سومر الياس
الحوار المتمدن-العدد: 3539 - 2011 / 11 / 7 - 14:21
المحور:
المجتمع المدني
ثمة علاقه جوهريه دائما بين الثقافه والسياسه, وهذه العلاقه قد لا يدركها الكثير من السياسيين خصوصا في مجتمعاتنا , ومن الجيد أن ننوه بداية أن مفهوم الثقافه الذي سيتم تناوله في هذا البحث القصير ليس بذات الدلاله التي غالبا ما نستخدمها في حياتنا اليوميه, ولكن المقصود به هنا هو تلك الطرائق العامه للتفكير التي تسود والتي تتميز بها المجتمعات المختلفه وتتمايز, فمن خلال فهمنا لثقافة مجتمع ما أو إرثه المعرفي نستطيع أن نفهم كيف تطبخ السياسات في هذا المجتمع وكيف تنتقل من النظريه الى التطبيق, فمعظم الدراسات السياسيه في القرن الواحد والعشرين تؤكد على ضرورة فهم الثقافه في مجتمع ما كمنطلق لفهم السياسه في هذا المجتمع, وتنصح بالإعتماد على دراسة الثقافه كسبيل للإنتقال بالسياسه الى حال أفضل
يستخدم مصطلح ثقافه غالبا للدلاله على الأعمال الفنيه المختلفه من أدب أو موسيقا أو ما شابه, وقد يميزالبعض بين الثقافه الراقيه (أو هكذا يسمونها) كمسرحيات شكسبير أو مؤلفات موتسار مثلا و بين الثقافه الشعبيه الدارجه كأغاني شعبان عبد الرحيم أو مسرح الألبنضه أو حتى ثقافة الجيل الجديد كما يسميها البعض أحيانا, ولكن بالنسبه لعالم السياسه فالثقافه لها مدلولات ومضامين أوسع من أن نحصرها بالفنون أو مثل هكذا تعريفات دارجه, فالثقافه بالنسبه الى علماء السياسه والإجتماع ليست رؤيه أو ملكيه فرديه بأي حال من الأحوال, ولكنها ببساطه نمطية حياة تشمل كل ما يتعلق بالناس أو بالمجموع من اللغه والعادات والتقاليد والأعراف والمعتقدات والشعائر الدينيه وحتى أمزجة الناس العامه ولباسهم المميز, إنها بإختصار أي سمه ذات طابع عام أو جمعي أو متعلق بالجميع في أي مجتمع ومن هنا كانت أهميتها القصوى لدارس السياسه والإجتماع أو ذلك الذي جل إهتمامه دائما واقع في كيفية تنظيم العام أو كيفية تنظيم حياة الجميع بأفضل شكل ممكن.
لكي نكون أكثر تحديدا أن دراسة الثقافات المختلفه للمجتمعات المختلفه مهمة بالنسبه للسياسي لثلاثة أسباب رئيسيه, الأول أنها تساعد في فهم وتفسير إختلاف طبيعة العالم السياسي وأخلاقياته وقيمه بين دولة وأخرى وفهم الأساس المعرفي أو الثقافي الذي أدى الى ذلك الإختلاف, والسبب الثاني أنها تساعد في فهم الميكانيزم الذي يؤمن للسلطه السياسيه في مجتمع ما القوه اللازمه له لتكون فاعله أو باطشه, ولقد إستخدم بيير بورديو مصطلح " الرأسمال الثقافي " للتعبير عن ذلك, فلقد إعتبر بورديو أن الناس أو الطبقات الإجتماعيه المختلفه تورث أبنائها ثقافة تشبه الى حد كبير في فاعليتها وقوتها رأس المال النقدي الذي تحدث عنه ماركس والذي يتم توارثه أيضا, وهذا الرأسمال الثقافي كما سماه بورديو ذو قوة فاعله في المجتمع من حيث صياغته لأنماط تفكير مختلفه لطبقات ومراكز قوى مختلفه في المجتمع تؤدي في النهايه الى صياغة شكل السلطات السياسيه وطبيعتها, وأما السبب الثالث لدراسة الثقافه بالنسبه للسياسي فهي لفهم طبيعة الحريه والمساواة التي تقدمها القوانين في الدوله الى الأفراد والجماعات, فثمة تساؤلات حول أنه ومع وجود أنماط تفكير معينه وثقافات تسود في المجتمع هل يكفي وجود قوانين في الدوله تساوي بين الناس وتضمن حرياتهم؟ أو بتعبير آخر الى أي حد أو مدى يمكن للمود الثقافي السائد في مجتمع ما وما ينتج عنه من مراكز قوى إجتماعيه, الى أي مدى يمكن أن يعطل فاعلية تلك القوانين ويجعلها من دون قيمه فعليه على أرض الواقع.
