|
النهضة في السلطة: قلبٌ لمعهود السياسة العربية
عزالدين عناية
الحوار المتمدن-العدد: 3532 - 2011 / 10 / 31 - 15:53
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
لما كتب الشيخ يوسف القرضاوي سلسلة كتبه "حتمية الحلّ الإسلامي" ذهب فيها مذهبا، لطالما تردّد في معرض أقواله وخطبه حتى شاع بين أطياف واسعة من الإسلاميين، مفاده أن الليبراليين حكموا بلاد العرب، ثم تلاهم الاشتراكيون، وكلاهما فشلا، باعتبار إثم كل منهما أكبر من نفعه، وقد آن الأوان لتبني حكم الإسلام فريضة وضرورة، وفق عبارته. وفي واقع الأمر أن الحركة الإسلامية في تونس، ممثَّلة في فصيلها الأكبر حركة النهضة، وفي عديد التيارات والأحزاب الأخرى ذات المنحى الإسلامي، قد قطعت شوطا بعيدا عن تلك المعادلة الوثوقية، التي طالما تلخّصت في مقولة "الإسلام هو الحلّ". وربما إن يحسب شيء للحركة الإسلامية في تونس فهو إيمانها المبكّر بمنهج الديمقراطية سبيلا للوصول إلى السلطة، والانتصار لها والترويج لها بين أوساط الإسلاميين، خارجا وداخلا، في وقت كان يُعدّ فيه تبني هذا المفهوم انحرافا عن الخطّ الإسلامي الأصيل بين كثير من الإسلاميين. فقد غلب إحساس جمعي بين فئات واسعة من المجتمع التونسي مفاده أن مقولة الدولة الدينية، وبالمثل مقولة الدولة العلمانية، كلتاهما من باب اللّغو والاغتراب عن قضية الناس الأساسية، المتلخّصة في مطالب العدالة والحرية والكرامة. وما كان هيّنا بلوغ تلك المنزلة في الإيمان بالديمقراطية الاجتماعية لولا حصول تطوّرات في الوعي الديني في تونس، قطع مع ثقافة سائدة في التعاطي مع الحقل الديني، استفحل فيها المنظور المانوي والاصطفاف، بين ديني ولاديني، وإسلامي وعلماني، وسلفي وحداثي. فلا شك أن المخيال السياسي الديني في تونس قد أدمن طويلا منظورين في التعاطي مع الدين، زعم كل منهما مشروعية فكرية وسياسية: نجد من جانب التجربة الاجترارية الدينية بصيغها وأشكالها المختلفة، التي هيمنت على أذهان العديد، ولم تبلغ حدّ نقد الطروحات وتبين الخطأ من الصواب، وهي تجربة طالما عانت من الاغتراب عن الواقع؛ ومن جانب آخر، نجد التجربة اللائكية الفرنكفونية، التي استحوذت على رؤى شق واسع من النخبة التونسية، وقد غلب عليها الترصّد الدائم بالدين والحيطة والحذر منه. إذ يتلخّص الخطأ الجسيم الذي ارتكبته النخبة التونسية بعد الاستقلال، وإلى حين سقوط بن علي، في التعامل مع الإسلام كدين كنسي، ولكن الصواب كان في التعاطي مع الإسلام كدين مدني قادر على الحضور في المبادرات الاجتماعية والدفع بها قدما. فبعد ذلك التطواف تبين أن ما يحتاجه الناس هو أن تُخلَّق تجربة واقعية في التعاطي مع الدين، خارج تلك المانوية السلفية واللائكية. لقد وعى العقل الجمعي أن حقبة ما بعد الثورة تملي على الديمقراطية التونسية الناشئة القطع مع تلك الثنائيات. ولذلك يبرز أكبر تحدّ للتيارات والأحزاب الوطنية، خروجها من عقديّة الرؤى إلى إعادة قراءة الواقع الاجتماعي، لاجتراح مسارات مطمئنة للناس، بعد أن تبين أن ما يحتاجه المرء اليوم ليس الخطاب الديني الذي حصر نفسه بين حدود الحرام والحلال، وليس الخطاب الذي همّه مسْحنة الإسلام ومحاصرته داخل أقبية المساجد، بل التعامل مع الظواهر والوقائع برؤى عقلانية وعلمية تعود على الناس بنفع. اليوم فازت حركة النهضة في انتخابات المجلس التأسيسي، وبنسبة فارقة. وهو تصدّر لم يفاجئ المتابعين عن كثب للواقع السياسي التونسي بعد الثورة أو قبلها، لكن تبدو المهمة الثقيلة التي تنتظر تلك الحركة التوفيق في السير بتونس خلال هذه المرحلة الانتقالية الحساسة. فالتحديات جمة، داخلا وخارجا، خصوصا وأن حركات إسلامية أخرى جرّت بلدانها، أكان انحرافا منها أو بضغط من الخارج، إلى ما لا يحمد عقباه. وبموجب استحقاقات الانتخابات الديمقراطية سيتحوّل قادة حركة النهضة من المنافي والسجون والمتابعة والمحاصرة إلى أروقة السلطة، ولكن ذلك ينبغي ألا يُعمِ من