دينا عمر
الحوار المتمدن-العدد: 3523 - 2011 / 10 / 22 - 10:35
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المغرب العربي
وأخيرا بدأت الاحتفالات الليبية بمقتل سفاح العصر القذافي لتتوج شهورا طويلة من الثورة المسلحة حسمت الأوضاع للثوار. فعلى مدى أكثر من أربعين عاما هي مدة سيطرة القذافي على ليبيا, استطاعت الجماهير الليبية بثورتها العظيمة نزع عباءة السفاح ونفض عقود طويلة من الفساد والديكتاتورية كانت قد أثقلت كاهلها وانعكست آثارها السلبية على كل الأوضاع بالبلاد.
نجاح الجماهير الليبية في ثورتها المسلحة بالقضاء على القذافي كانت هى الأكثر خطورة ودموية عن الشعوب التي سبقتها في تونس أو مصر, فهى من ناحية أصبحت الدولة الثالثة التي تهب بها عاصفة الثورة بعد سقوط اثنين من أعتى الأنظمة القمعية (المصرية والتونسية), وبالتالي ليس هناك ما يمنع سقوط القذافي طالما أن الشعب كان قد بدأ ثورته, لذلك عمد النظام لاستخدام كل أساليب القمع الوحشية لئلا يلحق بجارتيه. كما أن ذلك الشعب سليل المقاومة أصبح لا يواجه قمع النظام فقط, بل أيضا قد أضحى فى مواجهة أعوان النظام المرتزقة الأفارقة الذين حملوا أفضال الأب الكبير للقبيلة على عاتقهم واستقلوا الطائرات ونفذوا أقسى الأوامر من اغتصاب لليبيات وإطلاق الرصاص العشوائي وسط الأسواق الشعبية ليقع المئات بين قتيل وجريح في الأيام الأولى للثورة.
إلا أن طبيعة المواجهات التي ميزت الثورة الليبية عن سابقاتها -باعتبارها ثورة مسلحة- أضافت بُعدا آخر لقوة الجماهير بالمنطقة العربية ككل التي تعاني من نفس ضغوط القمع والفساد, ذلك البعد الذي خالف كل التوقعات المدبرة ضد تحرر الشعوب بذريعة الطبيعة القبلية للمجتمع الغير قابلة للانسجام (وهو ما حاولت الأنظمة زرعه لصد الاحتجاجات في اليمن على سبيل المثال), أو بمحاولة وصم التحركات الاحتجاجية ضد الظلم بالأجندات الأجنبية مثلما حاول سيف الإسلام جاهدا تمريرها للشعب الليبي في أولى خطاباته من تطبيق الجماعات الإسلامية لأجندات سياسية خاصة أو احتلال المصريين والتونسيين لليبيا بعد إشاعة الفوضى, وتلك الاتهامات الصريحة والموجهة للشعب باعتبارهم سكارى ومدمنى حبوب هلوسة, كل هذا قابلته قوة الجماهير بمراحل أكثر ثورية وجذرية بدءا من رفض الإصلاحات السطحية المقدمة على بساط أحمر من دماء الشهداء, إلى تطور وعي الجماهير بالاستيلاء المباشر على السلطة. ففي الوقت الذي يقدم به الابن عروضا خادعة, كان الثوار يسيطرون على سبع مدن بداخل وبشرق العاصمة ويضعون يدهم على مخازن الأسلحة, هذا بالإضافة إلى انضمام جانب كبير من الشرطة والجيش في صفوف المتظاهرين, كذلك توحدت القبائل والعشائر على إزاحة السفاح الذي طالب الشعب بتجنب الثورة وتسليم نفسه.
طبيعة الثورة الليبية أيضا أظهرت أنه مهما حاولت الأنظمة التصعيد العسكري ضد شعوبها لن يقابل ذلك إلا بتصعيد في المقاومة والتصدي وأيضاً الهجوم على الجانب الآخر, فقبل أن تموت تلك الشعوب تحت سيور الدبابات ماتت قبلها تحت سيور القهر والاضطهاد في ظل سيطرة وتحكم أقلية فاحشة الثراء وكرب أغلبية شعبية فقيرة، وفي ظل تناقضات للرأسمالية العالمية قادت إلى توحد الشعوب المقهورة على نفس المطالب.
