|
السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق
ميثم الجنابي
(Maythem Al-janabi)
الحوار المتمدن-العدد: 1048 - 2004 / 12 / 15 - 10:39
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
"إن تصاعد وازدياد الدعوات المتكررة عما يسمى "بالسلام القومي" و"المصالحة الوطنية" في العراق بعد أربعة عقود من غيابهما الفعلي، هو بحد ذاته مؤشر على ارتقاء الوعي السياسي والاجتماعي صوب البحث عن مساومة تاريخية تطوي أحد أكثر واكبر الفصول درامية ودموية في تاريخه المعاصر. لكنها شأن كل فعل له علاقة جوهرية بالمستقبل، يفترض تأسيسا عقلانيا ووجدانيا له من اجل المساهمة في إرساء أسس السلام الحقيقي والمصالحة الوطنية الفعلية. وإذا كان السلام هو النفي المباشر وغير المباشر للحرب، فان انتفاء الدكتاتورية والتوتاليتارية يشكل بحد ذاته أحد الشروط الجوهرية لتحقيق "السلام القومي" في العراق، بمعنى السلام بين القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد. وهي عملية لم تعد لها علاقة بالدكتاتورية، بقدر ما لها علاقة بمخلفاتها ونماذجها المحتملة والكامنة في القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد نفسها. بعبارة أخرى، إن الامتحان التاريخي للسلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق اليوم هو المحك الفعلي لحقيقة ومستوى إدراك الأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية الممثلة لهذه القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد. كان "السلام القومي" سابقا رهينة "النخب السياسية" في السلطة والمعارضة، بينما الآن هو ميدان الفعل المباشر للأحزاب السياسية والحركات الاجتماعية والفكرية جميعا. وهو أمر يفترض بدوره الارتقاء إلى مستوى إدراك حقيقة "السلام القومي" في العراق على انه سلام اجتماعي أولا وقبل كل شئ. فالعراق لم يعرف من حيث الجوهر "حرب قوميات"، كما لم يعرف "حروبا دينية" و"طائفية". فقد كان "الصراع القومي" يدور أساسا بين السلطة الحاكمة وبين قوميات العراق جميعا. فقد كانت السلطة الحاكمة وبسبب طابعها التوتاليتاري والدكتاتوري في صراع شامل مع الكل. وبزوالها زال الحاجز المباشر بين القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد، أي زال "القاسم المشترك" الذي كان "يوحدها" للحرب ضد السلطة. مما دفع بدوره وسوف يدفع قوى جديدة للاشتراك الفعال من اجل تجسيد رؤيتها "للسلام القومي" و"المصالحة الوطنية". وهو أمر طبيعي، كما أن من الطبيعي اختلاف وتعارض وتنافر "المشاريع" المحتملة بهذا الصدد. لاسيما وان التاريخ السياسي للعراق المعاصر لم يعرف تقاليد المساومة السياسية العقلانية ولا تقاليد الإجماع الديمقراطي. وليس غريبا أن نسمع عبارات مثل "دكتاتورية الأغلبية"، ومحاولة تأسيس البديل لها بممارسة "فيتو الأقلية" وما شابه ذلك من الظواهر التي تشير إلى تنامي الصراع الاجتماعي والسياسي والفكري والقومي من جهة، كما انها تعبر عن "صحوة" واندفاع طبيعي للروافد الصغيرة في مسارها المتعرج صوب الأنهر الكبيرة والبحار. الا انه لا جبرية في هذا المسار. بمعنى أن "الطبيعي" قادر أيضا على