الثقافه السياسيه
بالنسبه للسبب الأول أي فهم تمايز السياسي من خلال الثقافي فقد عبر عنه غابرييل الموند في العام 1950 عندما إستخدم مصطلح الثقافه السياسيه للدلاله على ذلك, وقد حاول الموند التمييز بين الثقافه السياسيه والثقافه بشكل عام, ما قصده الموند بالثقافه السياسيه هو علاقة الناس في أي مجتمع بالعالم السياسي فيه, أي أحزابه ومؤسساته السياسيه المختلفه, لنكون محددين أكثر الثقافه السياسيه لمجتمع ما هو موقف الناس من المشاركه في العالم السياسي, ففي كتابه " الثقافه المدنيه " والذي ألفه بالتعاون مع سيدني فيربا ومن خلال دراسات أجرياها على أربعة مجتمعات مختلفه هي الولايات المتحده والمكسيك والمانيا وبريطانيا إستطاع أن يميز بين ثلاثة أشكال مختلفه للثقافه السياسيه في المجتمع, الأول هو المواطن اللامبالي نهائيا بما يجري في عالم السياسه والرافض تماما للمشاركه بأي نشاط سياسي, والثاني هو المواطن الخاضع للسلطات السياسيه والمقتنع بأنه لا فائده ترتجى من مشاركته في الحياة العامه وأولوياته تأمين حياته الخاصه, والثالث وهو الناشط أو المشارك أو المقتنع بأنه من خلال مشاركته في العالم السياسي سيكون قادر على التغيير بما يعود بالفائده عليه وعلى غيره من المواطنين.
وعلى الرغم من النتائج السلبيه التي توصل اليها الرجل في إعتباره أن الشكل الثالث للثقافه السياسيه غالبا ما يؤدي الى عدم الإستقرار السياسي للدوله إلا أن كتابه قد مهد الطريق أما ما يصطلح على تسميته " بالتنشئه السياسيه ", فعلماء السياسه المعاصرون يركزون كثيرا على ما يسمى بوسائط التنشئه السياسيه كالعائله والإعلام والمؤسسات التعليميه والأحزاب بإعتبارها وسيلة لخلق سعوب مثقفه سياسيا وقادره على التغيير في مجتمعاتها.
الدراسات الثقافيه
أما بالنسبه للسبب الثاني لجوهرية العلاقه بين الثقافه والسياسه, وما أقصده هنا هو كون فهم الثقافه هو الوسيله الوحيده لفهم كيفية حيازة السلطات السياسيه على القوه للازمه للحكم في مجتمع ما فيعبر عنه بما يصطلح على تسميته في السياسه " بالدراسات الثقافيه ", فمن خلال دراسات ثقافية وأبحاث قام بها مفكرون في القرن الماضي والما قبل ماضي خصوصا تلك الدراسات المتعلقه بالعلوم الإجتماعيه والإنسانيات والآداب والتاريخ إستطاع هؤلاء أن يفهموا منظومة الولاءات في مجتمعاتهم ويعرّوها كما إستطاعو أن يفهمواعلى أي أساس معرفي يتم الخضوع للسلطات الإجتماعيه والإقتصاديه والدينيه وبالتالي السياسيه, ويعتبر كارل ماركس الرائد و المؤسس والملهم لهذا النوع من الدراسات الثقافيه, فقد تمكن هذا الفيلسوف من خلال فهمه للأساس التاريخي والثقافي الذي تقوم عليه العلاقه بين الطبقات العامله وأرباب العمل من نزع القناع عن أيديولوجيه ثقافيه برجوازيه تحكم المجتمعات الصناعيه الحديثه متحدثا عن ثوره كونيه تقوم بها الطبقات العامله على أصحاب السلطات بكافة أشكالها في المجتمعات البشريه و نظّر لتدمير هو الأشد راديكالية لميكانيزم القوه الذي يتحكم بالدوله المدنيه الحديثه. وقد ألهمت كتابات ماركس كلا من الأيطالي أنطونيو غرامشي والفرنسي لويه ألوسيه في القرن العشرين
فقد إعتبر المفكر الفرنسي الشيوعي ألوسيه أن ثمة أيديولوجيه ( أو منظومه ثقافيه ) مقنّعه يتم برمجة عقول الناس من خلالها وإن ذلك يتم بشكل غير مباشر عن طريق الأحزاب والنقابات والمدارس والمؤسسات الدينيه والفنون والآداب والعائله, إن ثمة دولة أيديولوجيه مقنعه تفرض قيم الرأسماليه على الأفراد وتنتجهم تماما وفق إرادة خارجه عنهم, وعلى الرغم من كل ذلك العرض الراديكالي لألوسيه إلا إنه لم يعجب الشيوعيين فقد إعتبر هؤلاء أن تلك المنظومه الثقافيه التي تحدث عنها ونظّر لها كانت كامله في حبكتها الى الحد الذي لا تسمح معه بالثوره على تلك الدول الرأسماليه.
