|
الموت!!!
حميد طولست
الحوار المتمدن-العدد: 3541 - 2011 / 11 / 9 - 12:49
المحور:
المجتمع المدني
الــــــــــــموت
رغم يقين بني البشر، منذ وجدوا في هذه الدنيا، بأنه "ليس لهم من خلود فيها، وإيمانهم القاطع بأنه إذا جاء أجل أحدهم لا يَسْتَأْخِر سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِم، وأنه على آلة حدباء محمول، دون أن تدري نفسه بأي أرض تموت، وكأن لم تغن فيها، أن نفسه ذائقة الموت كباقي الأرواح، لأنه لا يمْلِكُ لها ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ. ومند ذلك الحين والأسئلة الكثيرة تتطاير في رأسه حول ماهية الموت، ومرحلة ما بعد فقد الحياة، ولماذا نموت؟ وهل يفقد الميت أحاسيسه كلها فلا يشعر بالزمن ولا بالمكان ولا بظلمته وضيقه؟ وهل يعلم ما يدور حوله في قبره أم لا؟. أسئلة كثيرة ومحيرة يتجنب الخوض في تحليلها الكثيرون، خوفا أو تهيبا من قاهر اللذان، ومبطل حيلةَ الدهاة، ومعدم قوة الأقوياء، وناسف بنيان الأغنياء، الذي اصطلح على تسميته بأسماء عديدة منها: الموت والمنون، والحتف، والحِمام، والسام، والوفاة، والردى، والهلاك، لما فيها من قضاء مبرم، وناموس نافذ، وغموض مذهل، وغاية محتومة، ووعد إلهي غالب يفضي إلى نهاية محتومة لا تغني معها خزائن الأرض عندما يتحشرج الصدر مؤذناً بانقضاء الآجال، وقد أحسن الشاعر العربي الجاهلي "حاتم الطائي" الذي يضرب به المثل في الكرم، التعبير عن جبروته حين قا ل: أماوى ما يغني الثراء عن الفتى؛؛ إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر. ورغم اختلاف معرفة الناس بالکون وبأنفسهم وما حولها اختلافاً مبعثه العمق والحدة في الإدراک والنفاذ إلی بواطن الأمور وبواطن ما يختلجون من أحاسيس تفيض تارة باللذة والفرح وتارة بالحزن والألم، فإنهم تفرقوا في نظرتهم للموت، التي لم تكن رؤية واحدة موحدة لدى الجميع، ولم يكن مفهومهم لها وعنها مفهوماً واحداً. فهي عند البعض هديّة من السماء للمنهكين، وباب خلاص لكل المعذبين، كما في قول الشاعر العربي: الموت باب وكل الناس داخله -- فليت شعري بعد الباب ما الدار باب يتوجهون من خلالها نحو السماء، حيث السلام والخلود، بعيدا عما تعلق به بنو البشر من هموم وأحزان الحياة، التي وصفها فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري في بيته الشهير: تعب كلها الحياة فما أعجب إلا من راغب في ازدياد. وهي عند البعض الآخر، أمر عشوائي شبيه بحيوان أعشى يتخبط في سيره، فيصيب فرداً فيموت ويخطئ آخر فيعمِّر إلى أرذل العمر، كما قال زهير بن أبي سلمى: رأيت المنايا خبط عشواء من تصب** تُمِتْهُ ومن يخطئ يعمِّر فيهرم. وهو عند فئة ثالثة، حيوان مفترس ينقض على الطريدة يفتك بها دون أن يقوى أحد على رد غائلته، فلا التمائم تنفع، ولا التعاويذ تجدي أمام تلك القوة الحتمية المعلقة للموت والاستسلام العاجز: للإنسان، كما في صف "أبي ذؤيب الهذلي" الرائع: وإذا المنية أنشبت أظفارها** ألفيت كل تميمة لا تنفع. وهو، أمر حتمي لا يستطيع الفرد دفعه كما في قول الشيخ محمد بن عبد الله بن عثيمين : هـو الموتُ مـا منه مَلاذٌ ومهربُ--متى حُطَّ ذا عن نَعْشِهِ ذاك يركبُ. وهو عند طرفة ابن العبد: عادل لا يترك أحداً ولا يميز بين غني و فقير ويساوي بين الناس كافة، لا تؤثر في نفاذ أحكام مكانة المرء أو منزلته بين القوم: أرى الموت لا يُرْعى على ذي جلالة ***** و إن كان في الدنيا عزيزاً بِمَقْعَدِ. بينما يبقى الموت عند غير هؤلاء، واحداً في كل أحواله مهما تعددت أسبابه، تبعا للمقولة المشهورة التي نردّدها كثيرا دون أن نتمعّن