التخريب والتدمير كالفيضان المصاحب لاندفاع الروافد الصغيرة. مما يفترض بدوره بناء السدود الواقية من اجل تحويل القوى الهائجة صوب المنفعة لا المضرة. و"السلام القومي" هو النتاج الممكن لعقلنة الهيجان القومي من جانب "الاقليات" في العراق. لاسيما وأنها تتحسس وتعي أيضا كل ما جرى في العراق من زاوية قومية أو عرقية. وهي حالة أصابت وتصيب العرب أيضا كما نلاحظه في "مظاهر" الانقسام المفتعلة على أسس طائفية. كل ذلك يشير إلى المخاطر الكامنة في القومية الضيقة والعرقية العنصرية. بعبارة أخرى، إن انحلال "القاسم المشترك" في صراع القوميات والأعراق والطوائف والأديان والعقائد الذي كان ساريا لفترة طويلة بينها وبين السلطة، مازال يحتمي في خبايا الوعي السياسي والنفسية الاجتماعية عند أوساط كبيرة. مما يجعل البحث عن مخارج لهذا الصراع الكامن من خلال بناء منظومة سياسية اجتماعية حقوقية للدولة الأسلوب الوحيد الفعلي للسلام القومي. بعبارة أخرى إن حقيقة "السلام القومي" في العراق هو السلام الاجتماعي والوطني. وذلك لان "السلام القومي" في حال إبقائه ضمن "القومية" هو عبارة أدبية وبالتالي خطابية وغير قادرة على إرساء أسس الرؤية العقلانية في الموقف من السلام الحقيقي في المجتمع والدولة. وهو أمر يدفع جملة من الأسئلة الضرورية بالنسبة لتحقيق السلام القومي في العراق مثل، هل هو سلام قوميات أم سلام وطني؟ وكيف يمكن تأسيسه سياسيا؟ وعلى أية علاقات اجتماعية اقتصادية يمكن إرساءه؟ وما هي حدوده المفترض في الدولة والمجتمع؟ وما هي أسسه المؤقتة والدائمة؟ وما هي مرجعياته الكبرى؟ وهل يمكن تثبيت حدوده في قانون؟ وهي أسئلة يستحيل الحصول على أجوبة "جامعة مانعة" يتفق عليها الجميع بسبب تباين القوميات في العراق. ذلك يعني أن الإجابة الممكنة لا يمكن العثور عليها في الرؤية القومية الضيقة أو "الخالصة". مما يفترض بدوره البحث عن إجابة لها على مستوى يتجاوز الرؤية القومية الضيقة والعرقية. وليس هناك من مستوى آخر في ظروف العراق الحالية غير مستوى الرؤية الوطنية العراقية. بمعنى الرؤية المؤسسة على قاعدة ومفهوم الوحدة السياسية الثقافية للعراق. فهو المفهوم الوحيد القادر على بناء منظومة متجانسة من الناحية السياسية من خلال إرساء أسس الوحدة الاقتصادية والاجتماعية لمختلف القوميات والأعراق والطوائف مبنية على أساس حقوق المواطنة والعدالة أمام القانون. وهما أساسان يحتويان على تلوين وتمكين دائمين للمساومة والممازجة بين المؤقت والدائم في القانون والحق، حال بروز أي من الخلافات الممكنة على كافة الأصعدة والميادين. أما المرجعية النظرية الكبرى لذلك فتقوم فيما ادعوه بفكرة الاستعراق، بوصفها فلسفة الهوية الوطنية العراقية. وهي هوية ثقافية سياسية وليست قومية ضيقة أو عرقية. وذلك لان أية محاولة تقف بالضد أو خارج مكونات العراق التاريخية الثقافية تؤدي في نهاية المطاف إلى خلخلة أوزانه الداخلية. وهي أوزان ثقافية من حيث الجوهر. أي أن أية محاولة "قومية" أو "عرقية" أو "طائفية" أو "دينية" أو "عقائدية" في إعادة تقسيمه أو انتزاع جزء منه أو بناء نظامه السياسي عليها، تحت أية حجة كانت، سوف