أخبار الشرق - 3 أيلول 2002
مع انهيار وتفكك الإمبراطورية العثمانية في سياق الحرب العالمية الأولى تم تقسيم وتوزيع الدول والسكان والأراضي في منطقة المشرق العربي التي تشكل اليوم قلب ما يعرف بالشرق الأوسط. ستتشكل دول جديدة من عدم سياسي أو ما يقاربه .. دول ارتسمت حدودها في اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، واستكملت في الاتفاقيات التالية لها وصولاً إلى معاهدة سان ريمو 1920، وستحفظ منذ ذلك الوقت بكل عناية. ستدمج هذه الاتفاقية الأخيرة بين مقرراتها وعد بلفور الشهير الذي كان وزير خارجية بريطانيا آرثر بلفور قد وجهه إلى البارون روتشيلد واعداً إياه وبني جلدته بدولة يهودية في فلسطين "على ألا يمس ذلك بحقوق سكان فلسطين الآخرين". وبعد قرابة 30 عاماً من ذلك الوعد التاريخي سيحتل أهل فلسطين المكان المقرر لهم كـ "آخرين"، مواطنين من الدرجة الثانية فما دون في وطنهم الأصلي وفي ما حوله من بلاد العرب. وفي عام 1927 سيبدأ استخراج النفط في العراق بعد أن كان قد اكتشف في إيران عام 1908، وسيلعب السيد بترول في الجزيرة العربية الدور الذي لعبه السادة سايكس وبيكو وبلفور في المشرق العربي. وفي عام 1948 تأسست دولة إسرائيل على أرض فلسطين وتم تهجير مئات الألوف من الفلسطينيين إلى الدول المجاورة. إن خيوط هذه الوقائع المسرودة بسرعة تنسج في تقاطعاتها وتشابكاتها الثوب الشرق أوسطي الذي ارتدته المنطقة ولم تخلعه مذ فعلت.
كان ألفرد ماهان، أخصائي الجغرافيا السياسية الإنكليزي، قد ابتدع لفظ الشرق الأوسط عام 1902 لملء الفراغ المفهومي بتعبير هنري لورنس المتولد عن الفراغ السياسي والاستراتيجي الذي ترتب بدوره على إمعان أحوال "الرجل المريض" بالتعفن مع توغل الزمن في القرن التاسع عشر. إن البترول وإسرائيل والدول السطحية المكشوفة استراتيجياً وأمنياً واقتصادياً التي تخلفت عن النظام الاستعماري هي الأركان الأساسية الثلاث للنظام الشرق أوسطي الذي يوشك اليوم أن يدخل في مرحلة جديدة. لقد تكون الشرق الأوسط القديم إذاً في سياق تصفية المسألة الشرقية وتكون النظام الدولي الاستعماري والتحول في نظام الطاقة العالمي (الغربي في هذا المقام) من الفحم الحجري إلى النفط. وكما كانت السلطنة العثمانية قد خدمت طوال القرن التاسع عشر كرصيد يقتطع منه عند اللزوم لتسديد الحسابات البينية بين القوى الأوروبية، فإن المشرق العربي سيخدم بعد الحرب العالمية الأولى لتحرير الضمير الأوروبي مما ارتكبه من آثام بحق اليهود ولا سيما للتكفير عن ذروة تلك الآثام، الهولوكوست النازي. وستغسل أوروبا يدها من دم اليهود بدم الفلسطينيين حسب العبارة السديدة لإلياس خوري.
