|
محاولات التجديد للأثر الفيلمي ضوئياً
جواد بشارة
كاتب ومحلل سياسي وباحث علمي في مجال الكوسمولوجيا وناقد سينمائي وإعلامي
(Bashara Jawad)
الحوار المتمدن-العدد: 1046 - 2004 / 12 / 13 - 09:43
المحور:
الادب والفن
الأرضية الجمالية من الجذور الى التطبيقات
من البديهي أن الغالبية الساحقة من الانتاج السينمائي في العالم لاسيما العربي منه، لايمنح خصوصية فائقة أو تمييز ملحوظ لتكوين الصورة ومعمارية اللقطة وبنية المشهد خاصة في الأفلام التجارية، وعدم إعارة اهتمام أو تركيز أو انتباه للناحية التعبيرية للإنارة أو مايسمى باللغة الضوئية التي تتطلب نمطا جديدا من القراءة والفهم والدراسة لهذه الأداة التعبيرية الفيلمية. منذ بدايات السينما الجادة لاسيما التجريبية منها، كان هناك نزوع نحوعمل سينما بطرق مغايرة اتخذت مسميات مختلفة في العديد من البلدان ( سينما نوفو في أمريكا اللاتينية، سينما الأندرغراوند في أمريكا الشمالية، السينما الحرة في بريطانيا، سينما الطليعة في فرنسا ومن ثم الموجة الجديدة الخ... ). ففي فرنسا على سبيل المثال لا الحصر، حصلت إنعطافتان جذريتان في الأطروحة الجمالية للعملية الإبداعية الفيلمية تحقق فيهما تثوير جذري للغة السينمائية وللخطاب الفيلمي على امتداد التاريخ السينمائي المعاصر في هذا البلد: الأولى عندما قامت مجموعة من المثقفين الشباب والنقاد بمحاولة لوي وتطويع وتعديل لمفاهيم المونتاج والتصوير والإيقاع السينمائي وذلك في العشرينات من القرن المنصرم، والثانية في بدايات النصف الثاني من القرن العشرين وبعد مضي أربعون عاماً على الحركة الأولى . كانت البداية مع المخرج الفرنسي الطليعي لوي ديللوك سنة 1921 مع أفلام " حمى " و " إمرأة من اللامكان سنة 1922 " عندما أحاطت به مجموعة من المخرجين الذين ينتمون الى " المدرسة الإنطباعية الفرنسية". ثم كتب ديللوك سيناريو فيلم المخرجة الطليعية جيرمين دولاك الثالث بعنوان" الحفل الإسباني سنة 1919 "، وانضم الى المجموعة المخرج مارسيل ليربييه في فيلم " فرنسا الوردية سنة 1919 ، وفيلم ألدورادو سنة 1921 و فيلم اللاإنسان سنة 1923 . ثم التحق بهم المخرج جان ابشتين في فيلم"الجميلة النيفرية ـ نسبة الى مدينة نيفيرـ سنة 1924 ، وفيلم الثلج ذو الثلاثة وجوه1924، وفيلم " سقوط منزل أوشير 1927"وكذلك المخرج آبل غانس بفيلم "السمفونية العاشرة 1918، والفيلم الشهير " إني أتهم 1919 "وفيلم " العجلة1920 " وفيلم " نابليون1925 " ولقد انضم لهؤلاء الرواد الطليعيين عدد كبير من المخرجين ليشكلوا سنة 1925 مدرسة " سينما الطليعة" التي استلهمت طروحات وتنظيرات الحركة الدادائية في الفن التشكيلي التي أطلقها دادا . وقد اشتهر من هؤلاء الأخيرين المخرج رينيه كلير في فيلمه " باريس النائمة 1923 " و " فترة استراحة 1924 "و " الفن التجريدي" لهنري شوميت " وفيلم "خمس دقائق من السينما الصافية"لمارسيل دوشومب ، و" السينما المتحركة لمان راي عبر أفلام"" العودة الى العقل 1923، ونجمة البحر 1928، ولغز قصر الزار 1929 . والمخرج فيرناند ليجيه وفيلمه " الباليه الميكانيكي . وأخيرا الحركة السوريالية مع جيرمين دولاك في فيلم " القوقعة " وفيلم " رجل الدين1927 والمخرجين انتونين آرتو ولوي بونويل مع أفلام " الكلب الأندلسي 1928، العصر الذهبي1930 " . رافق انتشار هذه المدارس والحركات الفنية الإبداعية تغيرات في المناخ الفكري والفني والسياسي أثر بشكل واضح على مفاهيم التعبير وأساليب الشكل الفني والأدبي وكانت السينما من أكثر الفنون تأثرا وتأثيراً في تغيير تلك المعطيات التي منحت المخرجين صلاحيات كبيرة وحريات واسعة أزالت من أمامهم جميع العقبات التقنية والفنية وابتدعوا لغة سينمائية متطورة وجديدة سبقهم اليها مخرجون كبار ومبدعون لايمكن إغفال دورهم من أمثال أورسون ويلز مايكل أنجلو أنطونيوني وانغمار بيرغمان الذين قدموا أفلاما تمتاز بمستواها الرفيع. تمكن بيرغمان من تحليل محنة الإنسان في العصر الحديث في مجتمعات تخلوا من الروح وتخضع للمعايير المادية، في حينه تمكن أنطونيوني من تجاوز التصلب الأسلوبي ولجأ الى أستخدام اللقطات الطوال أو المسماة اللقطات ـ المشاهد واستغلاله لضجيج الطبيعة وصمتها وإيجاد المعادلة الصعبة بين الزمان الفيلمي والزمان الطبيعي ورسم الطريق أمام غودار ورفاقه في الموجة الجديدة الذين ابتعدوا عن الأساليب التقنية المألوفة . ولايمكننا أن ننسى مهندس اللقطات ـ اللوحات المخرج المبدع فيسكونتي . مرت أربعون عاماً على حركة الطليعة السينمائية الفرنسية كان الشارع الثقافي الفرنسي يغلي بكل ما هو جديد إذ برزت على الساحة الثقافية والفنية مجموعة من المثقفين والمبدعين من مختلف المشارب والاتجاهات الفكرية والفنية لتجتمع في نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات من القرن الماضي منهم مخرجون تسجيليون من أمثال آلان رينيه وجاك ديمي وفرانجو، وعدد من نقاد مجلة " كراسات السينما" أمثال جون لوك غودار وفرانسوا تروفو وكلود شابرول وإريك رومير وجاك ريفيت ، ومساعدوا إخراج من أمثال لوي مال و ومارسيل كامو.