تؤدي بالضرورة إلى إثارة ردود فعل مشابهة من حيث مظاهرها "القومية" و"العرقية" و"الطائفية" و"الدينية" و"العقائدية"، مع ما يترتب على ذلك من انحدر اتعس مما كان يميز الصيغة المتخلفة والدموية لصراع السلطة الحاكمة مع "الاقليات". وهو أمر يتنافى مع مجمل الحكمة التاريخية للعراق. كما انه مؤشر على أن القوى القائمة وراء هذه التصورات والأعمال لا علاقة جوهرية لها بالعراق بوصفه كينونة تاريخية ثقافية. إن إدراك هذه الحقيقة يؤدي أولا وقبل كل شئ إلى الانفتاح على النفس، ومن خلالها على الآخرين. وهو الأسلوب الوحيد القادر على بناء مؤسسات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. ذلك يعني أن مضمون الاستعراق هنا يتطابق مع أيديولوجية الوطنية الكبرى، المبنية على أساس الوطنية الثقافية، القائلة، بان العراق ليس تجمع أعراق، بل وحدة تاريخية ثقافية. وهي وحدة لها أسسها الخاصة وممكنة التحقيق في ظروف العراق الحالية في حال وضعها ضمن المسار العام لما ادعوه بمعاصرة لمستقبل. أي أن تكون مرجعياته مستمدة من الرؤية الثقافية البديلة، وليس من حثالات التاريخ المنقرض. وهي مرجعيات ممكنة التحقيق في حال تذليلها طموح الطابع الجزئي لمكونات وعناصر القومية والعرقية والمذهبية في الوعي السياسي والاجتماعي والقومي. مما يفترض في ظروف العراق الحالية التحرر من قواعد اللعبة السياسية واليات طموحها النفعي الضيق، كما نراه الآن عند اغلب الأحزاب السياسية العراقية الحالية، "القومية" منها و"الأممية"، الدينية والدنيوية. إذ عوضا عن أن يجري التعامل مع الأشكال المتنوعة للعمل السياسي من اتفاق واختلاف ومهادنة ومساومة على انها أساليب سياسية ضمن المسار العام الهادف لترسيخ قواعد الحياة الديمقراطية، فإنها تصبح جزء جوهريا في لعبة المؤامرة والمغامرة. فهي أساليب لا تؤدي في نهاية المطاف الا إلى تأجيج مختلف أنواع الصراعات اللاعقلانية والمخربة لبنية الحق والقانون والمواطنة. ومن ثم إلى الخروج على منطق الهوية الثقافية للعراق وعلى مكونات وجودها الجوهرية. أما النتيجة الحتمية لذلك، فإنها تؤدي إلى الخروج على الحكمة الثقافية والسياسية لتاريخ العراق، وبالتالي الخروج على القانون بالمعنى التاريخي والثقافي والحقوقي أيضا. وفي النهاية تفشل حتى في صنع "سلام قومي" بارد. وهو الأمر الذي يجل من الضرورية ترسيخ أسس منظومة السلام الوطني في قانون هو الدستور عينه. فالدستور هو "قرآن" الدولة العصرية والنظام المدني. انه حصيلة الماضي والحاضر والمستقبل، وفيه تتراكم شروط وآفاق التطور الشامل للدولة والمجتمع. وإذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصية وحجم الانتهاك الهائل للحق والحقوق في التاريخ العراقي المعاصر، وانعكاسها المباشر وغير المباشر في العلاقة بين القوميات والأقوام والطوائف في العراق، سيتضح أيضا حجم وخصوصية الأهمية القصوى له. مما يفترض بدوره صياغة دستور متزن وثابت في مبادئه العامة عن الدولة الشرعية وسيادة القانون والنظام الديمقراطي والحرية وحقوق الإنسان. بمعنى ارتكازه على أسس الوطنية الكبرى والمواطنة والعدالة والحق المتمثلة أيضا لتجارب للأمم