|
انعكاسات الحرب والدمار على أهل الهوى
طلعت رضوان
الحوار المتمدن-العدد: 3530 - 2011 / 10 / 29 - 11:35
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
عانى الشعب اللبنانى على مدار15 سنة (1975- 1990) من الدمارالمادى الذى لحق به نتيجة الحرب الأهلية التى شنتها فرق لبنانية مسلحة ضد بعضها البعض . ثم تكتمل المأساة بغزو إسرائيل للأراضى اللبنانية فى يونيو82 ، فبات الشعب اللبنانى بين شقىْ الرحى : جيش إسرائيلى محتل من جهة ، وفرق لبنانية متناحرة من جهة أخرى . وكانت النتيجة أن ضحايا الحرب الأهلية المجنونة والغزو الإسرائيلى هم أبناء الشعب اللبنانى العاشق للحرية ، المحب لبهجة الحياة ، المفتون بالرقص والغناء والمرح ، فإذا به يعيش فى كابوس القتل والعنف والدماء . ووفق هذه المتوالية ، انعكس الدمارالمادى على الروح اللبنانية ، فانتشرت حالات الكآبة والمرض النفسى . ***** كيف للمبدع الذى يعيش فى أتون آلة القتل والدمارالجهنمية أن يُعيد صياغة هذا الواقع اللاواقعى ؟ من أى منظورترى عيناه جنون وحماقة رؤساء الدول وزعماء الميليشيات المسلحة الذين يقتلون الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ ؟ أعتقد أن إعادة صياغة هذا الواقع العبثى مهمة لايقدرعليها إلاّ مبدع يمتلك ملكة الإبداع من جانب ، مع حس إنسانى رفيع من جانب آخر، لذلك عندما قرأتُ رواية الروائية اللبنانية هدى بركات (أهل الهوى) الصادرة عن دارالنهارفى بيروت عام 1993 وأعادت الهيئة العامة لقصورالثقافة المصرية طباعتها عام 1999 ، أدركتُ أننى أمام مبدعة من طراز رفيع . ***** تبدأ الرواية بقتل البطل لمحبوبته التى عشقها لدرجة الجنون . ورغم ذلك فإن هذا البطل نموذج للإنسان الرافض للحرب ولكل أشكال القتل والعنف . فلماذا قتل حبيبته إذن ؟ إنه سؤال يتعلق بإشكالية فنية حول التركيبة النفسية والعقلية للبطل . فهل قتلها قتلا ماديًا حقيقيًا ليُخلصها من شرورالتنظيمات المسلحة التى تقتل الأبرياء ؟ أم أنه قتلها قتلا معنويًا كرغبة دفينة لخوفه عليها كما أباح لنفسه فى آخرصفحة من صفحات الرواية ؟ (ص 202 من طبعة هيئة قصور الثقافة المصرية) . تضع المبدعة مفاتيح شفرات الغموض الفنى بشكل يبدو عفويًا ومتناثرًا فى كل صفحات الرواية . ففى لحظة من لحظات الوداع بين الحبيبين يقول البطل أنه كان يتمشى معها فى رواق زينون . وفى هذه اللحظة ((كنا نزدوج ونرى أنفسنا ونرى الحزن على أنفسنا . أنا وهى وزينون فى الرواق ومعنا جميع الأبطال فى فيلم الوداع الوحيد . ومعنا الغرام فى حشرجاته الأخيرة)) (ص 55 ، 56) فمن هو زينون الذى يمشى مع الحبيبين ؟ أحسنت المبدعة عندما تركت للقارىء الكشف بنفسه عن شخصية زينون الفيلسوف اليونانى (336- 264 ق. م) مؤسس المذهب الرواقى المتأثربمدرسة الكلبيين التى أسسها أنتستين ومذهبها أن الفضيلة هى وحدها الخيروما عداها جديربالازدراء . ثم جاء زينون وحاول أن يضع لمذهبهم الأخلاقى أساسه الميتافيزيقى والمنطقى . يرى الرواقيون أن الحقيقة مادية تسودها قوة تُوجّهها . وما دامت الطبيعة تسيروفق العقل ، فمن الحكمة أن يسيرالإنسان وفق الطبيعة منصرفًا عن ميل العواطف والأفكارالتى تحيد عن جادة القانون الطبيعى . وأن حرية الإنسان مرهونة بأدائه لواجبه فى اقتفاء الطبيعة وقوانينها. وقد أصيب زينون فى أواخرحياته بمرض تعذرعلاجه فانتحر(لمزيد من التفاصيل : أنظر الموسوعة العربية الميسرة – ط عام 1965 ص 883 ، 940 ، 1471) من هذا الربط بين شخصية البطل وشخصية الفيلسوف اليونانى زينون ، يكون من اليسيرعلى القارىء فهم تصرفات البطل التى تبدو- على السطح- متناقضة ، ولكنها وفق علم النفس الاجتماعى تكون متسقة مع الواقع العبثى الذى يستحل دماء الأبرياء . البطل الذى يرفض الحرب يُعايره أحد أفراد الميليشيات المسلحة لأنه لايحمل السلاح مثل باقى القتلة . ويرفض حجج المسلحين ((الذين يوسعوننا إهانة ونهبًا وقتلا)) (ص 151 ، 158) وعن الواقع الاجتماعى نتيجة الحرب الأهلية قال ((لسنا فى معسكرات اعتقال ، إنها أمكنة تعودناها . ونعرف أن لاعوض عنها)) وعن المسلحين الذين يخطفون الأهالى الأبرياء الذين لايُشاركون فى هذه الحرب الأهلية المجنونة قال عنهم ((يقولون إننا ضحايا . إننا ضحاياهم . وإننا الإصبع التى تُشيرالى جرائمهم وقسوتهم)) (ص 164) ومع السطورالأولى نعرف مأساة هذا البطل الذى خطفه مسلحون ينتمون لإحدى الميليشيات . وبعد الخطف تعرّض للتعذيب (ص 28) وتتفاقم المأساة أكثرعندما يكتشف أنه ومن معه من المخطوفين سوف يتم تبادلهم مع مخطوفين لدى إحدى الميليشيات المعادية (ص33) هنا تكون المبدعة قد صعّدت التراتب والتوترالدرامى ، ويكون الايحاء أبلغ من الافصاح . إذْ أن تبادل المخطوفين من شعب واحد ، بواسطة ميليشيات تنتمى لهذا الشعب ، يستدعى قانون التداعى الحر، ليُقرن ذلك الفعل الهمجى بين أبناء الشعب الواحد ، بما تفعله الدول المتحاربة أثناء أو بعد انتهاء القتال . وتبعًا لذلك تكون رسالة المبدعة (من خلال اللغة الفنية وحدها) أن أبناء الشعب الواحد تحوّلوا الى أعداء ، ليس هذا فقط ، بل إن الوطن اللبنانى ينقسم وينشطرمثل الكائنات الحية ذات الخلية الواحدة ، مع مراعاة الفارق بين الخلايا العضوية التى تفتقد العقل والتاريخية ، والمعنى العلمى والتاريخى لمفهوم الوطن . لذلك لم يكن البطل مغاليًا عندما رأى أن يبتعد عن باقى أفراد الشعب اللبنانى المستسلم لجنون الحرب الأهلية فقال ((أبتعد عنهم وأنساهم . وأنسى أنى أشبههم . لأنسى اشتباك جسمى فى أجسامهم وضياعه فيها . وفى مثولهم أمام غضب الرب كماشية أنزل فيها قصاصه . كماشية من الخراف الضالة . هؤلاء الذين فى الخارج كانوا الأبرار الذين يفعلون ما يطلبه منهم الرب ويُطيعونه فى السلم كما فى