وكانت على أيديهم إنطلاقة الموجة الجديدة الفرنسية في السينما رسميا من مهرجان كان السينمائي الدولي في دورته لسنة 1959 عندما حصد فيلم فرانسوا تروفو الروائي الأول "الأربعمائة ضربة " ، جائزة الإخراج عرض فيه المخرج بطله الأثير لذي جسد شخصيته هو في الحياة الواقعية وهي شخصية أنطوان دوانيل والذي أدى دوره الممثل الموهوب آنذاك جون بييرليو من خلال سلسلة من الأفلام التي رافق فيها المخرج فرانسوا تروفو من فترة المراهقة الى البلوغ .كما قدم المخرج ذي البصمات الحادة آلان رينيه أول أفلامه الروائية " هيروشيما حبيبتي " عن رواية للكاتبة والمخرجة السينمائية مارغريت دورا التي كتبت بنفسها سيناريو الفيلم وكان أول تجاربها السينمائية . وقبل عام كان كلود شابرول قد قدم فيلمه الأول" سيرج الجميل" ولوي مال عرض فيلم"مصعد للسقالة" وفي سنة 1960 قدم جون لوك غودار فيلمه الشهير " على آخر نفس"والذي ترجمه البعض بعنوان " اللاهث" . أثار غودار حينذاك حفيظة النقاد التقليديين وأثار كراهية حادة من جانب العديد من العاملين في الوسط السينمائي فلم يمدحه هؤلاء النقاد ولابكلمة طيبة واحدة بينما وصفه ريشار رو بأنه أعظم صانع أفلام في زماننا ،واعتبره الروائي والناقد الكبير كلود مورياك ابن الكاتب المعروف فرانسوا مورياك، الدواء الذي بفضله تفادت السينما الفرنسية العقم واستطاع أن يعيد للسينما عقلها ووعيها ويحررها من الترهل والطقوسية البالية ويمنح الكاميرا وعيا وعقلا جماليا مبدعا كاسرا القواعد المتكلسة ويفرض أسلوبه الخارج عن المألوف في ذلك الوقت ويخلق مدرسته الخاصة في الإخراج السينمائي. تخلص غودار من الحبكة وتركيبها والتخطيط الدقيق والتفصيلي للقطات والحوار والموسيقى والإضاءة المتقنة لكنه تجرأ على التجريب في المونتاج الذي اعتبره الجزء الأهم في إبداع المخرج وإن لم يمارسه بيده بل يقوم بذلك بالنيابة عنه المونتير المحترف وهو لايتردد في حذف واستئصال مئات الأقدام واللقطات والمشاهد في المونتاج النهائي لأن بقائها من شأنه تدمير الفيلم كما كان حال عشرات الأفلام التي تمسكت بمشاهد حشو فائضة عن الحاجة الدرامية أو التعبيرية ولم تتخلص منها في غرفة التقطيع والمونتاج النهائي.وكانت تلك من أهم خصائص أسلوبه الارتجالي كلقطة بطلته آنا كارينا وهي تحك ركبتها في فيلم بييرو المجنون لا لشيء إلا لأنها أحست بالحكة وهي تمثل أثناء تصوير اللقطة فلم يوقف المخرج التصوير وجعلها تفعل ما يحلو لها تلقائيا واحتفظ باللقطة في الفيلم في المونتاج النهائي، لكنه ارتجال واع لايسمح للقطات الفجة أو الضعيفة بالتسلل الى أفلامه الكثيرة والمتفاوتة المستوى لكنها جميعا تتطلب وعيا سينمائيا متقدما لاستيعابها وقراءتها فنيا. لم يكن غودار وحيدا في همه لإعادة الحياة للسينما الفرنسية بل كان الى جانبه مخرجون يشاركوه في رؤياه ويبحثون على الدوام عن طرق جديدة للتعبير في أفلامهم من أمثال آلان رينيه وآنيس فاردا وكلود لولوش في أفلامه الأولى قبل أن يتحول الى مخرج تجاري ففيلم لولوش الشهير رجل وإمرأة بسيط في حكايته متقدم جدا في اسلوبه ويعكس من خلاله رؤيته الى عالم الحب عبر تغيرات مفاجئة من الألوان الى اللونين الأبيض والأسود بمصاحبة موسيقى البوب وخلط الأزمان وتعاقب الأحداث والذهاب والإياب بين الماضي والحاضر ، بين الواقع والحلم ، بين الحقيقي والمتخيل، والعرض المشوش للأحداث والتحويرات المتعددة في زوايا الرؤية والتناوب بين اللقطات البعيدة والقريبة وتسجيل الحوارات على خلفية من الضوضاء الطبيعية في مواقع التصوير . إن أفلام غودار ولولوش وفاردا ورينيه وشابرول وتروفو وألان وروب غرييه تشترك كلها ، ليس فقط باستخدام تقنيات جذرية في جدتها ، كاستغلال الصور والأفكار غير المترابطة وتغيرات الإيقاع بين السرعة والبطء والاستعمال الجريء للموسيقى والمؤثرات الصوتية والصورية ، وإنما أيضاُ هي تشترك في التمجيد الشعري للشباب