظ ص 99 إن المقصود الأعظم من صناعة المنطق هو الوقوف على البراهين . تلك البراهين التي تفيد العلم اليقين لأنها براهين من مقدمات صادقة ضرورية كلية أوائل تيقن بها وحصلت معلومة العقل بالطبع .. ويضرب مثلاُ على ذلك – مثل علمنا إن الكل أعظم من جزئه وأن المقادير المساوية لمقدار واحد متساوية ، وأشباه هذه المقدمات التي تحتسب من البديهيات في صناعة العلوم . وهكذا فإن الفارابي يؤكد بالمطلق إن العقل البشري يكفي نفسه بنفسه ، ولايفتقر إلى أي منبع خارجي ليقيس عليه شؤونه ، ( فالمقدمات الأوائل ) هي التي تغنيه عن أي شيء خارجي . وطالما أن الأمور تكال بهذا المستوى فإن المعرفة اليقينية هي المعرفة بالأسباب ، والمبدا العام الذي يحكم هذه العمليات الأستدلالية الأستنتاجية البرهانية – حسب الجابري - هو مبدا السببية في أرتباطه بمبدأ الهوية . هذه المقدمة ضرورية للغاية لنصل إلى الفكرة المتوخاة المنشودة وهي أن الفارابي ، أعتماداُ على هكذا حيثيات ، ينطلق من الموجودات الحادثة ، التي هي ممكنات الوجود ، إلى مفهوم واجب الوجود ، لأن الوجود لايقبل القسمة البتة إلا على ما هو ( واجب وممكن ) . كما أن واجب الوجود كسبب أول ( يلزم بالضرورة أن يوجد عنه سائر الموجودات التي وجودها لا بإرادة الأنسان وأختياره ، على ما هي عليه من الوجود الذي بعضه مشاهد بالحس ، وبعضه معلوم بالبرهان . أما كيفية حدوث ذلك ، وهي نقطة بحثنا هذا ، ( إن وجود ما يوجد عنه إنما هو على فيض وجوده لوجود شيء آخر ، وعلى أن وجود غيره فائض عن وجوده ) . ويستطرد الفارابي إن السبب الأول الذي هو بالضرورة عقل مفارق فإن ما يفيض عنه هو كذلك عقل واحد بسيط مثله ، وهذا العقل الأول يعقل ذاته فتفيض منه كرة سماوية جرماُ ونفساُ ، ويعقل مبدأه فيفيض عنه عقل ثان ، وهكذا يستمر الفيض إلى العقل الثالث ، ثم الرابع ، ثم إلى العقل العاشر الذي تصدر عنه ( الصورة والهيولى المشتركة مابين جميع الأجسام ) . وهذه الهيولى التي تتحرك بحركة الأفلاك تتشكل منها العناصر الأربعة ( الماء ، الهواء ، النار ، التراب ) التي منها تتآلف الأجسام الأرضية . هكذا يربط الفارابي في منظومته الفكرية – حسب الجابري – ما بين المنطق والأنطولوجيا ، بين الطبيعة وما بعد الطبيعة ، ليؤكد على وحدة الكون ، ثم على وحدة الفكر .. لكن هل أفلح الفارابي في تصور ذلك ، وفي أدراك حقيقة وحدة الكون ثم وحدة الفكر من خلال فرضية الفيض ، هذا ما سوف نلتمسه من المآخذ التالية . المأخذ الأول : يؤكد الفارابي من الزاوية الفلسفية ، إن السبب الأول ( العقل ) البسيط لاينتج عنه إلا سبب ثان ( عقل ) بسيط مثله . وبالضرورة لايمكن ولا في حلقة من حلقات الفيض إلا أحترام هذه القاعدة وإلا لكانت مغلوطة في منبعها ، بمعنى أن العقل البسيط الثاني لاينتج عنه إلا العقل البسيط الثالث ، وهكذا العقل البسيط الرابع ، ثم الخامس ، ثم السادس ، حتى العاشر . لكن نحن نعلم أن الفارابي يفاجئنا ، بصورة ضبابية غامضة ، إن المركب – السبب ، العقل – ينتج من البسيط في حلقة من تلك الحلقات ، وهي على الأرجح الأخيرة . فكيف تم الأنتقال من البسيط إلى المركب في حيثية فرضية الفيض !! وكيف ولد المركب من البسيط !! .. المأخذ الثاني : لقد فاض السبب الثاني عن السبب الأول وهكذا دواليك ، فهل فاض في لحظة ما ، في عندما ، في حينما ، في لما ، في شرط ما ، أي هل حدث الفيض كحدث ، كشروط معينة ، كوضع محدد ، أم أن الفيض يتوسم بالديمومة طالما السبب السابق – له وجود - ، وبما أن الأسباب السابقة كلها متواجدة على الأرجح لضرورة وجود السبب الأول ، فإن الفيض مازال مستمراُ ، وما زال مستمراُ حتى الآن ، وإلى الأبد ، وإلا لكان فرضية الفيض ناقصة