جعفر المظفر
الحوار المتمدن-العدد: 3555 - 2011 / 11 / 23 - 21:35
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفدرالية قد تكون حلا للمشكلة بمشكلة
جعفر المظفر
إن شطب العوامل السياسية كدوافع أساسية للمطالبة بالفدرالية والتركيز على الواقع الخدمي والاقتصادي المتدهور هي أمور تفقد الطلب قوته لأن من السهولة على أي إنسان أن يدعي بإمكان معالجة هذه النواقص أو العثرات من خلال حلول أخرى غير الفدرالية التي يمكن أن تمهد الطريق لنشوء مخاطر أخرى.
لكن حينما يكون الداعي سياسيا, كما هو في حقيقته الآن رغم المحاولات التي تجري لتغليفه بقايا مطلبية, فسيكون للخطوة ما يبررها أو حتى ما قد يقتضيها, كما ويكون من الممكن مناقشة الأسباب بشكل أفضل, كما أن الحلول التي سوف تقدم لمعالجته ستسير في الاتجاهات السليمة لكونها ستصحح الوضع على مستويات بنيوية بما يعود بالنفع على كل العراقيين وليس على محافظة بذاتها.
فلو قيل مثلا أن محافظة صلاح الدين قد تهمشت لأن الحكم قائم على مرتكزات طائفية ليس بمقدورها أن تحقق نظاما عادلا لكل العراقيين, فسوف تتجه عملية المطالبة بالإصلاح للتعامل مع هذا الخلل البنيوي العام على مستوى الدولة كلها وليس للتعامل فقط مع ما أسس له هذا الخلل من تداعيات على صعيد هذه المحافظة أو تلك, وسوف تكون هذه الخطوة بالاتجاه الصحيح لأنها ستنظم إلى حالة المواجهة الشاملة ضد الطائفية وتكون بالتالي سببا مباشرا للقضاء على هذه الآفة التي تنخر الجسد العراقي كله ولا تقتصر أضرارها على طائفة دون أخرى.
فالحل التجزيئي إذا ما تحقق لن يكون نصرا لأحد, وليس متوقعا أن ينقذ أحد, ومثله أيضا فإن حكومة الطائفة المتغلبة لن تنفع طائفتها حينما تؤدي سياستها إلى تقسيم العراق, لأن دولة شيعية لن تخدم الشيعة بأي شكل لأنها ستكون ضعيفة أولا, وستكون من جهة ثانية مرتعا لكل ظواهر التخلف الذي سيسعى الطائفيون لتكريسها من أجل استمرار دولتهم الصغيرة الحجم والعقل والأفق, والمعرضة لأن تفقد استقلالها الوطني بفعل فقه ديني يتناقض مع فقه الدولة الوطنية مثلما سيكون متوقعا لها أن تعيش أعباء جغرافيتها الجديدة.
وهكذا ستكون كلا الطائفتين مغلوبة في وقت ربما تظن إحداهما أنها خرجت من المواجهة منتصرة, مما يجعلنا نؤمن أن ليس كل نصر هو نصر بل أن بعضه قد يكون خسارة مريرة, ولهذا حينما يكون مهما أن نناضل ضد الطائفية يكون الأهم أن نحسب كيف نناضل ضدها..؟!, كما أن من المهم أن نقاتل من أجل حقوقنا لكن بالطريقة التي تحرس ذلك النصر دون أن تجعله يؤسس لضعف أكبر.
وفي حالة إذا ما جاءت الفدرالية -رد فعل بإتجاه معاكس-, وليس -حلا بشكل مغاير لحالة –الفعل-, فسيكون هذا -الرد فعل- مساهمة فاعلة لتغذية الطائفية بإتجاه آخر, ولا يكون مساهمة لمحاربتها أبدا. ومن هنا يتضح بأننا لسنا خائفين من الطائفية وحدها, وإنما أيضا خائفين من الطريقة الخاطئة لمواجهتها, كما أننا نعتقد أن فدرالية رد الفعل الطائفي ستكون انتصارا للطائفية لا نصرا عليها, وهي بدرجة أساسية خسارة لكل العراقيين.
أما "المحافظة" التي ستنتصر من خلال هذه الخطوة فستنتصر لنفسها على حساب العراق بأكمله وليس على حساب الحكومة في المركز, وهو نصر غير مرحب به إطلاقا. صحيح أن –الشيعة- في هذه التشكيلة هي المتغلبة, ولكن العيب هنا هو في النظام الطائفي كله الذي كان من الطبيعي أن تأتي –الغلبة- فيه للمكون المذهبي الأكثر عددا, فالخطأ الذي نتج كان تأسس على خطأ لم يكن سنة الحكم بمعزل عن المشاركة في صناعته حتى ولو قالوا أنهم شاركوا فيه مجبرين.