وعصرهم . عبر البعض من هؤلاء المبدعين نظرياً عن أطروحاتهم ورؤيتهم الجمالية في مجلة سينيا التي أسسها لوي ديللوك فيما يتعلق بالإنعطافة الجمالية الأولى في سنوات العشرينيات، بينما اختار آخرون الكتابة على نحو مواز أمثال آبشتين وجيرمين دولاك . أما فيما يخص الإنعطافة الجمالية الثانية في سنوات الخمسينيات والستينيات فقد آثر المنظٌرون الكتابة في مجلة " كراسات السينما" وهي المجلة السينمائية الرصينة التي أسسها سنة 1951 الناقد والمنظٌر المعروف أندريه بازان صاحب الكتاب المرجع " ماهي السينما" بالتعاون مع جاك دونيول فالكروز الذي أصبح رئيس تحريرها لسنوات طويلة بعد وفاة بازان وتحول بدوره إلى الإخراج .إن عبور هؤلاء النقاد وعشاق الفن السابع من الكلمة إلى الصورة ومن الكتابة إلى الإخراج والوقوف خلف الكاميرا لهو تعبير عن احتجاجهم على هيمنة الشيوخ وطعنهم لنمط الإنتاج والتصوير والإخراج السينمائي التقليدي الذي كان سائداً آنذاك منذ الحرب العالمية الأولى ، بالنسبة للمدرسة الأولى، وما كان سائداً في سنوات الثلاثينيات واربعينيات والخمسينيات، بالنسبة للمدرسة الثانية فهؤلاء الأخيرين تأثروا بنوع مميز ومتفرد من السينما الأمريكية المعاصرة تجسد بألفريد هيتشكوك ونيكولاس راي وأندريه كازانوهاوارد هاوكس. فعندما كتب لوي ديللوك مقالته التأسيسية التي حملت عنوان " سيكون هناك سينما فرنسية" كان يعبر فيها عن يأسه الذي سبق أن نشره في مقال آخر قال فيه :" إن فرنسا التي أختلقت وابتكرت وأبدعت وطورت بعد أن أطلقت السينما هي الآن متأخرة ومتخلف جماليا وتقنياً ولابد من هزة تزعزعها" وكان يأمل ببروز ونجاح نصف دزينة من المخرجين الذين أصبحوا فيما بعد أساطين السينما التي ثارت عليها الموجة الجديدة واشتهروا وصاروا من المخضرمين من أمثال آبل غانس ومارسيل ليربييه ودولاك . نفس مصادر الإلهام توفرت لهؤلاء وإن كان تمركزهم حول أطروحة لوي ديللوك بالرغم من اختلاف اساليب الإخراج لدى كل واحد منهم وقد ظهر ذلك جلياً في أعمال المونتاج الإبداعي في أفلامهم فضلا عن الإنارة الفنية الموحية بدلالات تعبيرية غنية.أما الموجة الجديدة فهي :" ليست بالحركة ولا بالمدرسة ولا بالمجموعة المتجانسة، بل هي كم من المبدعين، وتسمية جماعية أختلقتها الصحافة لجمع خمسين إسماً جديداً في عالم الإخراج السينمائي خرجوا إلى الوجود " على حد تعبير فرانسوا تروفو، والذي أضاف:" إن هذا الكم من الأفلام والمخرجين ـ المؤلفين، ليس له قاسم مشترك سوى الرفض لطرق وأساليب التصوير والإخراج والمونتاج والإنارة الطاغية على الصناعة السينمائية منذ سنوات طويلة".لقد أستفاد هؤلاء المجددون من التقدم والتطور التقني " التكنولوجي" الهائل في معدات التصوير والمونتاج والإضاءة التي باتت خفيفة وسهلة الاستخدام مثل استخدام كاميرا الكامفليكس 35 مللم الخفيفة والمحمولة التي ظهرت سنة 1958 ومسجل الصوت الدقيق والحساس جدا والخفيف من طراز ناغرا والذي أحدث ثورة في أساليب تسجيل الصوت الحي والمباشر خارج الأستوديو. لقد رفض هؤلاء الطليعيون من الجيل الأول والثاني على السواء نمط السردية التقليدية والمونتاج الكلاسيكي كما بدا ذلك واضحا في أفلام لوي بونويل الأولى وجون كوكتو ورينيه كلير وغيرهم وكذلك في أفلام غودار ورينيه وشابرول ورومير وموريس بيالا الذي وصل متأخراً والتحق بالركب سنة 1967 بفيلم الطفولة العارية. كانت المدرسة الطليعية تشاطر الموجة الجديدة أطروحة الرفض للقوالب الجامدة والتقليد الأعمى والروتيني المهني لاسيما في وجود رغبة صادقة في ترجمة الدواخل العميقة للإنسان ومعالجة سيكولوجية الشخصيات بصورة مبتكرة وجريئة وتصوير الحلم والغوص فيه وتفننوا في تزييف وتشويه الصور وتخريبها المتعمد وجعلها مغوُشة ومضببة وغير واضحة عن قصد كما في فيلم " اللاإنساني" ، أو تسريعها و إبطائها حسب الظروف ومتطلبات العمل ، أو تكثيف عمليات المزج والمسح والانتقالات والتعريض المبالغ فيه للضوء كما في أفلام " استراحة قصيرة لرينيه كلير" و " العجلة لآبل غانس" أو المونتاج السريع كما في أفلام " إني أتهم و نابوليون لآبل غانس" أو اللجوء إلى اسلوب الكناية والترميز والمجاز وإدراج لقطات من خارج السياق الفيلمي المروي مستلهمين نظريات المونتاج الطليعي التشويقي ذو الجاذبية النفسية لآيزنشتين كما في فيلم " بخصوص نيس 1929 أو أسلوب التوثيق الاجتماعي الذي اشتهر به جون فيغو، وهذا الأخير كان على هامش حركة السينما الطليعية لكنه يكتسي نفس أهميتها بالنسبة