من جانب آخر وعلى عكس ألوسيه كتب الشيوعي غرامشي أثناء إعتقاله عام 1926 من قبل نظام موسوليني كتابا حول دور الثقافه إعتبر فيه أن تلك الهيمنه الثقافيه في الدوله الحديثه ذات سبب واضح وهو سيطرة القوى الرأسماليه على وسائل المعرفه, ومن حيث أن تلك السيطره ليست ستاتيكيه ولكنها متغيره فأن إحتمالية الثوره على تلك الثقافه السائده والمهيمنه يبقى واردا.
ويعتقد معظم علماء السياسه أن الدراسات الثقافيه من منظور أكاديمي قد بدأت مع ريتشارد هوجارت تحت تأثير ذلك التيار الراديكالي السالف الذكر لماركس وغرامشي وألوسيه وغيرهم في كتابه " إستخدام المعرفه" والذي ركز فيه على تأثير وسائل الإعلام في صياغة ثقافه مهيمنه ذات طابع ايديولوجي في الدول الليبراليه الحديثه, وقد أسس مع مفكرين آخرين مركزا للدراسات الثقافيه في جامعة برمنجهام في العام 1964, من جهة أخرى وأن كانت تلك الدراسات قد إمتدت الى الأكاديميات الأخرى في دول ككندا وأمريكا وغيرها إلا أنها واجهت نقدا شديدا من الشيوعيين كذلك و الذين إتهموها هذه المره بأنها نقلت الصراع الطبقي من مكانه الحقيقي على أرض الواقع الى الأكاديميات و سطحت الصراع الطبقي وجعلته في عالم آخر أشبه بعالم وولت ديزني.
وثمة سببا آخرا للنقد الموجه للدراسات الثقافيه بعيدا عن تلك الأرضيه الشيوعيه وهو أن تلك الدراسات قد حددت المشكله الثقافيه بالدوله المدنيه الحديثه و أهملت المشكله الثقافيه لحضارات أخرى ومشاكل كإستعمار دول العالم الثالث وما شابه.
فالحديث عن تمايز الثقافات هو أبعد بكثير من أن نحصره في صراع ثقافي بين طبقات أجتماعيه في العالم الصناعي, وقد ظهر ذلك جليا في الكتاب الذي كتبه ناجوتي ثايونج من كينيا " التحرر من إستعمار العقل" وكان آخر كتاب كتبه بالإنجليزيه حيث أصر على كتابة كل أعماله التاليه بلغته الأم كنوع من التحدي الثقافي للإستعمار الإنجليزي, بإختصار لقد إعتبر ثايونج أن السيطره السياسيه والإقتصاديه لا يمكن لها أن تتم بدون سيطره ثقافيه على العقول, أي أنه و لكي تسيطر على الناس عليك أن تسيطر على هويتهم الثقافيه لأنك من هنا تستطيع أن تسيطر على الطريقه التي يعرّفون بها أنفسهم والطريقه التي يحددون بها علاقتهم مع الآخرين وبالتالي على أدواتهم التي يواجهون بها العالم.
