ريتا رضوان عيد
الحوار المتمدن-العدد: 3542 - 2011 / 11 / 10 - 15:00
المحور:
سيرة ذاتية
جلست أراجع ألبوم صور حياتي ...المحفوظ بين عيوني...المغروس في عقلي ووجداني...فبكيت وشريط ذكرياتي يمر من أمامي...على لحظات،أحلام،بسمات.رسمتها مع أشخاص لم يعد لهم أي وجود في حاضري ولا حتى في مستقبلي...
كل ما تركوه لي هو مجرد ذكرى...يعجز القلب عن نبضه إن فكرت أن أنسى...
وكيف لي ذلك وبدون ذلك الماضي لم أكن أنا كما أنا...فالماضي هو جزء مني وعلي دوما أن أسعى لجعله هدفي لما أريد...
أول ما مر على بالي،هو ذاك اليوم الشتوي الماطر حيث لم أكن أتجاوز السادسة من عمري بعد، يوم جاء على مدرستي الطبيب العملاق الضخم الذي ما زالت ملامح وجهه الكئيبة راسخة في عقلي ولم تفارقني أبدا كلما رأيت طبيبا آخر...ووقتها امتلأت مخيلتي بأفكار شريرة حول ما يريد من كقتلنا أو ما يشابه، فلم يكن أمامي طريقة للتخلص منه إلا الاختباء تحت طاولة الأستاذ كي لا يراني وحثثت أصدقائي على فعل ذلك أيضا ،ولكنني فشلت في الاختفاء من أمام ناظريه لتحريك صديقتي الطاولة فكانت هذه الصدمة الأولى في حياتي وهي ما تمنعني إلى الآن من أن أتوجه إلى أي طبيب مهما كان الثمن ومع أني أصبحت أعلم جيدا أن تلك مجرد أوهام ...
يقولون بأني كنت الطفلة المحظوظة في حياتي فأنا المدللة في البيت وفي المدرسة وأنا لا أستطيع أن أنكر أنني حظيت بطفولة رائعة بالرغم من محاولات الاحتلال اليائسة لتعتيم حياتي فعندما كنت في السابعة حظيت بدور الملكة في مسرحيتنا المشوقة "اليزابيث" التي كنا نقضي أنا وزملائي ساعات طويلة للتدرب من أجل تقديم شيء يليق بمدرستنا وكنا وقتها في غاية السعادة وننتظر يوم الخميس بفارغ الصبر ولكن للأسف الشديد وقع ما لم يكن بالحسبان، فها نحن في الكواليس وعلى وشك البدء و زميلنا أحمد لم يحضر بعد،وبعد قليل جاءت مدرستنا ميرفت وعيونها مثقلة بدموع قاتلة لتخبرنا بأن أحمد قد ذهب إلى الجنة ثم قالت بأنه قد استشهد قبل قليل...
كان ذلك صعب علينا ولكن وقتها فقط علمت ما معنى أن تكون أرضنا محتلة وعلمت حقارة هذا العدو الذي انتزع الحياة من طفل ذنبه أنه فلسطيني...
لم يكن بيدي وقتها إلا أن أكبر ومع كل دقيقة في حياتي كان يكبر معي حقدي لعدوي أكثر وأكثر...
على الحواجز والمفارق وأينما رأيتهم كانت تنفجر عيوني أمامهم تحديا لهم...
لكن الوقت يمضي والحياة كما هي ...أيام لا تنسى بحلوها ومرها تبقى مخزونة في بقعة من الذاكرة لا يطأها النسيان...
أصدقاء عشت معهم أروع أيام وتقاسمت معهم أسراري وكل لحظاتي...هم بدون كلمة وداع كانوا من حياتي يغادرون كما صديقتي الأغلى ياسمين النادي والتي قضيت معها كل المرحلة الابتدائية وكنا نصر دوما على أن نبقى معا وفي نفس الفصل...ولكنه القدر الذي شاء أن نفترق كما شاء أن نلتقي...ففي آخر يوم من العام الدراسي كانت في قمة السعادة لأنها ستذهب مع عائلتها إلى البحر فأصرت علي أن أعدها بالذهاب إلى هناك كي نلتقي ...ولكنني وعدت بدون أن أعلم إن كنت سأستطيع ذلك أم لا...ولكن لانشغال والدي في مدرسته لم أتمكن من إيفاء وعدي لها...ففي صباح اليوم التالي اتصلت على بيتها لأعتذر لها وأخبرها بظرفي ولكن قالت لي أختها بصوت أنين لا ينسى بأنها قد غرقت في البحر وأنها لم تعد الآن على قيد الحياة...
كان هذا الأمر الأصعب في حياتي ...فلم أكن قادرة حتى على تخيل بأن صديقتي وأختي وغاليتي ياسمين لن أراها بعد هذا اليوم...كنت أنام وأصحو على صوت ضحكاتها وعلى صورتها التي لم تغب عني ...إلى اليوم ما زالت صديقتي الأفضل كما كنت أقول لها دوما...بالرغم من ألمي عند رحيلها ولكني أشكر الرب دوما على جمعي بها...
إنه نفسه القدر الذي منحني جائزة أفضل قصيدة وإلقاء في العام2006 حيث جسدت مشاعري في قصيدة "حماماتي البيضاء" والتي كنت أقصد بها صديقتي الغالية...
