|
هل بالضرورة وراء كل فعل ثوري مؤامرة؟
ماهر اختيار
الحوار المتمدن-العدد: 3545 - 2011 / 11 / 13 - 22:03
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
منذ بداية ربيع الثورات العربية والنخب الحاكمة لا تكف عن ربطه بمؤامرات تحاك في الخارج، معتقدةً أن الغربَ هو من يدعمه بهدف زعزعة الاستقرار الداخلي. في هذا السياق الضبابي، تبرز، أمام المواطن العربي، تساؤلات جديدة في مضمونها وعميقة في دلالاتها، ومنها: هل هذه المؤامرات الخارجية هي عبارة عن حتميات تاريخية مُتغلغلة فقط في مفاصل كل مجتمع عربي ثائر؟ كيف يمكن فهم حتمية المؤامرة الأجنبية بالتوازي مع حرية القرار السياسي القادر على تجنيب البلاد تدخلاً خارجياً ؟ إذا كانت النخب الحاكمة لا تفسر الاحتجاجات الشعبيّة إلا من خلال منظور مؤامراتي، فهل ما يسمى بالثورات التي قام بها معظم الحكام العرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين هي ثورات ذات صبغة أجنبية أم أن الجماهير هي من وقفت إلى جانبهم سعياً وراء الاستقلال وأملاً بواقع أفضل؟ باختصار كيف يستطيع المواطن فهم حرية الإنسان وقدرته على النضال من أجل تغيير واقعه بالتوازي مع ما يُسمى بحتمية المؤامرة الأجنبية في كل قطر ثائر؟ لا بل، كيف لا يستطيع الحاكم منع المؤامرة من خلال قراراته الفذة، تلك التي ما فتئ أنصاره يُخلدونها بوصفها تاريخية ترقى لدرجة مخلص الشعوب من الظلم والفساد في البلاد؟ في محاولتنا لتقديم إجابة ممكنة على هذه التساؤلات الشائكة سنبدأ في مناقشة مختصرة لمكانة الإنسان بوصفه كائناً حراً، فسارتر يشدد، على سبيل المثال، على العلاقة القوية بين وجود الإنسان ووجوده حراً، فالإنسان، بالتعريف العام، يصنع تاريخه ويوجه مسارهُ في اللحظة التي يمتلك فيها وعياً بالممكنات والاختيارات المُتاحة له. فالوعي هو شرطٌ ضروريٌ للإحاطة بالممكنات التي تجسد بوضوح حرية الإنسان. أي إن هذا الأخير لا يَّبني التاريخ إلا عندما يُدرك سقف مُمكناته الضامنة حكماً لحريته بوصفه إنسان يّعيها. ويضيف سارتر في كتابه الوجود والعدم إنني مدان بأن أكون حراً، ومعنى هذا أنه لا يمكن للإنسان ألا أن يكون حراً لأنه يُمارس حريته، وجودياً، في كل فعل وفي كل سلوك. إنّ هذه الحرية التي يتميز بها الإنسان لم تجعل منه فقط طرفاً قادراً على الدفاع عن نفسه وعن أقرانه في وجه أي اعتداء وإنما هي من دفعته أيضاً لتحقيق إنجازات فاقت الخيال عبر التاريخ. فلقد استطاع – بفضل قدراته العقليّة والجسديّة وعبر مساحة الحرية غير المنفصلة عن وجوده بوصفه كائناً عاقلاً– سلب الطبيعة عذريتها متمكناً من احتلال الأرض وجاعلاً قسماً كبيراً منها في خدمته. لقد تجسدت حرية الإنسان بوضوح عبر صبغ الطبيعة بإنجازات تُعبر عنه، لا بل لقد أعاد إنتاج هذه الأخيرة في مختبراته سعياً لسيطرة أكمل على معظم ظواهرها. لم يعد هناك من أمريكا للاكتشاف، وأضحت الأرض وسطاً بيئياً يضمن بقاء الإنسان واستمراره حاضراً ومستقبلاً. من هنا يمكننا أن ندرك جيداً لماذا عرّف مارك بلوك التاريخ بأنه مجموعة من الخبرات الإنسانية المتنوعة، إنه التقاءُ خبرات وتجارب الإنسانية جمعاء. فمخيلة الإنسان المبدعة وفسحة الحرية المتاحة له دفعتاه لبناء تاريخه المُؤسس أصلاً على وظائفيّة اكتشافاته وحسن استخدامها. كيف يمكن لمؤامرة أجنبية إذاً أن تنجح في التدخل لإسقاط نظام محلي في حين أن الإنسان قد أكد سيطرته على معظم ظواهر الطبيعة وعمل على بلورة حضارات وثقافات سطّر التاريخ عظمتها على مر العصور!! فهل وراء كل فعل ثوري، بالضرورة، مؤامرة أجنبية؟ دعونا نناقش النموذج الليبي بوصفه مثالاً حاضراً عَمِل ثواره على إسقاط حكم القذافي عبر دعمٍ أجنبيٍ تَمثل في تدخلٍ جوي لحلف الناتو. يُّعد القذافي من الحكام الذين تمسكوا بالسلطة لأطول فترة ممكنة في التاريخ المعاصر، ورغم أنه كان لا يعتبر نفسه حاكماً، لأن الشعب- حسب زعمه- يحكم نفسه بنفسه، إلا أن استبدادهُ بالسلطة واستغلاله لموارد ليبيا لا بل إن ما قام به أولاده من استغلال للمناصب السياسية والإدارية تدحض زعمه هذا. لقد بدا حاكماً ظالماً متمسكاً بالسلطة للممات وممهداً الطريق، نظرياً، لتوريث الحكم لابنه سيف الإسلام وكأن ليبيا ليست ملكاً للشعب الليبي وإنما لعائلة القذافي. كما نعلم فقد بدأت المظاهرات في ليبيا في 15 فبراير في مدينة بنغازي احتجاجاً على اعتقال محامي ضحايا سجن بوسليم فتحي تربل، وتلاها مظاهرات في مدينة البيضاء طالبت بتحسين الأوضاع المعيشيّة وبإجراء إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. لم يتأخر مفهوم المؤامرة كثيراً خلال الكلمات التي ألقاها القذافي و تلك المقابلات الإعلامية التي أجراها سيف الإسلام. لقد كان الرد عنيفاً على هذه المظاهرات المحلية، إذ لم تعتاد أسرة القذافي على سماع كلمة لا من شعبها، فجاء ردها دموياً يقارب في معطياته شن حرب على شعب كان مسالماً في البداية، وثم وجد نفسه يتسلح لمواجهة النار بالنار ويطلب من الغرب التدخل لوقف القتل وإراقة الدماء. يقال أن القذافي قد أرسل، على سبيل المثال، في 2 مارس حوالي 500 آلية عسكرية إلى مدينة البريقة لإخماد الاحتجاجات فيها ولإنهاء العصيان المدني والعسكري، وفي 16 مارس حاصرها وقصفها براً وبحراً وجواً. حقيقةً، إن الشعب هو من يبني- عبر المدة الطويلة- الأوطان ويحافظ على أمن البلاد وعلى استقرارها بفضل وعيه بحريته، فهو من بنى ليبيا مانحاً أرضها صفات المدنيّة. في حين مهد القذافي الطريق- بسبب قراراته الفردية التسلطية الباحثة فقط عن حلول للاحتفاظ برئاسة البلاد - للتدخل الخارجي مسبباً تدميراً كبيراً للبنى المدنية والعسكرية. من هنا نستنتج أنه قد لا يّبني حاكمُ دولة، لكنه قادرٌ، بسبب رؤيته الضيقة والأنانية للأمور، على تدميرها وعلى إسقاط بناها ومؤسساتها. لقد تظاهر الشعب الليبي مطالباً القذافي ونظامه بتفعيل حريته الموجودة في إطار الممكن، وطالبه بتحقيق إصلاحات سياسية واقتصادية. وجه مطالبه هذه أولاً إلى حاكمه وليس إلى الدول الأجنبية، ولكن عندما ترجم العنف جواب القذافي، فإن الشعب لم يجد ضيراً من طلب النجدة من الغرب رغم معرفته المسبقة بالثمن الاقتصادي الذي سيدفعه لاحقاً. لا توجد حتميات تاريخية تقول بأن الاحتجاجات الشعبية تغذيها دائماً مؤامرات خارجية، فالإنسان، فرداً ومجتمعاً، يجد أمامه ممكنات، وعلى أساسها يبني تاريخه الشخصي والجمعي. وقد تبدو هذه