التبرير ، ناقصة المنطق ، ناقصة المعقولية . ومن هنا نرتاب في أن يتفق الفارابي معنا في ديمومة الفيض إلى الأبد !! المأخذ الثالث : ثم ، في الحقيقة ، ماذا يعني كلمة فاض ، فهل يعني – ولد ، نجم ، نتج ، زاد ، طفح ، فار – أم إن المعنى ينحصر تماماٌ في محتوى الفيض ، وهو الأرجح ، مع العلم إن الإشكالية لاتزال قائمة مهما كان معنى – فاض - . ففاض يتضمن أمرين ، ولادة الجديد ( ما قد فاض عن الأصل ) ، وبقاء الأصل كأنه لم يفض ، وبما أن الأصل بقي كما هو فلا مناص من أن يتمتع الجديد بوجود مستقل ، وأستقلاله هنا ، أما أن يتغاير مع طبيعة الأصل وهذا ما يرفضه الفارابي نفسه ، وأما أن يوازيها وهذا ما يتناقض مع ولادة ( الجرم والهيئة ) .. المأخذ الرابع : ثم كيف يمكن أن نفهم نظرية الفيض ، فهل فاض بالضرورة ، أم بالغاية ، أم بالطبيعة ، أم بالوسيلة ، أم بالإرادة ، أم بالرغبة ، أم بماذا !! فمهما يكن الجواب ، فلا يعقل أن ينجم الفيض عفوياُ لأن هذا يتناقض مع طبيعة السبب الأول ، وإذا ما أنتفت هذه الأمكانية ، فإن الأمكانيات الأخرى لاتقل أشكالية عن الأولى ، وهنا قد ينبري الفارابي ويؤكد أن الفيض يحدث بالطبيعة ، وهذا بالضبط ما نود أن ندركه ، لأن في هذه الحال سيكون السبب الثاني مثل السبب الأول ، ويفيض عنه سبب ثالث ( هو الأول والثاني ) وهكذا دواليك ، والفارابي نفسه سيعترض على ذلك ، لأننا سنكون عندها إزاء تعددية السبب الأول .. المأخذ الخامس : إذا بانت توافقية ما في العلاقة ما بين السببين الأول والثاني ، فإن المشكلة تدق بصورة أعظم فيما بين الأسباب الأخرى لأنها ستكون بالضرورة لاحقة لها ، فلا يعقل أن تحدث الفيوض كلها دفعة واحدة بشكل تساوقي ، وإذا ما أعتمدنا على منطوق السابق واللاحق في هذ التكيف لبرزت أمامنا تداعيات مستقلة وخطيرة نلخصها في المستويات الثلاثة التالية . المستوى الأول : ما هو مبرر هذا الفيض الاخر ، ما قيمته على الصعيد الفكري الفلسفي . المستوى الثاني : لماذا هذا الفائض تحديداُ من حيث النوعية . المستوى الثالث : هل ثمت ضرورة له ، فإذا ما أنتفت أنتفى الأصل ، وإذا ما وجدت ، أفلا تخلق هذه أشكالية للسبب الأول .. المأخذ السادس : ثم إذا كان الفيض من السبب الأول لايؤثر البتة على وجوده ، وهذا هو الأرجح ، فإن السبب الثاني لامناص من أن يتمظهر حول وجوده ، الذي لولاه ما كان للفيض من معنى ، وإذا كان ، فلامندوحة إلا إن نتصور بعدين ، البعد الأول : إذا وجد نوع من الأستقلال والأنفصال فما هو حقيقة هذا الوجه . والبعد الثاني : إذا ماوجد نوع من التبعية فينبغي تحديد وجهها أيضاُ ، وبالدقة .. المأخذ السابع : لنؤوب إلى معنى كلمة – فاض – في المأخذ الثالث ، ولنخصص أكثر ، فإذا أدركنا محتوى الفيض كفعل فإن ذلك لايليق أبداُ بمستوى السبب الأول بل يتعارض ويتناقض مع كينونته وكنهه ، وإذا أدركناه كميكانيزم لتصور عقلي بحت فأننا لن نجادل في صيرورته لأنه ، عندئذ ، لن يتعدى حد الأعتقاد ، وحدود التصور نفسه .. المأخذ الثامن : يؤكد الفارابي إن العقل البشري يكفي نفسه بنفسه ، وإنه يعتمد على المسلمات ( الأكسيوم ) الأولية مثل إن الكل أعظم بالضرورة من جزئه ، فهل أستخدم تلك البديهيات للوصول إلى أستنباط هكذا مصيري ، هكذا أستثنائي وفريد ، أم أنه ، في الحقيقة ، ألغى تلك المسلمات ، بل أوشك على القول أنه ألغى العقل نفسه .. المأخذ التاسع : ثم الأنكى من ذلك والأصعب ، ألم يكرس الفارابي حياته الفلسفية لخطابه البرهاني حتى أنه لقب بأرسطو العرب وبالمعلم الثاني بعده ، فكيف ضحى بهذا الأرث الرائع المجيد ، هذا الأرث التاريخي ، ونحاه جانباُ بالمطلق وكأنه لم يكن وما كان .. المأخذ العاشر : والأنكى والأصعب