الحروب الأهلية)) ويظل يُردد نحن النعاج الضالة .. النعاج المباركة))(43 ، 44) ومع تصاعد الحرب الأهلية واستمرار القصف المتبادل بين الفرق اللبنانية المتناحرة ، تتصاعد الحالة العقلية للبطل فيُحدّث نفسه عن ((الشعوب التى تجعل من قدرتها على البقاء علفًا لمخيلة شعوب الغاب والخضرة.. سمادًا لغريزة البقاء المباركة.. ودرسًا لأذهاننا الغليظة الكسلانة البطرانة.. شوف شعوب الحروب الأهلية)) ولكنه لايكتفى بإدانة هذه الشعوب المستسلمة ، وإنما يربط هذا الاستسلام بالموروث العربى والعبرى فيقول بعد الجملة الأخيرة مباشرة ((شوف النبى أيوب كيف يُعيد الى جرحه الدودة التى ، متخمة تقع عنه)) (ص 89) وهو يرى أن الشعب اللبنانى يتميّز بحدة الذكاء ، فماذا حدث لهذا الشعب الذى تحوّل أطفاله الى ضحايا . وحتى البذرة فسدت فى الأرض . وكلما ازداد عدد القتلى والمشوهين والمخطوفين ، ازدادت كراهية البطل لهذا الواقع اللاواقعى ، فترى أخته أن مكانه الطبيعى مستشفى للأمراض العقليه ، وعندما خطفه المسلحون قال لنفسه ((أقعد لوحدك أنت المعذب المخطوف . خذ وقتك . كن شاهدًا على العنف)) فقال له طبيب مخطوف معه ((أنت الذى يتفجّرجسمك عنفًا . ويشتعل رأسك بذكرى القتل . ورغبة تكراره بلا حدود أو نهاية . إرسم ولوّن)) وبالفعل يرسم ((أرسم حمامة بيضاء ، تتدلى من جناحها نقط حمراء . وغصن أخضر. سنُحمّمك ونُمشط شعرك . وسنعمل لك معرضًا كبيرًا)) (ص 106) هذا البطل الذى يتخيل أن الفيلسوف زينون الرواقى يمشى معه ، يتذكرالهاربين من القصف العشوائى بين الفرق المتناحرة. كانت السيارة ممتلئة بالناس الهاربين من جحيم القصف . وفيها امرأة لاتتوقف عن الصراخ . والآخرون بين البكاء شفقة عليها ، والخوف من أن يسمع صراخها رجال إحدى الميليشيات المسلحة . كان زملاؤها فى السيارة يقولون لها ((أشكرى ربك.. فقد سلم الباقون)) وكان تعليق البطل ((لم أسمع شيئًا . الآن أتذكرأن المرأة كانت تصرخ لأن ابنها الرضيع سقط منها وهى تصعد السيارة التى لم تنتظر . تركته هناك)) (ص 73) . وحالة البطل العقلية والنفسية التى يراها (العقلاء) أنها حالة مرضية تستوجب وضعه فى مستشفى للأمراض العقلية ، تتوازى مع الواقع العبثى المفروض على الشعب اللبنانى ، فيقول البطل فى خواطره : لم تعد تكفى خطط القناص الفردية التى تخترق هذا القانون اختراقًا ، إذْ سُدتْ على القناصة المغامرين كل سبل التعكير. وصارالأمريحتاج الى وابل من القذائف والصواريخ ، أى الى قرارعسكرى يتّخذه جيش منظم . لم يعد قانون الساحة المفرغة للعابرين تحت الضوء الساطع يحتمل رعونة الصدفة أو دلع الفوضى ، تلك التى تحكم ساحات القرى (ص137) . إزاء مشاهد القتل التى راح ضحيتها الأبرياء ، فإن العنف يُولد العنف المضاد ، لذلك فإن السيدة (حنة) بعد أن فقدت أخويها راحت ترقص وتزغرد رافضة دفنهما قبل أن يحملوا لها جثتىْ قتيلين من الأعداء (ص 141) ويكون من المنطقى أن يبدو بطل الرواية (المتهم بالجنون) أكثر تعقلا وفهمًا لما يحدث فيقول عن وضع الأبرياء بين الفرق المتناحرة ((هنا وهناك حال واحدة.. جهنم واحدة. وأن لكل جهنمه التى يُسلق فيها. فإن لها شاشة التليفزيون . وقناة المنطقة الأخرى . تتفرج عليها كيفما ومتى تشاء. ننتقل بين القنوات المتكاثرة كالبهلوانات . كالفراشات بين رحيق الكراهية المتنوع الطعم . وأن شمس الرب لم تستطع أن تلحق بإيماننا المشتعل . وأن التليفزيون يبث الأحاديث لأحد قديسى الفيديو الذين لايرتجفون إلاّ على شاشتنا ، أمام كاميراتهم الصغيرة بتقنياتها البدائية الى لاتُقيم وزنًا للشكل . كيف يكون للشكل أى وزن والروح هى التى تتكلم الآن اليك دون جسدها . هؤلاء فراخ القداسة الصغارالذين تفقسهم مكنات الأوطان الصغيرة التى لاحيلة لها سوى انفجارالشكل . هؤلاء الذين نسوا أمهاتهم . الشخص المقدس يتحدث فى التليفزيون ويشكرالحزب أو التنظيم الذى دله على الطريق . والدرس النهائى عند هذا الشخص المقدس لايقبل المراجعة أو التصحيح أو التعديل . ولايفيد من الوقت وحكمته إلاّ رسوخًا على رسوخ ويقينًا على يقين . الشخص المقدس لايتلعثم مرة أو يتردد أو يقف متنكرًا ولايتوقف عن الابتسام . والشخص المقدس يرى نفسه أنه الشهيد الذى يُكلم الشعب ويعتذرلأمه لأنه لم يوّدعها ، والسبب أنه لايستطيع أن ينفصل عن أصحابه المسلحين القتلة . ولأنه مؤمن بما يفعل يقول إنه سيهرق دمه . ويكون دمه المادة الأولية للسعادة (من 155- 158) والبطل المتهم بالجنون هو الذى يرصد الواقع اللاواقعى فيقول ((لقد عبّأوا الكل فى علب الفيديو. أعطوها لسواق ماهر. قالوا له وزعها على مبانى التليفزيون والإذاعات وعلى كل وكالات الأنباء الأجنبية . وعد قبل أن تسخن البيرة وتبرد حسرة الأعداء . وقبل أن تتصل الأحزاب الزميلة وتفاوضنا على انتاج الكاسيتات (ص 159) . فى هذا الواقع اللاواقعى يرى البطل أنه يفيض ويفورعلى العالم كحليب مبارك ((فقد مُنُحتُ الغفران . النعمة أن تنبع البذورفى رطوبة نفسى وتنمو وتُزهروتُثمر. فنقطف ونأكل الثمرة فندخل الجنة . نأكل الثمرة فندخل الجنة . نعود اليها بالاستحقاق والجدارة المناسبين . أمشى أفتح ذراعى كيوحنا وأغنى ويخرج ذهب كثيرمن فمى . واذا كان الواقع عبثيًا فمن المنطقى أن تتوازى معه عبثية خواطرالنفس ، فيرى بقرة فيعتقد أنها مرقطة بالأبيض والبنى ، وفجأة يقول لا. إنها بقرة صهباء (من 9- 11) بل إن عبثية الواقع هى التى نحتت خواطره فيقول ((أريد أن أعرف الآن ، ماذا تفعلون والشرورتسيرفى شوارعكم والأزقة كسيول البراكين . سوف تبادون عن بكرة أبيكم . أنا المسيح المهدى لن أبقى ولن أذر. طوفان من النار والكبريت وأمحقكم . ورحت أصرخ : الله أكبر. الله أكبر. سأقيم العدل (ص 81) ولم يكن بطل الرواية هو وحده الذى انعكست