ومضت بي الأيام إلى مدرسة جديدة وأصدقاء جدد وعالم جديد كان محوره هو الكتابة والتأليف فقد كان القلم هو سبيلي الوحيد للتعبير عن جزء مما في داخلي وبالذات في أوج الانقسام الفلسطيني المرير وبالطبع وجودي في الكشافة منذ صغري كان أمر بالغ الأهمية في تفتيح عيوني إلى واقعنا الفلسطيني وإلى احترام الوطن واحترام كل مناضل وشريف فيه...فكنت أشغل وقتي في الاستماع إلى أحاديث والدي المثقف عن شخصيات بارزة كان لها دور كبير في قضيتنا وكنت أغذي فكري بقراءة كتب عن أحداث مؤثرة على صعيد وطننا العربي...كما بارك لي الله بمعلمين أفاضل يجعلون من كتاب التاريخ أروع وأجمل قصة تختار لنفسك فيها الدور الخفي وهو ما يدفعك لأن تبدأ على أرض الواقع بإثبات وجودك لتغيير كل هذا الواقع ولتعيد التاريخ المشرف إلى كل شعب مضطهد ومن هنا كان عشقي لقراءة التاريخ سواء كان مشرف لنا أو لم يكن وكما كان يقول أستاذي التاريخ أن الملاحظة الدقيقة لتاريخ أمة كفيل بتغييرها إلى ما نسعى إليه...
في الثالثة عشر من عمري قررت عائلتي زيارة مصر العزيزة وكنت في الحقيقة سعيدة جدا لذلك ولكن ما أن قطعنا المعبر بأمتار قليلة شعرت بأني تركت في فلسطين روحي وكادت الغصة في قلبي تحرقني مع أني كنت أعلم بأنها أيام قليلة وفي تلك اللحظة فقط علمت ما معنى أن تغترب عن حضن وطنك الحبيب...
وعندما عدت إلى أرض الوطن ،كتبت مسرحية"والله واستقلينا" والتي حازت على جائزة أنا لاجئ في نوفمبر 2008 وفي يوم الاستقلال المزعوم رحل عن بيتنا قمره وشمسه ومهجته ، كان ذلك أخي الصغير محمد ذو الخمس سنوات والذي غادرنا بجسده يوم السبت في تمام الساعة الرابعة عصرا في حادث سير مؤسف ،ولكن روحه ما زالت مغروسة في كل زوايا بيتنا وفي أعماقنا...أنا لا أريد الحديث عنه ...لأني لا أريد لنفسي أن أشقى من جديد...ولا أريد لوجعي أن يقتلني...فالحديث عنه ليس كالحديث عن أحمد أو ياسمين ...إنه شعلة فؤادي التي انطفأت منذ أن غادر...
وبعد شهر واحد فقط كانت غزة بركان من الدماء في ظل العدوان الإسرائيلي الغاشم عليها...كانت غزة تصرخ بكل ما فيها،والجميع يسمع بدون مجيب...علمت وقتها أن القضية بحاجتنا قبل أن تكون بحاجتهم وأننا إن لم ننتفض لأنفسنا فلا أحد سيكترث لنا...
وقتها انضممت لعدة مشاريع ومؤسسات ووكالات أنباء تكفلت فيها بإيفائهم بالمستجدات و كان على رأسها مشروع المواطنة والذي توجهت به فرقتنا رغم الخطر إلى كافة المواقع المتضررة أو بشكل آخر قمنا بزيارة قطاع غزة بكامله فكل ما فيه قد دمر إلا الإرادة والعزيمة فينا...
كانت أيام صعبة رأينا فيها كل أشكال الظلم...
ومنذ ذلك ...كانت كل تطلعاتي نحو قضيتنا وأين هي الآن؟؟؟ وصار هدف حياتي هو دحر الاحتلال من خلال لقاءات ربما بنظر البعض سخيفة ولكنها بنظرنا كانت المؤثر الأكبر في حياتنا فكنا نجتمع وصديقاتي في المدرسة لنقرأ كتب ،لنتحدث عن الوضع الراهن ولنشترك في أعمال كتابية وطنية ،كان ذلك رائع جدا وكان له دور هام في تنمية حسنا الوطني رغم أننا لم نكن سوى طلاب لمرحلة إعدادية...
ثم توجهت للمدرسة الثانوية التابعة لحكومة غزة وكان العام الأول فيها صعب علي جدا ربما لأني لم أكن معتادة على الوضع فيها،فكانت قوانينها صارمة ،ثم أنه لا يتاح لك الحديث فيها بما تريد ...فكنت أسخر فكري في كتابة مقالات تارة عن الانقسام وأثره علينا وتارة أخرى عن مدارس الحكومة،وأحيانا عن مواضيع سياسية ساخنة...
وفي العام الثاني بدأت أعتاد الأمور أكثر ،وأقف في وجه كل ظلم نعانيه ،ودخلت الفرع الأدبي رغم المعارضة ،ورغم أني كنت المرتبة الأولى طوال حياتي ،ولكني رأيت نفسي فيه فكتبت رواية "لا تيأس فغدا أجمل " والتي حاولت فيها التعبير قدر المستطاع عن حال شعبنا الفلسطيني المناضل ، قررت أن أدرس العلوم السياسية ربما سيكون حينها باستطاعتي أن أغير ما لم يستطع غيري تغييره...
كنت وما زلت أرى الدعم من الكثيرين على رأسهم والدي الحبيب ومن كثير من الكوادر المثقفة في غزة والضفة والأردن ولبنان وسوريا ..كلهم كانوا شعلة حقيقية يستنار بها...
الآن وأنا في السنة الأخيرة من المدرسة الثانوية ...ما زال هدفي هو هدفي والمبدأ لا يتغير ...رغم الصعوبات والتحديات...ورغم كل شيء ... سأكون...كما أريد أن أكون...وللقصة بقية...
ريتا رضوان عيد
#ريتا_رضوان_عيد (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