فيها: "تتعدّد الأسباب والموتُ واحد"، فترى الواحد منا لا يستطيع آلام الفقد وكبح مجرد التفكير فيه، من شحنات انفعال وضغط نفسي وعصبي يؤثر على نفسه ويدميها، ولا يتمكن من دفعها إلا بما نقوم به من طقوس نعي الميت – كما جرت العادة، وأمر الدين- بالدفن والتكريم، والحفاوة والعناية والتماس الرحمة والمغفرة، والتعبير عن الوفاء والحزن على الفراق، والمواساة وجبر خواطر أهل وأقرباء المخلوقات التي لازمت حياتنا لعقود طويلة وتعلقنا بها، وذلك في جِنَازات مهيبة، تحظى في (الإسلام) بآداب خاصة وأحكام وفيرة، تقام في وقت وجيز -لا يتعدى ثلاثة أيام- يستسلم المرء خلالها للبكاء بالدموع المنهمرة، كعاطفة إنسانية فطرية تميز البشر عن سائر المخلوقات، وتساعدهم على التنفيس عن النفس وإراحتها، والتقليل من توتراتها العصبية والعاطفية والانفعالية التي تعتريها، بسبب مصاب الموت الذي سرعان ما يزحف عليه النسيان الذي يسلي الأفئدة المكلومة بآلام الفقد وحزن الفراق، ويشغلها عن مصابها، بما هيأ الله سبحانه من أمور الدنيا الفانية ولذاتها، مهما كانت الرزية عظيمة، حبيبا عزيزا، أو نعمة أو أمنية مأمولة، وقد كما قال أبوا العتاهية: لم يشغل الموت عنا مذ أعد لنا.. وكلنا عنه باللذات مشغول أمام هول الموت الذي وإن نسيه بنوا البشر أو تناسوه، يبقى هو مصيرهم الحتمي الذي لابد هم ملاقوه، بين لحظة وأختها، وبدون إخبار أو إنذار أو تأجيل أو استئناف مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: "كل شئ هالك وجهه" القصص :88، وقول الشاعر الإسلامي كعب بن زهير، في قصيدته المشهورة ( بانت سعاد ) التي أنشدها في حضرة المصطفى صلى لله عليه وسلم وكافأه بخلع بردته الشريفة عليه: كل أبن أنثى وأن طالت سلامته .. يوماً على آلة حدباء محمول. عمدت معظمُ المجتمعات الإنسانية للتخفيف من وقعِ حقيقة الموت الثقيل، إلى تجميل صورته وتزيينها حتى برز نوعٌ جديد من الموت خفيف ومحبب، كذاك الذي تضمنته الحكايات الشعبية لكثير من شعوب العلم والتي تضفي على الموت الكثير من أوصاف القداسة، كما هو حال الحكايات الروسية التي توحي بأن الجنود الذين يقضون في الحرب لغاية نبيلة، ينالون الخلود بعد أن يتحوّلا إلى لقالق تطير في السماء، أو حكاية "الكاميكاز" الياباني، والذي يعني "الريح الإلهية" أو الطيارون الإنتحاريون، هذه الريح التي تعود إلى أسطورة مفادها أن الله أرسل عاصفةً شديدة منعت المغول من غزو اليابان، وهكذا استلهم اليابانيون الأسطورةَ القديمة ليعطوا لقتلاهم صفةَ القداسة، ويصبحوا عندهم شهداء. أما عند العرب والمسلمين فحكايات تقديس الموت كلها مقتبسة من الدين الإسلامي الذي جعله بابا من أبواب الخلود، حين اعتبر الموت في سبيل الله أو لغاية نبيلة شهادة، ووضع الشهادة في أعلى المراتب وجعل الشهيد لا يموت كما قال عبدالله بن المبارك, ولقد أتانا من مقال نبينــا*** قول صحيح صادقُ لا يكذب لا يستوي غبار أهل الله في *** أنف امرئ ودخان نار لا يكذب هذا كتاب الله ينطق بيننــا *** لــيس الشهيد بميت لا يكذب وجعل القرآن الشهادة في سبيل الله صفقة تجارية رابحة، كما في قوله تعالى(إن الله أشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقْتُلون ويقتلون وعداً عليه حقاً في التورات والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فأستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم)سورة التوبة, وقوله تعالى(يا أيها الذين ءامنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) سورة الصف الآيات(10, 11) ما جعل هذا النوع من الموت -الذي اعتبره