عبثية الحرب الأهلية على حالته العقلية والنفسية ، فلجأ الى الموروث الدينى ، وإنما شاركه زميله فى المستشفى (جابر) الذى حكى له الحلم التالى ((كنتُ أحصد القمح فى خراج قريتى . فجأة سقط ليل كثيف . وجدتُ نفسى وحدى على تلة عالية . ثم انشقت السماء عن نورقوى . وشاهدتُ السيدة مريم تنزلق فيه الىّ . ركعتُ خاشعًا أطلب الغفران . لكنها نادتنى باسمى ومدّت لى يدها . مددتُ يدى . وحين لمستْ أطراف أصابعى أصابعها ، كانت القبة التى أركع عليها كل ما بقى مـــــــن العالم . ولم يتبق تحتى سوى هوة هائلة من الفراغ . ومن ذلك الفراغ العظيم راحت تصعد موسيقى جميلة وقوية ، تشتد وتتعاظم . ثم استيقظتُ غارقًا فى بولى وفرائصى ترتعد من الهلع والفرح)) ثم طلب من الراوى أن يُفسرله هذا الحلم فردّ عليه أى عذراء مريم يا جابر؟ إن أحدًا لايمكن أن ينزع من رأسى إيمانى العميق بأنى أستطيع أن أفعل شيئًا لأنهى الحرب . لا أقول أخلص العالم ، ولكن أنهى الحرب فقط (81 ،82) . هذا الإنسان الكاره للحروب ، كان من الطبيعى أن تتسق شخصيته مع شخصية أبيه وتناجى روحه روح هذا الأب . لماذا ؟ لأن أباه كان يعشق الغناء . تأثرالابن بأبيه فعشق الحياة من خلال عشقه للغناء ، وعندما كان يضبط الايقاع ((يخرج صوتى من بدنى الملفوف على شكل وردة)) (16 ،17 ، 32) هذا الإنسان العاشق للحياة وللغناء ، تربطه المبدعة بشخصية (سمعان) صديق الراوى . سمعان يعتنق ((دينًا كونيًا)) ويتمنى لو ينضوى البشرفى أعطاف دين كونى واحد كى يختفى التعصب ويسود الحب . وكان سمعان متسقًا مع نفسه ، فهو طبيب ناجح وحقق ذاته فى أوروبا ، ولكنه يشعربواجبه نحو أبناء وطنه لبنان ، فيُقررترك نعيم أوروبا والعودة الى جحيم لبنان حيث ((الشقاء والجنون)) (83 ، 102) والراوى يرى أن صديقه ينطبق عليه وصف ((الإنسان الشمولى)) أو الإنسان العالمى . وأعتقد أن المبدعة هدى بركات وهى ترسم شخصية سمعان ، كان فى ذهنها تلك العلاقة الشائكة حول (مفهوم الوطن) وهو ما أثارته د. مرفت عبد الناصرفى كتابها (معنى الوطن) حيث طرحت العديد من الأسئلة مثل : هل الوطن بالميلاد والثقافة القومية لكل شعب فقط ؟ ما هوالموقف عندما يجمع الحب بين امرأة ورجل من وطنين مختلفين ، ثم تبرز إشكالية (الخيانة) للوطن الأصلى ؟ وهى الاشكالية التى عالجتها أوبرا عايدة . ما معنى الانتماء لدين يحض على التعصب والاستيلاء على أراضى الشعوب المستقرة مثلما عالجته مسرحية الكاتب والمخرج البريطانى (مايك لى) بعنوان (ألفا عام) من خلال أسرة يهودية يُدين معظم أفرادها الأساس التوراتى للتعصب ولذلك فهم مع حق الشعب الفلسطينى فى إقامة دولته (لمزيد من التفاصيل أنظركتاب معنى الوطن- تأليف د. مرفت عبدالناصر- نهضة مصرعام 2009) . ولا أغالى اذا قلتُ أن فكرة (الإنسان العالمى) أو (الوطن الإنسانى) ترتبط فى إبداع هدى بركات بفكرة الإنسان