|
أيديولوجيا الربيع العربي
إياد أبازيد
الحوار المتمدن-العدد: 3541 - 2011 / 11 / 9 - 20:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الربيع العربي هل كان بدون أيديولوجيا؟ البعض يقول: إن الثورات العربية قامت بلا أيديولوجيا، وإن هذا زمن نهاية الأيديولوجيا أو القول بنهاية الأفكار وبداية الأعمال، وإن ما حدث من ثورات عربية كان هبة عامة على مظالم، وليس وراء ذلك أفكار أو أيديولوجيا. قد تكون الأيديولوجيا اختفت أو تراجعت حيث يجب أن تفعل ذلك، وحيث تنتصر المصلحة العليا للأمة على مصالح الفئات والأحزاب، فالأمة كانت في حال حرب مع محتل داخلي، تماما كما يمكن أن تكون في حالة حرب مع محتل خارجي، وفي هذه الحالة يجب أن تغيب السياسة الداخلية والأفكار الجزئية، وتعلو فكرة واحدة وحجة متماسكة شاملة تساعد الجميع على الصمود والوحدة لحسم المعركة مع المحتل الداخلي. ارتقت الأمة في لحظة المحنة والثورة لتتجاوز عقبة المذهبيات، ولكنها ستعود يوم يبدأ التمييز بين المنتصرين وتقسيم الغنائم فلم تكن لحظة الثورة وقتا لوصفة تفصيلية تقدمها إحدى المدارس لتعرّف الشعب كيف يعيش ولا كيف يتدبر أموره، فارتقت الأمة في لحظة المحنة لتتجاوز عقبة المذهبيات، ومارست الحق في إقصاء العقائد والرايات الجزئية في الملاحم الكبرى، ولكنها ستعود يوم يبدأ التمييز بين المنتصرين وتقسيم الغنائم، فبعد نهاية المعركة سيأْرَز كل فريق إلى أيديولوجيته وهذا تحدٍّ جديد. إن علينا حين نرى الثمرة ألا ننسى الشجرة، ولا أن نحملها للمائدة. الأيديولوجيا حاجة بشرية لكل عمل، فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره، حتى يجعله عقيدة عامة إنها ثورات أحسنت هضم قصة الأيديولوجيا، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظمى هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي . ليس هذا النقاش رغبة في أن نعقّد الأمور الميسورة، ونبالغ في وجود أفكار عميقة ومؤثرة لم تكن موجودة، فكم نتمنى أن تهبّ هذه الشعوب ضد المظالم دائما، ولا تحتاج لبناء فكري متعب وطويل، غير أنه بعد قراءة نصوص محترمة أصر كتّابها على غياب الأيديولوجيا عن الثورات العربية أجد نفسي أقول: لا، ليس صحيحا، فهذه الثورات حصاد مهاد فكري وبناء حقوقي طويل، ونتاج عمل مؤسسات وأحزاب وحركات وصحفيين وعدد هائل من المثقفين ومن المحتجين وعامة الناس الذين يذوقون مرارة الاستبداد، إلى أن أصبح المجتمع جاهزا للعمل، وكانت العدالة والحرية والديمقراطية ثقافة ترسخت كحلٍّ شمولي للمأساة , في الأذهان كادت أن تكون حلولا مشهودة، وأكبر من إمكان تجاوزها للتفسير بغيرها، فغلب الخطاب الشمولي على أجزائه. كان النظام القديم يحاول أن يجعل من نزواته وتبعيته أيديولوجية في وجه أيديولوجيات حقيقية أو متخيلة: (دينية وقومية ووطنية) وشعارات المستبدين قالت: لا قومجية، ولا إسلاموية ، والكلمات منحوتة أو مستوردة للتشويه المحلي وتبرير الإلحاق، والقبول