|
صناعة الدستور
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 3527 - 2011 / 10 / 26 - 20:22
المحور:
دراسات وابحاث قانونية
هناك قول مأثور أقرب الى الحكمة، حيث يتردد دائماً " العبرة بالتطبيق وليس بالنصوص"، وعلى حد تعبير الشاعر الألماني غوته "النظرية رمادية أما شجرة الحياة فتبقى خضراء"، والقول على أهميته لكن النصوص تبقى جامدة، ما لم تقترن بتطبيقات سليمة. ومثل هذه المشكلة والإشكالية تواجه اليوم العديد من البلدان التي حدثت فيها تغييرات وانتفاضات قادت الى الاطاحة بالأنظمة القائمة، وفتحت الباب على مصراعيه بشأن الدستور باعتباره "أبو القوانين" كما يقال، خصوصاً وأن هناك خشية من وجود فراغ قد يطول، الأمر الذي ينجم عنه فوضى غير محمودة العقبى، وتشكّل كابحاً وتحدياً جديداً أمام عملية التحوّل الديمقراطي. إذا كان التغيير قد خلق أوضاعاً جديدة، سواء بالتواصلية أو بالقطيعة، فكيف السبيل لضمان استمرار السلام الاجتماعي والتطور والتراكم لبناء نظام جديد، يختلف عن الأنظمة الشمولية السابقة، حيث لم يعد بإمكان قوة واحدة أو اتجاه سياسي أو فكري واحد أو تيار ديني أو اجتماعي لوحده حكم البلاد، الأمر الذي يحتاج الى تشاركية وتوافقية لضمان عدم تغوّل جهة أو مكوّن أو تيار أو جماعة على أخرى. لكن هذه العملية بحد ذاتها معقدة وليست سهلة، خصوصاً في ظروف عدم الثقة أو ضعفها، فهي تحتاج إلى جهود مضنية وحوارات مستمرة وقناعات ومساومات للوصول إلى ذلك. وإذا كان مسار الثورة في تونس ومصر قد حسم بعد اسبوعين، بفعل "تدخل الجيش " إيجابياً لصالح حركة الاحتجاج العارمة والحركة الثورية الصاعدة، وبدأ التفكير بوضع قواعد دستورية تمهيدية وصولاً لصياغة دستور دائم بعد إجراء انتخابات لجمعية تأسيسية (برلمان)، فإن مسارها في ليبيا قد تعثّر واضطرّت الظروف بفعل القمع المنفلت من عقاله وتعقيدات الوضع الداخلي، إلى عملية قيصرية ساهم فيها حلف الناتو، ولا زالت تفاعلاتها وتأثيراتها مستمرة وقد تطول إلى فترة أخرى على الرغم من سقوط نظام القذافي الاستبدادي وأخيراً مقتله وانتهاء جيوب كتائبه، في حين أن الحركة الإحتجاجية في البحرين دخلت عليها عوامل خارجية ومذهبية بحكم الدور الايراني من جهة ومن جهة أخرى إرسال مجلس التعاون الخليجي قوات درع الجزيرة لحسم الصراع لصالح الحكومة. أما في الاردن والمغرب فقد قام النظامان الملكيان بتبنّي عمليات سريعة للاصلاح السياسي في محاولة لامتصاص حركة الاحتجاج، لاسيما وقد أنجزت المغرب دستوراً جديداً دخل حيّز التنفيذ في الأول من تموز (يوليو) 2011. ولعل هذا التطور الإيجابي الجديد هو دليل دينامية مغربية، سبق أن شهدتها الرباط في أواسط التسعينيات، ولاسيما بعد دستور العام 1996 حين عرفت الانفتاح الديمقراطي التي توّجت باختيار الملك للشخصية الحقوقية البارزة عبد الرحمن اليوسفي في العام 1999 ليتولى منصب الوزير الأول (رئيس الوزراء) على أساس ما سمّي حكومة التناوب، وعلى الرغم من أن الدستور الجديد لم يرتقِ الى ملكية دستورية، لكنه منح صلاحيات مهمة للبرلمان وأقرّ اعتبار اللغة الامازيغية لغة ثانية. وكانت الاردن قد شهدت حراكاً شعبياً واسعاً أسفر عن إجراء تعديلات دستورية وتشكيل هيئة حوار وطني للقاء بجميع الفاعليات والأنشطة السياسية والإتيان بحكومة جديدة، لكن تلك التطورات على الرغم من أهميتها، الاّ أنها لم تصل الى الملكية الدستورية التي يريدها الحراك الشعبي، ومع أن هناك تحفظات من جانب المعارضة على عدم ارتقاء تلك التعديلات الى الطموح المنشود، الاّ أنها خطوات إيجابية على هذا الطريق. وفي الجزائر باشرت الحكومة الى إجراء إصلاحات سريعة على الرغم من أنها لم ترتقِ الى الاستجابة للمطالب