للسينما الوثائقية . جلهم تعاطى مع أسلوب القطيعة في المونتاج لكسر الوهم الفيلمي التواصل السردي والتعاقب التقليدي للمشاهد والفصول واللقطات السينمائية وكسر الإيقاع باستخدام التبطيء والتسريع والتوقف على الصورة و التكرار الخ.. مثل مشهد سقوط قتيل إثر تعرضه لإطلاق الرصاص داخل غرفة وتدرج لقطات مقربة له ولوجهه أو عينيه أو يديه تكون بطيئة الحركة أثناء سقوطه ثم نراه في لقطة عامة ساقطاً على الأرض في حقل واسع خارجي، أو الانتقالات المفاجئة من دون تمهيد من اللقطات القريبة إلى المتوسطة كما في فيلم " كلب أندلسي" . فالقطع أثناء الحركة في عرف ومفهوم الإخراج التقليدي جريمة لاتغتفر حيث لايمكن الربط بين زمانين ومكانين سينمائيين بهذه الطريقة التعسفية كما يقول شيوخ الإخراج السينمائي المخضرمين . فالروحية السوريالية تريد إحداث قطيعة بين الفيلم والواقع فهذه القطيعة في إيقاع التلقي والإدراك نجدها مكررة ومنمطة في فيلم " دم الشاعر" لجان كوكتو 1930 الذي لعب بمهارة على حبل العودة إلى الخلف والتصوير البطيء لأن الفن السابع ولغة الصورة عموماً برأيه قريبة مما يسميه" نقطة اللاتفكير" ومن هذا اللاتفكير أو غير المفكر به كالحلم والكابوس وغموض الليل والتنويم المغناطيسي أو رحلة اللاشعور يخرج ألأثر الفني الى منطقة الوعي مجتازا مناطق وعرة في اللاوعي حيث يتعين على الأثر الفني اولا وقبل كل شيء أن يجتاز مراحل أساسية وعادية بالنسبة لإدراكنا وفهمنا للزمكان. وبهذا الصدد نتذكر رأي المنظٌر السينمائي بيلا بالاز حول فيلمه " ناركز" المكمل لرأي جان كوكتو بشأن الصور المتنافرة في فيلم " كلب أندلسي للمخرج لوي بونويل "، الذي طرح فيه أسس نظرية " التواصل المشهدي وارتباط اللقطات ببعضها مما يضمن استمراريتها الواقعية واتصالها ببعضها رغم تباعد أوقات تنفيذها واختلاف تسلسلها داخل الفيلم أو الاستمرار والتواصل داخل الحركة الواحدة ،ولكن بصورة مغايرة. يقول بالاز:" نحن نحلم أو نتخيل الزمان والمكان ليس كموقع يتحول على نحو خارق ولا معقول إلى آخر، بل لأن كل مكان لايوجد له معنى محلي توحيدي كوحدة مكانية. فنحن نتواجد في نفس الوقت في عدة مواقع، في غرفة وفي غابة، وبالتالي ليس بإمكان المسرح ولا الأدب أن يقوما بمثل ذلك دون أن يجعلانا نشعر به بينما السينما هي وحدها القادرة على فعل ذلك" علينا أن نعرف أن مثل هذا الوعي المتقدم بقدرات وإمكانات الصورة السينمائية كان معروفا في السنوات الأولى لاختراع السينما وهي تخطو خطواتها الأولى فلماذا لانشاهد في سينما اليوم مرويات الروح أو النفس على شكل صور؟ وأي فن آخر غير السينما يمكنه أن يقدم على نحو أفضل الحركة البطيئة واللحظة المتجمدة للحلم ويجسد صورياً الشك بالذات أو السرعات الهذيانية والحلم والهلوسة ويلغي التواصلات والانتقالات العقلانية والتوضيحات والشروحات المنطقية ويمزج المعايير ويجعلنا نخلط بين بين الواقع ونقيضه ويمكنه أن يحطم كل شيء ويعيد بناؤه ويمنحنا الثقة بأحلامنا ". تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى محاولة إستعادة الزمن الواقعي التي قام بها المخرج الفرنسي الشاب والموهوب جداً ليو كاراكس سنة 1986 عبر مشاهد تسريعية في فيلم " دم فاسد" لاسيما مع مشهد متابعة دراجة دنيس لافون وجولي دلبي أثناء خروجه مسرعاً من المرآب ، ومشهد السباق النهائي لجولييت بينوش باتجاه الكاميرا وهي تتحرك في ترافلنغ خلفي إلى الوراء مما يتسبب بهزات شديدة وحركات متقطعة وغير منتظمة وقفزات خفيفة ، بادر ليو كاراكس بحذف وإزالة بضعة صور من هنا وهناك مما أعطى هذا الانطباع بالتعجيل والتسريع الصادم. وقد سبق لغودار أن فعل الشيء نفسه من قبل في فيلمه الأول " على آخر نفس" إذ تعمد قطع استمرارية الحركة والفعل من خلال تغيير الكادراج أو التأطير وبذلك تسبب في خرق القاعدة الإخراجية الكلاسيكية التي تقول بأن أي تغيير لزاوية التصوير وموضع الكاميرا أو المنظور البصري يجب أن يتم على الأقل بزاوية 30 درجة ولم يكن هذا هو واقع الحال مع هذا المخرج. فبطلته في فيلم " على آخر نفس" تنظر لنفسها في مرآتها ،وأثناء الحركة نراها تركب السيارة بعد أن اشترت فستان ، وكثيرا ما يقوم غودار بإحداث قطع داخل اللقطة وهو الأمر الذي فعله كلود شابرول في اللقطة التي تجمع بين الزوجين الخائنين في فيلم سيرج الجميل 1964 وهما ينطلقان جنباً الى جنب في سيارة باتجاه مدينة ريم ، بينما لايميل فرانسوا تروفو إلى التغيير المفاجيء في الكادراج ولايحبذ كسر الإيقاع الفيلمي