يوسف رزبن
الحوار المتمدن-العدد: 3545 - 2011 / 11 / 13 - 00:59
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
التعريف بابن خلدون :
ولد ابن خلدون في تونس في عائلة نبيلة من أصل أندلسي . تتلمذ على يد أساتذة مغاربة كمحمد الحضرمي و محمد الآبلي . مارس السياسة في مطلع شبابه و تقلب في عدة مناصب في الدولة المرينية و غرناطة و إمارة بجاية , لكنه بعد مقتل أميرها قرر اعتزالها و الإهتمام بالكتابة التاريخية , فاعتزل في قلعة بني سلامة و ألف كتاب العبر . بعد ذلك سيهاجر إلى تونس ثم إلى مصر ليستقر بها
و يمارس بها مهنة القضاء و التدريس إلى أن وافته المنية .
الكتابة التاريخية قبل ابن خلدون :
قبل ظهور ابن خلدون كانت الكتابة التاريخية لدى المؤرخين المسلمين تتمحور فقط حول أخبار الملوك و الأمراء السابقين , معتمدة في ذلك على الرواية المبنية على السند شأنها في ذلك شأن الأحاديث النبوية , حيث كان المؤرخون يعتمدون على مبدأ التعديل و التجريح للتأكد من صدق الرواية و بعد تسجيلها يعتبرون أن مهمتهم قد انتهت .
عصر ابن خلدون :
لكن بقدوم عصر ابن خلدون كانت أحوال البلاد الإسلامية قد تبدلت
و تغيرت , فبعد أن كان المسلمون في أوج ازدهارهم صاروا يتخبطون في أزمات طاحنة نذكر منها : تقلص رقعة الأندلس , و انهيار دولة الموحدين, و هجوم التتار,
و انتشار الطاعون , و الفتن السياسية , و الانهيار الديموغرافي نتيجة الحروب
و الأوبئة و انهيار الإنتاج الزراعي , دون أن ننسى دخول عرب بني هلال إلى بلاد المغرب العربي و التخريب الذي أحدثوه .
كل ذلك دفع ابن خلدون المشتغل أساسا بالسياسة أن يحاول فهم ما يجري حوله عن طريق اللجوء إلى دراسة التاريخ و استخلاص العبر منه.
مشروع ابن خلدون :
الكتابة التاريخية بالنسبة لابن خلدون ليست نقلا للأخبار فقط مثلما درج عليه من سبقه من المؤرخين بل هي بحث عن الخيط الرابط بينها و رد الأسباب لمسبباتها لاستخلاص العبر و الحكم و عدم تكرار نفس الأخطاء و هو ما سيطلق عليه اسم علم العمران. يقول في ذلك :
" ...فن عزيز المذهب , جم الفوائد , شريف الغاية , إذ هو يوقفنا على أحوال الماضيين في أخلاقهم و الأنبياء في سيرهم , و الملوك في دولهم و سياساتهم حتى تتم فائدة الإقتداء لمن يرومه في أحوال الدين و الدنيا. "
"و لنذكر هنا فائدة نختم بها كلامنا في هذا الفصل و هي أن التاريخ إنما هو ذكر للأخبار بعصر أو بجيل , فأما ذكر الأحوال العامة للآفاق و الأجيال و الأعصار فهو أس للمؤرخ تنبني عليه مقاصده و تتبين به أخباره ."
لأجل ذلك فقد قسم عمله الذي اعتبره جديدا كل الجدة إلى قسمين :
- تمحيص أخبار السابقين .
- الكشف عن كنه الأخبار , أي عن الحقيقة الكامنة وراءها .
انتقاد ابن خلدون للكتابة التاريخية للمؤرخين السابقين:
يأخذ ابن خلدون على المؤرخين الذين سبقوه بأنهم لم يمحصوا جيدا أخبارهم فامتلأت كتاباتهم التاريخية بالأخطاء و المغالطات و الخرافات , لأنها أنتجت في نسق تاريخي معين و من أجل فئات معينة , فظل المؤرخون يكررون السرد كما هو و لا يدرون كيف أنتج , فسقطت كتاباتهم في التقليد و حدث الانفصال بينها و بين علم التاريخ . يقول :
" ثم لم يأت من بعد هؤلاء إلا بليد الطبع و العقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال
و يحتذي منه المثال و يذهل عما أحالته الأيام من الأحوال به "
قواعد ابن خلدون للكتابة التاريخية :
من أجل ذلك وضع ابن خلدون قواعد جديدة للكتابة التاريخية تختلف عن قواعد من سبقوه من أجل تجنب الوقوع في الزلل و هي كتالي :
1- تجنب التشيع للآراء و المذاهب و الاستقلال عن السلطة ( الوقوف على
الحياد ).