وإن سنة النظام الطائفي الذين يتقاسمون السلطة الآن ليسوا أقل خطأ من شيعته, وفيما بات قسم منهم يسعى ويقود العمل والدعوات من أجل الفدراليات فهو لا يقوم بذلك وفق رؤى تتقدم فيها العدالة والقيم الوطنية على الطموحات الذاتية الزعامية, أو لغايات لا يحكمها رد الفعل الطائفي بالاتجاه الآخر, أو بدفع من قوى إقليمية باتت ترى إمكانية وقوع العراق في أحضان قوة إقليمية أخرى. وربما ظن البعض من هؤلاء "السنة" الذين –تورطوا- بالدولة الطائفية بإمكانية أن تكفل الديمقراطية للعراق طريق الخروج من المأزق الطائفي, تماما كما ظن شيعة كثيرون بإمكانات أن يتطور النظام من داخله ويخرج على نفسه بنفسه, ولذا جاءت مساهمتهم مفسرة بنيات طيبة أو بنيات لا يملكون غيرها وسط ظروف سياسة صعبة جدا كان أنتجها الاحتلال وأدى إليها سقوط الدولة السابقة.
وعموما يمكن القول أن الأخطاء يتحملها الجميع, وإن بدرجات مختلفة, وهذا يجعلنا نوجه اللوم بدرجة أولى لشيعة الحكم كونهم -الفئة المتغلبة- لأن ما أسسوا له وما ظلوا فيه خاصة بعد الانتخابات الأخيرة قد أدى بالمقابل إلى يأس الكثيرين على الجهة الأخرى من إمكانية أن تتطور العملية السياسية من داخلها باتجاهات تخرجهم من مأزق المكون الثاني. فالنظام السياسي, الذي يقوده شيعة الحكم الآن, لا يريد, كما ليس بإمكانه لو أراد, أن يتحرك لإيجاد الحل لأن بقاءه ارتبط ارتباطا كبيرا بتفعيله للخطاب الطائفي كأهم وأبرز مقومات وجوده.
ولنتذكر تهديد المالكي بقطع طريق الجنوب وقطع نفطه بعد فوز العراقية في الانتخابات الأخيرة وكلمته في أحد مؤتمرات الهوسات العشائرية التي تستحق أن تسمى بمؤتمر الــ "ماننطيها", مع الوقوف أيضا أمام استدراك المالكي في ذلك المؤتمر ( هم يقدرون أن يأخذوها حتى ننطيها) وبعد ذلك : التحالفات والضغوط الإيرانية وأزمة المشاركة والتهويل من أخطار البعثيين التي يبدو أنها باتت لازمة لتصفية الخصوم والإستقواء على الآخرين وتغطية العجز الكامن في بنية أحزاب الدين السياسي وخطابها المذهبي.
ويبقى من المهم التأكيد على أن محاسبة أهل رد الفعل لا يمكن أن تكون كما محاسبة أهل الفعل, فإن أخطأ سياسيو السنة في اتجاه رد فعلهم فإن سياسي الشيعة يتحملون خطأ فعلهم الذي أسس لرد الفعل بإتجاه مدان, إذ ليس من الحق أبدا أن نعيب على الطرف الثاني رد فعله بينما لا نقف أمام من أسس له بفعله. وقد سبق لي أن أكدت في أكثر من مقالة سابقة أن العراق بات يعيش في حالة هدنة ولم يصل حقا إلى سلام دائم, وفي حالة الهدنة هذه كنت أرى سياسيي الشيعة وهم يجمعون قواهم وبخاصة في المؤسسات الأمنية والعسكرية بما يثير حفيظة سياسي السنة وحتى جماهيرها الذين باتوا يعتقدون بأن المشاركة لا تعني شيء ما لم تتم أيضا في مؤسسات القوة, تلك التي بإمكانها في أية لحظة أن تحسم الأمور لصالح الجهة المهيمنة كما أن بمقدورها أن تبني حالة سياسية يومية خائفة وسلطة غير مضمونة النوايا بما يؤدي إلى وجود مؤسسات سياسية مرعوبة ومفرغة من قيمها الديمقراطية الحقيقة.
ولنعترف أن الوجود العسكري الأمريكي في العراق كان هو عرّاب تلك الهدنة وضمانة دولة ما قبل الانسحاب, لذا فإن من الطبيعي أن تترتب ظروف ما بعد الانسحاب لتدور حول محاور جديدة بإمكانها أن تملأ الفراغ الذي تركه غياب محور قوات الاحتلال, وكان متوقعا أن تلجأ جميع القوى لترتيب أوضاعها ضمن ساحة تركتها قوتها الأمريكية المركزية فارغة, حيث كان لهذه القوات الدور الأول في تأسيس الكثير من معطياتها وحراسة تلك المعطيات طيلة تلك الفترة.