تناقضات الرأسمالية والمجتمع الليبي
لم تتبن "الجماهيرية الاشتراكية العظمى" الاشتراكية من قريب أو من بعيد, فسلطة الدولة المسئولة عن توسيع الملكية العامة لم تكن لصالح الشعب ولكن كانت لصالح الحاكم نفسه, قطاع الصحافة مثلا تم تأميمه بالفعل لكن فى المقابل تم تجنيد كل القطاعات الإعلامية وإخضاعها لأهواء العقيد والمصالح المباشرة للسلطة الحاكمة, أو بمعنى آخر أن تلك القطاعات تم احتكارها لصالح الحاكم نفسه وما تلى ذلك من مصادرة الصحف وحرية الرأى والتعبير. الأجهزة الأمنية عمدت إلى إخراس كل الأصوات بالاعتقالات الأمنية المتعسفة دون توجيه تهم أو التقديم للمحاكمة. ناهيك عن القمع العنيف للحركة الطلابية بالجامعات بل ومحاولة محوها بالكامل بالتصفية الجسدية للطلاب داخل الحرم الجامعي وأمام زملائهم.
أما على المستوى الاقتصادي، فلم تختلف ليبيا كثيرا عن بقية البلدان بالوطن العربي, بل تعتبر ليبيا من أكثر البلدان التي أظهرت تناقضات حادة في الآونة الأخيرة زادت من قهر شعبها. فليبيا التي تعتبر ضمن أهم الدول المنتجة للنفط بالمنطقة العربية هي نفسها الدولة التي يعيش بعض سكانها تحت خط الفقر ويسكنون الصفيح, هذه التناقضات لم تكن بمعزل عن السياق العالمي لتناقضات الرأسمالية والتي تجلت بوضوح في ثورات العالم العربي.
الخصخصة على سبيل المثال, وهي إحدى وسائل الرأسماليين لاحتكار الاقتصاد والسياسة, التهمت ما يقارب ثلث الشركات الليبية في ظل خطط مستقبلية هدفها تحويل نصف الاقتصاد الليبي إلى القطاع الخاص بالعشر سنوات القادمة, هذه الخطط كان دافعها الحقيقي, كما أعلن مجلس الخصخصة والتنمية, هو محاولة جذب خبرة القطاع الخاص لخلق مزيد من فرص العمل داخل السوق الليبي, كما شدد سيف الإسلام على ضرورة الاستثمار الأجنبي في عدة محاضرات. إلا أن الأرقام في المقابل تشير إلى ازدياد مفزع في معدلات البطالة بين أبناء ليبيا في آخر خمس سنوات بالزيادة طرديا مع تفعيل نظام الخصخصة بمؤسسات الدولة لترتفع من 18,7% عام 2006 إلى 19,6% عام 2007 ثم تسجل ارتفاعا ملحوظا العام الحالي لتصل إلى 30%.
وفي ظل فوضى السوق وعشوائية الاستثمار، انحسرت الطبقة العاملة الليبية بين فكي كماشة لا مناص منها, فإما الاستمرار في القطاع العام الذي يعمل بالقانون الصادر بالسبعينات والخاص بتثبيت الأجر على الرغم من الارتفاع المذهل للأسعار, بل ويحظر القطاع العام على المشتغلين به القيام بآية أعمال أخرى وفى سبيل ذلك تم طرد ما يزيد عن 400 ألف موظف بالاستغناء عنهم من وظائفهم, وإما أن تجد الطبقة العاملة بدا من ترك القطاع العام والعمل بالخاص الذي يفضل العمالة الأجنبية الوافدة عن العمالة الليبية ويميزها في الرواتب والحقوق الوظيفية. انحسار الطبقة العاملة بهذا الشكل خلق تلك الفجوة الاقتصادية في ليبيا باعتبارها دولة جاذبة للعمالة الأجنبية في نفس الوقت الذي يعاني شبابها من البطالة ويمثلون نسبة 80% من مجمل العاطلين.
كان ذلك جزء من خطة الديكتاتور في تفتيت الحركة العمالية باعتبارها أكثر الحركات تنظيما، ليس فقط لمواقفها المدافعة عن قطاع كبير من الشعب, بل أيضا لمواقفها الوطنية في دعم المقاومة الجزائرية, تلك الحركة العمالية استطاعت تنظيم أقوى الإضرابات عام 1961 لتحسين الأجور وظروف العمل ليتنامى معها الدور السياسي الذي أوشكت أن تلعبه على الساحة, فعمد القذافي إلى حبك الدسائس واعتقال القيادات والسيطرة برجالاته على الاتحاد العام لعمال ليبيا ثم تحويله للاتحاد العام للمنتجين الذي أصبح أداة تصفق للقذافي المدافع عن حقوق العمال كما كانت تحلو الخطابات تسميته.