الإسلام جهادا مقدسا في سبيل الله بالنفس والمال شرط يكتمل به الإيمان, وعده صفة من صفات الرجل الصادق، وعلامة من علامات قوة إيمان المؤمن بالله, لا يموت المغامر فيها وعليها ويبقى حيا مكرما عند ربه كما في قوله تعالى: "ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله:أموات بل أحياء ولكن لا تشعرون"- يلعب دوراً هاماً في الانتصارات التي حققتها الجيوشُ المسلمة في القرون الوسطى. أما في منتصف القرن العشرين، ومع انتشار حركات التحرّر الوطني في دول العالم الثالث، التي أضفتْ على قيم الحرية والعدالة الاجتماعية صفةَ القداسة، وولّدتْ دافعاً نبيلاً داخل كل النفوس للانخراط فيها والموت من أجلها، ينال الميتُ في سبيلها مرتبة الشهيد، ويتحول إلى رمزٍ خالد، يبقى حياً عند ربه وفي عيون الناس وقلوبهم، بعد أن كان إنسانا عاديا أو نسيا منسيا، والشهداء في سبيل الله ولغايات نبيلة كالحرية، كثيرون عبر التاريخ الإنساني ولا يمكن ذكرهم جميعهم في مقالة، لذلك سأكتفي ببعضهم دون ترتيب أو تمييز: حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه، سمية أم عمار، جندارك، تشي غيفارا، عمر المختار،... فموت هؤلاء وغيرهم كثير هو بدون شكّ استشهادٌ، وفقَ كل العقائد التي نؤمن بها، لم يمت أصاحبه بعد أن تحولوا إلى رموز في أوطانهم ولدى كل شعوب العالم، لأن موتهم كان في سبيل الله، ولغايات إنسانية نبيلة تصنع الحياة، كالحرية وإعلاء قيم الحق والفضيلة، أما غيره من الموت(التفجيرات الانتحارية مثلا)، فهو صناعة للموت وترخيص لقيمة حياة الإنسان، يختلف توصيفها الديني بين الاستشهاد والانتحار، ويختلف توصيفها القانوني الدولي بين المقاومة والإرهاب، وشتان بين هذه وتلك. وأختم مقلتي المتواضعة عن هذا الموضوع الذي قلما يُغامر فيه الكتاب، بقول الشاعر: دقات قلب المرء قائلة لـــه؛؛؛؛ إن الحياة دقائق وثـوان فأرفع لنفسك قبل موتك ذكرها؛؛؛؛ فالذكر للإنسان عمر ثان. حميد طولست [email protected]
#حميد_طولست (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سلوكات هجينة في عيد الأضحى المبارك
-
العيالات!!
-
نهاية طاغية..
-
حتى لا تتحول-الكوظا- إلى ريع سياسي!
-
الله يلعنها حرية!!!
-
الحقد...
-
°طلاسم فاتورة الكهرباء
-
الوجه لا لباس له «il n’y a pas de vêtement pour le visage».
-
التبركيك والفضول الفقهي.
-
الخبث السياسي.
-
هل الجمال قيمة كونية؟
-
لماذا الفنون والآثار الإنسانية؟.
-
قضية انسانية
-
فرحة الانتصار.
-
فتاوى الفتنة لا تخلق رأياً عاماً في المجتمعات.
-
فتاوى الفتنة لا تخلق رأياً عاماً، لكنها تغلق الوعي بالخرافة.
-
ثقافة الإبتسام
-
رمضان وعبق الماضي.
-
من أجل هذا يحق لنا أن نغضب، بل وننفجر !
-
الكتابة عن الكلاب.
المزيد.....
-
جوتيريش يعلن احترام استقلالية المحكمة الجنائية الدولية
-
العفو الدولية: نتنياهو بات ملاحقا بشكل رسمي
-
مقرر أممي: قرار الجنائية الدولية اعتقال نتنياهو وغالانت تاري
...
-
جنوب السودان: سماع دوي إطلاق نار في جوبا وسط أنباء عن محاولة
...
-
الأمم المتحدة تحذر من توقف إمدادات الغذاء في غزة
-
السعودية تنفذ حكم الإعدام بحق 3 أشخاص بعد إدانتهم بجرائم -إر
...
-
ماذا سيحدث الآن بعد إصدار مذكرات اعتقال بحق نتنياهو وغالانت
...
-
ماذا قال الأعداء والأصدقاء و-الحياديون- في مذكرات اعتقال نتن
...
-
بايدن يدين بشدة مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت
-
رئيس وزراء ايرلندا: اوامر الجنائية الدولية باعتقال مسؤولين ا
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|