ووقف إنسيابية الصورة من خلال توقفها أوتجميدها كما فعل غودار في فيلم " هنا وهناك 1976" وتكرار الصور لنفس الحركة أو تعاقب الصور المؤثرة على تسلسل الحدث في فيلم "حاملو البنادق" 1963 وفيلم "بييرو المجنون" حين يجتاز جان بول بلموندو نفس المجال الأحادي اللون ( أزرق ثم أخضر) وهناك العديد من الأمثلة غيرها يمكن ملاحظتها عند مشاهدة أفلام غودرا وكاراكس ودورا وغاريل وغيرهم لنخلص إلى القول بانه كانت هناك بدايات لسينما مختلفة وعفوية عرفت بإسم السينما التجريبية تكون الصور فيها ضمن سياق إيقاعي ـ نفسي تبعاً لفكرة أن الحركة والمونتاج هما بمثابة موسيقى صورية ـ بصرية تميزت بها سينما الطليعة ( الآلوان، الإنارة، اللمحة الشعرية، تجاوز المقاييس المتجانسة أو البعد الزمكاني والطبيعة الفوتوغرافية للصورة والوصول الى اليعد المجازي والرمزي للشكل البصري لصور الأجساد والأشياء ، بل وحتى تجاوز الكاميرا وصنع صور مباشرة على الفيلم الخام لانتاج مشاهد ولقطات تتجاوز التماهي والتشابه مع الواقع أو نسخه، أي كسر وهم الواقع والسردية التقليدية . فالسينمائيون من هذه الشريحة أو الفئة الهامشية يبدعون أفلاماً خارج الحدود المفروضة . وهناك من المخرجين من مارس بجدية مدهشة التلاعب بالزمان والمكان في إطار البنى السردية الدرامية للقصة والحدث الفيلمي كما فعل آلان رينيه منذ فيلمه الأول " هيروشيما حبيبتي 1959 إلى آخر أفلامه سنة 2003" دخن لاتدخن" مروراً بفيلمه المتميز" العام الماضي في مارينباد 1962 عن سيناريو للروائي والسينمائي الطليعي المجدد والمنظٌر للرواية الجديدة آلان روب غرييه حيث قام رينيه بالتجوال بحرية بين الواقع والخيال ، بين الزمن الملموس والزمن المفتوح والغامض أو اللازمن، واللجوء الى أسلوب خلط الأوراق واستخدام وحدة المكان وتنوع الأزمان والفترات الزمنية . ففي مكان واحد تتعاقب الشخصيات التي يفصل بينها عام كامل وهي تتحاور، والمتفرج ضائع وتائه مع تيه الشخصيات التي أغرقه معها صاحب رواية " المتاهة" آلان روب غرييه كاتب السيناريو الذي تحول إلى الإخراج السينمائي فيما بعد. فالمتفرج غير قادر أمام مثل هذه المشاهد على الفرز وغير متأكد مما يدور أمامه في فضاءات الحلم والمخيلة والوعي واللاوعي في آن واحد. في صلب أسس وأركان التطور التعبيري لسينما الطليعة والسينما الجديدة يدخل البعد الضوئي إذ تتم معالجة الضوء والإنارة كعنصر جمالي ولغوي كالموسيقى والمونتاج من قبل مدراء التصوير والمخرجين، إما من أجل الإلتصاق بالبنية السردية لخلق المناخ الموائم والمطلوب والجو النفسي المناسب للحدث الدرامي، وإما للإنفصال عن العملية السردية والتجرد من الصيغة الصورية ـ الغرافية "الفيغوراتيف" المباشرة والواقعية وتقديم مفردات لغوية ـ ضوئية بصرية"يمكن أن تكون تجريدية، خاصة تدعم الحدث الدرامي الغرائبي أو الملحمي الخرافي أو الحلمي المتخيل . فحسب تعريف وتخصيص الكاتبة كارولين شامينييه هناك:" فيلم سردي " و " فيلم ضوئي " في فيلم روائي واحد لايمكن الفصل بينهما ويكون الثاني في خدمة الأول لكنه يقوم بذلك على نحو مستقل كأنه حدث أو نتوء في الجسد الفيلمي، ويستقل طرقاً موازية، وإن الالتقاء بين الإثنين رهن بالصدفة". الكتابة بالضوء أو الإنارة الناطقة: الإنارة الفنية في السينما تثير الدهشة فينا وتحدث أبصارنا وما تحتفظ به ذاكرتنا من صور عندما تنصهر وتبتلع في طوفان الفيلم الخام ، وبعد أن تختفي ولم يبق منها سوى نصاعة بياض القماشة التي تصنع منها الشاشة . الأشباح المتحركة للعمال في فيلم الخروج من المعمل وهو من أوائل أفلام لوميير ، وقمصان رجال الأعمال الناصعة أو أصحاب الياقات البيض والشراشف البيضاء الغارقة في طوفان من الضوء حتى تختفي ملامحها، وذلك الشعور المبهم الناجم عن بقعة لون على خلفية بيضاء تغمر الشاشة ، أوالعكس أي ذلك الإحساس الناجم عن فقدان الأشكال والألوان في عتمة الظل تخرقها نقطة ضوء باهتة كما في أفلام " ليلة الملتقى ، وتقاطع طرق" لجان رينوار.الضباب أو الغيوم المتبخرة وانطباع من الشفافية لمكان نراه من بعيد أو لجسد أو شيء مغبش أو مضبب . كل ذلك يصنعه تباين الإنارة واختيار مصادر الإضاءة الصناعية والطبيعية بدقة ودراية. أولت السينما الفرنسية ، في كل الفترات والمراحل الزمنية من تاريخها، ومع الأنواع الفيلمية كافة، وجميع الاتجاهات والمدارس الفنية والجمالية ، وتطور المعدات والأجهزة ،إهتماماً متميزاً للإنارة في السينما ولدور الضوء والظل في الفيلم السينمائي وعلى نحو يختلف عن الأساليب التي رسختها وعممتها المدارس التقليدية في الإخراج السينمائي لاسيما الهوليودية، وذلك من خلال النمط الموحد أو الإضاءة الأحادية المنحى والدلالة، أو المتباينة المغزى والرموز والمتباينة المصادر ،لعبة بلاستيكية مكونة من ضوء وظل يغلفان الأشكال المؤفلمة ، لوحة ضوئية مدروسة بعناية ومستهلمة من النماذج والآثار التشكيلية والمسرحية والسينمائية المتقنة الصنع أو غير المتقنة ، المسيطر عليهاأو الفالتة من عقالها. فالصورة البدائية اتسمت بعدد من الأساليب والتدرجات اللونية بالأبيض والأسود وتدرجاتهما الرمادية المختلفة وتعدد الألوان،مما نتج عن ذلك أضاءة تفصح عن بصمات وأسلوب ورؤية مبدعها لاسيما في التصوير الخارجي بالذات مع التباين الحاد بين السواد الكالح والغامق والبياض الناصع والبراق الذي يغشي النظر ويطبع بصماته بقوة على الفيلم الخام القليل الحساسية( من 15 إلى 20 ASA ) غير المطواع عادة ويصعب فرز تدرجاته الرمادية بين الأبيض والأسود أو بين ألوان النافرة أو الفاقعة والألوان الهادئة ، الحارة والباردة. ساد مبدأ الإنارة المتجانسة والمتساوية من الأعلى أو مايعرف بالإضاءة العمودية من السقف، لسنوات طويلة مما أدى إلى محو مناطق الظل والتباين في التدرجات الرمادية وطمس التناغمات اللونية ذات الإيحاءات الرمزية وذلك في الكثير من الأفلام التقليدية التي لانعرف فيها مصدر الضوء الذي تقتصر وظيفته على التعريض فقط لتأمين صورة الشيء المصوُر.لقد أثر هذا النمط من الإضاءة على طبيعة الألوان وتدرجاتها ووظائفها اللغوية والتعبيرية إلا أن المخرجين الشباب تمردوا على هذا المبدأ الجامد فقام المخرج الفرنسي الشاب والموهوب جداً ليو كاراكس سنة 1986 بالخروج على المألوف التقني عندما حاول أن يجذر فيلمه "دم فاسد"في سياق منظومة الصور القديمة الملونة باليد واستخدام الأصباغ بغية التلوين ( كما هو مستخدم عادة في القصص المرسومة والرسوم المتحركة والمجلات المصورة أو الحكايات المرسومة والسينما البدائية حيث خلٌد كاراكس نمط البقع اللونية العشوائية التي عادة ما توجد على الملابس والأقمشة والديكورات الملونة أو المصبوغة بالفرشاة الكبيرة المستخدمة في صبغ جدران البيوت في العديد من مشاهد أفلامه كالمشاهد التي تظهر فيها ميشيل بيرييه ومشاهد الحوار بين العشيقين الشابين قبل ظهور ميشيل إذ يتغير لون المنديل الذي تمسكه جولييت بيونش أثناء اللقطة المخصصة لشخصية دنيس لافون فاللون يمكن أن يتغير فجأة حسب الشحنة الرمزية المطلوب إيصالها للمتفرج والتي تحملها دلالة بعض الألوان تبعاً للبلد والحساسية الذوقية سواء كانت شرقية أو غربية.فالقاعدة العامة للرمز اللوني تقول أن اللون الأزرق يوحي بتدرجاته لليل والعتمة ، والأخضر بتدرجاته المختلفة يستخدم للطبيعة والتصوير الخارجي الطبيعي والأحمر بتدرجاته وتنوعاته أيضاً مخصص لمشاهد الحب والهيام والخطر والحوادث والانفجارات واللون البني (سيبيا)للمشاهد الداخلية عموماً وفق تقنية الصبغ بالفرشاة . الكتابة بالضوء عمليات التجريب والأبحاث البصرية التي قامت بها حركة الطليعة في الفن التشكيلي وتطبيقاتها في السينما من خلال عمليات المزج والتغبيش المتعمد وعدم وضوح الصور وتضاعف الكادرات جعلت الصور تبدو وكأنها تهرب من " الواقع"وتظهر وكأنها منبثقة عن الحلم والخيال أو " المخيلة" وتفلت من سيطرة وسطوة السردية الروائية بفضل صيرورة التشويه الناجمة عن مثل هذه التدخلات التقنية المقصودة حيث يغدو من الصعب قراءة بعض تلك المشاهد والصور إلا باعتبارها مجموعة من الخطوط والمنحنيات البيانية ومناطق ظل وضوء متباينة ومتداخلة ، ومناظر ذات شفافية مفرطة أوضبابية تامة أوالتناوب بين التألق والخفوت لتتقولب كما في السينما التجريبية وتكون مجرد شبكة بلاستيكية ـ تشكيليةـ منسوجة من الخيوط الضوئية المتداخلة بفعل الإنارة العنكبوتية. على الصعيد العملي والتطبيقي، برز إسم مدير التصوير الفرنسي المبدع هنري آلكان الذي كان مديرا للتصوير منذ سنة 1946 في فيلم " معركة السكك الحديدية" لرينيه كليمون واستمر في الابتكار والتنويع في الأساليب مع افلام " الحسناء والوحش" للشاعر جان كوكتو سنة 1948،وفيلم" عشاق الفيرون" للمخرج أندريه كايات. كان هنري آلكان شديد العناية بصوره ومشاهد الأفلام التي أختير لكي يكون مديرا للتصوير فيها ففي فيلم شاعر السينما الفرنسية جان كوكتو " الحسناء والوحش" أصرُ المخرج ، كما يقول هنري آلكان:"وحرص من حيث الجوهر على أن يخرج فيلمه