الشعبية، لكنها تعتبر خطوة إيجابية على طريق التغيير الدستوري المنشود. أما في سوريا فإن وتيرة العنف تصاعدت والوعود بالاصلاح السياسي والدستوري لا زالت بطيئة، بل ومتعثرة ودون الحد الأدنى مما يطالب به الحراك الشعبي، وقد احتدم الصراع، لاسيما بارتفاع وتيرة المجابهات وسقوط آلاف الضحايا، وهو يهدد بتداخلات خارجية قد تزيد الوضع تعقيداً، خصوصاً بوصول الوضع بين المعارضة والموالاة الى نقطة اللاعودة. إن الاطاحة بالأنظمة السابقة يطرح على نحو ملّح: هل هناك قوة قادرة على صياغة دستور مقبول لوحدها؟ أم أن الأمر يحتاج الى تشاركية وتوافقية تساهم في صياغة الدستور، وذلك لإكساب عملية التغيير المشروعية التواصلية والشرعية التي يمكن الإستناد إليها من خلال وثيقة يساهم الجميع في إنجازها، وتأخذ بنظر الاعتبار المعايير الديمقراطية الدستورية التي تعتبر قيماً عليا، بعضهم يطلق عليها "ما فوق الدستورية"، والبعض الآخر يسميها "العقد الاجتماعي" الجديد الذي يصاغ على أساسه الدستور، ويفضل فريق ثالث تأكيد الطابع الاستشرافي للعملية الدستورية بربطها "بمشروع حضاري نهضوي جديد"، يتجاوز الماضي، ليتخذ شكلاً جديداً لعلاقة الحاكم بالمحكوم أساسه القيم الإنسانية، التي تقوم على الحرية والمساواة والعدالة، وهي إذا ما أدرجت بالدستور على شكل مواد ملزمة، فإنها تحدد معانيه ومبانيه في إطار شفاف يقوم على الحقوق والحريات والمساءلة وفصل السلطات واستقلال القضاء وتداول السلطة سلمياً وتحقيق المشاركة دون تمييز أو إلغاء أو تهميش. ولعل ذلك يمثل جوهر المشاركة الديمقراطية، التي أخذ القانون الدولي يعتمدها كما ذهب الى ذلك الاعلان العالمي لحقوق الانسان في العام 1948 في المادة 21 وكذلك في العهدين الدوليين الصادرين عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في العام 1966 واللذان دخلا حيّز التنفيذ في العام 1976. جدير بالذكر أن الأمم المتحدة وهي تؤكد الحق في الديمقراطية كانت قد أصدرت إعلاناً في العام 2000 أكدت فيه، خصوصية كل شعب، مع القاسم المشترك الانساني. وخلال العقد الأول من الألفية الثالثة 2000-2010 أعدت الأمم المتحدة بعد تجارب متنوعة دليلاً إرشادياً بعنوان:" ملاحظات إرشادية للأمين العام للأمم المتحدة: مساعدات الأمم المتحدة في عمليات وضع الدستور" وصد العام 2009. وعلى الرغم من أن وضع الدستور هو صناعة وطنية محلية بامتياز بأخذ الخصائص والسمات الداخلية وتطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والمؤثرات المختلفة: الدينية والقومية واللغوية والسلالية والعشائرية والتاريخية، الخاصة بكل مجتمع وكل دولة، فضلاً عن الموروث والعادات والتقاليد، إلاّ أن المعايير القانونية والدستورية العامة والمبادئ الانسانية المشتركة تشكل خزيناً معرفياً يمكنه إفادة الشعوب والدول والمجتمعات التي تريد صياغة دساتير جديدة لها، ولكن دون إستنساخ أو تقليد. ويصبح الإطلاع على تجارب كونية لشعوب وأمم ومجتمعات، لاسيما في بعض الجوانب الفنية ومراحل صياغة الدستور واجباً لا غنىً عنه، فضلاً عن توفير بيئة مناسبة ليتم فيها تقبّل القواعد الديمقراطية، بعد حكومات استبدادية شمولية دامت لعقود من الزمان وفي ظل ثقافة واحدية مركزية صارمة. وهنا لا بدّ من أخذ بعض الجوانب المعيارية منها: الإجراءات والمؤسسات المناسبة لتصميم عملية صياغة الدستور، ثم المدى الذي يمكن فيه أن تتماشى فيه مع المعايير الدولية، فضلاً عن التحدّيات التي ستواجه العملية ككل منذ البدء ولحين استكمالها بنجاح، بل وحتى بعد إنجازها، في مراقبة تطبيقها. ولعل مناسبة الحديث هذا، على راهنيته وأهميته في الظروف البالغة الحساسية والقلق التي تعيشها بلدان مثل تونس ومصر وليبيا، وربما