2- تمحيص الروايات و عدم الثقة بالناقلين , فمنهجية الحديث التي أساسها التأكد من ثقة الرواة عن طريق مبدأ التعديل و التجريح تصلح فقط للعلوم الشرعية و لا تصلح في الكتابة التاريخية لأن التاريخ ليس علما من العلوم النقلية بل علما للعمران لأنه ليس جامدا في أصله بل في حركة و نمو متصل . لذلك فهو يرى أن التأكد من مطابقة الخبر للواقع يسبق التأكد من سنده , لأن مبدأ التعديل و التجريح في قبول الخبر هو مجرد نقد خارجي له و غير كاف و يلزمه نقد باطني أطلق عليه إسم المطابقة , أي مطابقة الخبر للواقع و إمكانية وقوعه . يقول :
" و لا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر من نفسه ممكن أو ممتنع
و أما إذا كان مستحيلا فلا فائدة للنظر في التعديل و التجريح "
" و أما الإخبار عن الواقعات فلا بد في صدقها و صحتها من اعتبار المطابقة فلذلك وجب أن ينظر في إمكان وقوعه و صار في ذلك أهم من التعديل
و التجريح "
و كمثال على أخطاء المؤرخين , الخبر الذي نقله المسعودي حيث ذكر أن جيوش موسى قد بلغت ستمائة ألف مقاتل و هو أمر مبالغ فيه و يستحيل وقوعه , أيضا فيما يخص نكبة البرامكة , فهو يرى أن أسبابها أعمق من كون جعفر البرمكي دخل بالعباسة أخت الرشيد .
3- الفحص عن الخداع و كشف التلبيس و التصنع في الأخبار .
4- عدم الذهول عن المقاصد أو الهدف من وراء نقل ذلك الخبر .
5- أن يكون المؤرخ عارفا بطبيعة الحوادث و الأحوال و واقفا على حقائق الظواهر الطبيعية و الإنسانية و الإجتماعية حتى يستطيع التمييز بين الخبر الصادق و الخبر الكاذب . لهذا فقد استنبط علم العمران و استهدف منه الكشف عن النواميس و القوانين التي تسير و تتطور طبقها المجتمعات و الأحداث.
خلاصة :
كل هاته القواعد ضمنها ابن خلدون في مقدمته ليجعل منها آلة للتاريخ مثلما أن المنطق آلة للفلسفة , ليكون للمؤرخ عن طريقها القدرة على تمحيص صحة الأخبار التي تصله ثم بعد ذلك الكشف عن الحقيقة الكامنة وراءها و رد الأسباب إلى مسبباتها , لأن الكتابة التاريخية عند ابن خلدون لها هدف مزدوج , فهي أخبار عن الأيام و الدول و خبر عن الإجتماع الإنساني الذي هو علم العمران , و بالتالي فالأخبار التي يعتمد عليها المؤرخ يجب أن تكون صحيحة حتى يصل إلى استنتاجات صحيحة .
خاتمة :
و يبقى السؤال : هل طبق ابن خلدون منهجيته في كتابته التاريخية أم لا ؟
الجواب هو أن ابن خلدون لم يطبق دائما مبدأ المطابقة في تحقيق الأخبار و أنه في حالات كثيرة ساير النظام السياسي القائم و تحيز لمذهبه و لم يحافظ على استقلاليته , كإيراده أسطورة اتصال نسب السلطان برقوق المملوكي (874/880ه) بقبيلة غسان و كتجاهله لمصادر الشيعة في حديثه عن انبعاث الحركة الفاطمية و أيضا كاختصاره الشديد لأخبار الموحدين رغم إعجابه بهم .
لكن و مع ذلك فإننا يمكن أن نجد له العذر في فيما ارتكبه من هفوات لأنه كرجل سياسة سابق كان مدركا للخطوط الحمراء التي تحيط به , لذلك فحفاظا على طمأنينته و سلامته فقد تعامل معها بحذر , تاركا لمن يأتي بعده أن يكمل مشروعه في الكتابة التاريخية.
مصدر : نقلا عن كتاب : ابن خلدون مؤرخا . للدكتور : حسين عاصي . *
دار الكتب العلمية . بيروت . لبنان .
#يوسف_رزبن (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