وفي ظل غياب الثقة وتعثر عملية الشراكة في الحكم ودخول عملية الاقتراب السياسية والمذهبية في أتون مواجهات جديدة كانت قد أججتها بعض إجراءات السلطة الأمنية التي لم تأتي مطلقا بمعزل عن كونها إجراءات إستباقية لمرحلة ما بعد الانسحاب, كتلك المتعلقة بملف البعثيين التي جرى تضخيمها وتحويلها إلى ورقة إستخدامية ليس ضد الخصوم فحسب وإنما ضد الحلفاء أيضا, وكونها صارت جزء من ثقافة الخطاب الطائفي السياسي والذي هو خطاب تقسيمي قد يجد طريقه إلى الجغرافية حينما يبان عجزه عن التوحيد على صعيد فكري واجتماعي, إضافة إلى الإجراءات التي اتخذتها وزارة التعليم العالي ضد تعليميين وإداريين من جامعة صلاح الدين والتي أعطت الانطباع بأن النظام بدأ ينسحب مما حققته عملية الشراكة في السلطة طيلة السنوات السابقة لكي يعود إلى فتح ملفات الخصومة السابقة لتلك المرحلة بعد أن بات مهيمنا على مؤسسات القوة .
إن الحجج التي يسطرها بعض القياديين الشيعة كون طائفتهم نجحت في امتحان وحدة الأرض العراقية , رغم انه يسجل لصالحها حقا, فهو لا يكفي لإقناع الطرف الآخر بضرورة سلوك نفس الطريق, أي التزام الصبر إلى أن يحلها حلاّل, فالظروف السياسية في العراق لم تعد كما في السابق حيث كان يمكن المراهنة على أكثر من خيار لتقديم حلول تحد من تأثير التخندقات الطائفية, وحيث أن هذه التخندقات لم تكن شرعت بقوانين ولا تمأسست بصيغ طائفية واضحة.
ورغم الإدعاءات الحالية التي تقول أن العراق قد تجاوز المسالة الطائفية على صعيد مؤسسة الحكم, إلا أن المسألة لا تبدو كذلك, كما أنه ليس بإمكانها أن تكون كذلك بهذه السهولة لأنها تحتاج إلى أكثر من التصريحات والأقوال.. هي تحتاج ببساطة إلى تحريم تدخل الدين في السياسة وتشريع قانون ليس اقل قوة من قانون اجتثاث البعث لكل من يستغل المذهب والدين في ميدان السياسة, ونحن لا نحتاج إلى المجاملة هنا, فالعراق ونتيجة لثنائية المذهب, غير مقدر له أن يعيش وضعا سويا ما لم يلتزم بنظام علماني يبدأ بالالتزام بأغلبية البرنامج السياسي وليس المذهبي. وسيكون بإمكان نظام كهذا أن يوحد الإرادة الوطنية ويجعل العراق قادرا إلى العودة كإحدى دول القرار في المنطقة وبهذا ينجو من التبعية لدول القرار الإقليمي الأخرى بما ينعكس على أهله انشقاقا واحترابا.
وأتمنى أن لا أحسب على قائمة المتشائمين حينما أقول إننا لن نصل إلى حل سريع وعاجل من خلال إجراءات إدارية إصلاحية لوحدها, رغم ضرورتها, فالخلل الأساسي ليس خللا إداريا وإنما هو خلل سياسي وثقافي, كما أن الأخطار المحيقة بالعراق ليست أخطارا مرحلية عابرة وإنما هي أخطار تاريخية قد تقرر شكله القادم, وما يحدث في صلاح الدين هو جرس إنذار لا يمكن تعطيل صوته ما لم يجري تعديل الخطاب السياسي والثقافي للدولة العراقية الحالية, وهي مسألة ليست سهلة على الإطلاق لأنها لا تشترط تعديلا إداريا بل تشترط تبديلا فكريا.
وعلى سياسي صلاح الدين أن يعلموا تماما أن خطوتهم نحو الفدرالية قد تكون حلا لمشكلة بمشكلة.
كما أن على سياسي بغداد أن يكونوا أكثر وضوحا مع أنفسهم ووطنهم وأهلهم في جميع أنحاء العراق وأكثر شجاعة في إتخاذ القرارات الصائبة, إذ أن عليهم يعتمد الآن بقاء العراق عراقا.
#جعفر_المظفر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