المتقدمة بهذا المجال. وذلك لان الدستور هو مشروع كبير وعام وكلي، ولا مكان للقومية الضيقة والعرقية والطائفية والجهوية فيه بأي شكل كان من الأشكال. وذلك لأنها "قنابل موقوتة" قابلة للانفجار والتشظي الدائم على المستوى المحلي والعراقي العام. كما انه لا ينبغي أن يتضمن أي مشاعر أو رؤية "للأقلية" و"الأغلبية"، بل أن يكون متجانسا في تأسيس حقيقة الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. إن هذه الأجوبة العامة على الإشكاليات القائمة أمام تحقيق "السلام القومي" هي المقدمة الضرورية لتجسيد "المصالحة الوطنية". فهي الأجوبة التي ينبغي أن تضع حدا للصيغ المشوهة في البحث عن "نسب واقعية" "للمكونات الأساسية" في العراق. فالمصالحة الوطنية الحقيقة لا يمكن بنائها عاى أساس "المحاصصة". لانه اسلوب لا يمكنه أن يرسي الاسس العقلانية للدولة والمجتمع والسلام والقومي والمصالحة الوطنية، لأنه ليس اكثر من "عقلنة" مزيفة لصيغة مشوهة عن "النسب" القومية الطائفية. أما نتيجتها النهائية فهي ذهاب الجميع إلى المحرقة. بمعنى الانتفاء الذاتي للحركات السياسية الممثلة لهذا الاتجاه. كل ذلك يضع أمام الفكر السياسي العراقي مهمة التأسيس العقلاني لفكرة السلام القومي والمصالحة الوطنية ضمن معايير الرؤية العقلانية عن الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي والمجتمع المدني. بمعنى النظر إلى مضمون السلام القومي والمصالحة الوطنية في العراق باعتبارها مهمة بناء جديد للدولة والمجتمع والنظام على أسس ومرجعيات كبرى تتجاوز ضيق الرؤية القومية والعرقية والطائفية والجهوية. وهو بديل ممكن على أساس منطق الرؤية الكلية، أي منطق الرؤية السياسية الثقافية. ***
#ميثم_الجنابي (هاشتاغ)
Maythem_Al-janabi#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المؤقتون القدماء والجدد
-
المعارضة والمقاومة – المفهوم والغاية
-
الإرهاب والمخاض التاريخي للحرية في العراق
-
المهمة التاريخية للمثقف العراقي
-
علماء السوء – التدين المفتعل والسياسة المغامرة
-
تأجيل الانتخابات ونفسية المصلحة السياسية
-
معارك المدن العراقية - الأبعاد الوطنية والاجتماعية
-
تأجيل الانتخابات أم تأصيل المغامرات
-
خذ ما تراه ودع شيئا سمعت به في طالع الشمس ما يغنيك عن زحل
-
أدب التصوف
-
اسلام الشرق و الشرق الاسلامي
المزيد.....
-
-أخبرتني والدتي أنها عاشت ما يكفي، والآن جاء دوري لأعيش-
-
لماذا اعتقلت السلطات الجزائرية بوعلام صنصال، وتلاحق كمال داو
...
-
كيم جونغ أون يعرض أقوى أسلحته ويهاجم واشنطن: -لا تزال مصرة ع
...
-
-دي جي سنيك- يرفض طلب ماكرون بحذف تغريدته عن غزة ويرد: -قضية
...
-
قضية توريد الأسلحة لإسرائيل أمام القضاء الهولندي: تطور قانون
...
-
حادث مروع في بولندا: تصادم 7 مركبات مع أول تساقط للثلوج
-
بعد ضربة -أوريشنيك-.. ردع صاروخي روسي يثير ذعر الغرب
-
ولي العهد المغربي يستقبل الرئيس الصيني لدى وصوله إلى الدار ا
...
-
مدفيديف: ترامب قادر على إنهاء الصراع الأوكراني
-
أوكرانيا: أي رد فعل غربي على رسائل بوتين؟
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|