بن جبار محمد
الحوار المتمدن-العدد: 3555 - 2011 / 11 / 23 - 21:41
المحور:
سيرة ذاتية
الدراسة ما بعد الأربعين
دخلت الجامعة في أرذل العمــر , كان من المفروض أن أدخلهــا في السنين الأولى لشبابي حتى أستفيد من مزايا الشهادة كخريج جامعة شاب له فرص عديدة للإرتقاء المهني و الإجتماعي و العلمي لكن ظـروفي الخاصـة شاءت أن أغادر الدراسة في المراحل الثانوية و أتوجه للعمل العضلي و اليدوي رغــم كرهي لهــا الشديد لأعيل عائلتي كثيرة العدد إذ أنا أكبر الأخوة من أصل عشرة بنين و بنتين , ألتحقت بالعمــل مبكــرا, تارة أعمل في الحقول و تارة أخرى نادل في المقاهي و تارة أخرى مساعد بناء , كنت أتلقى نقد شديد من هذا و ذاك لأنني لم أكن ماهرا في كــل هذه المهام التي شغلتها ..حتى يدي صغيرتين لم تكن تتحمــل هذه الأعمال الشاقة , فقط أنا مضطــر لذلك و بلغ بي التبرم و اليأس مبلغا كبيرا , دامت هذه الوضعية أكثــر من عشرين سنة إلى أن استقرت ظروفي , بعدها راودني الحلم أن أدخــل الجامعة ,..
حضـّّرت لشهادة البكالوريا في عام 2001 عن طـريق المراسلة و لملمت كراريسي و الكتب المقــررة و بدأت مشوارا جديدا و رحلة جديدة مع مقاعد الدراسة التي لم تعد تناسب سني و لا حجمي و كنت أحضر بعض الدروس الذي يقدمه المركــز كدروس إجبارية كالفلسفة و اللغة الأجنبية و العربية و الرياضيات و كنت أجلس مع تلاميذ يدرسون معي مما كان يثير غرابتهم و استهجانهم و أحيانا ينفجرون بالضحك في وجهي و يطلقون نكت من هنا و هناك , حتى الأساتذة كانت تخالطهم شكوك في جدية جلوسي إلى جانب التلاميذ المراهقين القًصر , ربما قد أكون مخبرا أو شرطيا أو شاذا لأن سنوات الإرهاب و الاشتراكية و العشرية السوداء لا تزال عالقة في عقولهم .,كنت أجلس صامتا حتى لا أثير حافظة أحد , كنت أستمع بصدر رحب الى شروحات الأساتذة و نقاشات التلاميذ التي غالبا ما تكون خارج الدرس على شاكلة سمك لبن تمر هندي , في كــل مرة كنت أبتسم لأن الكثير من التفاهات فرضت علي قســرا ,كان من الأجدر قراءة رواية أو كتاب مــا من أكون مصدرا للتندر و السخرية و سماع الكلام الفارغ لكن للضرورة أحكام حسب القاعدة الفقهية ,
و من أكثر القصص طرافة أني كتبت دراسة قبل عشر سنوات عن طه حسين في حلقتين في ملحق النادي الأدبي لجريدة وطنية تناولت فيه مسألة الأصالة و الإغتراب في فكــر طه حسين بعدما أطلعت على أغلب أعماله و أعمال معاصريه و خرجت بنتيجة بحث مفادها أن رؤيته غير واضحة للتراث بل أنه كتاباته حملت ظلما شديدا لأبن خلدون و المعري و مولود فرعون – روائي جزائري يكتب بالفرنسية - و قد تعامل أحيانا بسطحية مفرطة في بعض الأعمال الأدبية و الفكرية .
بعد عشر سنوات يأتيني سؤال في مادة اللغة العربية و هو عبارة عن فقرة لطه حسين يتكلم فيه عن الأصالة و المعاصرة و الضرورة التشبث بالقيم و التراث ..الخ , بحيث يجب علي أن أصرح بالفكرة العامة و الأفكار الجزئية ثم شرح أفكــاره و مفرداته و مراميه و كتابة نص قصير عن الكاتب و دوره في محاربة دعاة التغريب !