المتخلص من هرمونات الأنوثة والذكورة . وهى فكرة مسيطرة عليها ، عالجتها فى روايتها البديعة (حجرالضحك) كما عالجتها فى روايتها (أهل الهوى) فالبطل يتمنى أن يتحول الرجل والمرأة ويصيرا فى شكل واحد . جسد واحد . أعضاؤهما تستقرفى جنس واحد. أصغى بحسد الى أخبارالحيوان والنبات الذى يتوالد من نفسه . وفيه عضوا التأنيث والتذكير. هذا جنس خلص من عذابه . وهو يتذكرشهوره الأولى عندما كان جنينًا فى بطن أمه ((حين كانت كروموزوماتى كلها مؤنثة. كلها ((xx)) وقبل أن تدخل ((y)) فى شهورسكناى الأخيرة فى بطن أمى وتحوّلنى الى ذكر. حتى ذكرًا كنتُ سابحًا فى مياه الرحم الأنثى)) وعندما يقع أسيرًا لدى أحد التنظيمات المسلحة يقول ((إن هورمونات مذكرة معينة انطفأت فىّ)) وفى لحظة من لحظات الحب الجميلة بينه وبين معشوقته فإنه يرى ذاته وذاتها هكذا ((صرنا نتشابه الى حد بعيد ، كأخوين أو كأختين . أنظرالى وجهها وأقول كم تُشبهنى . كم صرتُ أشبهها)) (أكثرمن صفحة) البطل فى معظم إبداع هدى بركات يود التخلص من التمييز الجنسى بين الذكروالأنثى gender كما أن أمنيته هذه تلتقى مع حقيقة علمية ، حيث اكتشف علماء الحشرات نوعًا من النمل أطلقوا عليه نمل الأمازون يتوالد بلا أعضاء جنسية . وبالتالى لايحتاج الى أعضاء الذكورة ، حيث استطاعت إناث النمل أن تنقسم ويخرج من جسدها ملايين الإناث مثلها دون تلقيح من ذكرمثل أغلب الكائنات الحية . اذا ربطنا ذلك ببداية الرواية حيث قتل البطل محبوبته ، وإذْ هو فى الصفحة الأخيرة يتشكك من أنه قتلها بالفعل ، فإن فك شفرات هذا الغموض الفنى تبثه المبدعة فى ثنايا الرواية بإيحاء أبلغ من الافصاح ، فهو إذْ يتصورفى البداية أنه قتلها يقول ((رأيتُ أنى قتلتها .. أنى شربتُ روحها.. أنى شربتُ ملاكها فصارفىّ.. انفتحت السماء وانفتح جسمى . عرفتُ أنى قديس)) (ص 8) وعندما يعود الى ذكرايته معها يقول ((لأول مرة لا أرى جسم المرأة التى أضاجعها . لم أرجسمها . كأنه سائل للشرب)) (ص 71) . لماذا اختارت المبدعة لروايتها عنوان (أهل الهوى) ؟ فإذا كان البطل يحاول السباحة فى بحورالحب المحبط والغيرمتحقق ، فإن الشعب اللبنانى (فى الرواية) غارق فى بحور الدم . ومن هنا كان التوفيق فى اختيارالعنوان . فكلمة (الهوى) فى اللغة العربية كما تعنى الحب ، تعنى السقوط الى أسفل (أنظرمختارالصحاح تأليف محمد بن أبى بكرالرازى- المطبعة الأميرية بمصر- عام 1911 ص 728) إذن (الهوى) فى الرواية جمع بين الحب (أو الرغبة فى الحب) والسقوط فى دوامة الحرب الأهلية التى شوّهت كل معانى الحب الإنسانى ، كأفدح ثمن دفعه الشعب اللبنانى ، بالاضافة الى قتل الأرواح البريئة والتشوهات الجسدية وتدميرالبنية الأساسية للوطن الجميل (لبنان) الذى شوّهه الأصوليون أصحاب المراجع الدينية المتمسكون بالأحادية الفكرية التى يتولد عنها كل أشكال التعصب