أُلقيت على عواتقهم تلك المهمة عن سلوك مسلك الانفتاح على كافة الأحزاب والأطراف التي ارتقت ديمقراطيا إلى المجلس التأسيسي، وربما حتى التي تخلّفت منها، مثل عديد التجمعات اليسارية والقومية. وقد بادرت حركة النهضة فعلا في هذا التمشي، وهو مسار مستجدّ يتنافى مع الصلابة العقائدية التي عودتنا بها بعض الحركات الإسلامية التي ارتقت إلى السلطة. فهناك انتصار داخل النهضة للمشاركة الجماعية في تحمّل المسؤولية الوطنية بعيدا عن الاكتساح المتفرّد لمفاصل السلطة. وهو تقليد مستحدَث في العمل السياسي في البلاد العربية يقطع مع التفرّد في القيادة والتسيير وذلك بنقل الفعل السياسي من طور الغنيمة إلى طور المسؤولية والمشاركة والكفاءة. وبرغم ما للأستاذ راشد الغنوشي من كاريزمية هائلة في حركة النهضة، لما للرجل من سلطة معرفية وسياسية على أتباعه، فإن ذلك لم يحد من اجتراح مسارات جديدة، سياسية وفكرية وعملية، داخل حركته تجذب لتحويلها من حركة إسلامية إلى حركة شعبية، وهذا يبديه الانفتاح نحو الكفاءات الوطنية، والتجاوز للانتماءات الحزبية والمواقف الإيديولوجية الضيقة. ذلك أن طبيعة المجتمع التونسي تستدعي السير في هذا المسار، فجماعات التكنوقراطيين والكفاءات والقدرات ولئن تواجد نصيب وافر منها بين أنصار حركة النهضة فخارجها هم أوفر. كما أن تلك الجماعات هي في جلها تربّت في حضن النظام السابق أو في عهد سلفه الحبيب بورقيبة، وذات تكوين فرنكفوني غربي بالأساس ولها منزع علماني. ولكن سلامة إبحار المركب التونسي لا ترتهن إلى صواب التمشي الداخلي فحسب بل إلى توازن حصيف في التعاطي مع العوامل الخارجية أيضا. فلا شك أن حركة النهضة تربطها وشائج حميمة بكثير من حركات الإسلام السياسي، العاملة في البلاد العربية وخارجها، ولكن هذا، ينبغي ألا يعمي عن إدراك أن جلّ هذه الحركات، إن لم نقل كلّها، مغضوب عليها في الغرب، وبالتالي ينبغي ألاّ تضحّي القيادات النهضوية بعلاقات تونس القويّة بالغرب، لأجل مناصرة أو دعم هذه الحركات، أكان قولا أو فعلا. وتونس مقبلة هذه الأيام على صياغة دستورها وتلمّس طريقها نحو مجتمع ديمقراطي منشود لا يسعنا إلا أن نذكّر بقول المفكر السياسي الإيطالي ماورِيتسيو فيرولي: "ليست النظم الدستورية، ولا حتى أفضل القوانين، كافية وحدها للدفاع عن الجمهورية من السلطوية ومن الفساد، إن لم يكن مواطنوها يتمتّعون بتلك الحكمة الخاصة عبر إدراكهم أن مصالحهم الشخصية لا تنفصل عن المصلحة العامة؛ وبتلك الروح الكريمة وبالطموح الصحيح اللذَين يدفعان المواطنين دفعا للمشاركة في الحياة العامة، علاوة على تمتعهم بالقوة الداخلية التي تمنحهم الإصرار على مقاومة المتغطرسين الراغبين في قمع الآخرين". أستاذ تونسي بجامعة لاسابيينسا في روما
#عزالدين_عناية (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حركة النهضة ومستقبل تونس السياسي
-
الثورات وهويّة المسيحية العربية المصادَرة
-
ما كان المسيح للطاغين ظهيرا
-
المسيحية العربية تكتشف لاهوت الثورة
-
الكنائس والحراك الثوري في سوريا
المزيد.....
-
إضراب مفتوح للمحامين المغاربة احتجاجا على -الردة التشريعية-
...
-
فرحي أطفالك نزلي تردد قناة طيور الجنة بيبي بأعلى جودة بعد ال
...
-
“أغاني ممتعة طول اليوم” بجودة HD استقبل تردد قناة طيور الجنة
...
-
إشارة قوية ومحتوى جديد .. خطوات استقبال قناة طيور الجنة بيبي
...
-
هاريس تغازل المسيحيين والعرب في ختام حملتها
-
زمان يسرائيل: الفجوة الصحية بين العرب واليهود في إسرائيل مثي
...
-
لبنان: نازحون مسيحيون من القرى الجنوبية يأملون بالعودة سريعا
...
-
أغاني منوعات وأناشيد للبيبي على تردد قناة طيور الجنة 2024
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة هامعلاه بصلية صار
...
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مستوطنة يسود هامعلاه بصلي
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|