بقيت حائرا , لا أعرف ماذا أعمل ..؟
تمالكت نفسي و حملت القلم و أجبت عن معظم أسئلة المقرر و أرسلتها الى المركــز .. بعد أيام وصلتني رسالة من الأستاذ المصحح جاء فيها أن أضع رجلي في الأرض و أن ألتزم بما هو مبرمج و مقــرر و في هذه المرحلة الدراسية التلميذ لا يحق له أن يبدي رأيا في أي مسألة فكرية أو أدبية أو علمية و أن غاية الدراسة في الثانوي هو التلقين ليس إلا ! شعرت بإحراج شديد و هو يصف الدكتور طه حسين أنه عميد الأدب العربي ماضيا و حاضرا و مستقبلا و أن كلامه لا يقبل التجريح و لا النقد ولا التمحيص . قلت في نفسي لا بأس أن تضاف أيقونة الى مجموعة المحرمات الأخرى . و أشفقت على نفسي و على التلاميذ الذين هم رجال الغد يتتلمذون على يد مجموعة من الأغبياء , الحمقى يعاملون التلاميذ كقطيع أغنام و ليس بشــر و يقتلون فيهم بوادر التفكير و الإبداع .أيقنت أن هذه السنة لا يمكن أن أنال فيها شهادة البكالوريا , يجب علي أن أمــر على قناة خاصة فيها كثير من التغابي و الحماقة و الترداد الحرفي والسذاجة و الببغاوية و الآلية . . و فعلا لم أنجح في اللغة العربية و في كثير من المواد المقررة في البرنامج و لم تتعدى النقاط في معظمها عن ثمانية من عشرين.
أعدت العدة في السنة الموالية و حفظت الدرس جيدا و أجبت عن معظم الإمتحانات كما هو مقرر و مكتوب دون زيادة ولا نقصان و اجتزت البكالوريا بنجــاح . الحلم تحقق بوصولي الى مقاعد الجامعة ..كان حماسي و اندفاعي لا يوصفان , بدأت رحلتي الثانية مع الحقوق و نظام دراسي غير الذي رأيته في الثانوية على الطالب أن يطلق عنان تفكيره و يبدي رأيه في أي مسألة تهمــه أو لا تهمه و له هامش حرية و مناورة يمكن التحرك خلالها ومن خلال منهج علمي و منطقي و إطـار عقلاني يحث على البحث و التنقيب بعقــل لا يقبل التدجين و التحديد و الإنغلاق و الأســر . كنت أحمل هذه الأفكــار و أردت أن أعايشهــا في الواقع الجامعي .. كنت أداوم على المحاضرات ما أستطعت لأربع سنوات متتالية لأكتشف مدى ضحالة الأساتذة و مدى الزيف و الأكاذيب التي تحيط بالجامعة و حجم الفســاد الذي تتربع عليه و الهوة التي تفصلها عن المجتمع . كان من المفترض أن تقف في الريادة , في الطليعة و أن تكون في منأى عن كل الشبوهات التي بليت بها مؤسسات الدولة و المصائب التي تخرب الدول المتخلفة مثل بلدي .
أصبحت الجامعة و - جامعتي نموذجا - سوقا لبيع النقاط مقابل بعض الفوائد المادية و غير المادية وبعض المآرب الآنية ناهيك عن التحرش بالطالبات ...مما يخجلني أن أسرد تفاصيلهــا . مما أجــبر الكثير من الطلبة الجري وراء الأساتذة و تلبية رغباتهم فضلا عن عزومهم في المطاعم الفخمة و تأمين ســفرهم المدفوع الثمن مسبقا . و الأدهى من ذلك أن هؤلاء الأساتذة أكثــرهم لا يصلحون للتدريس في الجامعة لمحدوديتهم الأكاديمية و ليس لهم في التخصص سوى الشهادة و هذا نتاج الفساد الذي يضرب الجامعة في الصميم حيث أن معظم طلبة الماجستير و الدكتوراه استفادوا من الدراسات العليا بالوساطة و تدخــل أصحاب النفوذ , لم يعد للأكفاء حظا في هذا البلد مما أستدعى الكثير منهم مغادرة البلد بعدمــا سيطر عليهم اليأس و الإحباط . تخرجت من الجامعة و أنا أشك كثيرا في مصداقية شهادتي لأن التعليم الذي خضعت له لم يشفي غليلي لأنني درست القانون بعقلية دينية و ليس ذلك العلم الذي أبدع فيه كبار فلاسفة أروبا و فقهاءها و كان نتاج النهضة الأروبية و الصناعية و العلمية .
أما الفصل الأكثر دراماتيكية هو شعوري بالإحباط الشديد و أنا أجتاز مسابقات الماجستير و أنا أرى بأم عيني الفســاد الأكبر و اللامعايير في انتقاء طلبة دراسات عليا , كم هو محزنا أن أسمع أحد الدكاترة المحترمين له سمعة وطنية و إقليمية يقول لي أنه لم يستطيع الفكاك من الأســر و أجبــر على وضع قائمة ناجحين لأن الأمــر يتعلق بأمور حيوية قد تدخله في متاهات هو في غنى عنــها .
حدثني الدكتور بكثير من الأسى عن الوضعية التي آلت إليها البلاد و أن الجامعة لن تكون استثناءا و أن مؤسسات و هياكل الدولة كأحجــار الدومينو ...و في آخــر المطــاف سينهـار كل شيء قلت له , بل زلزال بسواعد شباب يائس على شاكلة ثورة تونس و مصـر , أما الانهيار فقد تم منذ سنوات و لولا عوائد البترول للفظت الدولة آخـــر أنفاسهــأ .
#بن_جبار_محمد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