بسيادة مناديب لمصالح الآخرين، أو تصوير المنافع الذاتية للمستبدين بأنها مصالح وطنية وهم حُماتها. فكان المستبد التابع يحرص أن يقدم نفسه على أنه الخير في حرب مع عقائد الشر، وكان من نجاح الثورات التي يحسب لها في الذكاء حسن التعامل مع سلاح الخصم بالتخلص من السلاح المدّعى أنه لها وتحمله، فقالت للطغاة: ها نحن نخرج ضدك، ليس فقط مجردين من السلاح المادي الذي تتمنى أن نحمله، بل حتى بدون السلاح الأيديولوجي الذي تعرفه وتخيف الناس منه، إلا حقوق إنسانية مشتركة يسلّم بها كل العالم، ولا تجعلهم في خلاف مع خصم في الخارج ولا في الداخل إلا الاحتلال الداخلي من خلال إدانته بفساده المشهور، وتجريد النفس من كل علائق قد تضره في مواجهة خصمه. وكانت هذه الإستراتيجية صحيحة ونجحت، وربما لم ينفق أصحابها وقتا طويلا لتأملها، ولكنها عفوية إلى حد كبير، وهذه حالة من الأحوال الأيديولوجية فقط، وهو التخلي المؤقت عن نفسها لتعلي من استجابة لتحدٍّ أكبر منها. فالأيديولوجيا تحرص أحيانا على الاختباء وراء أحداث وحقائق كحرصها على التمركز والعلن والتأثير في أحوال ومواقف أخرى، فالأفكار والأحزاب والجماعات الشهيرة والصغيرة كانت على مدى سنين تعمل في الوعي العربي والإسلامي وفي اللاوعي، وتصوغ أفكارا ومواقف من كل شيء تقريبا، موقفا من الدين واللغة والقومية والسياسة ونظم الحكم، وحالات الإيمان أو التمرد عليه، والشريعة تطبيقا ونبذا والعدو تحديدا، وأساليب مواجهة. ولكن تبين للجميع أن سُمّا داخليا يفتك بالجسم السياسي والأخلاقي والروحي ويحطم روح الأمة، والكل يتحدث عنه ولا يجتمع لمواجهته، ثم كانت المواجهات الصغيرة والكلوم الغائرة هي التي قدحت نيران المواجهة العظمى، وسبقتها كل الإرهاصات، وأسست للمواقف الفكرية والثقافية العامة. إن من تعرف على أي ثورة قديما أو حديثا في تاريخنا أو تاريخ غيرنا يجد أن هناك مصائب حكومات تصنع أفكارا مضادة للخروج من مصائبها، ثم تلحّ على التأثير، وتنتصر في نفوس المؤمنين بها قبل أن تخرج للعمل منذ الثورة العباسية، فضلا عما سبقها ولحقها من الثورة الروسية إلى الثورة الإيرانية فإنها كلها شربت من ينبوع أفكار تنتقد وتصف الحل، أو تخلّي وتحلّي بحسب مصطلح المربين، وما كان فولتير يحتفل في نهاية حياته بمستقبل الثورة والتغيير في فرنسا إلا أنه كان يرى التغيير قادما لا شك فيه، ويرى الأفكار تلتهم أمة راكدة وتخرجها للحياة، ثم تصبح الثقافة أو الأيديولوجيا زادا للاحتجاج المنظم وشبه المنظم، نعم، إن المستقبل يولد على غير ما تصوره من يعمل له، ولكنه يحقق لهم بعض أمانيهم إن لم يكن كلها . الأيديولوجيا حاجة بشرية لكل عمل، فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره، حتى يجعله عقيدة عامة والحقيقة أن الأيديولوجيا حاجة بشرية لكل عمل، فكل عمل يحتاج لفلسفة تقنع الفرد الممارس له، ثم بمقدار نفوذه وعلاقاته يحاول أن يشرحه لغيره، حتى يجعله عقيدة عامة، وكلما