بينما كان النظام الشرق أوسطي يتكون كان ثمة بذور لنظام آخر محتمل هو النظام العربي. لكن هذه البذور التي ستتحول من فكرة منافسة للفكرة الصهيونية حسب ما رآها جورج أنطونيوس في بداية القرن العشرين، إلى تصور سياسي غير واضح المعالم بين الحربين العالميتين، وإلى مشروع سياسي في خمسينات القرن العشرين، هذه البذور لم تثمر لأسباب عديدة نظاماً مستقلاً ذاتي المركز يمكنه التصدي للنظام الشرق أوسطي الذي تميز دائماً بأنه نظام مدول تدويلاً عميقاً. اصطدم جمال عبد الناصر الذي حاول تجسيد النظام العربي بأعمدة النظام الشرق أوسطي الرئيسية الثلاثة: إسرائيل والبترول والدولة السطحية التي ستسمى بلغة الفكر القومي العربي الدولة القطرية، لكن سياسته كانت متناقضة وغير منسجمة بدرجات متفاوتة في الميادين الثلاث، وكانت بعض جوانبها عبئاً على جوانب أخرى.
استفاد عبد الناصر في مواجهته الاستقلالية للنظام الشرق أوسطي المدول من نظام القطبية الثنائية الذي قام على أنقاض النظام الاستعماري الأوروبي ومن حركة نزع الاستعمار التي واكبت تكون النظام الدولي الجديد. لكن بفعل قوانين علم الفلك السياسي ستنجذب "أزمة الشرق الأوسط"، أي الصراع العربي الإسرائيلي الذي كان النزاع المحرك للنظام الشرق أوسطي، إلى دوامة الصراع بين القطبين تماماً كما تنجذب الأجرام الصغيرة وتدور حول الأجرام الكبيرة.
في عام 1967 تم الإجهاض النهائي لمشروعات تكوين نظام عربي مستقل، وثبتت حرب حزيران موقع إسرائيل كالقوة الإقليمية الأهم وكعاصمة لإقليم الشرق الأوسط. لكن وجود الاتحاد السوفياتي حد من فرص انطلاق موجة جديدة من تفكيك المنطقة. وستتأخر هذه الموجة حتى العقد الأخير من القرن العشرين الذي تقاطعت فيه نهاية نظام القطبية الثنائية بانتصار القطب الأمريكي مع محاولة الرئيس العراقي صدام حسين الاعتداء على أعمدة النظام الشرق أوسطي التي كانت قد هزمت جمال عبد الناصر.
انشغل القطب الأمريكي الأوحد خلال العقد الأخير من القرن العشرين بتفكيك القطب السابق المنافس وقضم مجاله وقطع الطريق على احتمال قيامه من جديد، لكنه انشغل أيضاً باستيعاب النصر المذهل الذي حققه دون توقع منه رغم أنه عمل من أجله طوال عقود الحرب الباردة على الأقل. المهم أن انهيار الاتحاد السوفياتي سيعلن بداية موجة جديدة للتفكك في الشرق العربي كما كان انهيار السلطنة العثمانية قد أطلق الموجة الأولى.
إن الشرق الأوسط العربي الذي عانى من فراغ المشروع السياسي ومن تدفق الريعى النفطي الذي سيبقى خارجياً، أي غير مندرج في نسيج ذاتي للدول المنتجة، لا من النواحي المالية والتقانية ولا من النواحي الاجتماعية والسياسية والثقافية، هذا الشرق الأوسط سيبدأ بالتعفن المترقي منذ أواخر السبعينات. وبغياب رد استراتيجي وحضاري على القطبية الأحادية لإسرائيل في النظام الشرق أوسطي وعلى تدفق الريع النفطي و"تغوّل" الدول التي افتقرت إلى الشرعية بافتقارها إلى المشروع الذي أسس لهذه الشرعية (باتت كلها دولاً ناصرية لكن بلا مشروع)، بغياب الرد العقلاني على الشرط الشرق أوسطي سيصدر رد فعل غريزي، يبعد العرب أكثر وأكثر عن فهم العالم الحديث والتأثير فيه، وينقل مشكلة العجز عن المواجهة البناءة لهذا النظام إلى مقاطعة وتكفير العالم، الداخل والخارج.