ستتبعها بلدان أخرى، هو مؤتمر مهم شارك فيه بحيوية خبراء دوليون وعرب لتقديم خبراتهم وتجاربهم التي قد تساعد صاحب القرار والمشرّع لصياغة دستور جديد بعد التغييرات التي حصلت في البلدان العربية. وكان المؤتمر قد إنعقد في القاهرة تحت عنوان " جنوب- جنوب – حول عمليات الصياغة الدستورية" نظّمه" المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية IDEA" وهو منظمة سويدية مختصة ومتمرّسة وبالتعاون مع "الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية EACPE" وهي منظمة مصرية لها دور حقوقي فاعل، وسبق لها أن نظّمت أكثر من فاعلية على هذا الصعيد، وقد انشغلت خلال الفترة الماضية بدعوة خبراء دوليين وعرب للاستفادة من خبراتهم والاطلاع على أفكارهم وآرائهم وتصوراتهم بما يفيد النخبة المصرية والعربية الدستورية والسياسية والحقوقية، خصوصاً لصياغة دستور توافقي وبإرادة تشاركية ضامنة هي جزء من علاقة جديدة بين الحاكم والمحكوم، أساسها الحرية والكرامة.
* باحث ومفكر عربي
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الأردوغانية: زواج كاثوليكي بين الإسلام والعلمانية
-
إسرائيل- والمياه
-
مشكلة المياه العربية
-
سمفونية الرحيل- عبد الرحمن النعيمي الرجل الذي مشى بوجه الريح
-
الحق في الماء
-
سورية :هل لا يزال طريق التسوية التاريخية سالكاً!؟
-
العقدة اليمنية وما السبيل لحلها؟
-
في رحيل عبد الرحمن النعيمي
-
بالمر جولدستون.. أَيُّ مفارقة وأَيُّ قانون؟
-
أسئلة الثقافة والسلطة: اختلاط الزيت بالماء
-
ثروات العراق: عقود ملتبسة ومستقبل غامض!!
-
إرهابيون أشرار وإرهابيون أخيار!
-
في وداع عبد الرحمن النعيمي : حين يجتمع العقل والحكمة والصدق
-
الدبلوماسية العالمية: مفارقات وحيرة
-
ليبيا: احتلال بالتعاقد أم الأمن الناعم؟
-
مصر التي في خاطري
-
البوعزيزي وسيدي بوزيد وبحر الزيتون
-
التزوير «القانوني» وكاتم الصوت العراقي
-
ما بعد كركوك.. هل جنوب السودان نموذج؟!
-
صالح جبر وسعد صالح : التاريخ وصداقة الأضداد
المزيد.....
-
كاميرا العالم ترصد خلوّ مخازن وكالة الأونروا من الإمدادات!
-
اعتقال عضو مشتبه به في حزب الله في ألمانيا
-
السودان.. قوات الدعم السريع تقصف مخيما يأوي نازحين وتتفشى في
...
-
ألمانيا: اعتقال لبناني للاشتباه في انتمائه إلى حزب الله
-
السوداني لأردوغان: العراق لن يقف متفرجا على التداعيات الخطير
...
-
غوتيريش: سوء التغذية تفشى والمجاعة وشيكة وفي الاثناء إنهار ا
...
-
شبكة حقوقية: 196 حالة احتجاز تعسفي بسوريا في شهر
-
هيئة الأسرى: أوضاع مزرية للأسرى الفلسطينيين في معتقل ريمون و
...
-
ممثل حقوق الإنسان الأممي يتهرب من التعليق على الطبيعة الإرها
...
-
العراق.. ناشطون من الناصرية بين الترغيب بالمكاسب والترهيب با
...
المزيد.....
-
التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من
...
/ هيثم الفقى
-
محاضرات في الترجمة القانونية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة
...
/ سعيد زيوش
-
قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية
...
/ محمد أوبالاك
-
الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات
...
/ محمد أوبالاك
-
أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف
...
/ نجم الدين فارس
-
قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه
/ القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ اكرم زاده الكوردي
-
المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي
/ أكرم زاده الكوردي
-
حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما
...
/ اكرم زاده الكوردي
المزيد.....
|