استسلم عدد أكبر من الناس لهذه العقيدة بسط الفرد هيمنته، فيتجاوز إرادته أو رضاه عن صحتها وفائدتها، فيستعبده انتصاره حتى عندما يخطئ، وهذا ما جعل ويجعل كثيرا من صناع الأيديولوجيات يتبرؤون ويخافون من اتباع الناس لهم، إما بدافع التواضع والسمو للحق الأعلى منهم، أو للقدَر الذي ظهر أنه يخالفهم، أو بدافع الخيرية المغروسة في نفوس بعض صناع الأفكار، أو لأنهم يرون أن الناس سيعرفون ضعفهم في تسخير الناس لفكرة كانت يوما حقا وتبين خطؤها، ولم يملك صاحبها الشجاعة للتمرد على قوله ومذهبه ذات يوم، وهذا أشبه بموقف التجرد للحق. ونماذج هذه النزاهة الفكرية عديدة جدا في ثقافتنا وعند غيرنا، ولعل من أمثلتها أولئك الذين منعوا الكتابة عنهم، ومنعوا تقليدهم، وأيدوا نقض أقوالهم بأنفسهم أو من قبل غيرهم. إن شروط نظريات الثورات -إن صحت- توضع على الرف مؤقتا، فلا أيديولوجيا محددة، ولا يوجد زعيم ملهم، لا تنظيم قاد الثورات العربية. فإن كانت الثورة الفرنسية سبقها عصر مكافحة شديدة للمسيحية واللاعقلانية والاستبداد، وفي روسيا أيديولوجية نظرية شيوعية ، وفي إيران تنظيمات ومواجهة للاستعمار ووكيله، وكانت مثقلة بانتقام ديني ممن حارب الدين باسم الحداثة -فإن الثورة العربية لم تكن تماما هذا ولا ذاك، بل كانت ثمرة للحاجات المغيّبة، وثمرة لخير ما في الأيديولوجيا، ولكنها لم تردد الأيديولوجيا، فشعار الإسلام هو الحل خفت في ميادين الاحتجاج، و ثورة الخبز توارت، و تحرير فلسطين لم يتاجر به أحد، وتعالى خطاب الحرية والكرامة والديمقراطية، ربما لأن هذا الخطاب الشمولي يخدم الخصوصيات الأيديولوجية الفرعية.الذين خرجوا من شتى الأطياف كان لكل منهم قضيته، ولكل أيديولوجيته الخاصة، غير أنه كانت لهم قضية واحدة جامعة، فاستطاعوا تأخير الخلافات وتقديم الأولويات، والأولوية في المجتمع العربي مواجهة السم الذي يفري في القلوب والعقول والاقتصاد والسياسة والكرامة وهو الاستبداد ، ولهذا كان على درجة من الوضوح والقبح بحيث لا يقدم أحد على شرّه شرا، فكان مَجمع الخبائث وسر التعثر، وعين الأفراد والأفكار عليه لا تخطئه، وكان التركيز عليه أساس النجاح. ثقافة المجتمع تشبعت بكل الخطابات الإسلامية والقومية واليسارية، وثمرتها خطاب التحرر والديمقراطية، فقامت تنادي بحصاد ذلك، وحاجتها الإنسانية مصنوعة في قالب لا يدين لفكرة ولا مدرسة محددة، إلا فكرة خلاص الإنسان المقموع الغائب الذي لم يسمح له أن يشارك من قبل في شيء ليقول: أنا هنا، سأحوز كل شيء، بعد أن حرمني المستبد من كل شيء . إنه موقف شمولي يستعيد كل ثمرة الأفكار، ولا يسخر نفسه للأفكار ولا للمدارس ولا للأحزاب، بل ينفذ خير غاياتها. ولذا، فلم تغب الأيديولوجيات عن الثورة العربية، لا بل نضجت الأيديولوجيات فوصلت لغايتها من المرحلة الأولى، وعقلت فأزاحت أطرافها الحادة، واجتمعت على الاهتمامات الكبرى، فالعمل السياسي يقتضي التعاون للإنجاز الذي لا يتم إلا