تحت إضاءة قريبة من تلك التي تخترق المواقع الداخلية والمناطق المرئية وغير المرئية في لوحات الفنانين الهولنديين في القرن الثامن عشر لاسيما بيتر دوهوش وجون فير ميير " علما بأن المخرج الشاعر لم يكن ينوي أن يصنع لوحات فيلمية إلا أن مشاهده السينمائية بدت كأنها لوحات تشكيلية لكنها بالأبيض والأسود ولدت من مصادفة التكوين الجمالي لمشاهد كان من المتعذر السيطرة عليها أو التحكم بها. إن خطورة السينما في هذه الحالة لاتكمن في أن النية معقودة على تقديم" رمبرانت" على الشاشة لكنها تعوُدنا على رؤية "روبيت" لذا من المفترض عدم التفكير باللوحات والعمل كما لو إنها غير موجودة إلا في الذهن القابع في اللاشعور ومن الممكن حينها أن تكون النتيجة لوحة سينمائية بمعايير تشكيلية على غرار "فير ميير"... يضيف هنري آلكان بهذا الصدد وهو يتحدث عن إضاءة الرسامين هل هي منسوخة أم مبتكرة؟ :" إن الدرس الذي يتعين علينا استخلاصه هو أنه يستحيل على السينمائيين نسخ أو تقليد المعلمين الكبار في عالم الرسم والفن التشكيلي بل يمكنهم فقط استلهامها. فدينامية السينما تخضع لـ ، وتطبع بـ " قواعد عديدة لايمكن أن يتقيد بها الفنانون الكبار . ولكن مما لايقبل الجدل أن فيلم الحسناء والوحش تأثر بإضاءة الفنانين الهولنديين لكنه نقلها من خلال التصوير بالأبيض والأسود واستخدام لعبة معقدة من الضياء والظلال منسقة من خلال الواجهات والمقدمات والخلفيات وعمق المجال وكثافات هؤلاء وأولئك المتنوعة: من هنا يمكننا الجزم بأن تأثير الفن التشكيلي واضح البصمات على إبداع هنري آلكان باعترافه هو في كتابه القيم والرفيع المستوى كأحسن دراسة أكاديمية منهجية تحمل عنوان " الضياء والظلال" . لكن المخرج الطليعي لوي ديللوك نصح بعدم المغالاة والتخفيف من حدة هذا التأثير المباشر للفن التشكيلي على الصورة السينمائية إلا أنه من الشائع لدى الكثيرين أن إضاءة الرسامين قلدها عدد كبير من المخرجين ومدراء التصوير منذ سنوات طويلة لاسيما في أفلام عالجت إعادة بناء الأحداث التاريخية إذ ساعد التقدم التكنولوجي في تنفيذ ذلك بسهولة بفضل ظهور معدات جديدة ومتقنة ومتطورة لاسيما في مجال حساسية الأفلام الخام والكاميرات العالية الكثافة أو الرقمية وتقنيات الألوان .لقد استهلم آبل غانس قي فيلم" أوسترليتز" 1959 لوحة البارون جيرار وهو رسام من الحقبة النابليونية ، كما أن الرسام فير ميير كان حاضراً بقوة في المشاهد الداخلية لفيلم " سيرانو دو بيرجراك من إخراج جان بول رابنو سنة 1989، وكذلك كانت بصمات الرسام باولو أوشيللو واضحة في مشاهد المعارك حسب اعترافات المخرج نفسه ومدير تصويره بيير دوم. ويمكننا العودة للاستشهاد بالمخرج الشاب ليو كاراكس ومدير تصويره جان إيف إيسكوفييه في افلام"دم فاسد" و " عشاق جسر البون نوف" واستلهامهما لآثار جهابذة الفن التشكيلي الكبار الذين يضم متحف اللوفر آثارهم إذ كانا دائمي التردد عليه في فترات تحضير تصوير تلك الأفلام. إضاءة حقيقية .. إضاءة دقيقة: وسمت الموجة الجديدة الفرنسية بعودة الإنارة " المتألقة والمضيئة جداً أو العكس الباهتة" كإنارة البدائيين مقابل الإنارة ذات الدلالة الموضوعية ـ نسبة للموضوع ـ إذ حاول مدراء تصوير أفلام الموجة الجديدة المشهورين منهم على الأقل، مثل هنري ديكا و راؤول كوتار ، إستعادة تلك الإنارة في حالتها الصافية والخالية من البعد السايكولوجي ، أي الإنارة كما تمنحها الطبيعة في الأحوال العادية المألوفة والتي تقتصر مهمتها على وظيفة تعريض الفيلم الخام للضوء بما يلزمه من كم ليتعرض تعريضاً مضبوطاً ودقيقاً حينما أصبح هذا الأمر ممكناً بفضل اختراع الفيلم الخام الفائق الحساسية الذي يمكن التصوير به من دون معدات إنارة صناعية إضافية وبروجيكتورات ضخمة ومولدات كهربائية لازمة لتشغيلها مع مايلزمها من مرشحات وفلترات وعواكس واكسسوارات ضخمة.