حتمية ضمن إمكانيات متعددة، لكن هذا لا يلغي قدرته على ممارسة حريته. فلو استجاب القذافي لمطالب شعبه عبر إصلاحات جديّة وملموسة، ولو أنه فَهِم درس التاريخ الذي يشير لمرحلة تجديدية، إصلاحية، لا بل وثورية في بعض جوانبها، لاستبعد تدخل الناتو بوصفه إمكانية بالقوة. أي إن القذافي كان يملك أكثر من حلٍ، ووفر له وعيه أكثر من مخرجٍ إزاء تلك المظاهرات الشعبية، إلا أنه اختار الحل الأكثر عنفاً ودمويةً، والذي فتح أبواب ليبيا ونوافذها لتدخل أجنبي. يمكن تبسيط النموذج الليبي عبر المقاربة التالية، قد يحدث أن يضرب الأب أولاده بعنف لدرجة تضطر فيها الأم لطلب مساعدة الجيران من أجل تخليص الأولاد وتحريرهم من عنف زوجها وسلوكه اللا إنساني. هو تدخل أجنبي، ألا أن عجز الأم عن رد الظلم عن أولادها يدفعها للجوء إلى حلول لم تكن لتتمناها. فكما أن الأسرةَ غير مُنفصلةٍ عن مجتمعها، فالدولة ونظامها غير منفصلين أيضاً عن المجتمع الدولي ومؤسساته الحقوقيّة. يمكن القول نظرياً أنه طالما هناك ״آخر״ فالمؤامرات موجودة في إطار الممكن، والحاكم هو من يقود هذه المؤامرة من القوة إلى الفعل، هو من يجعل من هذه الإمكانية حقيقة واقعة من خلال سياسته القائمة على التمسك بالسلطة مستبداً بشعبه ومراهناً فقط على النخب السياسية والاقتصادية، في حين يتجاهل تأييد أو احتجاج السواد الأعظم من الناس تجاه حكمه. يبدو لنا إذاً تفسير الاحتجاجات الشعبية من خلال مصطلح المؤامرة تفسيراً يسعى لتضليل العقول ويدفعها لحالة من التردد في تحديد الأسباب الحقيقية للأحداث التي تمر بها معظم البلدان العربية. إنه تفسيرٌ يعمل على مصادرة كل تحليل سياسي لا يوافقه، وينظر للأمور من منظور حتمي قائم على أن وراء كل اضطراب محلي مؤامرة خارجية ورابطاً كل حدث معارض للاتجاه السياسي القائم بمشروع مرسوم خارج الحدود. إنه تفسير يلغي وعي الإنسان ووجوده بوصفه إنساناً حراً، إنسان يناضل من أجل بناء كرامته وممارسة حريته، إذ إن افتقاده لهاتين الخاصيتين يسلب منه إنسانيته متحولاً إلى كائن موجود ولكن بدون ماهية.
#ماهر_اختيار (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
يوميات جندي فرنسي في أفغانستان وإشكالية حضور الآخر
-
التوازن البيئي ومفهوم حدود الممكن
-
آلية استبداد الأنظمة العربية لشعوبها مُستمرة، فهل من حلٍ؟
-
ربيع الثورات العربية... عوائق تأخره وآفاق نجاحه
-
التوازن البيئي من الضرورة الجغرافيّة إلى مسؤوليّة الإنسان ال
...
-
أهمية ودور الشعب من أدبيات التصوف الاجتماعي إلى مناهج الحولي
...
-
الإنسان أمام كوارث الطبيعة، من الوجود إلى السلب
-
أنسنة الحاكم العربي وفعل المواطنة، المبالغة في مدحه خيانة لل
...
-
يبحثون عن طاقة لا تقتل وسطهم البيئي، ونبحث عن حاكم لا يقتل ش
...
-
ضرورة التأسيس لأنظمة حكم قابلة للخطأ في البلدان العربية
-
التصوف الاجتماعي... وجه من وجوه انتقاد الاستبداد السياسي
-
علاقة الحاكم العربي بشعبه...استمرار لماضٍ قاتم!
-
الثورات العربية وضرورة التأسيس لدولة القانون...إسقاط الطبقة
...
-
غياب القانون بوصفه أزمة في بنية البلدان العربية
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|