الذى يؤدى الى قتل كل مختلف مع أفكارهم . وهنا جوهرمأساة البطل التراجيدى ، فهو فى وسط بحورالدماء يقتل أو يتمنى قتل حبيبته ، بل إنه رغم كل عيوب حبيبته يهواها ويتمنى أن لاتفارقه ، وينطبق عليه ما قاله أندريه جيد فى روايته (مدرسة الزوجات) حيث كتب على لسان الزوج ((من خاصية الهوى أن يُعمينا عن كياننا .. كما يُعمينا عن عيوب من نهوى)) هذه الرواية البديعة (أهل الهوى) التى يتمنى فيها البطل إلغاء الفروق الجنسية بين المرأة والرجل ، والتى يعتنق فيها (سمعان) دينًا كونيًا يتمنى أن يدخل البشرفى أعطافه فتذوب العصبيات الدينية والعرقية ، فى هذه الرواية يتوحد بطلها وتتوحد مبدعتها مع الشاعربول إيلوارالذى كتب ((من اللذة الى الجنون.. ومن الجنون الى النور.. أبنى نفسى كاملا.. من خلال كافة الكائنات)) هذه هى رؤية الإبداع الإنسانى التى يرفضها مشعلو الحروب وكل المتعصبين أيديولوجيًا . فهل يأتى يوم على البشروتنتصررؤية الإبداع فيسود الحب والسلام ؟ ***** E mail : [email protected]
#طلعت_رضوان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الفلسطينيون بين العرب والإسرائيليين
-
محمد البوعزيزى : الإبداع على أجنحة الحرية
-
نجران تحت الصفر للكاتب الفلسطينى يحيى يخلف
-
المبدعة الليبنانية هدى بركات وجدل العلاقة بين الحياة والموت
-
عمارة يعقوبيان : الإبداع بين الأحادية والجدل الدرامى
-
اللغة القبطية بين لغة العلم والأيديولوجيا السياسية والعواطف
...
-
المبدعة البنانية رشا الأمير وروايتها البدية ( يوم الدين )
-
الإيمان بحق الاختلاف هو الحل
-
تحالف الديكتاتورية مع العداء للخصوصية الثقافية للشعوب
-
أولاد حارتنا بين الكهنوت الدينى والإبداع
-
أبو حصيرة : من الضرح إلى المستوطنة
-
نبوءات الليبراليين المصريين حول المخطط الصهيونى
-
رد على القراء بشأن مقالى عن هيباتيا
-
اغتيال الفيلسوفة المصرية هيباتيا والعداء للمعرفة
-
استشهاد فرج فوده والدروس المستفادة
-
أجيال جديدة ومرجعية قديمة
-
علمنة مؤسسات الدولة والسلام الاجتماعى والانتماء الوطنى
-
الإسلام السياسى للمستشار العشماوى
-
القومية المصرية تُغطيها قشرة رقيقة
-
شخصيات فى حياتى : بورتريه للأستاذ أديب
المزيد.....
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
-
نزع سلاح حزب الله والتوترات الطائفية في لبنان.. شاهد ما قاله
...
-
الدعم الأميركي لكيان الاحتلال في مواجهة المقاومة الإسلامية
-
إيهود باراك يفصح عما سيحدث لنتنياهو فور توقف الحرب على غزة
-
“ألف مبروك للحجاج”.. نتائج أسماء الفائزين بقرعة الحج 2025 في
...
-
“ماما جابت بيبي” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024 بجودة عالي
...
-
طقوس بسيطة لأسقف بسيط.. البابا فرانسيس يراجع تفاصيل جنازته ع
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|