الجهة الوحيدة التي كانت تصور أفلامها مع الإنارة الطبيعية فقط رغم ضعف الأفلام الخام آنذاك هي المدرسة البدائية ذات الاتجاه المناقض للمدرسة الهوليودية التي تقيدت بالنجوم بحيث ارتبط كل نجم بمدير تصوير معين يتعامل مع المشاهد واللقطات بما يتناسب مع ذلك النجم أو النجمة فعلى سبيل المثال ارتبط وليام دانييل مع غريتا غاربو و لي غارميس مع مارلين ديتريش . بينما رفضت الموجة الجديدة الفرنسية ذلك البحث الدؤوب عن الوجه ( الفوتوجيني) الملائم للتصوير لصالح ( الصورة الضرورية) ثمرة الحدس الذي ليس بالضرورة أن يقدم نتيجة تتسم بالجمال والدقة لامعنى لها سوى تمتعها بالجمال المصطنع والمنمُق ، بل مجرد صور مفهومة كما قال المخرج الفرنسي روبير ريسون الذي أضاف :" إن جمال الفيلم لايكمن في جمال صوره المصنوعة على غرار بطاقات المعايدات والبطاقات البريدية السياحية . فأسلوب روبير بريسون البالستيكي متقشف في صوره وكادراته وحواره ومونتاجه ويتلخص بـ " التعريض الضوئي في حده الأدنى الضروري فقط لما يتطلبه السرد الفيلمي ولا أكثر من ذلك" على حد تعبيره. بالرغم من ذلك كانت صور ولقطات بعض أفلام الموجة الجديدة تتميز بالجمال كما شاهدنا ذلك في أفلام كلود شابرول " سيرج الجميل" و " ابناء العم" و " القصاب" بفضل حنكة ومهارة وخبرة مدير تصويره هنري ديكا . وكذلك أفلام المخرج لوي مال كما لاحظنا في فيلم"العشاق" و " مصعد من أجل السقالة" . وفي أفلام فرانسوا تروفو منذ فيلمه الأول " الأربعمائة ضربة" وجرأة راؤول كوتار الذي استخدم الشريط الخام الحساس جداً في فيلم غودار " على آخر نفس" ولجأ إلى الإنارة الطبيعية حتى في المشاهد الداخلية فضلا عن الخارجية التي صورها في شوارع باريس كما هي وعلى مدار النهار وتنقلات الشمس من الصباح حتى الغروب . نفس الهم الجمالي يمكن لمسه في فيلم " لولا" لموريس بيالا إلى جانب التجارب الطليعية في ميدان الإنارة في أفلام فيليب غاريل كما في فيلم " قبلات النجدة" وفيلم المخرج ستراوب ويية " مبكر جداً ومتأخر جداً" ذو الإنارة الفاقعة والتعريض الضوئي الزائد عن اللزوم حيث تعمد المخرج في تضييع تفاصيل الوجوه المغمورة بالإنارة القوية إذ يبدو الوجه كأنه محروق بالضوء وتظهر الحبيبات الضوئية على الملامح . وهكذا كانت مفاهيم الإنارة في السينما إما محكمة وذات أغراض واقعية أو ذات مضامين وموحيات سيكولوجية ورمزية أو متحررة من كل الاعتبارات الحرفية أو تقوم بوظيفة تقنية بحتة لضرورات تعريض الشريط الخام وطبع الصور عليه بوضوح وتكونت عبر التجارب والمدارس المختلفة لغة تعبيرية بواسطة الإنارة أطلق عليها اللغة الضوئية التي سنحاول في دراسات قادمة تحديد قواعدها وملامحها ومفرداتها ومعانيها من خلال استخداماتها العملية في العديد من الأفلام الشهيرة في تاريخ السينما على مدى مائة عام هو عمر السينما اليوم.
#جواد_بشارة (هاشتاغ)
Bashara_Jawad#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
رؤية تحليلية للسياسة الفرنسية إزاء الاستراتيجية الأمريكية -ا
...
-
مراجعات في السينما التاريخية - التحول من نصوص التاريخ الي ال
...
-
حوار مع جواد بشارة
-
التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
-
جدلية القوة والضعف في أعمال المخرج الألماني فيرنر هيرزوغ
-
على مفترق الطرق : العراق وآفاق الحل
-
العراق : اليوم وما بعد اليوم هل يمكن أن تصبح بلاد الرافدين ف
...
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
تداعيات من داخل الجحيم البغدادي
-
الإسلام يهدد الغرب أم يتعايش معه ؟
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
رؤية أمريكية للوضع في الشرق الأوسط
-
من الانتداب الأول إلى الانتداب الثاني: إنهيار نظام ما بعد ال
...
-
أمريكا ومنهج التجريب في العراق : قراءة في تحليلات وسائل الإع
...
-
الرؤوس المفكرة الأمريكية في خدمة الدولة العبرية
-
التيار الديني معضلة واشنطن في العراق
-
تقرير عن حقوق الإنسان في العراق
-
حلول اللحظة الأخيرة للمحنة العراقية
-
عراق الأمس وعراق الغد : بين طموحات التحرر ومطامع الإمبراطوري
...
المزيد.....
-
القاهرة السينمائي يختتم دورته الـ45.. إليكم الأفلام المتوجة
...
-
صحفي إيرلندي: الصواريخ تحدثت بالفعل ولكن باللغة الروسية
-
إرجاء محاكمة ترامب في تهم صمت الممثلة الإباحية إلى أجل غير م
...
-
مصر.. حبس فنانة سابقة شهرين وتغريمها ألف جنيه
-
خريطة التمثيل السياسي تترقب نتائج التعداد السكاني.. هل ترتفع
...
-
كيف ثارت مصر على الإستعمار في فيلم وائل شوقي؟
-
Rotana cinema بجودة عالية وبدون تشويش نزل الآن التحديث الأخي
...
-
واتساب تضيف ميزة تحويل الصوت إلى نص واللغة العربية مدعومة با
...
-
“بجودة hd” استقبل حالا تردد قناة ميكي كيدز الجديد 2024 على ا
...
-
المعايدات تنهال على -جارة القمر- في عيدها الـ90
المزيد.....
-
مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة
/ د. أمل درويش
-
التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب
...
/ حسين علوان حسين
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|