بتجاوز القطعيات الحادة، ولهذا كان من أول واجبات الفئة الإصلاحية والثورية مواجهة التطرف الأيديولوجي؛ لأنه طعام الاستبداد اليومي. وحتى تستمر الثورات لتنجح فلا بد لها أن تخفف من تطرفها ومتطرفيها مستقبلا؛ لتستطيع تحقيق غاية الأفكار المعتدلة الصالحة للحياة ولسعادة الإنسان، وبما أن من أهم غايات السياسة فض المنازعات وجلب المصالح والسعادة للإنسان، فإن ما بعد الثورات يحتاج لتجنب التطرف الأيديولوجي؛ لأنه قد يفتك بمكاسب الثورة. وفي لحظة القطاف على المتمتع بالثمرة أن لا ينسى أنها من شجرة الاحتجاجات المتكررة، وأفكار التحرر والنقد لما كان سائدا، وامتداد للنجاحات المجربة في العالم. إنها ثورات أحسنت هضم قصة الأيديولوجيا، وأحسنت وعي الأفكار والتصرف بها، فقيمة الفكرة العظمى هي في تنفيذها في الحياة اليومية وفي السلوك الشخصي، وإلا فما هي إلا متعة ذهنية تعبر ببعض العقول. إن مبادرات المثقفين في صنع وترويج الأفكار السياسية العملية النافعة، هي التي تجعل الناس يقدرون قيمة الأفكار في تنوير العقول وتوضيح المسارات المستقبلية للأمة، فإذا خفتت صراحة الأفكار حينا، وقللت من وضوح تحيزها وانتمائها، فلمصلحتها ولمصلحة المجتمع، أما حين يستعرض المثقفون والحزبيون شعارات تميزهم عن غيرهم لتبحث عن استقطاب شخصي أو حزبي، فتلك انتهازية سياسية على حساب مصلحة الأمة. فالذي يحتاجه مجتمع ليبني حياته ليس أيديولوجيا واحدة جاهزة ولا صراع الأيديولوجيات، بل حصاد ذلك أي الأفكار في مرحلة النضج والتنفيذ العملي لها، وهو المصلحة العامة المستخلصة من مساهمة هذه الأفكار في حل المعضلات، إنها الفكرة في ميدان العمل وهذا ما تحقق بدؤه. و أخيراً أريد التأكيد على أن قيمة الفكرة هو ما تقدمه لنا لا ما نقدمه لها، وعلى الذين لم يروا الثمرة عندهم أن يعلموا أن بذور شجرة التحرر مغروسة في القلوب، وعليهم سقيها بالوعي والتدريب والتعريف بالمظالم وطرائق رفعها حتى يروا ثمارها، في جمع فاعلية الأيديولوجيات لصناعة المتفق عليه أو الضروري، وتأخير أو إخفاء الخصوصيات.
الدكتور إياد أبازيد
#إياد_أبازيد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأنشطة الموازية للخطة التعليمية.. أي مهارات يكتسبها التلامي
...
-
-من سيناديني ماما الآن؟-.. أم فلسطينية تودّع أطفالها الثلاثة
...
-
اختبار سمع عن بُعد للمقيمين في الأراضي الفلسطينية
-
تجدد الغارات على الضاحية الجنوبية لبيروت، ومقتل إسرائيلي بعد
...
-
صواريخ بعيدة المدى.. تصعيد جديد في الحرب الروسية الأوكرانية
...
-
الدفاع المدني بغزة: 412 من عناصرنا بين قتيل ومصاب ومعتقل وتد
...
-
هجوم إسرائيلي على مصر بسبب الحوثيين
-
الدفاع الصينية: على واشنطن الإسراع في تصحيح أخطائها
-
إدارة بايدن -تشطب- ديونا مستحقة على كييف.. وترسل لها ألغاما
...
-
كيف تعرف ما إذا كنت مراقبًا من خلال كاميرا هاتفك؟
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|