على الأطلاق ، ألم يكن مستحسناُ أن يتدرج الفارابي في مفهوم نظرية الفيض من الوجود المباشر ، القائم بالفعل ، السبب العاشر ، إلى الوجود التصوري ، إلى وجود السبب الأول ، أي مما يمثل الفيض العاشر إلى مما يمثل الفيض الأول . وكيف تسنى له أن يقفز مباشرة وبدون مقدمات إلى السبب الأول ، ثم التقهقر نحو الخلف ، إزاء هكذا تصور لامندوحة من سرد ممكنين . الممكن الأول ، هو أنه كان يدرك مسبقاُ بتلك الخطوات ، فلماذا لم يعتمدها في التأصيل الفلسفي ويتدرج من عقلنة الخطوة الأولى إلى الخطوة الثانية ، الممكن الثاني ، هو أنه لم يكن على دراية بالأمر وأكتشف ، بعد أن أقر مبدأ الفيض ، وجود مثل هذه الأمكانية ، فكيف تسنت له الدراية الأكيدة من أنها عشرة تماماُ ، ثم ماهو المعيار الحقيقي في هكذا أكتشاف ، وفي توضيح هكذا تصور .. المأخذ الحادي عشر : ثم ، في الفعل ، هل كان الفيض من الداخل ، أم من الخارج ، أي من الهيكل فقط ، بمفاد ، والمسألة دقيقة ، هل السبب الأول فاض ويفيض ككل ، كوحدة ، كوجود واحد ، كطبع ، لأنه هو هو ، عندئذ لسنا إزاء مفهوم الفيض ، لنسميها ما نشاء إلا الفيض ، مع العلم إن هذا أقرب إلى تصور الفارابي من بعض الزوايا ، أم إن السبب الأول فاض ويفيض لأن المسألة تخارجية بالنسبة له ، وهذا أقرب إلى تصور الفارابي من بعض الزوايا المخالفة ، ويصطدم بأسئلة لانهاية لها ، ولايمكن ، بالمطلق الجمع ما بين الأثنين على خلفية – فاض ويفيض - .. المأخذ الثاني عشر : مهما كان مفهوم التصورالعقلي خالصاُ ، ومهما جاهدنا في الأبداع به في تصوره بأسلوب تجريدي محض صرف ، ومهما أمهرنا في أستنطاق الكلمات والمعاني والتركيب فيما بينها ، فلن يحالفنا الحظ مطلقاُ ، كما لم يحالف الفارابي ، في تحديد مسار ومنطوق فحوى – فاض ويفيض - ... وإلى اللقاء في الحلقة السابعة .. [email protected]
#هيبت_بافي_حلبجة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نداء إلى تأسيس تنظيم شرق أوسطي عام
-
نقض منهجية ديكارت ..
-
أشكالية الكرة الأرضية
-
أشكالية الأزلية الزمنية أوالموضوعية
-
أشكالية المسلمات العقلية الأولية
-
حسنين هيكل أزمة في المنطق ..
-
نحو تصور فلسفي جديد للكون
-
حول قيام الدولة الفلسطينية والقضية القومية الكردية وحقوق الأ
...
-
مشعل التمو يطيح ببشار
-
المتغيرات والعقل المستقيل
-
نداء استغاثة إلى سعادة الأمين العام للأمم المتحدة : السيد با
...
-
المجلس الوطني الموسع ... أنتقادات بنيوية
-
ثلاثة مقاربات والجحيم السوري
-
رؤية في حال المنطقة العربية
-
مابين ... أدونيس وأبو شاور
-
أبو شاور .. وبئس البؤس البائس
-
رؤية نقدية في المحنة السورية
-
الثورة ... ونهاية السلطة السورية
-
عارف دليلة ... والإشكالية المعرفية
-
سكان مخيم أشرف ... مابين العراق وأيران
المزيد.....
-
من معرض للأسلحة.. زعيم كوريا الشمالية يوجه انتقادات لأمريكا
...
-
ترامب يعلن بام بوندي مرشحة جديدة لمنصب وزيرة العدل بعد انسحا
...
-
قرار واشنطن بإرسال ألغام إلى أوكرانيا يمثل -تطورا صادما ومدم
...
-
مسؤول لبناني: 47 قتيلا و22 جريحا جراء الغارات إلإسرائيلية عل
...
-
وزيرة خارجية النمسا السابقة تؤكد عجز الولايات المتحدة والغرب
...
-
واشنطن تهدد بفرض عقوبات على المؤسسات المالية الأجنبية المرتب
...
-
مصدر دفاعي كبير يؤيد قرار نتنياهو مهاجمة إسرائيل البرنامج ال
...
-
-استهداف قوات إسرائيلية 10 مرات وقاعدة لأول مرة-..-حزب الله-
...
-
-التايمز-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي لن
...
-
مصادر عبرية: صلية صاروخية أطلقت من لبنان وسقطت في حيفا
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|