الشرط الانتحاري الذي تفجر في 11 أيلول 2001 هو حصيلة التقاء التطرف الأمريكي والإسرائيلي، وتطرف وانغلاق الدولة التسلطية العربية، مع التعفن السياسي والاجتماعي والثقافي الناجم عنه، وبقاء قناة الرد الغريزي وحدها مفتوحة. إن هذا العنصر، ما يُسمى بالأصولية الإسلامية المتشددة، الذي اندرج في النظام الشرق أوسطي كمكون ثابت من مكوناته سيتحول بعد 11 أيلول بقرار أمريكي إلى العنصر الحاسم في تفجير هذا النظام وإعادة هيكلته الوشيكة على أسس جديدة.
سجل 11 أيلول 2001 بداية نهاية الشرق الأوسط التقليدي، أعني نظام سايكس بيكو - بلفور - بترول، وبداية تكون نظام شرق أوسطي جديد تأخذ ملامحه بالارتسام اليوم شيئاً فشيئاً. الأرجح أن يحافظ الشرق الأوسط الجديد على الخصائص الجوهرية للشرق الأوسط القديم: التدويل العميق، الافتقار إلى داخل وطني عميق وذاتي التطور، والمركزية الإسرائيلية. من المحتمل أن تتكون دول جديدة، فقد دخل إنشاء دولة كردية جدول أعمال التاريخ بعد أن كان عدم الاستقلال الكردي من الأعمدة الهامة للشرق الأوسط. لا يغير من أرجحية تكون دولة كردية أن تمر بمراحل انتقالية أو تكون "دولة مؤقتة أو تجريبية" بانتظار نضج الظروف. وقد تتكون دول أخرى وفقاً لخطط شريفية أو غير شريفية وفقاً لما تسرب عن خطط تطبخ في البنتاغون لتقسيم المنطقة. وتقدم مشاركة الأمير الحسن في مؤتمر المعارضة العراقية في لندن في تموز 2002 فكرة عن نوع الممالك التي يمكن أن تنشأ للرد على العدد المتزايد للملوك والأمراء الذين يتم اكتشافهم عربياً وعالمياً منذ نهاية الحرب الباردة (لعل الأمير يفكر بأن يمنحه التاريخ بريطانيا عام 1920 وأمريكا اليوم دولة بدل الأردن كما منح الإنكليز جده الملك فيصل دولة بديلة عن سورية التي جرده منها الفرنسيون).
لن يعطي الأمريكيون أنظمة ديمقراطية للعرب، فالديمقراطية لا تُعطى؛ لكن الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية القائمة ستزول على الأرجح وستمر فترة قد تطول أو تقصر من عدم الاستقرار وتقلب التحالفات والولاءات مع تكون نظام إقليمي جديد. وقد تتمكن بعض الأنظمة الحالية من الانقلاب على ذاتها والالتحاق بهذا النظام واحتلال مركز الصدارة فيه. ويبدو أن الجماهيرية ستكون من القواعد الطليعية للترتيب الجديد بفضل "العقلية غير الملكية" التي نسبها لنفسه ولي عهدها سيف الإسلام القذافي حتى وإن كان لا يقيم إلا في أجنحة ملكية في فنادق لندن. ما أخبث الإنكليز!
الاستعدادات الطيبة للتعاون مع الأمريكيين التي أظهرها الرئيس اليمني علي عبد الله صالح ترشح اليمن قاعدة أخرى للشرق الأوسط الجديد. ومن الوارد أن يكون عراق ما بعد صدام أو الجزء منه الذي سيحتفظ بهذا الاسم قاعدة متقدمة إضافية أيضاً لهذا الشرق الأوسط الذي يشكل ترجمة كابوسية لحلم خليل حاوي بالشرق الجديد. لن يتغير من حيث المبدأ وضع "السكان الأصليين" للبلاد الذين سيبقون سكاناً أصليين كما كانوا في ظل أنظمة الشرق الأوسط التقليدي. لكن بالطبع ستتكون شروط صعبة جديدة للكفاح من أجل الحرية والمساواة في هذا الإقليم الجديد.
__________
* كاتب سوري