وعلى المستوى الاجتماعي, فقد خلقت النتائج المباشرة للخصخصة في ليبيا طبقات جديدة من شرائح رفيعة جدا تتحكم في الاقتصاد بل وتقرنه بالسياسة لتتولد السلطات الاحتكارية المسئولة بشكل رئيسي عن إقامة البنية الاقتصادية للمجتمع الرأسمالي. تلك الطبقات الرأسمالية يتغذى استقرارها بالأساس على تفتيت كل الأشكال التنظيمية للطبقات العريضة من الشعب لتضمن استقرارها, فالقذافي ملك الملوك الذي لم يفرق بين ثروته الشخصية وموارد الدولة, هو من قاوم المعارضين بيد أمنية قوية وهو من سعى لتفتيت الشعب بقبائله بدءا من الأيام الأولى للثورة. أما ابنه سيف الاسلام فقد عين منسقا لمجموعة الزعماء القبليين والسياسيين ورجال الاعمال ليكون ثاني أقوى شخصية في ليبيا ليبدو واضحا توريث الثروة والسلطة معا.
معركة جديدة قادمة
النتائج المباشرة للرأسمالية والتي حارب ضدها الثوار ودفعوا دمائهم ثمنا لثورتهم ربما تعيد الكرة من جديد، لكن هذه المرة في شكل حلفاء ظاهريين لليبيا. وقد تختلف الظروف العسكرية لاحتلال قوات الناتو للعراق وأفغانستان, لكن المؤكد أن الدوافع الاقتصادية التي استطاعت عن طريقها الناتو تجنيد الجيوش الدولية لحقول النفط الضخمة بكلتا الدولتين هي نفسها الدوافع الحقيقية وراء غزو ليبيا ولو تحت شعارات براقة من حماية المدنيين ودعوة التحرر والديمقراطية؛ فليبيا ثامن أكبر البلدان عالميا في تصدير النفط ستشهد في الآونة الآتية تحويل الصراع حول آبار الذهب الأسود من عسكرته لصالح القذافي إلى عسكرة رأسمالية عالمية لصالح بلدان الناتو, يبدو ذلك في تعهد المجلس الانتقالي بحصول فرنسا على 35% من النفط الخام مقابل الاعتراف بالمجلس خلال قمة لندن كممثل شرعي لليبيا, كذلك التقليل المستقبلي لحصص النفط لروسيا مثلا التي لم تعترف بالمجلس وعارضت الثورة, بمعنى أن أموال النفط لن يستفيد منها سكان الصفيح بليبيا قبل أو بعد الثورة.
السيطرة الاقتصادية التي تحاول فرضها دول الناتو شملت أيضا عروضا من البنك الدولي لقروض مالية ضخمة لإعادة إعمار ليبيا وهو مدخل السيطرة السياسية لأحد أدوات الرأسمالية في فرض سياسات الليبرالية الجديدة, لا يخفى في هذا الصدد إقراض صندوق النقد لسوريا أموالا ضخمة شريطة عدم زيادة أجور الموظفين حتى يسهل سداد الفوائد وهو بالمناسبة أحد الضغوط الاقتصادية على الشعب السوري المستمر اليوم بكل بسالة في ثورته.
ستحاول قوات الناتو أيضا تغذية وإنعاش تلك الطبقة التي أزكتها وتحالفات معها سواء في أفغانستان أوالعراق، وسيعمد احتلال الناتو إلى تحقيق استفادة اقتصادية وسياسية مباشرة لها من أجل ضمان مصالحه بالمنطقة حتى بدون تدخل الآلة العسكرية بشكل مباشر، وهو ما قد يضع الشعب الليبي في تلك المفارقة بين ديكتاتور سابق أهدر ثروات البلاد وبين مستعمر اقتصادي أجنبي أتى ليسرق ويشبع أطماعه ويحاول إيجاد حلول لأزماته الاقتصادية بنهب الشعوب وزيادة بؤسها.
المعركة القادمة التي ستشهدها ليبيا هي المعركة ضد الرأسمالية في مرحلتها الاستعمارية, هي معركة الشعب الذي ثار وضحى بدمائه من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية في مجتمع بلا طبقات محتكرة. التحدي مازال قائما للشعب الليبي ليس فقط بالتخلص من عهد القذافي لكن بالتخلص من النظام الذي خلق ذلك الديكتاتور, النظام الذي جمع احتكار السلطة والثروة, النظام الرأسمالي الذي خلق الأغلبية الكادحة والأقلية الثرية وهو نفسه النظام الرأسمالي الذي يُجيّش الجيوش والطاقات لاحتلال الشعب الليبي اقتصاديا ونهب ثرواته. ما تنتظره الشعوب المقهورة من ليبيا هو اكتمال ثورتها بإعادة كل ما حطمه القذافي من أشكالها التنظيمية ليس فقط من أجل اللحظة الراهنة, لكن لتكون شوكة قوية للثورة قادرة على المراقبة والمحاسبة والتصدي وأيضا الحفاظ على مسار ثورة ثمنها دماء الشعب.. عاش الشعب الليبي مستقلا ومستمرا في ثورته.
#دينا_عمر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