الهويه الثقافيه
أما السبب الثالث الذي يدعو السياسي الى فهم الثقافه في مجتمعه والمجتمعات الأخرى فهو ذو علاقه كما أسلفنا بفهم طبيعة قيم الحريه والمساواة التي يمكن للدوله أن تقدمها لأفرادها, الحقيقه أن هذا الفهم يتجذر من أحد فروع علم السياسه المسمى بالفلسفه السياسيه, فالفلسفه السياسيه هي المعنيه بالتصورات الممكنه لأفضل شكل ممكن للتنظيم الإجتماعي أوأفضل نموذج ممكن للحريه والمساواة في ظل هويات ثقافيه في المجتمع الواحد ترغب بالهيمنه أو أخرى ترغب بالتمايز.
وقد أسس تشارلز تايلور لنظريتين أو رؤيتين بهذا الصدد, الأولى وتعتبر أن الوصول الى المساواة لا يتم إلا بمعيار واحد عالمي ينطبق على الجميع بغض النظر عن أي فروق دينيه أو عرقيه أو مذهبيه بين الناس, حيث يتساوى بذلك المعيار الناس بشكل مطلق أمام القانون ويمكن ملاحظة هذا النهج أو تلك الرؤيه لدى قراءة كل من وثيقة الحقوق الأساسيه لدول مثل فرنسا أو كندا أو الولايات المتحده, وأما الرؤيه الثانيه فهي على العكس تعتبر أنه لا يمكن الوصول الى المساواة الحقبقبه بتلك الطريقه ولكنه من الواجب ملاحظة الفروقات الدينيه والمذهبيه والعرقيه بين الناس, وهو ما يعرف في السياسه بحقوق الأقليات في أن يكون لها قوانينها الخاصه المنبثقه من هويتها الثقافيه كحقوقها في أن تستخدم لغاتها الخاصه ونظرياتها الخاصه في التعليم وما شابه , وقد إرتبط أسم كل من ماريون يونج و ويل كيم بالرؤيه الثانيه والنقد لذلك التعامي عن الهويات الثقافيه في المجتمع وفرض معيار عالمي للحريه والمساواة هو في النهايه نتاجا لتطور الفكر في العالم الغربي, وقد تحدث يونج عن ما أسماه بحقوق خاصه وقوانين خاصه يجب أن تمنح للأقليات ذات الهويات الثقافيه المختلفه في أي مجتمع.
ولكن من جهة أخرى تعرضت وجهة نظر هذه للنقد من حيث أن مثل هكذا حقوق وهكذا قوانين قد تؤدي في النهايه الى إنتهاكات لحقوق الإنسان الأساسيه وإنتهاك حقوق المرأه في حالة الإقرار بقانون يبيح تعدد الزوجات أو قانون يسمح بالطلاق التعسفي يعتبر مثالا جيدا هنا للأقليات المسلمه في الدول الغربيه, وكذلك الحال بالنسبه لحقوق الأقليات العرقيه, حيث أن منح حقوق خاصه بتلك الأقليات كاللغه وتعميم رؤيتها للتاريخ في مناهج التعليم قد يؤدي من جهته الى عدم الأستقرار السياسي وتفتت تلك الدول الى شظايا وتعتبر المشكله الكرديه في بعض الدول العربيه مثالا جيدا هنا أيضا.
خاتمه
تعتبر مسألة العولمه من أهم العوامل التي تحكم علاقة الثقافه بالسياسه مؤخرا, حيث أن تطور وسائل الإتصال بات يضع العالم كله في سله ثقافيه واحده أو ما يصطلح على تسميته بالقريه الصغيره ومن هنا فأنه يمهد لمعايير واحده للثقافه في العالم وبالتالي معايير واحده تسود في عالم السياسه, لا تزال الرؤيه غير واضحه حول مستقبل ذلك ولا زال الصراع بين الحضارات محموما, كيف سيكون شكل العالم السياسي في المدى المنظور؟ لا أحد يستطيع الآن أن يحكم, ربما من الأجدر أن نترك الإجابه للأجيال القادمه
Reference : Critical Concepts_ An introduction to politics / University of Alberta
Article by Yassmeen Abu Al Laban
#سومر_الياس (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